تحليل جديد للكاتب الأديب عاطف إبراهيم صقر لأغنية يا طيور لأسمهان .. أعجبني مزج الأسلوب الأدبي بالتحليل الموسيقي الفني - أرجو أن يعجبكم
وهذا هو الموضوع
يــا طيــــــــور
الوحدة
الاثنين 28/6/2010
عاطف إبراهيم صقر
حضرت الطيور بقوة في الغناء العربي، فكانت مرسالاً بين العشاق، وشريكاً في التعبير عن لوعة الحب وآلامه، ومن الأمثلة أذكر أغنية (يا طير، دخلك يا طير الوروار، جايبلي سلام عصفور الجناين) لفيروز، و(طير الطاير، رح حلفك بالغصن يا عصفور) لوديع الصافي، أيضاً يا (طيور الطايرة) لسعدون الجابر، و(ياطيرا طيري يا
حمامة) لأبي خليل القباني .. لكن أغنية (يا طيور) جاءت تحمل مذاقاً مختلفاً، وروحاُ مختلفة وأفقاً مختلفاً ..؟
كتب الأغنية الشاعر الغنائي المصري الغزير (يوسف بدروس) (1905-1987) الذي ارتبط اسمه بفريد الأطرش وأسمهان إذ قدم لهما أغان كثيرة منفردة أو ضمن الأفلام السينمائية أذكر منها: لفريد الأطرش؛ (يا حبيبي طال غيابك، أحلفلك ما تصدقش، ساعة بقرب الحبيب، بحب من غير أمل، عمري ما حقدر أنساكي ..) ولأسمهان؛ (نويت أداري ألامي، رجعت لك، أنا الي أستاهل كل الي يجرالي، ويا طيور ..).
وكلمات يا طيور كلمات رومانسية رقيقة تتحدث عن مشاعر عشق يتجاهلها الطرف الآخر، فهما يسيران معاً في طبيعة جميلة فيها الغدير والطيور ورائحة الأزهار وتمايل الأغصان والنسيم العليل، هذه العناصر تزيد من اضطرام مشاعر المحب، دون أن يبدو أي مظهر من مظاهر التأثر أو الانفعال على الطرف الآخر الذي يبدو خالي البال سعيداً بحسنه وشبابه، فيضطر العاشق إلى بثِّ نجواه إلى الطيور يدعوها لكي تشاطره أحاسيسه، ويستحثها على أن تحاول من خلال شدوها الجميل إيصال تلك العاطفة الجياشة إلى قلب الحبيب.
ولحّن الأغنية محمد القصبجي (1892-1966)، من الكبار المعدودين في الموسيقى العربية، المبدع المتدفّق المجدد الذي تتلمذ على يديه موسيقيون كبار من أمثال عبد الوهاب والسنباطي والذي أثرى المكتبة الموسيقية بألحان رائعة لكبار مطربي ومطربات عصره أذكر منها: إن كنت أسامح، رق الحبيب، يلي جفاك المنام، إن حالي في هواها عجب، ما دام تحب بتنكر ليه، فرّق ما بينا ليه الزمان، ايمتى حترف ايمتى، يا صباح الخير، أنا قلبي دليلي ..
والحديث عن تلحينه لـ (يا طيور)، يستوجب الإضاءة على فكره التجديدي المميّز، وأنا أعتقد غير جازم بأنه هو مهندس الأغنية من ألفها إلى يائها، أي أن كلمات الأغنية وفكرتها كتبت بناءً على طلبه، وأنه أكمل مغامرة تلحينها بعد أن تأكّد من قدرة أسمهان على أدائها! فكيف لحّن القصبجي هذا اللحن المتفرّد الخالد؟
بداية لا بد من ذكر أن اللحن يتضمّن تحويلات كثيرة جداً لذلك سأحاول مقاربة نقلاته المقامية بالشكل الأعم للمقام الموسيقي: بدأ اللحن بمقدمة موسيقية غنية بالتحويلات والنقلات على النهوند، تعطي انطباعاً عن الجو العام، فتنساب في البداية برقة تعبر عن مشهدية (طبيعة جميلة) تحتضن تلك العواطف الكامنة، وتوحي بأن الناظر يحرك بصره بتجوال بطيء ثم يتسارع إلى أن يستقر على منظر الطيور، ومباشرة بعد هذا الاستقرار تبدأ الموسيقى بالتعبير عن حركات الطيور وألوانها ورفرفة أجنحتها وهي تتقافز على الأغصان، ثم يدخل الغناء مستمراً على النهوند فيبدأ بمناجاة رقيقة (يا طيووور) تشرحها الموسيقى، ثم بنبرة طلبية (غنّي حبي..) تتبعها موسيقى تعبر عن استماع وتفهم الطيور، ثم تستمر الشكوى وتتصاعد النغمة لتتوقف ببراعة عند كلمة "ما جرالي" في جملة موسيقية تصاعدية توحي بأنه ما زال للحديث بقية .. بعدها تأتي تكملة الحديث وهي الشكوى من تجاهل الحبيب وعدم استجابته مستقراً على البيات الشرقي الدافئ (أشتكيلو يبتسم ويزيد ولوعي ..) ولنلاحظ دائماً أن المغنية تبث بصوتها نجواها ومشاعرها، بينما تلعب الموسيقى دور الطيور وحالتها في التفهّم والتفاعل، بعدها تتأكد المناجاة بتكرار النداء يا طيور لكنه في هذه المرة يحمّل النداء أمنيات جديدة فيمدّ (يا طيوووور) ويتبعها بآهات تقول للطيور: ليتني أستطيع أن أحلق وأعبر عن مشاعري كما تعبرين بتغريدك الشجي .. ثم يستقر على جنس الكورد الرقيق مع (من سهدي ودموعي)، ثم تمهّد الموسيقى بنقلة عجم نشطة، لغناء (غنت الأطياااار ..) يتبعها سلسلة آهات عذبة تحاكي غناء الطيور، ومع (أعذب الأشعار) ولازمتها الموسيقية يستقر على النهوند. ثم ينتقل إلى البيات مع (مالت الأغصان)، ثم إلى الكورد مع (والفؤاد ولهان) مع استمرار التلاعب بوضعية العلامات في امتداد والفؤاد، وكذلك في ولهان. ومع (والنسيم يسري) يعود إلى النهوند، ثم يستقر على البيات مع (يحمل الصوت الجميل) مع ملاحظة الامتداد التعبيري الرائع مع كلمة (الجميل). ثم تنطلق جمل موسيقية نابضة على العجم يرافقها توزيع هارموني بارع، ثم الغناء (والزهور فاحت) يتبعها فاصل يدل على فوح الزهور، ويتابع (والغدير ردد معاها الأغاني) فيعاد فاصل (فوح الزهور) ذاته للتعبير عن ترداد الغدير للأغاني! ثم ينتقل إلى النهوند مع (امتلا الجو حنان)، بعدها نلاحظ روعة الأداء في وميلة ليّه، مع تلك العُرب الصوتية الرائعة في امتداد حرف الياء في كلمة (ميله)، بعدها نقلة دافئة إلى البيات مع (سعيد بحسنه وشبابو) .. ثم العودة إلى النهوند مع (ناح مع الكروان)، وللتعبير عن نوح الكروان يبدأ بسلسلة آهات رائعة على العجم تنتهي بقفلة مع آه صاعدة ممتدة تستقر على أقصى الجواب! الله!
في الحقيقة أجد أنه من الصعوبة بمكان الإشارة (في هذه العجالة) إلى كافة النواحي الفنية والجمالية للحن (يا طيور) لكن بداية لا بد من ذكر تفرّد اللحن وأسبقيته؛ فهو لحن ليس له مثيل لا سابق ولا لاحق في الموسيقى العربية، وهو من أكثر الألحان إتقاناً في مجال التعبيرية عن المشاعر والانفعالات والصور والكلمات ومعانيها، وهو أيضاً اللحن السبّاق في مزج الأداء بين الصوت المستعار (السوبرانو) والصوت الطبيعي للمؤدي، وهو اللحن المتقن في تنقلاته بين المقامات الغربية والشرقية مع توظيف الهارموني والتوزيع الموسيقي توظيفاً دقيقاً معبّراً دون أن تلحظ الأذن أي خلل أو عدم توافق!
أدّت الأغنية المطربة السورية أسمهان (اسمها الأصلي آمال الأطرش 1917-1944) ذات الصوت الساحر الذي قيل عنه أنه يشكل التحدي الأكبر الذي لم تستطع مطربة عربية تجاوزه حتى الآن، وقد شاركت أسمهان في أفلام سينمائية مثل (انتصار الشباب - غرام وانتقام ..) وغنّت لكبار الملحنين أغان خالدة أذكر منها: (زكريا أحمد: عاهدني يا قلبي، عذابي في هواك -عبد الوهاب: محلاها عيشة الفلاح، مجنون ليلى -السنباطي: يا لعينيك، الدنيا -القصبجي: أسقنيها، إمتى حتعرف، ليت للبراق، فرق ما بينا -فريد الأطرش: يللي هواك شغل بالي، يا بدع الورد، ليالي الأنس، أهوى..).
ومع يا طيور تألّقت أسمهان بصوتها القوي الواسع المعبر، وتفوّقت في أداء لحن من أصعب الألحان فاستطاعت بكل سهولة الانتقال من أداء السوبرانو إلى الأداء الطبيعي، واستطاعت أداء جمل موسيقية معقدة على شكل آهات رائعة فحلّقت كالطيور وغردت معها، كما كان أداؤها منسجماً مع المعاني التعبيرية للحن والكلمات مع ملاحظة لمساتها الصوتية الخاصة التي أضافت الكثير من الجماليات لهذا اللحن الكبير .. أيضاً أود أن أذكر أنني لاحظت نبرة التحدّي اللحني والتحدي الصوتي في هذه الأغنية، ويقال أن أم كلثوم بعد أن سمعت الأغنية اتصلت بأسمهان وهنّأتها وقالت: إن هذا اللحن لا يمكن أن يؤديه إلا صوتان!
ومع تلك الآهات الرائعة لغناء الكروان أودعكم: (لو كان بيعشق، ونابو حظي، لكان بكى من عذابو وناح مع الكروان ...).
يا طيـور (اسمهان)-- تحليل موسيقي عاطف صقر
العرض العادي
