سلام للجميع
لقد قرأت هذا الموضوع للأستاذ الأديب عاطف إبراهيم صقر في موقع جريدة الوحدة، وهو يتضمّن تحليلاً موسيقياً جميلاً لأغنية راجعة لفيروز،
وقد أعجبني الأسلوب وهذا هو الموضوع منقولاً كما هو أرجو أن يعجبكم:
راجعة
في الكثير من قصص الحب تتدخّل أصوات محذّرة تنصح بالابتعاد بحجة التخلص من عذابات الحب وآلامه، فإذا بالبعد يزيد من تأجّج المشاعر ما يدفع بالعاشق لمحاولة العودة إلى حبيبه، فهل العودة ممكنة في جميع الحالات؟
كتب الأغنية ولحّنها (الأخوان رحباني؛ عاصي 1923-1986 ومنصور 1925-2009) اللذان يعتبران من كبار الموسيقيين والفنانين العرب، ولهما بصمات تجديدية مشهودة في التأليف والتوزيع الموسيقي، والقالب الغنائي، والمسرح الغنائي، واللغة الشعرية الغنائية، وقد تجلّى ذلك واضحاً في أعمالهما الكثيرة أذكر منها (أعمالهما الغنائية لفيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين وغيرهم)، وأكثر من 32 مسرحية مثل (بياع الخواتم، الشخص، يعيش يعيش، هالة والملك، جسر القمر، ميس الريم ..) وأفلام سينمائية (بنت الحارس، سفر برلك، بياع الخواتم) إضافة إلى برامج تلفزيونية (الأسوارة، دفاتر الليل، ضيعة الأغاني ..) ومسلسلات (من يوم ليوم، قسمة ونصيب) هذه الأعمال لها الأثر الكبير على مجمل النتاج الفني العربي.
وأغنية راجعة هي حدّوتة صغيرة أو قصة (دراما) كُتبت بكلمات دافئة رقيقة تنقّلت بين الواقعي والرومانسي، وهي تُروى بلسان عاشقة ذاقت حلاوة الحب ومرارته، ثم نصحوها بالابتعاد كي تنسى وتستريح، لكن نداء الحب سينتصر في النهاية فما إن تسمع العاشقة صوت حبيبها حتى تهرع إليه بكثير من الحنين والاعتذار (راجعه) ..
فكيف لحّن الأخوان رحباني هذه المشاعر المتنوعة الدفّاقة التي بثّاها في الكلمات؟
بدأت الأغنية بمقدمة موسيقية بدون إيقاع على مقام الهزام (ذي الطابع السردي) تتداخل فيها (الأوفات- الأصوات) التي جاءت من مصادر وطبقات متعددة، فتبدو كأنها رغبات أو نصائح تتصارع مع (أوف) المغنية وكلمتها القرار (راجعة)، ثم تلخّص الموسيقى المضمون العاطفي للأغنية مختتمة المقدمة برجوع موسيقي على مرحلتين (أولى واضحة وقوية وسريعة، وثانية صاعدة - نازلة متهادية) تستقر في نهايتهما على الهزام ممهدةً لدخول الغناء ..
ثم تبدأ المطربة بسرد ما جرى بدون إيقاع مستمرة على الهزام، مع المحافظة على خاصّيتي السرد والشكوى (قالوا بعدي) مع توقفات إخبارية تصاعدية (بتنسي هواه .. من شقاه)، ثم ترتفع النبرة (قالوا بعدي والبعد بيخلي الجريح ..) لتمرّ بنقلة دافئة مؤثّرة على البيات عند ذكر الجروح (ينسى جروحاتو)، لتستقر على الهزام مجدداً مع (ويعود لهناه).
بعدها تُكرَّر موسيقى تسليم الغناء الصاعدة لكنها تستقر على طبقة الجواب بدلاً من القرار تمهيداً للدخول إلى المقطع التالي ..
ثم تتابع السرد انطلاقاً من السيكاه، (وبعدت عا مطرح هني) مع إيقاع هادئ (وحدة) يدل على أفعال الحركة المتسلسلة، وتتصاعد الطبقة الموسيقية مع تعداد تلك الأفعال (بعدت، شيل الحنان، أرجع متل ما كنت) لتستقر على النهوند مع (أركض وراه)، بعدها يأتي توضيح نتائج ذلك البعد: (بعدنا خلص ..) على النهوند، ثم تأتي جمل (الترضية) التي تحاول الإخبار أن الأمور تسير كالمعتاد فالشمس تشرق والبلبل يغني، (وشرقت الشمس كتير حلوه بهالربوع، وغنى على شباكنا البلبل)، لكن هذه الأخبار ما هي إلا خداع للنفس، و(عرض حال) يخبر الذين نصحوها أن كل شيء قد تم وفق طلباتهم! ولاستنتاج التباس المشاعر في هذه الجمل نلاحظ أن اللحن لم يركّز على تعبيرية شروق الشمس ولا على غناء البلبل وإنما اكتفى بسرد الخبر مع امتدادات بسيطة تميل إلى الحزن وليس إلى السرور المفترض مع أحداث كهذه!
ثم تأتي الوقفة مع الذات ومواجهة الحقيقة، فيتوقّف الإيقاع وتدخل الموسيقى من طبقه خفيضة لحديث النفس على مقام السوذدل (من مشتقات الحجاز) مستفيدة من شجن الحجاز واستغراقه (أوف لا القلب ناسي ولا الدموع مكفكفي)، لتعود مع عبارة (مش عارفة) إلى الهزام، ثم التنبيه (وسمعت صوت بعيد)، ثمّ ويزداد وضوح الصوت البعيد برفع الطبقة الموسيقية للتأكيد أنه هو (وعرفتو نداه)، فتكون ردّة الفعل أنها تصرخ ملبيةً النداء من ذروة رائعة على جواب الهزام هي في الحقيقة ذروة الأغنية (ولك راجعة وحياة عينو راجعه)، ثم تعيد مفردة (راجعة) لوحدها برجوع السلم بالكامل من الجواب إلى القرار، أليس الفعل فعل رجوع؟
بعدها تؤكد فكرة الرجوع بإعادة المقطع، ثم تعود لتترنّم على مقام البيات الدافئ بجملة رضى وانصهار (ولك راجعة أوقف عَ بابو خاشعة)، ونلاحظ التأكيد القطعي (ولَكْ) كأنها سعيدة بقرارها ومصرّة عليه مهما كانت النتائج، هذا التأكيد سيستقر على (السيكاه) ليصبح المقام بالإجمال مقام (عراق) وذلك مع قفلة الاستقرار (استغفرو عن غيبتي وأطلب رضاه) الله!
رغم أن هذا اللحن كان من الألحان الأولى للرحابنة، فإن التدقيق فيه يظهر تلك الروح الجديدة التي جاء بها الأخوان رحباني، فالأغنية تمتاز بطابعها الحكائي، لكنها قصيرة الزمن، والملفت أن الموسيقى عبّرت بكثير من العمق عن الانفعالات البشرية ابتداءً من سرد الحكاية ثم إبراز الفرق بين ظاهر المشاعر وباطنها مروراً على المشاعر المؤثرة (ينسى جروحاتو) أو (راجعة)، إضافة إلى النقلات المقامية المتقنة وخصوصاً نقلة الوقوف مع الذات (لا القلب ناسي)، أيضاً لفتني التعبير بإدخال الإيقاع عند الانتقال إلى أفعال الحركة وتوقفه عند النجوى أو الشكوى، يضاف إلى ذلك انسجام التأليف الموسيقي مع فكرة (دراما) الحكاية (مقدمة، عقدة، ختام)، فلم تتكرر الجمل الموسيقية وإنما جاءت متنوعة وباتجاه واحد كما حالات الحكاية ...
أدّت الأغنية الفنانة فيروز (اسمها الأصلي نهاد وديع حداد) من مواليد 1935، وقد كانت هذه الأغنية هي الرابعة التي قدمها عاصي الرحباني إلى فيروز بعد ( غروب) و(ماروشكا) و(عتاب)، في م سيرة غنائية-فنية-حياتية استمرت طويلاً وأثمرت الكثير من الأعمال الرفيعة المبهرة التي حفرت مكانتها المميزة في التراث الموسيقي العربي وفي وجدان الناس.
وفي أغنية (راجعة) تظهر بوضوح الطاقات الصوتية الفيروزية الكبيرة، وتظهر أيضاً تلك القدرة التعبيرية وذلك النقاء والعذوبة في صوت يعطيك دائماً أكثر مما تتوقع منه، أيضاً يتيح لنا الاستماع إلى الأغنية فرصة التعرف إلى صوت فيروز الفتي (في البدايات)، فنلاحظ انسجامها العالي في الأداء وتفاعلها مع دراما القصة ومعاني الكلمات كدخولها الانسيابي الرقيق مع كلمة (قالوا بعدي)، أو الحنان والدفء مع (ينسى جروحاتو) أو النشوة والإصرار مع (راجعة) ..
ومع (راجعة) أختم بسؤال البداية: هل الرجوع إلى الحبيب ممكناً في جميع قصص الحب؟