* : فتحيه أحمد- 1898- 5 ديسمبر 1975 (الكاتـب : Talab - آخر مشاركة : نور عسكر - - الوقت: 23h38 - التاريخ: 28/03/2024)           »          سمير صبرى (الكاتـب : د.حسن - آخر مشاركة : حازم فودة - - الوقت: 21h09 - التاريخ: 28/03/2024)           »          ليلى مراد- 17 فبراير 1918 - 21 نوفمبر 1995 (الكاتـب : سماعي - آخر مشاركة : نور عسكر - - الوقت: 19h08 - التاريخ: 28/03/2024)           »          تترات المسلسلات التلفزيونية (الكاتـب : راضى - آخر مشاركة : حازم فودة - - الوقت: 16h16 - التاريخ: 28/03/2024)           »          غادة سالم (الكاتـب : ماهر العطار - آخر مشاركة : الكرملي - - الوقت: 15h31 - التاريخ: 28/03/2024)           »          عبد الحليم حافظ- 21 يونيه 1929 - 30 مارس 1977 (الكاتـب : سماعي - آخر مشاركة : fahedassouad - - الوقت: 12h28 - التاريخ: 28/03/2024)           »          محمد شريف (الكاتـب : loaie al-sayem - آخر مشاركة : اسامة عبد الحميد - - الوقت: 23h50 - التاريخ: 27/03/2024)           »          سعاد محاسن (الكاتـب : سماعي - آخر مشاركة : نور عسكر - - الوقت: 19h25 - التاريخ: 27/03/2024)           »          الشيخ محمد صلاح الدين كباره (الكاتـب : احمد البنهاوي - آخر مشاركة : kabh01 - - الوقت: 09h52 - التاريخ: 27/03/2024)           »          سلمى (الكاتـب : حماد مزيد - آخر مشاركة : عطية لزهر - - الوقت: 09h18 - التاريخ: 27/03/2024)


العودة   منتدى سماعي للطرب العربي الأصيل > صالون سماعي > ملتقى الشعر و الأدب > نتاج الأعضاء .. القصص والروايات

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #21  
قديم 04/11/2008, 15h32
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي

صديقى الأديب الكبير , وشاعر الغلابه سيد أبو زهده
أكرمك الله كما أكرمتنى
وأود أن أنوه إلى أمر لا أظنه يغيب على أمثالكم من أهل هذا الفن وأربابه , وهو أن الصفحات التاليه وإن بدت خارج السياق , إلا أنها تحوى من الشئون ما سيكون له ولبعض الأسماء الواردة فيه تداخل وترابط مع مسيرة حياة الشافعى فى عقود زمنية متقدمه

........................
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 11h36
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 04/11/2008, 15h32
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي


(4)
144 هجريه .. بلاط المنصور بالهاشميه
@ داخل قصر كبير شيده أبو العباس السفاح أول خلفاء بنى العباس , ليكون مقرا للخلافة والحكم بمدينة الهاشميه التى تقع فى العراق بين الكوفة والأنبار . وفى صدر قاعة الحكم أو ما يعرف بالإيوان , جلس رجل نحيف يميل إلى الطول والسمره فى منتصف العقد الخامس من العمر , يتميز بجبهة عريضة وأنف أقنى ولحية خفيفه وفى عينيه دهاء وخبث . إلا أنه تغلب عليه أمارات الحلم والكياسه وتعلوه المهابة والوقار وله قبول عند كل من يراه . إنه الخليفة العباسى الثانى أبو جعفر المنصور , المؤسس الحقيقى لدعائم دولة العباسيين . وعن يمينه جلس ولده محمد , ولى العهد والخليفة المنتظر من بعده , له من العمر ستة عشر عاما ويماثل أباه فى الطول والسمره , كما توحى ملامحه بالسماحة والطيبة التى لا تخلو من قوة وبأس . وعلى مقربة منهما وقف الربيع بن يونس , كبير الحجاب والساعد الأيمن لأمير المؤمنين وصاحب الرأى والمشوره . وإلى جواره أبو أيوب الموريانى كاتب الديوان الأكبر . كان المنصور يتبادل بعض الكلمات همسا مع ولده محمد المهدى بعدها التفت إلى الربيع بن يونس قائلا وعلى شفتيه ابتسامة عريضه ...
ــ بلغنى أيها الحاجب أنك أصبحت أبا .. صحيح هذا ؟!.
تنحنح الربيع قبل أن يرد قائلا ...
ــ أجل يا مولاى .. أنعم الله على بعد طول انتظار .. بولد .. فى عهدكم الميمون ..
ــ أهو ولد إذن ؟!.
ــ أجل يا أمير المؤمنين, رزقنى الله بولد أسميته الفضل , أدام الله فضلكم وأعز البلاد بكم يا أمير المؤمنين ..
ــ حسن . حسن . الفضل بن الربيع إسم طيب . أمرنا له بألفى درهم من بيت المال وجارية لرعايته ..
رد قائلا وهو يبالغ فى إظهار السرور والرضا ...
ــ كثيرا ما تغمرنا بعطاياك وإنعامك علينا يا مولاى ..
قالها , ثم أدار رأسه وراح يحدث نفسه , وهو يضغط على أسنانه فى غيظ وحنق .....
ــ ألفى درهم فحسب أيها البخيل , حسبتك ستأمر لى بألفى دينار , أهذه عطية تعطيها لرجلك الأول وكاتم أسرارك !. صدق والله من لقبك لبخلك , بأبى الدوانيق ..
أفاق من حديث النفس على صوت المنصور يسأل فى حده ....
ــ هل بالباب أحد ينتظر الإذن بالدخول علينا ؟!.
أجابه حارس الباب ....
ــ نعم يا مولاى هناك رجل من الزهاد تبدو عليه أمارات الورع والتقوى ..
ــ من يكون هذا الرجل ؟!.
ــ لا أعرفه يا مولاى .. إنها أول مرة أراه هنا ..
ــ ماذا يريد ؟!.
ــ يدعى أنك لقيته فى الهاشمية بالأمس وطلبت إليه الحضور اليوم إلى هنا !.
ــ آه .. آه , تذكرته إنه أبا عثمان عمرو بن عبيد , أدخله فى الحال !.
وفى خطوات بطيئة متثاقلة تقدم شيخ طاعن فى السن مقوس الظهر له لحية طويلة بيضاء ويرتدى زيا خشنا . دخل وهو يتوكأ على عصاه , ثم توقف فى منتصف القاعة وألقى السلام . تلقاه المنصور مكبرا له حفيا به قائلا ....
ــ عليك السلام يا أبا عثمان , تقدم واقترب منا فما أحوجنا لمجالسة أمثالك من أهل العلم والورع والزهد والإستماع إلى نصحهم وموعظتهم . إن من حولنا يذكروننا بالدنيا الفانيه , وأنت وأمثالك تذكروننا بالآخرة الباقيه ..
ــ بارك اله فيك يا أمير المؤمنين ..
ــ كيف حالك وحال أهلك يا أبا عثمان ؟!.
ــ بخير حال يا أمير المؤمنين ..
ــ عظنى يا أبا عثمان , فإنى مشوق والله لسماع مواعظك وحكمك ..
إتجهت إليه أنظار جميع من بالمجلس .. وهو يقول فى صوت هادئ رخيم ....
ــ بسم الله الرحمن الرحيم .. ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد التى لم يخلق مثلها فى البلاد . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون ذى الأوتاد الذين طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد . فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد ..
رد المنصور فى صوت متهدج باك وقد أخذه الحزن والدهش .....
ــ صدق الله العظيم . ما أحكم تلاوتك للقرآن يا أبا عثمان , كأنى والله لم أستمع لهذه الآيات المباركات إلا الآن . آآآآآآه زدنى أيها الزاهـد زدنى ..
ــ إعلم يا أبا جعفر أن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها .. فاشتر نفسك ببعضها .. وأن هذا الأمر كان لمن قبلك .. ثم صار إليك .. ثم هو صائر لمن بعدك .. واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامه ..
صمت برهة واستأنف قائلا ...........
يا أيهذا الذى قد غره الأمل ؛ ودون ما يأمــل التنغيص والأجل ..
ألا ترى أنما الدنيا وزينتها ؛ كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا ..
نظر الربيع تجاه أمير المؤمنين فرآه وقد أطرق رأسه باكيا , حتى أن دموعه سالت على لحيته وبللتها . إلتفت للشيخ الزاهد قائلا فى صوت هامس يحاول إسكاته ....
ــ رفقا .. رفقا .. على رسلك أيها الشيخ .. لقد غممت أمير المؤمنين .. وأبكيته ..
سمعه المنصور فأشار إليه براحة يده طالبا منه أن يكف لسانه . أبى الشيخ أن يدعه دون أن يؤنبه على مقاطعته , فهؤلاء الناس كانت لهم منزلة ومكانة تجعل الواحد منهم لا يقيم وزنا لأى أحد من حاشية أمير المؤمنين ولا يخشون لهم بأسا .. نظر إليه قائلا ....
ــ وماذا على أمير المؤمنين أن يبكى من خشية الله عز وجل ..
ثم استدار ناحية المنصور وهو يشير على الربيع مستأنفا كلامه ....
ــ إن هذا صحبك عشرين سنة .. لم ير لك عليه أن ينصحك يوما واحدا .. وما عمل وراء بابك بشئ من كتاب الله عز وجل أو سنة نبيه [
صلى الله عليه وسلم ] ..
نظر المنصور إلى الربيع فرآه ممتعضا يحاول أن يكتم غضبه رغما عنه .. أمره أن يعطى الشيخ عشرة آلاف درهم , لكن الأخير قاطعه قائلا وهو يشيح بيده ....
ــ أمسك عليك دراهمك .. فلا حاجة لى بها ..
رد المنصور فى لهجة قاطعة ....
ــ والله لتأخذنها ..
أجابه الشيخ محتدا ....
ــ والله لن آخذها ..
إنتفض ولى العهد .. هب واقفا يصيح فى وجه الشيخ وقد أثاره رغم حلمه وطيبته أن يرد أحدا أيا كانت منزلته على أبيه بهذه الحدة والجفاء ....
ــ ويحك أيها الشيخ !. ماذا بك .. أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت !. كيــف تجـرؤ ؟!.
حدجه الشيخ بنظرة غاضبة كأنها سهم .. ثم التفت للمنصور قائلا ....
ــ من يكون الفتى ؟!.
ــ إنه إبنى محمد المهدى وولى العهد من بعدى !.
ــ لقد أسميته إسما لا يستحقه ..
ثم أشار إلى زيه الأسود وهو شعار بنى العباس وأردف قائلا ....
ــ وألبسته لبوسا ما هو له .. ومهدت له أمرا أمنع ما يكون به .. أشغل ما يكون عنه ..
أطرق ولى العهد ساكتا , وقد أدركه الخجل وهو يرى نظرة عتاب فى عينى أبيه الذى قال للشيخ .....
ــ أبا عثمان هل من حاجة أقضيها لك ؟!.
ــ نعم لى مطلب واحد !.
ــ قل يا أبا عثمان , أطلب ما تشاء , أقضيه لك فى الحال كان ما كان ..
ــ لا تبعث إلى حتى آتيك .. ولا تعطينى حتى أسألك !.
ــ إذن والله لا نلتقى .. ولن يصلك منى شئ !.
ــ عن حاجتى سألتنى وأجبتك ..
ثم استدار خارجا وهو يردد ........
ــ والمرء يسعى بما يسعى لوارثه ؛ والقبر وارث ما يسعى له الرجل
ما كاد يبلغ عتبة الباب حتى رفع المنصور رأسه وأشار إليه قائلا ....
ــ كلكم يمشى رويد . كلكم طالب صيد . غير عمرو بن عبيد ..
وبينما الشيخ فى طريقه إلى الباب , دخل عثمان بن نهيك قائد الحراس على عجل ميمما صوب أمير المؤمنين وهو يقول فى لهفة وجزع .....
ــ مولاى أمير المؤمنين ؟!.
ــ ماذا وراءك يا قائد الحراس ؟!.
ــ عفوا يا مولاى , أمر هام حدث منذ قليل ..
ــ تكلم يا قائد الحراس , ما الذى دهاك يا رجل ؟!.
ــ جماعة الراونديه يا مولاى !.
ــ الراونديه !. ما لنا ولهم هؤلاء الكفرة , وما خطبهم ؟!.
ــ كنا نتصور يا مولاى أنه لن تقوم لهم قائمة , وأنهم استكانوا وخمدت حركتهم بعد محاولاتهم الفاشلة من قبل إشعال نيران الفتن والدسائس , عقيب مقتل الخائن أبى مسلم الخرسانى !.
ــ أتقصد أنه قد خرج بعضهم من خراسان ؟!.
ــ نعم يا مولاى , رصدتهم عيوننا وهم يتحركون من خراسان حتى وصلوا إلى الأنبار !.
ــ أى طريق سلكوا ؟!.
ــ سلكوا طريق الهاشميه ..
ــ معنى ذلك أنهم يقصدون القصر ؟!.
ــ تماما يا أمير المؤمنين ..
ــ كم يبلغ عددهم ؟!.
ــ حوالى ألف رجل بالخيل والعتاد , أو ربما أقل قليلا ..
ــ هل يرددون شيئا ؟!.
ــ أجل يا مولاى .. إستمع إليهم رجالنا وهم يرددون كلاما غريبا من أباطيلهم التى يرددونها دوما !.
ــ ماذا يقولون .. تكلم يا قائد الحراس ؟!.
ــ يقولون إنهم ذاهبون إلى قصر ربهم الذى يطعمهم ويسقيهم !.
ــ تبا لهؤلاء الزنادقه .. إنهم يقصدوننى بهذه الترهات .. وما أرادوا من وراء ذلك إلا إشعال نيران الفتنه .. هيه وماذا أيضا ؟!.
ــ يقولون إن جبريل الأمين قد حل فى أمير مكه الهيثم بن معاويه الخرسانى .. وأن روح آدم قد حلت فى جسدى أنا .. إلى آخر تلك الخرافات !.
ــ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .. قبحهم الله ولعنهم .. والله لقد صبرت عليهم كثيرا .. لأجعلنهم عبرة لغيرهم ولتكن نهايتهم على يدى هاتين إن شاء الله !.
ــ مرنا يا مولاى نقضى عليهم جميعا فى التو .. ونستأصل شأفتهم ؟!.
ــ لا ليس بعد .. دعنا ننتظر .. لكن راقبوهم جيدا وارصدوا تحركاتهم .. وإذا جد فى الأمر شئ أبلغونى على الفور ..
ــ السمع والطاعة يا مولاى ………………

@ استمر عبيد الله الأزدى يحكى لابنته .....
ــ لم تمض غير ساعات قليلة حتى سمعت جلبة شديدة خارج أسوار القصر , وصلت أسماع الخليفة والجالسين من حوله .. أصوات آتية من بعيد إختلطت فيها هتافات الرجال بدبيب حوافر الخيل وصهيلها .. وعلى عجل دخل قائد الشرطة قائلا .......
ــ مولاى أمير المؤمنين ؟!.
ــ ما وراءك يا قائد الشرطه ؟!.
ــ جماعة الراوندية يا مولاى .. وصلوا للأبواب الخارجية للقصر ..
ــ هذه الأصوات والجلبة إذن صادرة عنهم ؟!.
ــ أجل يا أمير المؤمنين ..
ــ ما الذى يفعلونه !. هل حاولوا أن يتحرشوا برجالنا ؟!.
ــ لا يا مولاى .. إنهم يطوفون حول القصر فحسب .. ويقولون للناس هذا بيت ربنا , ونحن نطوف من حوله ..
ــ تبا لهم .. إذهب أيها القائد إلى هؤلاء الأبالسه وخذ معك بعضا من الجند واطلب إلى قادتهم أن يأخذوا عتادهم ويرحلوا عنا إلى ديارهم فى الحال ..
ــ عفوا يا أمير المؤمنين .. إن هؤلاء القوم لا يفيد معهم نصح ولن يجدى حوارا معهم ..
قاطعه المنصور فى حزم وقد بدا نافد الصبر .....
ــ إفعل ما آمرك به أيها القائد ..
ــ أمر مولاى أمير المؤمنين .... فإن أبوا أن يستجيبوا لنا .. هــل نقاتلهم يا مولاى ؟!.
ــ لا .. ليس الآن .. إن امتنعوا .. خذوا قادتهم من بينهم بالحيلة .. وألقوا بهم فى السجون .. ثم انتظروا ما آمركم به ………………
----------
إستطرد الشيخ يحكى لابنته ....
ــ وفى الحال توجه موسى بن كعب قائد الشرطه ومعه عددا من رجاله إليهم .. سأل عن قادتهم حتى تعرف عليهم .. ثم بدأ يتفاوض معهم متذرعا بالصبر رغما عنه كما أمره المنصور , محاولا إقناعهم بالعودة إلى ديارهم , وأن يكفوا عن ترديد أباطيلهم ..
ــ لم يا أبى !. أقصد لم تذرع بالصبر ؟!.
ــ إنه يا ابنتى رجل حرب .. لا يعرف إلا لغة السيوف المكتوبة بالدماء ..
ــ وهل تمكن من إقناعهم بذلك ؟!.
ــ هيهات يا ابنتى هيهات .. إنهم قوم شديدوا المراس .. متطرفون فى معتقداتهم وسلوكهم !.
ــ ما الذى فعله قائد الشرطة إذن يا أبى ؟!.
ــ لم يجد أمامه بعد أن فشل فى إقناعهم .. إلا أن ينتقل إلى الخطوة التالية كما أمره المنصور .. ألقى القبض على قادتهم وقيدهم بالأغلال ثم ساقهم إلى سجون الهاشميه .. غير عابئ بغضب أتباعهم !.
ــ والباقون ماذا فعلوا .. هل انصرفوا أم قاوموهم ؟!.
ــ لا هذا ولا ذاك .. لم ينصرفوا ولم يقاوموهم ..
ــ ما الذى فعلوه إذن ؟!.
ــ أخذهم العجب وتملكتهم الدهشة مما فعله قائد الشرطه معهم .. وغضبوا منه غضبا شديدا !.
ــ أمر طبيعى أن يفعلوا ذلك .. فهم كما أخبرتنى كانوا يتصورون أنهم يرضون أمير المؤمنين بكلامهم هذا .. وهم يرفعونه لمرتبة الألوهيه !.
ــ تماما .. كما قلت يا ابنتى .. ذلك ظنهم الذى أرداهم موارد الهلاك !.
ــ هيــــــه .. وماذا بعد يا أبت ؟!.
ــ حسنا .. سأخبرك يا ابنتى . لا زالت لتلك الأحداث بقيه .. ويالها من بقيه !!..


@ إنتظرت جماعة الراوندية مكانها دون جدوى بعد أن خاب ظنهم وطال انتظارهم حتى أخذ منهم الضيق كل مأخذ .. لم يعد قادتهم من مفاوضاتهم التى كانت تجرى بينهم وبين قائد الحراس .. وأخيرا أرسلوا واحدا منهم يتبين حقيقة الأمر ويأتيهم بالنبأ يقين .. عاد وأخبرهم أن رجال المنصور احتجزوا قادتهم وأودعوهم سجون الهاشميه ..
تملكهم غضب شديد بعد أن نزل الخبر عليهم كالصاعقة وأخذوا يتراطنون بأصوات عالية متداخلة .. كلاما غريبا غير مفهوم وهم يتداولون أمرهم فيما بينهم .. شعروا بالإهانة التى لحقت بهم وأنهم أخذوا على حين غرة منهم .. وأخيرا قرروا بعد نقاش حاد وأخذ ورد وضع خطة يردوا الإعتبار بها لقادتهم .. ويدفعوا عنهم تلك الإهانة ويستردوا كرامتهم التى أهدرت ..
إتفقوا على أن يقسموا أنفسهم مجموعتين بعضا منهم وهم الأقل عددا ينتظرون مكانهم للمراقبه ومتابعة الموقف .. والآخرون وهم الأكثر عددا تحركوا وهم يحملون نعشا فارغا على أكتافهم وكأنهم يشيعون جنازة .. بدا مسلكهم الطائش وحركاتهم العصبية أمرا مثيرا للسخرية والضحك أكثر منه للرثاء والشفقه ..
أخذوا يجوبون طرقات المدينة وأزقتها وهم يدقون الأرض بأقدامهم ويرددون فى عصبية كلمات فارسية غير مفهومة .. بينما أهل الهاشمية ينظرون إليهم وهم فى عجب من أمرهم .. البعض يضحك فى سخرية والبعض الآخر لما عقدت الدهشة ألسنتهم أخذوا يضربون كفا بكف وهم يرددون لا حول ولا قوة إلا بالله .. إنهم يعرفونهم منذ زمن ويعرفون أساليبهم وأنهم دعاة باطل وبهتان .. لكنهم لا يستطيعون إيذاءهم أو التحرش بهم إلا إن أمر الخليفة بذلك وأذن لهم به ..
توجه حملة النعش فى نهاية المطاف إلى أبواب السجن الكبير الذى يقع قريبا من قصر الحكم .. وهناك إشتبكوا مع الحراس القائمين عليه . كانوا كثرة والحراس قلة .. فأداروا معركة غير متكافئة أمكنهم بعدها من إخراج قادتهم بالقوة من داخله .. ثم أخذوا طريقهم إلى أبواب القصر ليثأروا لأنفسهم ولقادتهم أولئك من المنصور ورجاله ..
علم بذلك فنادى على كبير الحجاب الربيع بن يونس وأمره أن يرسل مناديا ينادى فى المدينة ليعلم الناس بأوامره .. ويستنفرهم لقتال هؤلاء الكفره وفى نهاية كلامه أكد عليه قائلا فى حده ....
ــ تول بنفسك الإشراف على إغلاق أبواب المدينة كلها .. وعلى الأخص باب خراسان .. وقم بالمرور عليها لتتأكد بنفسك من وجود حراسة مشددة على جميعها ..
بعد أن خرج الربيع على عجل لتنفيذ أوامر المنصور .. إلتفت إلى قائد حراسه الذى وقف على مقربة منه متأهبا فى انتظار أوامره .. وخاطبه فى لهجة حادة قاطعه ....
ــ خذ معك بعض الجند والزم باب القصر الشرقى لا تغادره أبدا .. إياك أن تدع أحدا من هؤلاء الزنادقة يفلت من قبضتكم أو يخرج سالما .. إقتلوهم جميعا حيث وجدتموهم واستأصلوا شأفتهم .. لا تبقوا على حياة أحد منهم فإنى لا أريد أن أسمع لهم ذكر بعد اليوم ..
إنتهى المنصور من إصدار أوامره .. ووضع كل واحد من القواد مكانه واطمأن على توزيع رجاله فى أماكنهم .. وأعد الساحة للقتال ثم نزل وحده قاصدا أبواب القصر ..وقد تكبدت الشمس السماء .. أخذ يرقب فى قلق ساحة المعركة الممتدة أمام القصر .. لكن سرعان ما تبدل همه فرحا وتهلل وجهه سرورا لما رأى قومه يؤازرونه ويناصرونه .. رأى أهل البلاد وقد وفدوا من كل حدب وصوب .. يحمل كل واحد منهم سلاحه فى يده وكلهم حماس للقتال والنزال والشهادة فى سبيل الله ..
وفى تلك الأثناء وقد تزاحمت الأقدام فى الساحه .. والناس يتدفقون من هنا وهناك كالسيل المنهمر .. جاء الربيع بن يونس بعد أن انتهى من مهمته فى تأمين مداخل المدينة وإغلاق أبوابها. . تقدم إلى المنصور قائلا وهو يسوق أمامه إحدى الأفراس المطهمه مشيرا إلى ظهرها ...
ــ تفضل يا مولاى ..
قالها وهو يمسك بخطامها ثم وقف إلى جواره قائما على حراسته .. وبينما المنصور يرقب ساحة القتال من مكانه .. إذا به يرى من بعيد فارسا ملثما لا أحد يعرفه .. يقاتل فى بسالة وفدائية وهو ينقض كالأسد الهصور من كل ناحية هو وأعوانه الذين أتوا معه على الراوندية فيحصدونهم حصدا .. رأى الناس ذلك فزاد من حماسهم وإقدامهم على القتال فى بسالة وعزيمه ..
أخذ المنصور ينظر فى إعجاب إلى صاحب اللثام هذا .. وهو فى شوق لمعرفة هويته محدثا نفسه ....
ــ من يكون يا ترى هذا الفارس الجسور الذى انشقت عنه الأرض .. إننى لم أر مثله شجاعة وبسالة قبل اليوم ..
ظل يدقق النظر إليه متفرسا فيه وهو يتابعه بعينيه دون جدوى .. وإذا بالملثم بعد حين من الزمن يتقدم ناحيته آخذا بلجام دابته قائلا ....
ــ ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن ترجع عن ساحة القتال فإنك اليوم تكفى .. نحن كلنا جميعا جندك وحراسك .. وأرواحنا فداؤك يا مولاى ..
أبى المنصور أن يترك ساحة القتال وأصر على البقاء بين الناس يشاركهم معركتهم قائلا له .....
ــ لست أنا أيها الفارس من يترك رجاله فى تلك الوغى ويجلس وحده .. سأكون بإذن الله آخر من يغادر هذه الساحه .. إنها معركة الشرف ولا أحب إلى من قتال أعداء الله والإسلام ..
رأى الملثم ثبات المنصور وإصراره على البقاء بين رجاله .. وهو مشفق عليه خائف أن يناله سهم طائش أو رمح صائب .. أدار رأسه ناحية الربيع قائلا له بلهجة قاطعة ....
ــ ما دام أمير المؤمنين يصر على البقاء فى أرض المعركه .. دع إذن هذا اللجام عنك يا أبا الفضل .. فأنا أولى منك بالذود عن مولاى ..
قاومه الربيع محاولا دون جدوى أن يسترد اللجام منه .. كانت قبضة الفارس أشد تمسكا به وهو يقول له ....
ــ دعك من هذا أيها الحاجب الأكبر .. إن هذا اليوم ليس من أيامك ..
عقب المنصور قائلا بفخر وإعجاب وقد أشرق وجهه وتهلل فرحا ....
ــ صدقت أيها الفارس المقدام .. دع اللجام يا أبا الفضل ..
أطاع على مضض منه وهو ينظر إلى غريمه الملثم فى غيظ وحنق .. فى الوقت الذى استأنف فيه معركته وهو يدفع عن المنصور ويحميه من أعدائه .. إلى أن قضى على أكثرهم قضاء مبرما ..
بقيت شرذمة قليلة منهم لم يلقوا حتفهم .. حاولوا الفرار بعيدا عن ساحة القتال على أمل أن يهربوا بجلدهم سالمين .. وجدوا الأبواب جميعا مغلقة أمامهم كلما تركوا بابا ذهبوا لغيره ليجدوه موصدا والحراس يسدونه بأجسادهم .. وأخيرا تأكدوا أنهم قد أحيط بهم فتصدى لهم أهل المدينة ولم يتركوهم حتى أبادوهم عن آخرهم .. وقبل أن يؤذن لصلاة العصر كانت المعركة قد انتهت وانقشع غبارها ..وعندئذ أمر المنصور أن تقام الصلاة وصلى إماما بالناس فى ساحة القصر ..

يتبع إن شاء الله ........................
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 11h37
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 04/11/2008, 22h42
الصورة الرمزية abuzahda
abuzahda abuzahda غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:102176
 
تاريخ التسجيل: novembre 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: كندا - تورونتو
المشاركات: 1,212
افتراضي حفل تعارف على شرف"قاضي الشريعة الإمام"

اقتباس:
شاعر الغلابه سيد أبو زهده


فزتُ اليوم و رب الكعبة

فما "نوبل" إلى جوار هذه
اقتباس:
شاعر الغلابه



ماكذبوا من أخبروا عن كرمك يا دكتور أنس ، أنه حاتمي
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 05/11/2008, 16h47
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن

@ فى باحة القصر وبعد صلاة العشاء صفت موائد الطعام .. ابتهاجا بالنصر على الراوندية والقضاء على فلولهم واستئصال شأفتهم .. كانت فرحة الناس غامرة بهذا النصر فهؤلاء وأمثالهم من أصحاب البدع والزنادقة أشبه بالأورام الخبيثة فى جسد الإسلام .. يتخذون الإسلام واجهة يختبئون وراءها وهم أكثر عداء له وأشد خصومة ولددا عليه من أعدائه المعروفين الظاهرين ..
كانت الموائد على هيئة دوائر متفرقه تتوسطها المائدة الرئيسية التى أعدت لأمير المؤمنين وكبار رجال الدولة .. بدت كأنها شمس فى فلكها تحيط بها الكواكب .. جلس الخليفة المنصور ومن حوله الأمراء وقادة الجيش وكبار أعوانه .. وعلى الموائد المحيطة به جلس الجند والحراس والجلاوزه وهم صغار الحجاب .. ومن حولهم عامة الناس وكلهم فى انتظار أن يبدأ أمير المؤمنين الطعام حتى يمدوا أيديهم إليه .. لم يكن من الجائز لأحد مهما كانت منزلته أن يضع يده فى الطعام قبل أمير المؤمنين ..
ظلوا يرقبونه وهو ساكن مكانه لا يتحرك منه شئ سوى عيناه وهما تدوران فى رأسه على الحاضرين يتأمل وجوههم متفرسا فيها كأنه يبحث عن أحد منهم بعينه .. كان يبدو قلقا رغم سعادته بالقضاء على طائفة الراونديه وفجأة صرخ فيمن حوله متسائلا فى حدة .....
ـ أين الفارس الملثم الذى كان يقاتل معنا .. كيف لا أراه هنا بيننا يشاركنا فرحة النصر العظيم ؟!.
أخذ يكرر السؤال مرة بعد أخرى , والقوم ساكنون كأن على رؤوسهم الطير لا يجرؤ واحد منهم أن ينبس ببنت شفه ..
ــ ألم تسمعوا قولى ؟!. أقول أين الفارس الملثم .. هل ابتلعته الأرض أم كان شبحا هذا الذى رأيته فى ساحة القتال !. لم لا يجيبنى أحد منكم !. هل خرستم جميعا !. تكلم يا كبير الحجاب أنت آخر واحد رأيته أخبرنى إلى أين ذهب ؟!.
ــ لا علم عندى يا مولاى .. ما كادت المعركة تنتهى .. حتى اختفى فجأة كما أتى ..
عاد الصمت يخيم مرة أخرى على المكان .. وأخيرا قطع هذا الصمت الكئيب القائد الكبير أبو الخصيب .. أحد المقربين من المنصور قائلا بصوت مرتعش خائف . إنه يعرف غضب المنصور وما يتبعه من ويلات ومصائب لمن يتعرض له ....
ــ مولاى أمير المؤمنين إذا أذنت لى ؟!.
ــ نعم يا أبا الخصيب .. تكلم .. هل تعرف هوية هذا الملثم .. هل تعلم عنه شيئا ؟!.
ــ أجل يا أمير المؤمنين .. أعرف ؟!.
ــ وتعرف مكانه ؟!.
ــ أجل يا مولاى ..
ــ فيم الصمت إذن ؟!.
ــ سأتكلم يا مولاى ... لكن !.
ــ لكن ماذا يا رجل , تكلم إن كنت تعلم شيئا ؟!.
ــ الأمان يا مولاى ..
ــ الأمان !. لمن . لك أنت ؟!.
ــ بل له يا مولاى .. الأمان وسيكون هنا فى الحال بين يديك طوع أمرك ورهن إشارتك ..
رد المنصور مستنكرا ....
ــ أعطيه عهدا بالأمان .. ويكون طوع أمرى ورهن إشارتى !. ماذا تعنى أيها القائد .. أفصح عما يعنيه كلامك هذا . لم يطلب الأمان .. أهو من أعدائنا !. لقد كان يقاتل صباح اليوم كالأسد الهصور .. ليس هذا فحسب !. بل كان يقوم على حمايتنا والزود عنا.. إن عيناه لم تغفل عنا لحظة واحده !! لقد أبلى أحسن البلاء .. إنى والله لفى عجب من كلامك هـذا !!..
ــ الأمان يا مولاى .. وستقف على حقيقة كل شئ ؟!.
ــ أعطيناه الأمان .. أشهدكم أيها القوم أن هذا الفارس الذى لا أعرف هويته آمن وأنه من حلفائنا . هل يرضيه هــذا يا أبا الخصيب ؟!.
خرج أبو الخصيب على الفور .. بينما سادت همهمة بين الجالسين لم تهدأ إلا بعد أن رجع ومن ورائه الفارس الملثم .. ساد الصمت والسكون مرة أخرى لم يقطعه إلا صوت المنصور وهو يقول آمرا ....
ــ من أنت ؟!. إكشف اللثام عن وجهك أيها الفارس الهمام حتى نتعرف عليك ويراك القوم ..
أخذ المنصور يدقق النظر فى وجه الفارس بعد أن كشف اللثام .. ظل يتفرس فى ملامحه طويلا مدققا .. وإذا به يتذكره بعد أن مرت لحظات كأنها دهر والقوم كلهم فى ترقب .. وأخيرا قطع الصمت قائلا بنبرات هادئة أخذت تعلوا شيئا فشيئا ....
ــ من أرى أمامى . أنت ؟!. بعد كل هذه السنوات الطوال معن بن زائدة الشيبانى !. بشحمه ولحمه يقف أمامى .. آه لو ظفرت بك يا معن قبل اليوم عشر سنوات وأنا أبحث عنك .. كنت والله أعد لك ميتة .. ما ذاقها أحد من قبل .. لكم تمنيت أن أبعث بك إلى حيث يرقد الخرسانى وابن هبيره فى قاع جهنم ..
فى تلك اللحظة جثا معن على ركبتيه مطرقا رأسه قائلا فى ذل وانكـسار ....
ــ مولاى أمير المؤمنين .. والله ما أخفانى عنك كل هذه السنوات إلا حيائى من لقائك وخوفى من غضبك .. وهأنذا الآن بين يديك .. راض بما تحكم به على ..
ــ إنهض أيها الفارس .. أنسيت أنا أعطيناك الأمان .. ثم إنك أبليت اليوم أحسن البلاء وأزلت ببسالتك وزودك عنا ما كنت أحمله من غضب عليك ..
ــ خادمك المطيع يا مولاى ورهن إشارتك .. أنا لم أفعل إلا ما هو واجب على كل جندى من جنودك تجاهك يا مولاى ..
ــ دعنا من هذا الآن .. وأخبرنى بما كان من أمرك ..
ــ عندما كنت فى صفوف الأمويين أقاتل مع يزيد بن هبيره لم يكن ذلك عن عداء منى لكم يا مولاى كما ظننتم .. ولكن عدائى كان لأبى مسلم .. لم أقصد أبدا مقاومة ثورتكم ضد بنى أميه ..
ــ كيف ذلك وما سبب عدائك للخرسانى كما تزعم ؟!.
ــ كنت أعلم عن غدره ودهائه الكثير .. وكنت على يقين أيضا من أنه يبنى مجده هو .. وأن بلاءه معكم لم يكن إلا وسيلة يصل بها إلى تحقيق أطماعه .. إن الله تعالى ألهم مولاى أمير المؤمنين فأدرك هذه الحقيقة .. وتخلص منه قبل أن يبلغ مراده ويتم كيده ..
ــ لم إذن قتلت القائد قحطبة بن شبيب ؟!.
ــ الله وحده يعلم أنى برئ من هذه التهمة يا مولاى .. وهذا الذى جعلنى أختفى عنكم كل هذه السنين .. كنت أعلم مدى حبكم وإعزازكم لهذا القائد العظيم ..
ــ إذا لم تكن أنت قاتله فما هى حقيقة الأمر ؟!.
ــ الحقيقة يا مولاى التى لا يعرفها أحد سواى والله شاهد على صدق قولى أن قاتل حبيب بن قحطبه هو رفيقه وصاحبه حرب بن سالم .. طعنه وألقى به فى نهر الفرات كى يتخلص منه .. ثم ما لبث أن لقى حتفه هو الآخر بعد ذلك .. لينطوى معه هذا السر إلى الأبد ..
ــ أواثق أنت من كلامك هذا ؟!.
ــ أجل يا مولاى والله ما قلت لك غير الصدق .. لقد طمست هذه الحقيقة وضاعت .. إلا أن أبا مسلم الخائن وجدها فرصة لكى يتخلص منى للأبد فألصق بى هذه التهمة كذبا وزورا .. وحرك تلك الوشاية الظالمه كى تصل إليك ..
ــ أجل . أجل أعتقد أنك صادق فيما تقول .. كم قلت لشقيقى الراحل أن يأخذ حذره من هذا الثعلب القادم من خراسان .. غير أنه كان يحمد له بلاءه معنا فى ثورتنا ضد آخر حكام بنى أميه .. ومع ذلك كنت على يقين أنه ينتظر فرصة مواتية ليثب على كرسى الخلافه .. أيها الفارس معن بن زائده لتعلم أنك من اليوم صرت فى عداد رجالنا المخلصين .. وأن تتولى إمارة اليمن .. كما أمرنا لك بعشرة آلاف درهم ..
إنتهزها أحد الجالسين فرصة وكان من أولئك الشعراء المداحين الذين يرتجلون الشعر فى هذه المناسبات .. هب واقفا وهو ينظر للمنصور قائلا ...
ــ هل تأذن يا مولاى أن أنشدكم شيئا مما نظمته من شعر فى أبا الوليد معن بن زائدة الشيبانى ؟!.
ــ لا بأس يا ابن أبى حفصه .. أسمعنا ما نظمته ..
ــ السمع والطاعة يا أمير المؤمنين .........
معن بن زائدة الذى زيدت به ؛ شرفا على شرف بنو شيبان ..
ما زلت يوم الهاشمية معلنا ؛ بالسيف دون خليفة الرحمن ..
فمنعت حوزته وكنت وقائه ؛ من كــل وقــع مهند وسنان ..

يتبع إن شاء الله ........................
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 06/11/2008, 10h06
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي


(5)
عودة لحكايات السفر

@ إقترب الليل وأرخى سدوله لما توارت الشمس فى مغربها .. فى نفس اللحظة التى وصلت فيها القافلة أبواب مدينة عسقلان حيث تقع بالقرب من بيت المقــدس .. وعلى مشارفها حط المسافرون رحالهم ونصبوا خيامهم .. طلبا للراحة والتزود بالماء والطعام ..
وأمام إحدى الخيام بعد أن صلى الجميع صلاة العشاء .. جلس عبيد الله الأزدى مطرقا وراح فى تفكير عميق .. وإلى جواره جلست أم حبيبه تضع وليدها فى حجرها .. وهى تحاول فى رفق أن تطعمه شيئا من الخبز المبلل بالثريد الدافئ .. وأمامهم وضعوا بعض الجمرات المتأججة يلتمسون بها شيئا من الدفئ .. بينما القمر يغمر أرجاء المكان بشعاعات نوره الفضية .. فيزيده سحرا وجمالا وبهاء وروعه .. وبينما هم على تلك الحال إذ التفتت أم حبيبة إلى أبيها قائلة ........
ــ كم سنمكث هنا .. فى عسقلان يا أبى ؟!.
ــ أعتقد أننا سنواصل رحلتنا بعد الغد .. ريثما ينتهى الشيخ أبو سعيد ومن معه من أمورهم التجارية فى سوق المدينه .. كما أخبرنا قبلا ..
ثم استطرد مبتسما ....
ــ إيه .. تتعجلين الوصول إلى الديار ؟!.
تنهدت قائلة .....
ــ يعلم الله يا أبت .. كم أنا فى شوق للقاء الأهل والأحباب .. أعوام مضت على كأنها دهر .. مذ فارقتهم إلى غزه !.
ــ حقا ما تقولين يا ابنتى .. ما أقسى الفراق .. وما أمرَ النوى .. خصوصا عليكن بنات حواء .. لا تحتملنه طويلا !.
سكتت ولم تعقب بعد أن شرد خيالها بعيدا .. وهى تتذكر الديار ومن فيها من أهل وأتراب .. وبعد أن مرت لحظات من الصمت .. لم يكن يسمع خلاله غير أصوات متداخلة آتية من الخيام المجاورة .. إختلط فيها الكلام بالضحك بالغناء .. إلتفت الشيخ قائلا لابنته وهو يومئ برأسه ناحية صغيرها .. الذى سكن صراخه .. وبدأ يخلد إلى النوم والراحه .....
ــ أخيرا هدأ أبو عبد الله من الصراخ .. له يومان لم يذق للنوم طعما ولا يجد للراحة من آلامه سبيلا .. هو نائم الآن .. أليس كذلك ؟!.
ــ بلى يا أبت .. أفاده كثيرا ذلك الدواء الذى جاءه به الشيخ أبو سعيد شيخ القافله .. بعد أن عرف علته وسبب صراخه ..
ــ أجل .. هؤلاء التجار يحتاطون لمثل هذه الأمور الطارئة .. فيحتفظون معهم بمثل هذه الأعشاب والأمزجة والأخلاط النافعه .. التى يحتاجها المسافرون فى رحلاتهم .. إذا أصاب أحدهم مكروه .. والحمد لله أن وجدنا دواء ولدنا فى حوزته ..
لم تعقب أم حبيبه .. واكتفت بهز رأسها قبل أن تلتفت ناحية أبيها قائلة ...
ــ أبت ؟!.
ــ إيه يا ابنتى ؟!.
ــ هل حدثت فتن أخرى .. بعد فتنة الراونديه ؟!.
ــ وأى فتن !. إنها فتن كقطع الليل .. إيه منذ متى توقفت الفتن والحروب والدسائس !. إن نيرانها لم تنطفئ ولم تخمد جذوتها بعد منذ الفتنة الكبرى .. التى راح ضحيتها ثالث الراشدين عثمان بن عفان .. ومن بعده على بن أبى طالب بعد أن قتله أحد الخوارج المارقين .. بعدها تفرق المسلمون إلى شيعة وخوارج .. ومنهما خرجت وستخرج فرق كثيره .. لا هم لهم إلا التقاتل والتناحر من أجل الوثوب على كرسى الخلافه ..
ــ كيف ذلك يا أبت ؟!.
ــ وقعت أحداث رهيبة فى العراق وفى أرض الحجاز .. راح ضحيتها رجال عظام من آل بيت النبوه وسالت فيها دماء زكية طاهره !.
ــ كما حدث فى موقعة كربلاء منذ حوالى مائة عام .. لسيد الشهداء الحسين بن على ومن معه من أل البيت ..
ــ تماما يا ابنتى تماما ..
ــ وما الذى حدث فى العراق والحجاز ؟!.
ــ بعد أن نجح العباسيون فى ثورتهم منذ حوالى عشرين عاما .. بايع الناس لأبى العباس الملقب بالسفاح .. إلا أبناء عمومته بنو طالب العلويين بزعامة محمد .. المعروف بالنفس الزكيه وكذلك أخوه إبراهيم ..
قاطعته متسائلة ......
ــ أليسا من أحفاد على بن أبى طالب ؟!.
ــ بلى يا ابنتى .. إنهما أبناء عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب .. المهم .. ظل السفاح يتودد إليهم مخافة أن يصطدم بهم لصلة القربى من ناحية .. ولشرفهم ونسبهم من ناحية أخرى .. إلا أنهم ظلوا متشبثين بحقهم فى الخلافة واستمروا فى بث دعوتهم سرا .. إلى أن تولى أبو جعفر المنصور الخليفة العباسى الثانى .. والمعروف عنه شدة الحذر والدهاء ..
ــ شدة الحذر والدهاء ؟!.
ــ أجل .. كان ولا يزال حتى اليوم شديد الحذر عظيم الدهاء .. لا ينتظر وقوع الأمر بل يحتال له قبل وقوعه .. إن له عبارة شهيرة تقول : ليس العاقل الذى يحتال للأمر الذى وقع فيه ليخرج منه , لكن العاقل من يحتال للأمر الذى غشيه حتى لا يقع فيه ..
ــ وماذا فعل يا أبى ؟!.
ــ بدأ يراقب تحركات أبناء عمه فى حذر شديد .. ويتحين الفرصة تلو الأخرى آملا أن يظفر بهم فى قبضة يده .. بالحيلة والدهاء إلى أن كان يوم ……


@ فى حديقة القصر الفسيحة الرحبة وتحت ظلال أشجارها الوارفة حول مائدة ممتدة عامرة .. تعلوها أنواع مختلف ألوانها من الطعام والشراب والفاكهه .. جلس الخليفة المنصور فى صدارة المكان وعن يمينه ولده محمد المهدى ولى العهد الذى تولى إمارة خراسان .. وعلى يساره جلس كبير الحجاب الربيع بن يونس .. وكاتب الديوان أبو أيوب الموريانى وبصحبته شاب إسمه جعفر .. فى حوالى الخامسة والعشرين من عمره يعمل مساعدا له فى ديوان الكتابة والرسائل .. فى الجهة المقابلة جلس قادة الجيوش يتقدمهم القائد الكبير أبو الخصيب .. وإلى جواره خالد بن برمك والى الخراج .. وآخرون من رجال البلاط العباسى ..
كان المنصور قد أعد هذه المائدة العامره لمناسبة انتصار جيوشه وفتوحاتهم المتلاحقة فى طبرستان والديلم وقرماسين .. وبينما الجالسون مستغرقون فى تناول طعامهم .. أخذ المنصور يتفقد من حوله كعادته وهو يجول ببصره فيهم حتى وقعت عيناه أخيرا على ذلك الشاب جعفر الذى يجلس بجوار كاتب الديــوان .. لم يكد يتجاوزه بعينيه حتى أعاد النظر إليه مرة أخرى مدققا ومتفرسا فى ملامحه .. فى الوقت الذى بدأت علامات من الشك تظهر على وجهه وهو يلوك على مهل لقمة الطعام فى فمه كأنها لا تعرف طريقها إلى جوفه .. ولسان حاله يردد قائلا .....
ــ أمر عجيب حقا !. أمعقول هذا !. لعله يكون هو .. لا ..لا .. غير معقول ..
ألقى بهواجسه وظنونه جانبا ثم عاد يستأنف طعامه مرة أخرى .. دون أن يشعر به أحد من الجالسين إلا ذلك الداهيه الربيع بن يونس .. الذى كان يرقبه كعادته من طرف خفى .. محاولا قراءة أفكاره ومعرفة ما يدور داخل رأسه .. حتى يكون مهيأ للرد فى أى وقت بالإجابة المناسبة التى تروق لمولاه ..
وبينما القوم مستغرقون فى تناول طعامهم وكل واحد منهم غارق فى الأصناف المكدسة على المائده أمامه .. فاجأهم المنصور وهو ينظر ناحية القائد أبا الخصيب قائلا له مداعبا .. وعلى شفتيه ابتسامة ذات مغزى ....
ــ كيف حالك أيها القائد .. لعلك الآن أحسن حالا بعد الذى جرى لك فى طبرستان فى الأيام الماضيه !.
ضج الحاضرون جميعا بالضحك وعلت أصواتهم .. إلا ولى العهد لم يشاركهم ضحكاتهم .. بدا عليه أنه خالى الذهن عن هذه الحادثة لا يعلم عنها شيئا .. لم يفهم مغزى سؤال أبيه لقائده ولماذا ضج الحاضرون بالضحك .. وأخيرا نظر إلى أبيه متسائلا .. وقد علت الدهشة وجهه مما يجرى حوله ...
ــ ما الذى حدث فى طبرستان يا أبت .. وما الذى جعل القوم يضحكون هكذا ؟!. إنى مذ توليت إمارة خراسان إنقطعت عنى الأنباء .. ويبدو أنه قد فاتنى الكثير منها !.
إلتفت المنصور إلى أبى الخصيب قائلا له ...
ــ ما قولك أيها القائد .. ولى العهد يود أن يسمع حكاية حصن طبرستان .. وما جرى لك فيه ..
أجاب مرتبكا وهو يجاهد فى إخفاء ابتسامة خجلى ......
ــ مولاى !. هذه الواقعة سردتها أكثر من مرة حتى مللت..
رد المنصور وهو لا يزال ضاحكا .....
ــ وستعيد سردها الآن .. ألم تسمع لقول ولى العهد ..
ــ أمرى إلى الله .. سأعيد سردها .. من أجل عيون ولى العهد ..
سكت برهة وهو يتنحنح قليلا .. ثم أردف قائلا موجها كلامه لولى العهد ...
ــ إسمع يا سيدى .. بعد أن نقض الأصبهبذ حاكم طبرستان العهود والمواثيق التى قطعها على نفسه .. ألا يتعرض لأحد من المسلمين وقتل عددا كبيرا منهم غدرا وظلما .. قمنا بحصار حصنها كما أمر مولاى أمير المؤمنين ..
قاطعه ولى العهد وهو يلوح بيده ....
ــ كل هذا أعلمه .. ما هى الحكاية التى جرت فى الحصن .. وأضحكت الحاضرين جميعا هكذا ؟!.
ــ لا تعجل يا ولى العهد .. سأخبرك بالحكاية كلها وستضحك أنت أيضا مثلهم .. لما طال حصارنا وأعيتنا السبل فى اقتحامه وفتح أبوابه .. قلت لرجالى إن هذا الحصن المنيع لن نستطيع اقتحامه إلا إن أعملنا الحيله .. قالوا أية حيلة تلك التى ستفتح حصنا منيعا كهذا .. قلت لهم مزقوا ملابسى وأزيلوا شعر رأسى ولحيتى .. واضربونى ضربا مبرحا من ذلك الذى يترك علامات زرقاء وحمراء على الجسد .. ثم دعونى أدخل طبرستان ولسوف أفتح لكم باب الحصن بإذن الله ..
ــ هل فعلوا ذلك ؟!.
ــ أجل يا مولاى.. إستنكروا فى بادئ الأمر أن يهينوا قائدهم .. لكنهم امتثلوا فى النهاية وضربونى ومزقوا ملابسى .. حتى صرت فى حالة مزرية وصورة منكره ..
ــ هيه .. وكيف تم لك فتح الحصن إذن .. وأنت على هذه الحالة المزرية المنكره ؟!.
ــ كيف ستكون حيلة إذن !. سأخبرك بكل شئ .. كما تم خطوة خطوه . بعد أن فعل بى أصحابى ما فعلوا وهم فى دهشة من أمرى .. ذلك لأنى لم أعرفهم خطتى .. دخلت إلى طبرستان متسللا حتى وصلت إلى أبواب القصر الذى يقيم فيه حاكمهم الأصبهبذ .. فلما رآنى رجاله …..
قاطعه متلهفا ....
ــ ماذا فعلوا ؟!.
ــ أمسكوا بى وأخذوا يلاحقونى بأسئلتهم ..
ــ عن أى شئ ؟!.
ــ سألونى عن حالى .. ومن أكون ومن أين قدمت ..
ــ هل أجبتهم ؟!.
ــ لا .. لم أجبهم !.
ــ لم .. لم تجبهم على أسئلتهم ؟!.
ــ كنت أريد مقابلة حاكمهم “ الأصبهبذ “ نفسه ..
ــ هل سمحوا لك بلقائه ؟!.
ــ أجل .. لم يسع رجاله إزاء صمتى .. إلا أن يدخلونى عليه أخيرا ..
ــ هيه .. وما الذى دار فى هذا اللقاء ؟!.
ــ لما أدخلونى عليه ورآنى على هذه الصورة المزرية سألنى عن حالى ومن أكون .. قلت له وأنا أصطنع الخوف والبكاء .. إن المسلمين قد ضربونى وأهانونى وفعلوا بى ما ترى ..
ــ بالطبع سألك عن سبب ذلك ؟!.
ــ أجل سألنى .. فادعيت أنى أدين بملتهم وقلت له إن قومى قد اطلعوا على حالى وأدركوا أن هواى معكم لأننى أعتنق ملتكم وأعتقد فى آلهتكم ..
ــ هل صدق مزاعمك ؟!.
ــ لقد أتقنت تمثيل الدور تماما .. حتى أنه أخذ يهدئ من روعى وفرح بى وأكرمنى .. وأوصى رجاله بى خيرا .. فلما وثقت وأيقنت أنه قد أمن جانبى أخذت أظهر له النصح وأتفانى فى خدمته وأقوم على مصالحه .. حتى أصبحت من المقربين لديه ومن خاصة رجاله الذين لهم حق الاقتراب من أبواب الحصن وفتحها وغلقها فى أى وقت .. وهى مهمة لا توكل إلا للمقربين بالمناوبه ..
ــ هيــه .. ثم ماذا ؟!.
ــ ظللت على هذه الحال بضعة أيام .. إلى أن كانت ليلة من الليالى كتبت مكتوبا إلى رجالى الذين كانوا لا يزالون مرابطين خلف الحصن .. أعلمتهم فيه أننى قد ظفرت بالحيله وسأفتح لهم باب الحصن فى ليلة كذا بعد منتصف الليل .. وطلبت إليهم أن يكونوا على مقربة منه ..
ــ وكيف أرسلت المكتوب إليهم ؟!.
ــ علقته فى سهم وأرسلته ناحيتهم .. ولما انتصف الليل فتحت باب الحصن بعد أن تأكدت من أن أحدا لا يرانى .. وأن رجال الأصبهبذ فى غفلة من أمرى .. وعندئذ دخل رجالنا وقتلوا كل من كان بالحصن .. وتم لنا أخيرا الاستيلاء عليه ..
ــ وحاكمهم “ الأصبهبذ “ .. ماذا جرى له ؟!.
ــ ذلك الظالم خائن العهود نال جزاءه العادل الذى يستحقه على غدره وقتل شر قتله .. تلكم يا سيدى حكاية الحصن ..
فى نفس اللحظة وبينما الجميع يتضاحكون من حكاية الحصن .. ويطلقون نكاتهم وتعليقاتهم الساخرة .. تقدم أحد الحراس من المنصور وأسر فى أذنه كلمات .. هز المنصور رأسه موافقا وبعد برهة عاد الحارس وبصحبته شيخ وقور تبدو عليه أمارات الشرف والرفعه .. ما كاد المنصور يلمحه داخلا من بعيد .. حتى رفع صوته بالتحية قائلا له فى ود مصطنع يخفى وراءه كراهية دفينة ..........
ــ أهلا ومرحبا بابن عمومتنا وسندنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب .. تفضل هنا إلى جوارى يا ابن العم العزيز ..
شكره الشيخ وهو يخفى ابتسامة ساخرة وراء شفتين كليلتين .. كان يعلم أن هذا ودا مصطنعا يخفى وراءه حقدا دفينا .. ما إن جلس حتى أقبل المنصور عليه تاركا الطعام .. وهو يبدى له الكثير من الود والترحيب وبعد مقدمات كثيرة قال له فى غير اكتراث وكأنه يسأل سؤالا عابرا ....
ــ أين ولديك يا أبا عبد الله ؟!.
ــ أظنك تسأل عن محمد وإبراهيم ؟!.
ــ تماما تماما .. أين هما الآن يا ترى وإلى أى بلدة رحلا ؟!. أراهما قد استوحشا منى .. ليتهما يأمنا لى فأنا لا أحمل لهما فى نفسى أى ضغينة أو عداء أبدا .. فهما أبناء عمومتى ونحن جميعا فى نهاية الأمر أبناء جد واحد .. أليس كذلك يا أبا الحسن ؟!.
رد الشيخ قائلا وفى عينيه نظرة ساخرة بعدما فهم السر من وراء هذه الحفاوة المصطنعة .. وتأكدت لديه هواجسه ومخاوفه ساعة أرسل إليه ...
ــ بلى يا أمير المؤمنين .. جدنا هاشم بن عبد مناف ..
سكت برهة وأردف .....
ــ لكن !. ألهذا أرسلت فى طلبى ؟!.
ــ لا . لا بالطبع .. لكنه سؤال عابر يا ابن العم .. أردت أن أؤكد لك من خلاله أنى لا أحب أن يحمل لى أحد من أهلنا أى عداء أو ضغينه ..
ــ هل تصدقنى يا أمير المؤمنين إذا قلت لك .. أنه ليس لى بهما ولا بموضعهما فى البلاد علم .. لقد خرجا من يدى إلى حيث لا أعلم إلى بلاد الله الواسعه ..
رد المنصور متظاهرا أنه يصدقه ....
ــ أجل . أجل أعلم أنهما خرجا إلى بلاد الله الواسعه .. وأعلم أنك صادق فى قولك لكنك تستطيع أن تعرف مكانهما .. هذا أمر ليس بالعسير عليك يا ابن العم .. وعلى أية حال وحتى أثبت لك حسن نيتى فإنى على استعداد إن أردت الآن .. أن أكتب إليهما كتابا بالأمان .. وسأشهد عليه كل الأمراء والقاده .. ما قولك ؟!.
أجابه الشيخ متهكما وقد عزم على مواجهته بعد هذه المراوغات ....
ــ كتابا بالأمان !. عن أى كتاب تتحدث وأى أمان هذا الذى تدعيه !. أتظن أنى نسيت ما فعلته مع ابن هبيره أو ما فعلته مع ساعدك الأيمن ورجلك الأول أبى مسلم الخرسانى .. لعلك لست فى حاجة إلى أن أذكرك بما فعلته بعد ذلك مع عمك عبد الله بن على .. أنسيت أنك قتلته بعد أن استدرجته وأعطيته الأمان هو الأخر .. كل واحد من هؤلاء غدرت به .. بعد أن أعطيته الأمان قبل أن يأتى إليك .. لتجهز على حياته !.
وقبل أن يسترسل الشيخ فى رمى سهامه التى أصابت الحاضرين بالوجوم .. قاطعه المنصور والشرر يتطاير من عينيه وقد تملكه غضب عارم ....
ــ مه أيها الشيخ الخرف .. يبدو أن طول صبرى عليك قد أنساك نفسك . إنك لا تعرف شيئا .. أنا لم أقتل إلا الخونة والمارقين الطامعين .. لقد نالوا جميعا ما يستحقونه جزاء ما قدمت أيديهم ردعا لهم وعبرة لأمثالهم .. هيا أخبرنى بمكان ولديك قبل أن أجهز على حياتك أنت الآخر ؟!. لقد صبرت عليك كثيرا ويكاد صبرى أن ينفذ .. تكلم ؟!.
ــ وإن أبيت .. ماذا أنت فاعل يا ابن العم ؟!. إعلم أنى لا أهابك .. حتى لو أمرت بقتلى الآن .. ووالله الذى أرسل محمدا بالحق .. لو كانا تحت قدمى هاتين .. ما دللتك عليهما ولا رفعت عنهما قدماى.. حتى لو وضعت سيفك هذا على عنقى !.
ــ هل جننت أيها الرجل .. كيف سولت لك نفسك أن تخاطبنى بهذه الوقاحة وذلك التحدى ؟!.
ــ لن أرد على سبابك وتطاولك على شيخ هرم مثلى .. لكنى سأقول لك كلمة أخيرة وبعدها افعل ما تشاء .. إنى علمت ساعة أرسلت إلى سوء نيتك .. وأعلم أنك خائف منهما وأنك تتربص بهما .. أنسيت يوم بايعت ولدى محمد مع أهل الحجاز على خلع مروان بن محمد !. أنسيت أنك أنت الذى أهدرت البيعة وتنصلت من عهدك ؟!.
إستشاط المنصور غضبا وهب واقفا .. وقد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه وهو يصرخ فيه .....
ــ رغمت أنفك أيها الأحمق .. خذوا هذا المخرف إلى السجن .. ضعوه فى مكان لا يسمع فيه آذانا أو يعرف فيه الليل من النهار .. لا تجعلوا أحدا يصل إليه أو يكلمه .. أما أنا .. فسأعرف كيف أصل إلى مكان ولديك .. وسيكونا فى قبضتى هاتين .. رضيت أم أبيت !.
لم يشأ الربيع الداهية أن يضيع هذه الفرصة التى سنحت له ليبث سمومه من مخزون الكراهية الدفينة فى قلبه للبيت العلوى كله .. مال برأسه على المنصور وهو يقول هامسا ....
ــ أرى يا مولاى إذا إذنت لى .. أن تجمع كل أبناء الحسن وعشيرته وتضعهم فى الحبس معه .. إن هذا سوف يستثير ولديه ويعجل بظهورهما من مخبئهما وعندئذ !…..
قالها وهو يبتسم ابتسامة ماكرة صفراء ذات مغزى .. هز المنصور رأسه موافقا وانتظر إلى أن اقتاد الحراس الشيخ إلى محبسه ثم انتحى بالربيع جانبا وقال له ....
ــ أرسل بعضا من عيوننا إلى يثرب ومكه والعراق وخراسان ليتحسسوا أخبار هذين الهاربين .. أريد منكم أن تضعوا أيديكم عليهما فى أسرع وقت ودون تأخير .. أسمعت يا أبا الفضل .. فى أسرع وقت !.
ــ أمر مولاى .. إن هى إلا أيام قليله .. ويكونا تحت قدميك…………

@ إستمر عبيد الله الأزدى يحكى لابنته ..............

ــ فى تلك اللحظة كان أحد الحراس يتسلل خارجا من أبواب القصر دون أن يراه أحد .. متخذا طريقه لا يلوى على شئ إلى حيث يختبئ محمد وأخوه إبراهيم عن عيون المنصور .. بعد أن التقطت أذناه هذا الحوار من مكانه الذى كان قابعا فيه .. كان هذا الرجل من عيون الثوار الهاربين والمندسين فى بلاط المنصور وحاشيته .. ينقل إليهم أولا بأول أخبار القصر وما يدور فيه من فتن ودسائس ...............
وفى مكان يقع وسط صحراء الجزيرة العربيه يبعد بضعة أميال عن المدينة المنوره .. وفى شعب من شعاب جبال رضوى جهينه الذى يقع شمال شرقى المدينه .. إتخذ الثائران محمد وإبراهيم أبناء عبد الله بن الحسن مع باقى إخوتهما وأهلهما ونفر من رجالهما مخبأهم .. داخل كهف آمن من كهوف هذا الجبل بعيدا عن عيون المنصور وأعوانه وجواسيسه .. وفى داخل الكهف جلسوا جميعا يتحلقون رجلا بدينا .. تغلب عليه السمره مهيب الطلعة سمح الوجه فى منتصف العقد الخامس من عمره .. له سطوة ومهابة تفرض نفسها للوهلة الأولى على كل من يخاطبه أو تقع عليه عينه ..
إنه محمد بن عبد الله بن الحسن حفيد الامام على كرم الله وجهه وهو الملقب بالنفس الزكيه .. وإلى جواره جلس أخوه إبراهيم .. كان رغم نحافته بعض الشئ فتيا قويا يتميز ببشرة بيضاء مشربة بسمرة خفيفه يناهز الأربعين من عمره ..
إلى جوارهما جلس أخواهما "يحي" شابا فتيا مفتول العضلات فى العشرين من عمره .. وأصغر الثوار "إدريس" وهو صبى تخطى العاشرة من عمره بقليل .. ومن حولهم جلس جمع من الأهل والأنصار يناقشون أمرهم ويتدبرون أحوالهم .. إبتدر أحد الجالسين قائلا فى حدة وضيق ..........
ــ إلى متى نظل هكذا ونحن على هذه الحال لا يستقر لنا مكان ولا تلاقينا أرض .. ونحن هاربون مطاردون من بلد إلى بلد ومن كهف لآخر كأننا شرذمة من القتلة المجرمين أو من الخارجين على شرع الله ؟!.
رد عليه آخر .....
ــ أجل لابد أن نضع نهاية لهذا الأمر .. إننا لا نكاد نذهب إلى مكان حتى نسارع بالرحيل إلى غيره .. ما كل هذا الذل والهوان !. أدعاة باطل نحن أم دعاة حق ؟!.
أجابه ثالث .....
ــ بل نحن أصحاب حق ودعوتنا دعوة صدق .. وآن لنا أن نسترد أخيرا حقنا الشرعى الذى اغتصبه منا بنوا العباس ..
كان ذلك الحوار الصاخب يدور بين الجالسين .. بينما زعيمهم محمد "النفس الزكيه" يستمع إليهم مطرقا رأسه صامتا وهو ينكت الأرض بعود من الحطب فى يمناه .. وعيونهم ناظرة إليه فى انتظار ما يعقب به على كلامهم .. بعد برهة من الزمن كأنها دهر .. رفع رأسه قائلا فى نبرات هادئة واثقة مطمئنه ......
ــ لقد جئنا إلى المدينة أيها الرجال واخترنا هذا المكان الآمن بعد كل ما عانيناه ونحن مطاردون فى بلاد الله الواسعه .. لنتدبر أمرنا فى روية وأناة بعيــدا عن عيون وجواسيس المنصور .. ذلك الداهيه الذى اتخذ الهاشمية مقرا له .. وتعلمون جميعا أنه يعتقد اعتقادا جازما ومن قبله أخيه السفاح أنهم الورثة الشرعيون للخلافه .. إستنادا لزعمهم القائل أن جدهم العباس هو الوريث الشرعى لرسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. وحجتهم فى ذلك أنه لم يبق إلا هو على قيد الحياه من أعمام النبى [صلى الله عليه وسلم ] بعد وفاته ..
قال إبراهيم معقبا .......
ــ هناك أمرا آخر لم تشر إليه يا أبا على ..
ــ ماذا تريد أن تقول يا إبراهيم ؟!.
ــ أنسيت يا أخى أنه هو الذى يردد دائما أن الفضل يرجع إليه فى الانتقام من قتلة أجدادنا وآلنا بنوا على بن أبى طالب .. وأنه هو الذى أفلح فى القضاء على آخر حكام بنى أميه متجاهلا ومتناسيا عن عمد أن هذا كله كان بفضل نصرتنا وتأييدنا ودعمنا !.
ــ كيف أنسى ذلك والمنصور نفسه ومن قبله أخيه السفاح قد نقضا العهد الذى اتفق عليه بنوا هاشم فى الأبواء ..
ــ أجل عقد البيعة لك عند نجاح الثوره !.
رد أحد الجالسين معقبا ......
ــ لم تكن إلا خدعة وحيله ليحصلوا على تأييدنا ونصرتنا لثورتهم .. وأن تظل جبهة بنى هاشم صلبة متماسكة لا انقسام فيها .. ريثما يحققون مأربهم وهو الوثوب على كرسى الخلافه ..
قال آخر ......
ــ أجل لقد جعلوا منا جسرا يعبرون عليه إلى كرسى الخلافه .. سحقا لهم !. لابد أن نسترد حقنا المسلوب وننتقم منهم حتى لو كانت أرواحنا هى الثمن .. لن نضن بها أبدا فى سبيل تحقيق هذا الهدف !.
قال محمد “ النفس الزكيه “ ............
ــ أيها الرجال تعرفون أننا وإن كنا قليلون عددا وعتادا منهم وربما يتمكنون منا .. غير أن أتباعنا فى شتى البلاد كثيرون وكلنا جميعا مستعدون لبذل أرواحنا والتضحية بأنفسنا ولن تتوقف مسيرتنا أبدا .. سيكمل أبناؤنا وأحفادنا مسيرة عمنا الحسين التى حمل لواءها من بعده زيد وولده يحي ..
فى تلك الأثناء دخل أحد الحراس المكلفين بمراقبة الجبل .. توجه إلى كبير القوم قائلا وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه اللاهثه ......
ــ سيدى .. أرى أحد الفرسان قادما وحده من بعيد ..
ــ من يكون ؟!.
ــ لم أتبين ملامحه بعد .. لكنى رأيته يرفع الراية الخضراء المتفق عليها !.
ــ لابد أنه أحد رجالنا جاء يحمل أنباء لنا .. تأكد من هويته أيها الحارس ثم أدخله فى الحال ..
سأل إبراهيم وقد بان عليه القلق ........
ــ ما الذى حدث يا ترى لابد أن أمرا خطيرا وقع بالعراق !.
رد محمد قائلا .....
ــ بعد قليل نعرف كل شئ ..
بعد برهة دخل الحارس مرة ثانية وهو يقول .....
ــ القادم يا سيدى هو إبن صفوان رجلنا فى قصر الهاشميه ..
رد محمد فى لهجة آمره .......
ــ ماذا تنتظر أيها الحارس .. أدخله فى الحال ..
إبتدره محمد قائلا .....
ــ تعال يا ابن صفوان واجلس هنا إلى جوارى‏ .. لقد قطعت رحلة طويلة شاقه .. وأعتقد أنك فى حاجة للراحة والطعام !.
ــ معذرة يا سيدى فإنى كنت أسابق الزمن وأنا فى الطريق إليكم .. فالوقت يمر سريعا والأحداث تتلاحق .. وما جئت من أجله إلى هنا لا يحتمل الانتظار !.
سأل إبراهيم الذى كان أكثرهم قلقا ولهفه ..........
ــ خيرا يا ابن صفوان .. ماذا وراءك ؟!.
ــ سيدى .. لابد من مغادرة هذا المكان فى الحال قبل أن يحاط بكم ..
ــ ماذا تعنى .. أفصح ؟!.
ــ لقد أرسل المنصور إلى والدكم عبد الله بن الحسن وأخذ يتودد إليه فى لــؤم ودهاء ليأتى له بكما .. وحاول مستعينا بالحيلة ومعسول القول أن يستدرجه لمعرفة المكان الذى تختبئون فيه ..
ــ هيه .. ثم ماذا ؟!.
ــ باءت كل محاولاته بالفشل !.
قال محمد معقبا وقد ظهر عليه الضيق والهم .....
ــ لعله أظهر وجهه الأخر الذى يخفيه وراء قناع من الزيف والباطل .. بعد أن جرب الحيلة والخديعه .. تلك وسيلته دائما .. ما أخبثه .. ما ألعنه !.
ــ تماما يا سيدى . هذا هو ما حدث منه فلم يكد والدكم يصرخ فى وجهه قائلا له إنه لن يأتى بكما ولو كنتما تحت قدميه حتى غلى الدم فى عروقه وهاج وماج .. ثم أمر به إلى السجن ومعه باقى الأهل والأنصار !.
رد محمد .....
ــ إنه ما فعل ذلك إلا ليستفزنا .. وليعجل بخروجنا مــن مخبئنا هذا !.
رد ابن صفوان قائلا ......
ــ تماما يا سيدى وسمعت المنصور أيضا وهو يأمر الربيع بن يونس أن يرسل كتابا بعزل أمير المدينه محمد بن خالد القسرى .. وأن يختار بدلا منه صعلوكا من الصعاليك حتى يكون طوع أمره ورهن إشارته فى كل ما يأمره به ..
ــ هل تعرفت على اسمه ؟!.
ــ أجل يا سيدى .. إنسان وضيع لا خلاق له أعرفه .. إسمه رياح بن عثمان المرى ..
صمت قليلا وأردف قائلا ........
ــ وأنا فى طريقى إلى هنا .. علمت كذلك من بعض رجالنا فى المدينه أنه بدأ فى التحرى والبحث .. وأنه قد توصل فعلا إلى بعض الخيوط التى توصله إلى مكانكم !.
أطرق محمد قليلا .. ثم رفع رأسه موجها كلامه لمن معه ...........
ــ إسمعوا جيدا أيها الرجال والأنصار . وانتبهوا لكلامى فسأشرح لكم الآن خطة الخروج من هنا ..
بدأ يخط بعود من الحطب فى يده خطوطا متباينة أمامه على الرمال ويشرح لهم خطته ………………
----------
@ إستأنفت القافلة رحلتها من عسقلان بعد أن مكثت بها بضعة أيام .. وأخذت طريقها سابحة فى بحر الصحراء المترامى حيث تبدو من بعيد سلسلة من الجبال الشامخه .. وبعد أيام من المسير المتواصل مرت القافله بمحاذاة مدينة البتراء والتى تعرف أيضا بالرقيم .. سألت أم حبيبة أباها عنها فأجابها وهو يشير بيده .....
ــ إنها مدينة أثرية قديمة مهجورة لا يسكنها أحد ولا حياة فيها .. سوى بعض الأحجار القديمه المتناثرة هنا وهناك وبنايات أثرية من بقايا حضارة الأنباط التى اندثرت منذ زمن بعيد ..
قال ذلك ثم عاد يكمل لابنته وهو راكب دابته بقية أحداث ذلك الصراع الذى كان دائرا بين الخليفة المنصور وأبناء عمه العلويين الطالبيين ....
ــ لم يكد ذلك الصعلوك الذى ملكه المنصور زمام الأمور فى المدينه .. حتى أخذ يبطش وينتقم من كل واحد ينتمى أو يناصر العلويين .. إلى أن امتلأت بهم سجون المدينة جميعها ..
ــ كلهم يا أبت ؟!.
ــ أجل يا ابنتى .. كلهم حتى أنه كان لمحمد "النفس الزكيه" ولد إسمه على أرسله إلى مصر بعيدا عن عيون المنصور حتى لا يقع فى قبضته .. لم يسلم هو الأخر من بطشهم ولم يفلت من قبضتهم .. إقتادوه من هناك فى غلظة وأتوا به إلى الهاشمية وألقوا به فى السجن مع المقبوض عليهم .. وفى تلك السجون قتلوا بعضهم غيلة وتركوا الآخرين يموتون صبرا .. كان من بين ضحاياهم عبد الله بن الحسن والد الثوار الذى لقى حتفه داخل السجن ..
سألت فى أسى ولوعه ....
ــ وماذا كان مصير محمد النفس الزكيه وبقية إخوته ؟!.
ــ إبراهيم فإنه توجه إلى البصرة وظل مختبئا هناك فى انتظار أن تأتيه الاشارة من أخيه بالظهور فى الوقت المناسب ..
ــ ومحمد النفس الزكيه هل فعل شيئا أم ظل فى مكمنه ؟!.
ــ خرج فى نفر من أتباعه فى جنح الظلام متسللا بين الجبال وفى دروبها الوعره .. متخذا طريقه إلى يثرب بعد أن أعلم كل واحد من أهله وأتباعه بما سوف يفعله .. وبالفعل حدث ما كان يتوقعه ويحسب حسابه ..
ــ ماذا تعنى يا أبى .. هل أمسكوا به ؟!.
ــ لا ليس بعد .. لكن ذلك الصعلوك أبو رياح المرى الذى تولى إمارة المدينه استطاع معرفة مكانه الذى يختبئ فيه .. وعلى الفور أخذ معه حشدا كبير من الجند وتوجه إلى شعب رضوى جهينه باحثا عن الثوار .. إلا أنهم أفلحوا فى الافلات منهم قبل أن يصلوا إليهم بفترة وجيزه ..
ــ هيه .. وماذا بعد يا أبت ؟!.
ــ بعد مطاردات مثيرة بين الجبال والوديان .. إستطاع محمد "النفس الزكيه" أن يصل إلى المدينة وأن يدخلها مع أتباعه .. دون أن يشعر به أحدا من أعدائه ..
ــ من المؤكد أنه قام بالإختفاء فى المدينه ؟!.
ــ على العكس .. ما كاد أنصاره من أهل المدينة يعلمون بوصوله ووجوده داخلها .. حتى توافوا عليه من كل مكان وتجمعوا من حوله .. كانوا حوالى ثلاثمائه من أشد الرجال .. وعلى الفور توجه الجميع إلى سجون المدينه وأخرجوا من بقى فيها منهم على قيد الحياه .. ثم يمم الجميع بعد ذلك صوب دار الامارة وحاصروها .. وألقوا القبض على ذلك الصعلوك الذى أتى به المنصور وسط تكبير الناس وتهليلهم .. ولم يمض غير يومين إلا والمدينة كلها قد دانت له بالولاء .. وتمت له السيطرة على زمام الأمور فيها تماما وفى اليوم التالى ………………

@ تصل بنا أحداث الصراع بين أبناء العم إلى قلب المدينة المنورة .. وفيها قامت مسيرة كبيرة قادها محمد "النفس الزكيه" ومن حوله أتباعه وأنصاره صبيحة اليوم التالى على وصولهم إلى المدينه .. حمل أنصاره الألوية والرايات وتوجهوا شطر المسجد النبوى .. ومن خلفهم جموع غفيرة من أهلها فيهم الشيوخ والشباب والنساء والصبيه ..
كانوا يفدون من كل ناحية وأعدادهم تزداد شيئا فشيئا كلما مضت المسيرة فى طريقها .. وهم يرددون فى صوت واحد هادر "لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد" .. كانت هتافاتهم المدوية فى هذا الموكب المهيب تهز أرجاء المدينة وتزلزل جنباتها وتشق أصداؤها عنان الفضاء .. وقبل أن يصلوا كان المسجد قد امتلأ عن آخره بجموع كبيرة من الناس .. يتقدمهم الوجهاء والأعيان وشيوخ القبائل والعشائر ..
وسط هذه الجموع إندس أحد عيون المنصور وهو جاسوس يعمل بأجر معلوم دراهم معدوده .. شأنه شأن غيره ممن كلفهم المنصور بنفسه لمثل هذه المهام .. ينقل الأخبار الهامة إلى البلاط وعلى قدر وأهمية ما يحمله من معلومات تكون مكافأته .. كان رجلا سمجا توشى ملامحه أنه من ذلك النوع الذى يجيد التنصت والتسمع .. وتبدو على مخايله واضحة جلية علامات الوضاعة والخسه والنذاله .. جلس مرهفا سمعه لكل كلمة تقال من حوله متظاهرا أنه يشارك القوم فرحتهم وسرورهم .. وهو يسجل فى ذاكرته كل كلمة تصل إلى مسامعه من الجالسين من حوله ..
صعد محمد "النفس الزكيه" على منبر رسول الله [
صلى الله عليه وسلم ] .. واستهل الحاضرين خطابه فى تؤدة ورويه .......
ــ "بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين أما بعد : أيها الناس يا أهل يثرب يا أبناء المهاجرين والأنصار .. إنى والله ما خرجت بين أظهركم وأنتم عندى أهل قوة أو بأس .. لكنى اخترتكم لنفسى لأن أحق الناس للقيام بهذا الدين أنتم أهل المدينه أبناء المهاجرين والأنصار .. ووالله ما جئت إلى هنا إلا ولى فى كل مصر من الأمصار بيعه .. أيها الناس لقد أمرنا بعزل ذلك الصعلوك الذى جاءوا به أميرا عليكم وأن يبقى فى محبسه إلى أن نرى فيه أمرنا .. كذلك أمرنا أن يتولى إمارة المدينة عثمان بن محمد بن الزبير .. وأن يقوم على أمر الشرطه عثمان بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب وعلى بيت السلاح عبد العزيز الدراوردى ......
إستمر محمد "النفس الزكيه" يلقى بيانه والقوم كلهم منصتون إليه .. لا يرفعون أعينهم عنه وقد علت وجوههم البهجة وعمهم الفرح والسرور .. إلا ذلك الجاسوس الذى كان مندسا بينهم .. تسلل فى خفة خارج المسجد بعد أن سمعت أذناه ما سمعت دون أن يشعر به أحد من الجالسين من حوله .. ثم ركب دابته وانطلق يعدو بها لا يلوى على شئ قاصدا طريق العراق .. بدا سعيدا مبتهجا بالجائزة التى تنتظره فى مقابل ما يحمله من أنباء هامة .. لم يسبقه إليها أحد إلى بلاط المنصور ..
----------
@ خرج الناس من المسجد النبوى بعد أن انتهى الثائر من إلقاء بيانه وهم فى حيرة من أمرهم .. كانوا فى قرارة أنفسهم يتمنون مبايعته خليفة للمسلمين .. لكن أسقط فى أيديهم فقد سبق لهم إعطاء البيعة للمنصور بأيمان مغلظة لا سبيل لهم إلى نقضها أو الرجوع عنها .. وبعد مداولات إتفقوا فيما بينهم أن يختاروا نخبة من بينهم يمثلون الأعيان وشيوخ القبائل والعشائر .. يأتون لهم بالفتوى من شيخ المدينة وإمامها مالك بن أنس ..
وفى مساء اليوم نفسه توجهت تلك النخبة من شيوخ المدينة وأعيانها إلى دار الفقيه مالك بن أنس .. وعلى باب الدار خرجت إليهم جاريته السوداء التى كانت تقوم على خدمته .. سألتهم عن مطلبهم .. أجابها كبيرهم على الفور ......
ــ جئنا نلتمس لقاء الشيخ .. فى أمر هام وضرورى ..
وقبل أن تفتح الجارية فهما للرد عليه استدرك قائلا .....
ــ نعلم أن هذا اليوم ليس يوم الفتوى .. إلا أن الأمر هام أيتها الجاريه ولا يحتمل الإنتظار للغد ..
ما كان منها إلا أن عادت أدراجها داخل الدار تستأذن سيدها وهم لا يزالون وقوفا بالباب .. ذلك أن شيخ المدينة وإمامها أعد نظاما ثابتا وحدد أياما وساعات معينة يلتقى فيها بالناس ليجيب على أسئلتهم .. وأياما أخرى للدرس وتعليم الحديث .. كان لا يسمح أبدا بتغيير هذا النظام الصارم ولا يأذن لأى أحد أن يقطع عليه خلوته إلا فى الملمات .. وعلى هذا النهج عاش حتى آخر أيامه ..
طال وقوفهم خارج الدار ينتظرون إلى أن عادت الجاريه مرة أخرى وفتحت الباب لهم الى قاعة الانتظار .. وفى داخل القاعة جلسوا فى انتظار الشيخ وهم يتحدثون فيما بينهم بأصوات خافتة يتداولون أمرهم ..
وبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل فى حوالى الأربعين من عمره .. تكسو صفحة وجهه وتتراءى سمات الصالحين الأتقياء وتعلوه المهابة والوقار .. سلم الشيخ عليهم ورحب بهم وكان يعرفهم .. ثم سألهم عن حاجتهم فأجابه كبيرهم ......
ــ جئناك يا شيخ المدينة مفوضين من أهلها جميعا .. لتفتينا فى أمر هام حير القوم جميعهم .. واتفق الرأى على أنه لن يفتينا ويخرجنا من حيرتنا إلا إمامنا وشيخنا مالك بن أنس !.
ــ لابد أنه كذلك حقا .. فأنتم تعرفون أن اليوم ليس يوم الفتيا !.
ــ نعلم ذلك يا شيخنا .. إلا أن الأمر عاجل وخطير ولا يحتمل الإنتظار للغد .. ولولا ذلك ما سمحنا لأنفسنا أن نقطع عليك خلوتك !.
ــ لعلكم أتيتم من أجل محمد بن الحسن .. سمعت أنه ظهر بالمدينة البارحه ؟!.
ــ أجل أيها الشيخ .. وطلب منا أن نبايعه ..
ــ وماذا بعد ؟!.
ــ كما تعلم .. نحن فى رقابنا بيعة للخليفة أبى جعفر المنصور ..
ــ أجل أعلم .. ما الأمر إذن ؟!.
ــ نحن فى حيرة يا شيخنا الجليل .. هل نبايع لابن الحسن أم نبقى على بيعتنا للخليفة المنصور ؟!.
ــ ما رأيكم أنتم .. هل ترغبون فى البيعة له ؟!.
ــ أجل نرغب فى ذلك .. غير أن بيعتنا وأيماننا للخليفة المنصور تمنعنا وتقف حائلا أمام إرادتنا ..
ــ هل بايعتم للمنصور أيها القوم بإرادتكم ورغبتكم .. أم أنكم أعطيتم البيعة آنذاك مكرهين ؟!.
ــ الله وحده يعلم أنا حلفنا مكرهين وبايعنا مرغمين وكان ذلك ضد إرادتنــا ..
ــ وأنا أقول لكم ليس على مستكره بيعه .. قال رسول الله [
صلى الله عليه وسلم ] "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وقال " ليس على مكره يمين" . هيا قوموا فبايعوا لمحمد بن عبد الله بن الحسن .. واتركونى هنا وحدى فى خلوتى ..
قال ذلك ثم أخذ يتمتم فى سره وهو فى طريقه إلى داخل الدار .....
ــ الله وحده يعلم ما ستفعله بى هذه الفتوى ..


@ تسعة أيام مرت على هذه الأحداث المتلاحقه التى جرت على أرض المدينه المنوره منذ دخول العلويين إليها ... كان الأمر خلالها قد استتب لهم تماما .. على الجانب الآخر فى مدينة الهاشميه مقر إقامة المنصور .. وبينما الحراس يروحون ويغدون فى نوبة حراستهم ليلا تحت أضواء المشاعل أمام أبواب قصر الخلافه .. إذا بهم يلمحون شبحا قادما من بعيد وهو يتسلل حثيثا على دابته مستترا بالظلام ..
أخذت ملامحه تظهر وتتميز شيئا فشيئا كلما اقترب براحلته من أسوار القصر .. إنه الرجل الذى خرج متسللا من المسجد النبوى .. على مقربة من باب القصر أوقفه أحد الحراس طالبا إليه النزول من فوق ظهر راحلته .. أمره بغلظة ألا يتحرك من مكانه وبدأ يسأله فى جفاء وحده .......
ــ من أنت أيها الغريب .. وما الذى أتى بك إلى هنا فى تلك الساعة المتأخرة من الليل .. تكلم ؟!..
كان يبدو من هيئته وكذلك من زيه أنه كذلك .. غريب عن البلاد .. إلتفت الرجل من حوله فزعا وقد بوغت بهذه المقابلة الجافه .. التى لم يعتد على مثلها من قبل .. هاله أن يرى عددا من الحراس الأشداء يتحلقونه وهم يحدجونه بنظراتهم الناريه .. متحفزون للقضاء عليه إن تحرك من مكانه خطوة واحدة للأمام .. وأيديهم على مقابض سيوفهم ...
أخذ يدور بعينيه عليهم ويردد النظر إليهم واحدا بعد الآخر .. لمح الشر فى عيونهم فعاد ينظر إلى محدثه .. قال بصوت لاهث وقد بدا عليه الإعياء والتعب من طول السفر .......
ــ أرجوكم .. أيها الحراس .. أريد شربة ماء أولا .. فإنى قادم من سفر بعيد .. لى تسعة أيام وأنا أكابد مشقة السفر .. وقد نفد الماء منى ...
سأله أحدهم ساخرا منه وقد تصوره مخبولا .......
ــ وما الذى أتى بك إلى هنا أيها الصعلوك ؟!..
وعاجله آخر .......
ــ ولماذا تكبدت كل هذه المشقة كما تزعم ؟!..
ــ مهلا أيها الحراس .. لا تسخروا منى ...
ــ لم إن شاء الله ؟!..
ــ لأنى أحمل أنباء هامة لأمير المؤمنين ...
إرتفعت ضحكاتهم الساخره .. بينما عاجله أحدهم بقوله ......
ــ أنباء هامه !.. معك أنت .. هيــه .. وماذا تريد ؟!..
ــ لا أريد منكم شيئا .. أريد مقابلة أمير المؤمنين ...
ــ أميــــــر المؤمنين .. هكذا !.. من تظن نفسك ؟!..
ــ أجل .. وفى الحال .. ما خطبكم .. لماذا تنظرون إلى هكذا ؟!.. ألا تعرفون من أكون ؟!..
ــ من تكون !!.. صعلوك من الصعاليك .. أم تظن نفسك القائد موسى بن كعب جئتنا متخفيا ؟!..
إرتفعت ضحكات الحراس .. واستمرت تعليقاتهم الساخرة دون أن يردوا على تساؤلاته .. وهم يتغامزون على هيئتة المزرية وثيابه الرثه .. ساخرين أن يجرؤ صعلوك مثله على طلب لقاء أمير المؤمنين .. وفى ذلك الوقت المتأخر من الليل .. أخذ ينظر إليهم متعجبا من ضحكهم واستهزائهم .. لم يفهم له سببا فى بادئ الأمر .. فعاجله أحدهم قائلا وهو يناوله قربة الماء ليشرب منها .......
ــ خذ إليك قربة ماء بحالها .. إشرب وارتوى كما تشاء يا .. يا صاحب الأنباء الهامه !..
واستمرت تعليقات الحراس الساخرة .. وهو يكاد أن يلتهم قربة الماء .......
ــ أى أنباء تلك التى يحملها صعلوك مثلك ؟!.. ثم أين لك بأمير المؤمنين فى هذا الوقت المتأخر من الليل .. من المؤكد أنك لا تعى ما تقول !..
وقال آخر .......
ــ هيا اشرب الماء .. وارجع على الفور من حيث أتيت .. وإلا ....
قاطعهم وهو يمسح بقايا الماء بكمه من على فمه .. موجها كلامه لهم فى استعطاف .. بعد أن شرب وارتوى .......
ــ أنتم لا تعرفون شيئا عن حقيقة الأمر .. ولا تدركون أهمية ما جئت من أجله .. لابد لى من لقائه الآن .. الأمر جد خطير !..
ــ إسمع أيها الرجل .. لا تصدع رؤوسنا بترهاتك .. عليك بالانتظار حتى صباح الغد .. أمير المؤمنين لا يلتقى بأحد فى جوف الليل .. مهما تكن الأسباب ...
رد عليه بلهجة حادة قاطعة مستنكرا قوله .......
ــ أقول لكم أنباء هامه تسخرون منى وتقولون ترهات !.. ثم كيف أنتظر إلى صباح الغد ؟!.. أى غد أيها الحراس .. إنكم بالقطع لا تدركون خطورة الأمر .. لن أتحرك من مكانى هذا .. ولا تضطرونى أن أصرخ بأعلى صوتى مناديا على أمير المؤمنين !..
رأى الحراس إصراره .. فتبادلوا نظرات ذات مغزى .. ثم أشار إليه أحدهم أن يتبعه وقد ظهر الضيق على وجهه .. حتى إذا بلغا فناء القصر صعد معه بضع درجات .. ثم سارا فى ردهة طويلة إلى أن وصلا إلى نهايتها .. إستدار إليه الحارس قائلا فى لهجة آمره .......
ــ إنتظر هنا .. فى هذا المكان حتى آتيك .. الويل لك إن تحركت من مكانك هذا خطوة واحده ...
عاد بعد قليل وهو يشير إليه أن يتبعه مرة أخرى .. حتى وصل به إلى غرفة الحارس الخاص لأمير المؤمنين .. وعلى باب الغرفة سأله الحارس وهو لا يزال يتثاءب .......
ــ من أنت أيها الرجل .. وماذا وراؤك ؟!..
ــ أنا يا سيدى الحسين بن صفر من بنى عامر .. لى تسعة أيام أكابد فيها مشقة السفر من يثرب إلى أن وصلت إلى هنا .. وأريد لقاء أمير المؤمنين الآن ...
ــ لم ؟!..
ــ الأمر هام وعاجل ...
حدجه بنظرة حادة مستنكرا .. فاستدرك الرجل قائلا .......
ــ لا تعجب يا سيدى .. أمير المؤمنين يعرفنى جيدا .. سترى بنفسك عندما تسمح لى بلقائه ...
ــ أى أنباء تلك !.. هلا أفصحت لى عنها أيها الرجل ؟!..
ــ معذرة يا سيدى .. لا أستطيع أن أفصح لك عنها قبل أن أخبر بها مولاى أمير المؤمنين .. ستعرف كل شئ عندما يلقانى ...
ــ إذن عليك بالإنتظار إلى صباح الغد .. الخليفة متعب هذه الليله ...
ــ أرجوك يا سيدى .. إن ما عندى لا يحتمل الانتظار لصباح الغد .. يكفى أن أقول لك إن البلاد فى خطر !..
أخذ ينظر إليه بازدراء وهو يضم شفتيه فى ضيق .. ثم أمره فى جفاء أن يتبعه .. حتى وصل به إلى غرفة المنصور .. لما رآه عرفه .. ابتدره قائلا .......
ــ خيرا يا عامرى .. ماذا وراءك .. وما الذى دعاك لأن توقظنى فى هذا الوقت المتأخر من الليل ؟!..
ــ أنباء مهمة يا مولاى المنصور ...
نظر إليه متسائلا فأردف على الفور .......
ــ خرج محمد بن عبد الله بن الحسن ومن معه من مخبئهم .. وهو الآن فى المدينه منذ عشرة أيام ...
هز المنصور رأسه ثم قال .......
ــ أخيرا خرج هذا المتمرد من جحره .. هيه وهل قدم معه كثيرون ؟!..
ــ حوالى مائتين وخمسين من أهله وأنصاره ...
ــ هل تحركوا فى المدينة .. أم لا يزالون قابعين فى إحدى أوكارها ؟!..
ــ إنهم يا مولاى اقتحموا السجون وأخرجوا كل من بداخلها .. وعزلوا أمير المدينه رياح بن عثمان .. وولوا مكانه واحدا آخر من رجالهم .. ها هى يا مولاى أسماء كل من ولاهم المناصب ...
قال ذلك وهو يخرج لفافة من جيبه .. تناولها المنصور وألقى بها إلى جواره دون أن يفتحها .. ثم سأله فى لهجة حازمة جافه وقد بدا عليه الوجوم والضيق .......
ــ هل رأيته بعينيك .. أم سمعت من غيرك سماعا ؟!..
ــ لا يا مولاى .. رأيته بعينى رأسى هاتين .. وإلا ما كنت أصررت على لقائك يا مولاى فى هذا الوقت المتأخر من الليل .. ليس هذا فحسب يا أمير المؤمنين !..
ــ ماذا أيضا ؟!..
ــ لقد استمعت إليه .. وهو يخطب بالناس جالسا على منبر رســول الله [
صلى الله عليه وسلم ] ...
ــ ماذا سمعت ؟!..
ــ طلب من القوم أن يبايعوه أميرا للمؤمنين ...
ــ ثم ماذا ؟!.. هل تمت له البيعه ؟!..
ــ لم يبايعوه إلا بعد أن أرسلوا جماعة منهم للقاء شيخ المدينه مالك بن أنس لأخذ رأيه ...
ــ بماذا أجابهم ؟!..
ــ أفتاهم أن يبايعوا له .. وأحلهم من بيعتهم لك ...
ــ كيف يفتيهم بذلك ولى فى أعناقهم بيعه ...
ــ هلا أعفيتنى من الإجابة يا مولاى ...
ــ تكلم يا رجل ...
ــ قالوا له أنهم بايعوا مكرهين .. فقال لهم .. ليس على مستكره يمين ولا بيعــه !..
سكت المنصور هنيهة ثم أخذ يحدث نفسه والأسى يغمره .......
ــ تفرقت الظباء على خراش ؛ فلم يدرى خراش ما يصيد .. لعن الله من أيقظ الفتنة من مهدها .. أهلكت نفسك وأهلكت من معك أيها الطامع فى الخلافه .. أما أنت يا شيخ المدينه فلسوف يكون لى معك شأن آخر .. لابد أن تلقى جزاء رعونتك وتطاولك علينا ...
قال ذلك ثم التفت إلى كبير الحراس آمرا .......
ــ تحقق من صحة هذه الأنباء .. فإن كانت كما يدعى هذا العامرى أعطه عن كل يوم مر عليه فى السفر ألف دينار .. وإلا فالويل له ………………
****
@ فى صبيحة اليوم التالى اتخذ المنصور مجلسه .. وقد بدا متجهما عابس الوجه وعن يمينه جلس ولــى العهد .. بينما وقف بين يديه وزيره وكاتب ديوانه أبو أيوب الموريانى فى انتظار ما يأمره به .. لم يمض إلا قليل حتى التفت المنصور إلى كاتبه قائلا بعد أن خرج عن صمته .......
ــ إجلس أبا أيوب واكتب هذه الرسالة .. أكتب ما نمليه عليك ...
ــ رسالة !.. لمن يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ لهذا المتهور الذى طال اختفاؤه .. ثم ظهر أخيرا بالمدينة ليثير الفتن والقلاقل وينازعنا أمرنا ...
ــ تقصد محمد بن عبد الله بن الحسن يا مولاى ؟!..
ــ أجل .. سأبعث إليه بهذه الرسالة عساه أن يرجع عن غيه ونزعات نفسه .. يعلم الله أنى لا أريد قتله إلا أن يضطرنى لذلك ويدفعنى إليه دفعا !..
كان ولى العهد الأمير محمد المهدى يرقب أباه وينصت باهتمام إليه وهو يملى على كاتبه .......
ــ بسم الله الرحمن الرحيم ....... "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض .. ذلك خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم .. إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم" صدق الله العظيم ..... ولك على عهد الله وميثاقه وذمة رسوله [
صلى الله عليه وسلم ] .. إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك وجميع ولدك وأهلك ومن اتبعكم على دمائهم وأموالهم .. وأعطيك ألف ألف درهم وكل ما سألت وأنزلك من البلاد حيث تشاء .. وأطلق سراح كل من فى السجون .. وجه إلى من أحببت من رجالك يأخذ لك من العهد والميثاق ما يرضيك .. والسلام ...
وضع ريشته جانبا وهو ينظر للمنصور متسائلا فقال له .......
ــ ضع خاتمنا عليها وادفع بها إلى أحد رجالنا المخلصين .. ليحملها إلى المدينة فى التو والحين ...
ــ خيرا فعلت يا أبى بوركت والله .. ليته يمتثل !..
قالها ولى العهد ممتنا وهو يقوم من مكانه متقدما ناحية أبيه .. وقد ظهر الارتياح عليه متصورا أنه يجنح للسلم .. ظن ذلك لقلة خبرته بأمور المناورات ومكائد القصور .. وهو بطبعه لم يكن يميل إلى العنف فى معالجة المشاكل والتصدى لها .. لغلبة الحلم والتسامح على طبيعته ...
رد المنصور قائلا .......
ــ إسمع يا ولدى سأقول لك شيئا ..
ــ نعم يا أبت ..
ــ لتعلم أن ولد على بن أبى طالب لاحظ لهم فى هذا الأمر .. كما أننا لم نغتصب منهم حقا كما يزعمون ويدعون ...
قال ذلك ثم نهض قائما وأخذ يمشى رويدا وهو يردف قائلا ......
ــ وإلا .. ما الذى جعل جدهم الحسن بن على يرتضى الصلح مع معاويه .. وتنازل عن الخلافة طواعية رغم أن القوم قد بايعوا له ؟!.. إنه ما فعل ذلك إلا لكى يطفئ نيران الفتنه ويحقن الدماء .. أليس هو القائل لأخيه الحسين بن على لما رآه متحمسا للقتال ....... "إنى هممت أن أحتجزك فى دار مغلقة حتى أفرغ من الصلح" .. ألم يفعل ذلك ؟!..
رد خالد بن برمك معقبا .......
ــ بلى يا أمير المؤمنين .. فعل ذلك حقا .. وإليه الاشارة فى قول النبى [
صلى الله عليه وسلم ] "إن ابنى هذا سيد يصلح بين فئتين متنازعتيــن" ..
لم يشأ الربيع أن يضيع هذه الفرصة أيضا دون أن يدلى بدلوه .. هو صائد ماهر يعرف متى يرمى شباكه ويلتقط صيده .. قال فى خبث ودهاء ......
ــ وأنت الذى تمد يدك الآن بالسلام يا مولاى .. مع أنك تستطيع القضاء عليه وعلى كل من معه بإشارة من سبابتك ...
ــ أجل .. صدقت يا كبير الحجاب .. لقد ظن أن لن نقدر عليه .. لكن هيهات هيهات .. إنه عنيد مكابر مثل عمه الحسين .. لا حول ولا قوة إلا بالله ...


@ بينما قافلة المسافرين تواصل رحلتها إلى الحجاز .. وعبيد الله الأزدى يقص على ابنته ما جرى من أحداث فى أرض الخلافة فى السنوات القليلة الماضيه .. كان الأهل فى مكة يترقبون بفارغ الصبر قدومه إليهم مصطحبا معه ابنته وولدها .. وقد استبد بهم القلق على طول غيابهم ...
وفى الدار التى يعيشون فيها بشعب الخيف .. جلست أم عبد العزيز زوجة عبيد الله الأزدى وحدها فى أحد أركانها .. وأمامها الرحى تطحن بها قليلا من الشعير لإعداد بعض الخبز .. كانت امرأة صابرة صامدة هادئة الطبع قليلة الكلام .. تنطق ملامح وجهها بالطيبة والسماحه .. لا تكف يدها عن العمل الدؤوب فى أمور الدار رغم كبر سنها .. وعنها ورثت ابنتها أم حبيبه هذه الخصال وتلك الطباع ...
وبينما هى على هذا الحال والعرق يتصبب منها غزيرا .. تمسح ما تراكم منه بكم جلبابها .. إذا بولدها على أصغر أبنائها والذى بلغ العشرين من عمره يفتح باب الدار قادما .. ما إن سمعت أمه وقع خطواته التى تعرفها جيدا .. حتى رفعت رأسها وهى لا تكف يدها عن حركتها الرتيبه .. سألته بطيبتها المعهودة وابتسامتها الصافيه .. وإن لم تخل لهجتها من رائحة لوم وعتاب .......
ــ أهذا أنت يا على .. أين كنت غائبا طوال اليوم يا ولدى .. لقد تأخرت على غير عادتك ؟!..
ألقى بنفسه على إحدى الوسائد طلبا للراحة .. ثم رد قائلا وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه اللاهثه .. بعد أن شرب جرعة من الماء .......
ــ إيــــــه يا أمى .. ألتقط أنفاسى أولا .. ما أشد سخونة الهواء خارج الدار .. يوم صيفى قائظ عل غير العاده .. بعد أن صليت صلاة الظهر عند الكعبه .. ذهبت إلى أخى سليم فى دكان العطارة ومكثت عنده بعض الوقت أساعده فى عمله ........
قاطعته قبل أن يسترسل .......
ــ منذ متى وأنت تذهب إلى دكان العطاره .. لكم طلبت منك مرات أن تساعده وكنت تأبى .. ما الذى جد فى الأمر يا ترى ؟!..
ــ أبدا يا أمى .. لكنه اشتكى لى غير مرة من تكدس البضاعة وعدم ترتيبها .. ولم أتركه إلا وقد انتهينا من ترتيبها وتنسيقها فى أماكنها .. وإزالة الغبار المتراكم عليها .. حتى يعرف أبى بعد عودته أنه سافر وخلف وراءه رجالا .. أليس كذلك يا أمى ؟!..
ــ هيه .. وبعد أن انتهيت من مساعدة أخيك فى الدكان .. إلى أين ذهبت ؟!..
ــ أنسيت يا أمى !.. ذهبت بعد ذلك إلى دار أخى عبد العزيز لأطمئن على صحة ولده عمر .. ألم تطلبى إلى ذلك ؟!..
ــ بلى يا ولدى .. بارك الله فيك يا على .. كيف حاله الآن .. لعله برئ من تلك الحمى اللعينه ؟!..
ــ إنه لا يزال نائما فى فراشه .. لكنه الآن أفضل ...
رفعت الأم رأسها للسماء وأخذت تتمتم ببعض الأدعية .. ثم عادت لما كانت عليه .. مرت لحظات من الصمت قبل أن يقطعه على متسائلا .......
ــ أماه ؟!..
ــ نعم يا ولدى ...
ــ ألا تلاحظين أن غيبة أبى قد طالت .. كيف ترين ذلك الغياب ؟!.. مضى عليه أكثر من شهرين منذ رحيله إلى غزه .. ليأتى بشقيقتى أم حبيبه وولدها ؟!..
ــ أنسيت يا بنى أنها رحلة شاقة وسفر طويل .. كما أنه مرتبط بقافلة التجار التى سافر معها .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا أمى أعلم ذلك تماما .. لكنى أذهب كل يوم أتلمس من السوق أخبار القوافل القادمة من الشام أو من مصر دون جدوى !..
إبتسمت قائلة .......
ــ لا تعجل يا ولدى لا تعجل .. أنتم هكذا أيها الشباب هذه الأيام لا صبر لديكم أبدا .. إن هى إلا أيام يا ولدى ويصل الجميع إن شاء الله .. أبوك وأم حبيبه وولدها محمد بن إدريس ...
ثم أردفت قائلة وهى تتنهد فى أسى .......
ــ يرحمك الله يا إدريس .. كان رجلا صالحا يا ولدى .. اللهم بارك لنا فى ولده محمد .. وأوصله ومن معه سالمين إلينا ...
...........
@ أخيرا وصلت قافلة المسافرين إلى مشارف ميناء أيله "ميناء إيلات أو العقبه" .. وعلى مرمى البصر ظهرت للمسافرين مياه الخليج بألوانها الزرقاء الصافيه .. وعلى صفحتها الهادئة الرائقه إنعكست أشعة الشمس الذهبية فزادتها بهاء وجمالا وروعه .. إستمر الشيخ يواصل قصة الثوار وابنته تنصت له فى شوق وشغف .. كانت متلهفة لمعرفة نهاية هذا الصراع .......
ــ وحمل البريد رسالة العهد والأمان إلى المدينه .. قام رسول الخليفة المنصور بتسليمها بنفسه لمحمد النفس الزكيه ...
قاطعته فى لهفة .......
ــ لعله استجاب لما جاء فيها يا أبت ؟!..
ــ هيهات .. إنها قضية آبائه وأجداده .. لم يكد يقرأ رسالة الأمان حتى تملكه الغضب .. وقام من فوره بكتابة رسالة عاجله يرد بها على المنصور ...
ــ كيف كانت رسالته ؟!..
ــ رسالة غاضبة .. تعبر عن مرارة أليمة وإصرار على مواصلة النضال .. كل كلمة فيها سهم قاتل ...
ــ وكيف كانت إجابة المنصور يا ترى ؟!..
ــ سأخبرك بكل شئ .. إسمعى يا ابنتى بقية الحكايه ………………

@ أمسك المنصور رسالة الثوار وبدأ يتلو ما فيها والربيع واقف إلى جواره ينصت باهتمام وترقب "بسم الله الرحمن الرحيم ....... إن فرعون علا فى الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين .. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم فى الأرض" .. وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذى عرضت على .. فإن الحق حقنا .. وإنما ادعيتم هذا الأمر بنصرتنا وتأييدنا .. وأن أبانا عليا كان الإمام .. فكيف ترثون ولايته وولده أحياء .. وليس لأحد مثل نسبنا أو شرفنا .. نحن لسنا من أبناء اللعناء أو الطرداء أو الطلقاء .. واعلم أننى أولى بالأمر والعهد منك .. أما عن الأمان المزعوم .. فأى أمان وعهد هذا الذى تعطينيه.. أمان ابن هبيره .. أم أمان الخرسانى .. أم أمان عمك ؟!..
إستطاع الثائر ببراعة منطقه وقوة حجته .. أن يسدد سهامه القاتلة التى انطلقت من سطور رسالته إلى سويداء قلب المنصور .. ما كاد يصل فى قراءته إلى هذا الحد منها .. حتى قبض عليها بغيظ وحنق قبل أن يكمل ما فيها .. كورها فى قبضته وهو يهب واقفا عاقدا ما بين حاجبيه .. وهو الذى قليلا ما يغضب أو يثور .. بل يرى دائما رابط الجأش .. لكنه يواجه رسالة فيها همزات ولمزات وتعريض بالأنساب والأصهار .. وبعد أن مرت لحظات من الصمت والترقب .. إنبرى الربيع بن يونس قائلا فى نبرات كساها ثياب الغضب الثائر ....... معذرة يا مولاى .. لقد تعدى هذا المارق حدوده .. لم يعد لدينا مقدرة للصبر عليه أو إمهاله أكثر من هذا .. لابد من تأديبه وإنزال أشد العقاب به ...
قاطعه المنصور قائلا .. وقد بدا كالأسد الجريح وهو يخرج حروف الكلمات من بين أسنانه بطيئة كأنما يحادث نفسه .......
ــ لم يبق فى قوس الإحسان منزع .. إخترت الحرب إذن أيها الدعى .. لا بأس .. سألقنك درسا لن تنساه ما حييت .. إن كتبت لك النجاة من بين يدى ..
ثم نظر إلى الربيع متمما .......
ــ أرسل الليلة رسالة لابن أخى القائد عيسى بن موسى .. أطلب إليه أن يجهز أربعة آلاف جندى بالسلاح والخيل والميره .. يتقدمهم المشاة الرماة وحملــة الرماح وفرسان السيافة والنباله .. وأن يتوجه بهم من فوره إلى المدينه .. أما أنت .. فعليك أن تعد العدة من الآن لإغلاق كافة الطرق المؤدية إلى المدينه .. وأهمها طريق الشام .. تأكد من ذلك بنفسك يا كبير الحجاب .. كى لا يصل إليهم أى مدد من طعام أو شراب ...
ثم أردف قائلا يتمتم فى سره دون أن يسمعه أحد .......
ــ إنها لفرصة مواتية أصيب بها هدفين برمية واحده .. أتخلص من هذا العلوى المارق .. وابن أخى عيسى بن موسى الذى ينازع هو الآخر فى ولاية العهد .. أجل .. بذلك يكون الطريق ممهدا تماما لولدى محمد المهدى .. ثم لولديه موسى وهارون من بعده ...
كان الربيع الداهيه يحاول بنظراته الثاقبه .. أن يخترق الحجب إلى أغوار عقل المنصور .. وهو يرسلها من طرف خفى .. إرتسمت على شفتيه إبتسامة غامضة وهو يقول لنفسه .......
ــوالله لقد فهمت مرادك وما ترمى إليه .. أيها الثعلب الداهيه ...

@ مضت الأيام تترى على هذه الأحداث العصيبة .. ورحى الحرب دائرة على أشدها بالمدينة بين الثوار وجند الخليفة المنصور .. وبينما هو فى حجرته الخاصة يجلس متكئا فى استرخاء طلبا لراحة بدنه من عناء أعباء الحكم وإلى جواره زوجته "أروى" تتجاذب معه أطراف حديث ودود .. فى لحظات صفاء وهما يحتسيان شرابا دافئا أمامهما فاجأها المنصور متسائلا .......
ــ أروى .. أتدرين أكثر ما أتمناه حقا ؟!..
ردت متسائلة وعلى شفتيها ابتسامة ساحره .......
ــ حقق الله أمانيك يا أمير المؤمنين .. ما الذى تتمناه يا أبا عبد الله ؟!..
ــ أتمنى أن يكون على بابى أربعة رجال .. لا يكون عليه أعف منهم ...
ــ تقول أربعة رجال .. أربعة فحسب يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ أجل .. إنهم يا أروى أركان الملك .. ولا يصلح الملك إلا بهم ...
ــ صدقت يا أبا عبد الله .. إن السرير لا يصلح إلا بأربع قوائم .. إن نقصت واحدة تداعى ...
ثم أردفت متسائلة .......
ــ من تعنى بهؤلاء الأربعة يا ترى ؟!..
ــ أحدهم قاض .. لا تأخذه فى الحق لومة لائم !..
ــ والثانى ؟!..
ــ الثانى صاحب الشرطه .. ينصف الضعيف من القوى .. أما الثالث .. فصاحب خراج يستقصى فى عمله ولا يظلم الرعيه !..
ــ لم يبق إلا الرابع ؟!..
سألته أروى .. رد عليها وهو يعض على سبابته متأوها متحسرا .......
ــ آه من هذا الرابع !.. إنه صاحب البريد .. يكتب إلى بالخبر الصحيح عن هؤلاء جميعا ...
ضحكت أروى ضحكة عالية .. وهى ترتد برأسها إلى الوراء فى دلال .. ثم قالت معقبة .......
ــ ما أبلغ حكمتك وجلاء بصيرتك يا أمير المؤمنين .. والله لم تنس أحدا .. لا حرمك الله من هؤلاء الأعوان الأربعة أبدا ...
صمتت قليلا وقالت .......
ــ كلامك هذا يذكرنى بذلك اليوم .. الذى كانت فيه خصومة بينى وبينك حول كتاب الصداق .. وطلبت إلى أن أختار بنفسى القاضى الذى يحكم بيننا .. أتذكر ذلك اليوم يا أبا عبد الله ؟!..
أجابها ضاحكا .......
ــ هل هذه أيام تنسى .. لقد اشترطت على فى كتابك ألا أتزوج عليك ...
صمت قليلا وأردف .......
ــ لم تختارى من بين جميع القضاه إلا قاضى مصر .. غوث بن سليمان .. كما أنك أصررت أيضا .. أن توكلى عنك فى مجلس القضاء واحدا من خدمك .. لم أنسى يومها أن هذا القاضى طلب منى فى حزم أن أنزل عن مجلسى .. وأجلس على الأرض .. إلى جوار خادمك سواء بسواء .. أيقنت ساعتها أنه سيحكم لصالحك ...
بادلته الضحك وهى تقول فى أنوثة ودلال .......
ــ مع هذا لم تغضب منه .. بل أمرت له بجائزة .. أليس كذلك ؟!..
ــ ليس هذا فحسب .. بل طلبت إليه بالحاح أن يتولى قضاء الكوفه .. لكنه اعتذر وأصر على أن يظل قاضيا على مصر .. كان قاضيا عظيما حقا .. ليت كل القضاة عندنا مثله ...
صمت برهة كان يحتسى خلالها رشفة من الشراب .. ثم قال .......
ــ سأقص عليك حكاية حدثت لى ذات يوم مع إحدى نسائى .. ما دمنا فى ذكر القضاة وأحوالهم ...
ــ تكلم يا أبا عبد الله .. كلى آذان صاغيه ...
ــ حدث يوما .. أن اختلفت مع الكرديه ...
ــ أم ولدك جعفر الأصغر ؟!..
ــ أجل .. هى بعينها .. وكعادتى سألتها من ترضين حكما بيننا ؟!.. ردت قائلة ....... لا أرضى بغير حكم فقيه الكوفه ...
ــ تقصد أبو حنيفه النعمان بن ثابت ...
ــ نعم إنه هو .. يا له من فقيه .. إسمعى ما جرى وما كان من أمره معنا ……
كان الشيخ أبو حنيفه جالسا فى صدر المجلس .. أمامه الخليفة المنصور بينما جلست زوجته الكردية من وراء ستار .. بدأ الشيخ مجلس القضاء موجها كلامه للزوجه .......
ــ ما هى خصومتك يا سيدتى ؟!..
ــ أمير المؤمنين لا يعدل بينى وبين زوجاته ...
ــ ما قولك يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ لى سؤال أود أن أسأله ...
ــ سل ما بدا لك ...
ــ كم يحل للرجل من النساء ؟!..
ــ يحل له من النساء أربعا ...
ــ وكم يحل له من الإماء ؟!..
ــ ما شاء له منهن .. ليس لذلك من عدد !..
نظر المنصور لزوجته قائلا .......
ــ أسمعت يا هذه .. كلام الشيخ ؟!..
ــ بلى قد سمعت .. ولا قول عندى بعد قوله !..
رد أبو حنيفة معقبا .......
ــ مهلا يا أمير المؤمنين .. لقد أحل الله ذلك لأهل العدل .. فمن لم يعدل .. أو خاف ألا يعدل .. فينبغى له ألا يجاوز الواحده .. قال تعالى "ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" .. ينبغى علينا أن نتأدب بآداب الله .. ونتعظ بمواعظه ……
@ وصل المنصور إلى هذا الحد .. فالتفتت إليه أروى متسائلة فى فضول .......
ــ ماذا فعلت يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ أمسكت على لسانى ولم أعقب .. ولما طال صمتى .. قام الشيخ وخرج عائدا إلى داره .. أتدرين ما الذى حدث بعد ذلك ؟!..
هزت رأسها بالنفى فرد قائلا .......
ــأرسلت الكردية إليه هدية كبيرة !..
ــ هدية كبيره ؟!..
ــ نعم أرسلت إليه خمسين ألف درهم وجارية ودابه .. إلا أنه أبى متعففا وردها إليها قائلا .......
ــإنما ناضلت عن دينى !..
ردت بإعجاب قائلة .......
ــياله من شيخ ورع تقى .. إنه يستحق أن يكون قاضى القضاه !..
إبتسم قائلا .......
ــ يعجبنى فيك ذكاؤك أيتها الحسناء .. كأنك تقرأين ما يدور برأسى ...
ــ ماذا تعنى ؟!..
ــ لقد عزمت على ذلك فعلا ...
ــ متى تفعل يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ بعد أن أفرغ من مشاكلى مع بنى على .. وأنتهى من بناء بغداد والرصــافه ...
ثم أردف قائلا .......
.. لكن هيهات .. ليته يقبل ...
ــ كيف يا أمير المؤمنين !.. هل يأبى منصبا جليلا كهذا ؟!..
ــ ما الذى يمنعه .. إنها ليست أول مرة يرفض القضاء .. لكنى على كل حال سأبذل قصارى جهدى لإقناعه .. ولن أمكنه من تكرار ما فعل قبل عشرين عاما مع الأمويين ...
ما كاد ينتهى حتى سمعا طرقا خفيفا على باب الغرفة .. قال .......
ــ من بالباب ؟!..
ــ أنا يا مولاى .. الربيع بن يونس هل تأذن لى بالدخول ؟!..
ــ أدخل يا أبا الفضل .. ماذا عندك ؟!..
دخل وسلم .. ثم أقبل على المنصور بوجه متهلل .. سأله عما وراءه فقال .......
ــ مالى لا أسر يا مولاى وقد جاء البريد بالبشرى .. تم القضاء على الفتنة بالمدينه .. ودانت لكم بالولاء مرة ثانية !..
ــ وزعيمهم محمد "النفس الزكيه" ؟!..
ــ قتل وكل من كان معه .. بعد أن قاتلوا باستماتة ويأس .. غير أن أخويه يحي وإدريس لاذا بالفرار .. ولم يستطع رجالنا أن يتعرفوا على مكانهما !..
رد قائلا وقد ظهر على وجهه الحزن والهم .. رغم الأنباء الساره .......
ــ لا عليك منهما .. إنهما فتيان صغيران لا يملكان من الأمر شيئا .. ولا يحسب لمثلهما حساب .. وماذا عن أخيه إبراهيم ؟!..
ــ جاءت الأنباء تفيد بظهوره فى البصره .. وأنه يعد جيشا كبيرا يتوجه به إلى الكوفه !..
زادت همومه وهو يهز رأسه قائلا .......
ــ إنه حتما قادم إلى هنا .. إلى الهاشميه ...
ــ ما الذى يخيفنا منه يا أمير المؤمنين .. فليأت إن شاء ومتى شاء .. ليلقى مصير أخيه وأنصاره ويلحق بهم ؟!..
رد فى لهجة يائسة .......
ــ ليس الأمر هكذا يا أبا الفضل .. أنسيت إن رجالى مشتتون فى البلاد .. يحاربون فى الحجاز وأفريقيه والأهواز والرى ...
قال ذلك ثم سكت قليلا .. رفع رأسه قائلا للربيع فى حزم .......
ــ أرسل للقائد حميد بن قحطبه .. يجهز ثلاثة آلاف جندى بالعتاد على أن يكون جيشه فى المقدمه .. وعندما يصل القائد عيسى بن موسى .. أطلب إليه أن يتوجه على رأس خمسة عشر ألف جندى ويبقى فى المؤخره .. ثم يستعمل الحيلة بعد ذلك ...
ــ أية حيلة يا مولاى ؟!..
ــ يوقد نارا عظيمة عندما يصير على مقربة من خصومه .. كى يظنوا أن رجالنا كثيرون .. فيقع فى قلوبهم الرعب !..
فى تلك الأثناء دخل أحد الجلاوزه "الحجاب" قائلا .......
ــ مولاى أمير المؤمنين .. المنجم نوبخت بالباب .. طالبا الإذن بالمثول أمامكم .. يبدو من هيئته وكلامه أنه فى عجلة من أمره !..
ــ ماذا تنتظر أيها الأحمق .. لا تتركوه ينتظر أكثر من هذا .. أدخلوه فى الحال لعلنا نجد لديه ما يزيل عنا الكئآبة .. أو تنشرح به صدورنا !..
ــ أمر مولاى ...
ابتدر المنجم قائلا لدى دخوله .. وهو يبالغ فى الإنحناء والتعظيم ......
ــ مولاى أمير المؤمنين .. أطال الله عمرك وأعلى فى العالمين ذكرك ...
ــ ماذا وراؤك أيها المنجم ؟!..
ــ الخير كله يا مولاى .. جئتك بالبشرى ...
ــ أية بشرى يا رجل .. تكلم ؟!..
ــ أبشر يا مولاى بالنصر المبين والفوز العظيم ...
ــ عن أى انتصار تتحدث أيها المنجم ؟!..
ــ سوف ينتصر جيشك بإذن الله على إبراهيم الطالبى . كما انتصر من قبل على أخيه .. سترى رأسه بعينيك عما قريب .. هنا .. وفى هذا المكان !..
ــ كيف يكون لى ذلك كيف أيها المنجم ؟!.. وقد علم إبراهيم وعورة جانبى وقلة رجالى .. إنه لم يجترئ على المسير من البصره إلى هنا .. إلا بعد اجتماع أهلها على الخلاف والمعصية كدأبهم !..
إبتسم المنجم الداهيه إبتسامة ذات مغزى .. وهو يقول فى ثقة وتؤده .....
ــ أنا واثق من نبوءتى يا أمير المؤمنين .. وأؤكد لك أنها صادقه .. إن هى إلا أيامامعدودات.. وتأتيك رأس إبراهيم إلى هنا !..
أخذ المنصور يهز رأسه فى يأس مرددا .......
ــ لا .. لا .. مستحيل هذا الذى تدعيه .. لا أكاد أصدق !..
ــ أمير المؤمنين .. هل كذبت نبوءآتى لك من قبل ؟!..
ــ أبدا .. وهذا من أعجب الأمور .. لذلك جعلتك مقربا منى بعد أن بشرتنى بالخلافة وأنا فى سجن الأمويين !..
ــ وهذه المرة أيضا يا مولاى .. لن تكذب نبوءتى .. إننى أحادث النجوم وتحادثنى بما لديها .. إن بحوزتى علوم الهرامسه والحسابات والجداول .. وعلى أية حال .. أنا مستعد لأن تضعنى فى السجن حتى تتحقق بنفسك من صدق ما أقول .. أيكفى هذا منى يا مولاى ؟!..
ــ وإن لم تصدق نبوءتك .. ماذا أفعل بك ؟!..
ــ أقتلنى على الفور !..
ــ والله لأفعلن .. أما إذا أصدقتك النجوم .. فسأقطع لك ألفى "جريب" على ساحل نهر جوبر .. تكون ملكا خالصا لك ...

يتبع إن شاء الله ........................
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور
رد مع اقتباس
  #26  
قديم 09/11/2008, 09h39
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي

@ مضت القافلة فى طريقها تقطع دروب الصحراء .. ماضية فى مسالكها التى يعرفها المسافرون .. إلى أن وصلت إلى مكان .. بدت فيه من بعيد بعض البنايات المتناثرة الصغيره .. نظرت أم حبيبه إلى أبيها متسائلة ....... أين نحن الآن يا أبى .. وماتلك البنايات التى تبدو للعين من بعيد ؟!..
أجابها ضاحكا .......
ــآه يبدو أن طول غيابك فى بلاد الشام .. أنساك ديارنا .. لقد صرنا على مقربة من بدر .. إنها محطتنا الأخيرة .. وأظن أننا سنحط رحالنا فيها وننصب خيامنا للراحة والتزود بالماء .. كما أخبرنا الشيخ أبو سعيد ...
ــ إذن لم تبق إلا أياما قليله .. ونكون فى قلب مكه ؟!..
ــ أجل يا ابنتى .. كانت بحق رحلة شاقه ...
ــ أشق منها ما سمعته منك عن تلك الأحداث الدامية التى جرت فى بلادنا .. فى الأعوام الماضيه ...
ــ ألم أقل لك يا ابنتى ألم أقل لك ؟!..
ــ لكنك لم تخبرنى بعد .. هل صدقت نبوءة المنجم !..
أجابها فى أسى وقد بدا شارد الفكر .......
ــنعم يا ابنتى .. صح ما قاله هذا المنجم اللعين .. قتل إبراهيم وكثيرون ممن كانوا معه .. مع أن المعركة كانت لصالحهم فى أول الأمر .. واستطاع رجاله أن يهزموا جيش حميد بن قحطبه الذى كان بالمقدمه .. وكاد أن ينتصر على جيش عيسى بن موسى الذى كان بالمؤخره .. كان جيشه يتراجع أمام بأس العلويين وشدة مراسهم .. وتصميمهم على النصر أو الشهاده !..
ــ ما الذى جرى إذن وقلب موازين المعركه ؟!..
ــ لا أدرى يا ابنتى .. سبق الكتاب بما هو كائن .. وشاءت إرادة الله ذلك .. لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه !..
عادت تسأل والحزن يغمرها .......
ــوأمير المؤمنين المنصور .. ماذا فعل بعد أن علم بانتصار جيوشه ؟!..
ــ عجيب والله أمر هذا الرجل ...
ــ كيف يا أبت ؟!..
ــ رغم شدة كراهيته لأبناء عمومته .. وحرصه على ألا يمكن أيا منهم من الإقتراب من كرسى الخلافه .. إلا أنه لما علم بذلك .. وجاءوا له وهو فى مجلسه برأس الشهيد إبراهيم بن عبد الله .. أخذ يبكى قائلا وهو ينظر لرأس الشهيد .....
ــ والله لقد كنت لهذا كارها .. ولكنك ابتليت بى وابتليت بك .. يعلم الله أنى أوصيت القائد عيسى بن موسى قبل أن يخرج لقتالهم وقلت له ....... يا عيسى إنى بعثتك إلى ما بين هذين ( وأشار إلى جنبيه) .. فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك ولا تقتله ...
صمت المنصور برهة .. وأردف قائلا فى أسى .......
وألقت عصاها واستقر بها النوى ؛ كما قر عينا بالاياب المسافر ........
ولما دخلت أفواج الناس عليه مسلمين ومهنئين بالنصر .. لم يعبأ بهم إلى أن دخل عليه شيخ وقور وهو يقول له .......
ــأعظم الله أجرك فى إبن عمك يا أمير المؤمنين .. وغفر له ما فرط فى حقك !..
رد المنصور قائلا وقد اصفر لونه .......
ــإجلس يا أبا خالد .. هكذا يكون الكلام ...
----------
@ إستمر عبيد الله الأزدى قائلا.......
ــكانت هذه أول كلمة عزاء تقال له .. رغم عداوته الشديده لأبناء عمه .. كان ينتظر عزاء الناس قبل تهنئتهمبانتصار جيوشه .. مع حرصه على هذا النصر .. إلا أنه كان حزينا لمقتل إبراهيم ...
مرت لحظات من الصمت .. قطعه الأزدى قائلا ليغير مجرى الحديث .......
ــفى الوقت الذى كانت تدور فيه هذه الأحداث الدامية فى الحجاز والبصره والكوفه .. كان العمل يجرى على قدم وساق فى إقامة مدينة بغداد .. مكان قرية إسمها العتيقه ...
ــ سمعت أنها مدينة بديعة ورائعة الجمال يا أبى ...
ــ أجل يا ابنتى .. ما أروعها .. المنصور اختار بنفسه هذه القرية ليبنى مكانها مدينة بغداد ...
ــ لم ؟!..
ــ لاعتدال مناخها وتوسطها بين نهرى دجلة والفرات .. كما أمر بجلب البنائين المهره والصناع والفعله .. من مصر والشام والكوفه وبلاد الديلم .. ووضع بيده أول حجر فى بنائها .. فى وقت إختاره له المنجم نوبخت .. حيث كانت الشمس كما يقولون فى برج القوس ...
ــ لم أفهم .. ما الذى يعنيه ذلك ؟!..
ــ فى لغة النجوم كما يزعمون ..معناه طول بقائها وكثرة عمرانها .. يقال إن المنصور هو الذى قام برسم المدينة على شكل دائرة .. ووضع تصميما لطرقها وجعل لها ثلاثة أسوار .. لكل سور منها ثمانية أبواب غير متقابله .. وفى وسطها أنشأ قصر الذهب ومسجد الخلافه .. لكن كانت هناك مسألة لا تزال تؤرق المنصور .. وتملك عليه فكره وقلبه !..
ــ أى مسألة تلك يا أبى .. وقد تحققت أمنيته وأنشأ هذه الحاضرة الكبيره .. على هذا التصميم البديع ؟!..
ــ كان يشغله كثيرا أمر اختيار الرجال المناسبين لتولى المناصب الهامه .. كان يريد أن يولى القضاء والخراج وديوان الحسبة والمظالم أخلص الرجال وأتقاهم .. إلى أن كان يوم ………………

@ فى سوق الحرير بمدينة الكوفه .. التى تقع بالقرب من مقر الخلافة بالهاشميه .. وفى داخل أحد المتاجر جلس شيخ متقدم فى العمر .. على وجهه سمات أهل الورع الصالحين الأتقياء يقرأ فى مصحف أمامه .. وعلى باب الدكان وقف غلامه يتحاور مع امرأة عجوز .. تعالت أصواتهما حتى وصلت إلى أسماع الشيخ بالداخل .. أغلق المصحف ونادى على غلامه مستفسرا منه عن سبب هذه الجلبه .. رد الغلام قائلا .......
ــ لا شئ يا سيدى .. العجوز تريد ثوبا من الحرير الخالص ...
ــ لم لا تعرض عليها ما عندنا .. لتختار بنفسها ما يروق لها ؟!..
ــ عرضت عليها ثيابا كثيره .. غير أنها تدعى أنه ليس معها من الدراهم ما يكفى ثمنا لما عرضته عليها من ثياب !..
ــ عجيب أمرك يا إسماعيل !.. لم لا تعطيها ثوبا يعادل ما معها من دراهم ؟!..
ــ حاولت كثيرا يا سيدى .. وجئت لها بثياب عديدة .. دون فائده !..
إبتسم الشيخ وأشار للمرأة قائلا فى تلطف .......
ــ تعالى أيتها العجوز وأخبرينى عن حاجتك .. ماذا تريدين من بضاعتنا ؟!..
ــ يا أبا حنيفه .. كل ما أبغيه ثوب من الحرير الخالص .. خاليا من الصوف .. وأن ترفق بى فى ثمنه لسنى وضعفى ...
أمسك الشيخ بأحد الثياب وقدمه لها قائلا .......
ــ إذن دونك هذا الثوب يا أماه .. أرجو أن ينال رضاك ...
أخذت تقلب فيه بإمعان وتفحص نسيجه بيد خبيرة مجربه .. ثم قالت أخيرا وهى تلقى به جانبا .......
ــ لا بأس به .. ثوب جيد حقا من الحرير الخالص .. لكن بم يفيد هذا كله .. وأنا لا أقدر على ثمنه .. إنه من تلك الأنواع الغالية الثمن ...
عادت إلى الشيخ ابتسامته مرة ثانية .. وهو يرد إليها الثوب قائلا ......
ــ كيف لا تقدرين على ثمنه يا أماه .. ألا يوجد معك أربعة دراهم .. أيتها العجوز الطيبه ؟!..
ــ أربعة دراهم فحسب .. بل معى أكثر من ذلك إن أردت ...
ــ لا .. لا أريد أكثر من أربعة دراهم .. إنها ثمن هذا الثوب الذى نال رضاك ؟!..
صرخت العجوز كأنما لدغتها حية رقطاء .......
ــ كم قلت أربعة دراهم ؟!.. سامحك الله يا أبا حنيفه وغفر لك .. إنك تهزأ بى أتسخر من عجوز .. سامحك الله !..
ــ حاشا لله أن أهزأ بك أيتها العجوز الطيبه .. حاشا لله .. إن هذا ليس من خلق المسلم ولا من آدابه .. لقد أصدقتك القول .. وهذا هو ثمن الثوب فعلا !..
ــ كيف تقول ذلك يا شيخ الكوفه !.. تبيع ثوبا يساوى أكثر من مائة درهم بأربعة دراهم .. ثم تدعىأن هذا ثمن الثوب ؟!.. مستحيل .. إلا أن تكون صدقة منك أو إحسانا .. وأنا لا أقبل هذه ولا تلك !..
ــ على رسلك أيتها العجوز .. إننى لا أسخر منك ولا أتصدق عليك .. سأبين لك حقيقة المسأله .. حتى تتأكدين من صدق قولى .. لقد اشتريت منذ أيام ثوبين بمائتى درهم .. بعت أحدهما بالثمن كله إلا أربعة دراهم .. هى ما أطلبها منك ثمنا لهذا الثوب .. تلك هى المسأله .. أفهمت أيتها العجوز الطيبه ؟!..
ردت بامتنان وهى تبتسم حياء .......
ــ معذرة يا أبا حنيفه .. لا تؤاخذنى أيها الشيخ .. بارك الله لك فى علمك وفى مالك وفى تجارتك !..
مضت العجوز لحالها وبيدها ثوب الحرير .. فى الوقت الذى كان فيه أحد الجلاوزه العاملين فى بلاط المنصور .. يسأل عن دكان أبى حنيفه وأحدهم يشير له على مكانه .. تقدم الرجل محييا ثم قال .......
ــ أريد مقابلة الشيخ أبا حنيفة النعمان بن ثابت ؟!..
أردف قائلا بعد أن عرفه الشيخ بنفسه .......
ــ مولاى أمير المؤمنين المنصور يقرئك السلام .. ويطلب منك أن تجيئه اليوم بعد صلاة العشاء .. فى قصره بالهاشميه لأمر هام ...
هز الشيخ رأسه موافقا بعدها إستدار الرجل منصرفا .. فى الوقت الذى كان فيه أحد الشباب واقفا على مقربة منه يرقب هذا الحوار .. إلتفت إلى الشيخ قائلا فى وجل وإشفاق .......
ــ ما الذى يريده منك هذا الرجل يا أبت ؟!..
ــ مثلى مثلك .. لا علم لى يا ولدى .. ألم تكن حاضرا .. وسمعت ما قاله بنفسك ؟!..
ــ بلى سمعت ...
صمت برهة ثم سأله .......
ــوهل ستذهب حقا للقاء المنصور ؟!..
ــ ما الذى يمنعنى من ذلك يا حماد يا ولدى ...
ــ أرى يا أبت ألا تفعل .. هؤلاء القوم لا يأتى من ورائهم خير أبدا ..
ــ يا ولدى طاعة أولى الأمر فرض علينا .. ما دمنا فى طاعة الله .. على أية حال إن طال بقائى عنده .. فاعلم أنه قد أصابنى مكروه !..
أجابه حماد من فوره وقد ظهر عليه الجزع .. وفى عينيه نظرة إشفاق على أبيه .......
ــ ليتك لا تذهب يا أبت .. ليتك .. أنسيت ما فعله معك يزيد بن هبيره منذ عشرين عاما .. عندما طلب منك أن تتولى القضاء !..
ــ أبدا يا ولدى .. لم أنس ما أصابنى من إهانة وأذى آنذاك .. وهل هذه أيام تنسى .. لكنها إرادة الله ومشيئته .. يا ولدى "وما هم بضارين به من أحد إلا باذن الله" ... صدق الله العظيم ...
@ فى المساء بعد أن صلى المنصور صلاة العشاء .. إتخذ مجلسه فى الايوان .. ومن حوله نفر من رجاله .. الربيع وخالد بن برمك وبصحبته ولده يحي الذى بلغ من العمر حوالى خمسة وعشرين عاما .. وأبو أيوب كاتب الديوان وبرفقته مساعده الفتى جعفر .. أخذ المنصور يدور ببصره فيمن حوله .. وللمرة الثانية تقع عيناه على ذلك الشاب جعفر .. عادت ترتسم من جديد علامات القلق والحيرة على وجهه مرة أخرى .. بدا وكأنه يقاوم فكرة كانت تلح عليه دائما كلما رأى هذا الشاب .. ألقى بأفكاره وهواجسه جانبا .. وعادت من جديد علامات الجد التى تظهر عليه عندما يبدأ مجلسه وقال .......
ــ أبا أيوب .. إقرأ علينا ما ورد فى بريد اليوم من كتب الثغور والأطراف ...
ــ أمر أمير المؤمنين .. وردت رسالتان .. الأولى عن أحوال حضرموت ..أرسل بها أحد عيوننا هناك .. والثانية وردت من عاملنا فى أرمينيه !..
ــ ماذا عن الرسالة الأولى ؟!..
ــ جاء فيها أن أمير حضرموت يكثر من الخروج فى طلب الصيد ببزاة وكلاب أعدها لذلك .. وأنه يهمل فى شؤون البلاد !..
ــ ياله من غبى أحمق .. أرسل إليه هذه الرسالةالتى أمليها عليك .......
ــ ثكلتك أمك وعدمتك عشيرتك.. إنا لما وليناك إنما استكفيناك أمور المسلمين ولم نستكفك أمور الصيد .. عندما تصلك رسالتى سلم الأمور لمن يأتيك .. أما أنت فالحق بأهلك فى البادية كما كنت مذموما مدحورا !..
إنتهى من كلامه ثم أمر الربيع أن يسلم هذه الرسالة لعبد الوهاب التيمى الأمير الجديد على حضرموت .. ثم قال .......
ــ هات الرسالة الثانيه !..
ــ الرسالة الثانيه .. جائتنا من عاملنا على أرمينيه .. يشكو فيها من أن الجند قد شغبوا عليه ونهبوا بيت المال عنده .. يقول إنه لا يقدر عليهم وقد عدم الحيلة معهم !..
ــ أكتب إليه .......
ــ إن عقلت لم يشغبوا ولو قويت لم ينهبوا .. هكذا يكون الوالى عقل وقوه .. وأعلمه أنه هو الآخر معزول عن الولاية منذ اليوم ...
صمت قليلا ثم قال .......
ــ خالد بن برمك جاء دورك ...
ــ طوع أمرك يا مولاى ...
ــ أخبرنا عن حالة الأسواق فى بغداد .. وعن أسعار السلع ؟!..
ــ والله يا أمير المؤمنين .. لم تشهد البلاد بشكل عام وأسواق بغداد بصورة خاصة .. أسعارا أقل من أسعار هذه الأيام ...
ــ كيف ؟!..
ــ يباع الكبش مثلا فى سوق بغداد بدرهم .. والحمل يباع بأربعة دوانق .. وكل ستين رطلا من التمر بدرهم .. أما العسل والزيت ......
قاطعه المنصور .......
ــ حسن حسن .. لا أريد أى زيادة فى الأسعار .. كما تعلمون .. أحب أن تروج التجارة فى بغداد .. وأن يكثر عمارها ...
ثم التفت عن يمينه إلى خالد بن برمك قائلا له .......
ــ بهذه المناسبة لى رغبة فى نقل القصر الأبيض وكذلك إيوان كسرى من المدائن إلى بغداد .. ما رأيك يا برمكى ؟!..
تنحنح خالد بن برمك قبل أن تنطق شفتاه.. كأنما يبحث عن إجابة مناسبة .. ثم قال أخيرا فى تؤدة وأناه .......
ــ معذرة يا أمير المؤمنين .. أرى أنه من الخير ألا تفعل ...
ــ لم أيها الرجل !.. ما الذى يمنعنى أو يحول بينى وبين ذلك ؟!..
ــ عفوا يا أمير المؤمنين .. لا شئ يحول بينك وبين ما تريد .. غير أن هذا القصر وما حوله يعد علما خالدا من أعلام الاسلام .. وفيه مصلى إبن عمك على بن أبى طالب .. ليتك تبقى عليه مكانه ...
رد المنصور مازحا وهو يضحك ملئ شدقيه .......
ــ تأبى يا خالد إلا أن تميل لأهلك العجم .. على كل حال .. سنرجئ أمر هذا القصر إلى أن تنتهى مشاكلنا مع الأكراد .. ولهذا قررت أن أوليك أمر الموصل .. فالأكراد قد انتشروا فيها وزاد تشغيبهم .. ولن يصلح أمرهم غيرك .. أما ولدك يحي .. هذا ...
نظر المنصور إليه بإعزاز وحب .. قبل أن يكمل قائلا .......
ــ فإنى قد جعلته أميرا على أذربيجان .. وإنى لعلى ثقة أنه أهل لها .. إن الناس ولدوا أبناء .. إلا ولدك يحي البرمكى .. قد ولد أبا .. إنه فتى لا مثل له .. سيكون له شأن كبير يوما بإذن الله !..
فى تلك اللحظة تقدم أحد الجلاوزه قائلا .......
ــ مولاى أمير المؤمنين .. الشيخ أبو حنيفة النعمان يتوجه قادما ناحية القصر راكبا بغلته !..
ــ لا تدعوه ينتظر .. أدخلوه فى الحال .. عندما يصل إلى الباب ...
سأل الربيع بصوت خفيض متحفظا وقد مال برأسه قليلا ناحية المنصور .......
ــ مولاى .. هل أرسلت فى طلبه .. أم أنه جاءك من تلقاء نفسه ؟!..
رد المنصور ساخرا .......
ــ من تلقاء نفسه !.. منذ متى وأبو حنيفة يأتى إلى هنا برغبته ؟!..
أجابه الربيع معقبا فى خبث ودهاء .......
ــ نعم نعم صدقت يا أمير المؤمنين .. لكنه يا مولاى فيما سمعت وعلمت من رجالى .. يردد بعض الآراء الشاذه التى تخالف صحيح السنة ورأى الجمهور !..
ــ ما هذا الذى تقوله يا أبا الفضل ؟!..
وقبل أن يجيبه دخل الحارس ومن ورائه أبو حنيفه .. رحب به المنصور فى حفاوة بالغة وأقبل عليه قائلا .. وهو يبتسم ابتسامة ماكره.......
ــ كان الربيع بن يونس كبير حجابنا .. يؤكد لنا منذ قليل أن لك بعض الآراء التى تخالف فيها السنة وقول الجمهور .. ما قولك ؟!..
ــ ألهذا أرسلت فى طلبى يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ لا .. لا .. كان هذا حديثا عابرا قبل أن تلج الباب .. لكنى أرسلت إليك لأعرض عليك أمرا مهما آخر ...
لم يكن الربيع يتوقع وقد بدا عابسا مقطب الجبين .. أن يضعه المنصور فى مواجهة مع أبى حنيفه .. فاستأذن قائلا وهو يحاول أن يدارى حرجه الشديد .......
ــمولاى أمير المؤمنين .. سمعت أن الشيخ يخالف جدكم عبد الله بن عباس .. فى الإستثناء المنفصل فى الأيمان !..
رد المنصور قائلا .......
ــ أعرف إن جدنا يقول .. إذا حلف المرء ثم استثنى بعد يوم أو أكثر جاز له ذلك .. فهل لأبى حنيفة رأى آخر فى هذه المسأله ؟!..
رد الربيع من فوره .......
ــ أجل يا مولاى ..إنه يقول إن الإستثناء لا يجوز إلا متصلا باليمين فى نفس الوقت .. وأنه لا يصح بحال إذا صدر القول باتا فى المجلس ...
أجاب أبو حنيفه بنبرات هادئة واثقه وهو يشير برأسه تجاه الربيع .......
ــ يا أمير المؤمنين .. الربيع بن يونس .. يزعم أنه ليس لك فى رقاب جندك بيعه !..
إنتفض الربيع صارخا .......
ــ كذب .. أنا ما قلت ذلك أبدا .. إن هذا محض افتراء .. هذا الرجل لم يرد إلا الوقيعة بى يا مولاى .. دون سند من عنده أو دليل !..
ــ لا تعجل على .. أنا لم أكذب .. ولم أدع عليك بالباطل .. بل أنت الذى قلت به.. الآن .. يا كبير الحجاب .. ويشهد على قولك أمير المؤمنين ...
ثم التفت إلى المنصور قائلا .......
ــ إن قوله هذا عن الأيمان .. معناه أن القوم يحلفون أمامك مبايعين .. فإذا ذهبوا إلى منازلهم يستثنون .. فتبطل أيمانهم ويتحللون من بيعتهم .. أليس كذلك يا أبا الفضل .. ألا يعنى كلامك هذا ؟!..
ضحك المنصور بصوت عال .. وهو ينظر إلى الربيع قائلا .. وقد فهم مراد أبى حنيفه .......
ــ أنصحك يا أبا الفضل ألا تتعرض لأبى حنيفة مرة أخرى .. إنك لن تغلبه أبدا .. المهم .. نعود لما أرسلنا إليك من أجله .. تعلم يا أبا حنيفه أن شرذمة من جماعة الراوندية المارقة التى قضينا عليها قبل سنوات قد بقيت بالكوفه .. ولما كنت أخشى على الجند منهم ومن تشغيبهم .. لذلك فإنى أمرت ببناء مدينة بغداد لتكون مقرا للخلافه .. واخترت لها بنفسى مكانا بديعا معتدل الحراره يتوسط نهرى دجلة والفرات .. ولا يصل أحد إليها إلا على جسر .. حتى غدت عروس المدائن وسيدة البقاع ودار السلام .. وأود أن أجعل منها منارة وكعبة للعلوم والفنون والآداب .. وسوقا رائجة للتجاره .. لهذا أرسلت إليك يا أبا حنيفه ...
ــ لم أفهم بعد يا أمير المؤمنين .. ما شأنى بهذا كله ؟!..
ــ ستعلم الآن كل شئ .. لقد قررت أن أجعل على أعمال هذه المدينه أخلص الرجال عندى وأتقاهم .. لهذا فإنى أعرض عليك منصب قاضى القضاه ...
ــ قاضى القضاه ؟!..
ــ أجل .. حتى تراقب الأحكام .. ومن ناحية تنشئ مدرسة يتخرج منها القضاة الصالحون إلى جميع الولايات والأمصار .. ما قولك أيها الشيخ ؟!..
أخذ يمسح لحيته بأنامله منتظرا رد أبى حنيفة .. الذى قال متأدبا .....
ــ أرجوا إعفائى من هذا الشرف يا أمير المؤمنين ...
ــ ما السبب ؟!..
ــ إن صحتى لم تعد تقوى على مثل هذه المهام .. كما أن لديك من الرجال من هم أصلب منى عودا وأقدر على حمل هذه الأمانه .. ولا يخفى عليك يا مولاى أنى قد ضربت بالسياط لرفضى ذلك من قبل .. فى عهد الخليفة الأموى مروان بن محمد !..
قاطعه المنصور قائلا وهو يصطنع الرقة والنعومه .......
ــ أعلم ذلك تماما .. لكنه زمن مضى وولى .. وأنا أريدك أن تكون عونا وسندا لنا .. أريد أن ينتشر العدل فى البلاد .. ولن أجد خيرا منك لحمل هذه الأمانة والقيام بأعبائها .. وكما تعلم يا أبا حنيفه أننا افتقدنا منذ أيام قاضى البلاد .. محمد بن أبى ليلى رحمه الله ...
ــ أكرر اعتذارى يا أمير المؤمنين .. فالصحة قد ضعفت ولم يعد فى العمر بقية تعيننى .. ولا أستطيع تحمل أعباء القضاء وتبعاته .. إننى أشعر بدنو الأجل وقرب الرحيل ...
رد المنصور فى ضيق وحنق .. وقد بدأ يفقد بعضا من حلمه وسماحته التى كان يتظاهر بها .......
ــ مع ذلك لن أولى أحدا غيرك !..
ــ وأنا لا زلت على رأيى!..
ــ إنه أمر إذن لا خيار لك فيه .. أتعصى أمر أمير المؤمنين ؟!.. سبق أن أوضحت لك .. إنى محتاج إليك ...
ــ وأنا أرفض هذا الأمر .. كما أنى لا أحتاج إليك ...
ــ والله الذى لا إله غيره لتفعلن ...
ــ والله الذى لا إله غيره لن أفعل ...
رد الربيع مستنكرا قوله .. وقد وجدها فرصة سانحة للوقيعة والتشفى .......
ــ ألم تسمع أمير المؤمنين وهو يحلف .. كيف طوعت لك نفسك الحلف بعده يا هذا ؟!..
ــ أمير المؤمنين أقدر على الكفارة منى .. ولا شأن لك بما يدور بينى وبين أمير المؤمنين !..
رأى المنصور إصراره فقال فى نفسه .......
:: كم أنت عنيد أيها الرجل آخذك بالرفق واللين ربما تقبل .. أخذ يلين القول له مرة ثانية .......
ــ يا أبا حنيفه .. لم ترغب عما نحن فيه .. ليتك تصارحنى بما عندك .. إفتح قلبك لى يا رجل ؟!..
ــ أصلح الله أمير المؤمنين .. أنا فى الحقيقة لا أصلح للقضاء ...
لم يتمالك نفسه .. فانفجر بركان الغضب للمرة الثانية .. بعد أن سكت عنه الغضب وقال مستنكرا .......
ــ لا تصلح للقضاء !.. ومن يصلح إذن ؟!.. أى كلام هذا الذى تقوله يا رجل .. إما أنك لا تعى ما تقول .. وإما أنك تكذب على !..
ــ قد حكمت على أخيرا يا أمير المؤمنين أنى لا أصلح للقضاء .. فإن كنت كاذبا كما قلت فأنا لا أصلح .. إذ كيف أقضى بين الناس .. وإلا فقد أصدقتك القول !..
ــ إسمع أيها الشيخ .. إياك أن تظن أنك بهذا أوقعتنى فى حيلة من حيلك .. والله لن أدعك اليوم تخرج من هنا حتى تمتثل لأمرى .. ولو اضطررت إلى حبسك أو ضربك بالسياط .. كما فعلها معك ابن هبيرة من قبل !..
ــ إتق الله يا أمير المؤمنين .. ولا تودع أمانتك إلا من يخاف الله .. ووالله ما أنا مأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب ؟!.. سأقولها لك صريحة ما دمت تريد ذلك .. إنى لا أستطيع أن أكون قاضيا .. ومن حولك حاشية ترغب فيمن يكرمها من أجلك .. وأنا لا أصلح لذلك ولا أرضاه .. ثم أخيرا كيف تولى قاضيا كذابا .. كما حكمت الآن بنفسك ؟!..
أخذ المنصور يحدجه بنظرات نارية غاضبة بعد أن يئس منه .. ثم صرخ فيمــن حوله قائلا .......
ــ خذوه ودوروا به فى الأسواق عساه يرجع عن رأيه هذا .. وإلا فدونه السجن والضرب بالسياط إن اقتضى الأمر ...
إلتف الحراس حول أبى حنيفه .. واقتادوه خارج الايوان وهو يردد فى صوت خفيض .......
ــ حسبى الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ...
وبعد أن بلغ الباب مال الربيع على المنصور .. وأخذ يهدئ من روعه قائلا له .......
ــألم أقل لك يا مولاى .. إنه متمرد عاص .. أنا أدرى الناس بدخيلة قلبه .. إن السبب الحقيقى وراء رفضه القضاء .. والذى لم يقله لك يا مولاى .. هو حبه وولاؤه للبيت العلوى !..
أبى المنصور أن يعقب .. واكتفى بهز رأسه موافقا ...
@ بعد أيام لم يكن للناس حديث فى الكوفة كلها .. إلا عن أبى حنيفه وما جرى له .. وفى بغداد كانت قصته حديث الناس ومدار حواراتهم لأيام وبالذات فى الأسواق .. كان أمرا مألوفا أن تسمع هذا الحوار الهامس يدور بين الناس فى أسواق بغداد .......
ــ أعلمت بما جرى للشيخ الفقيه النعمان بن ثابت تاجر الحرير بالكوفه ؟!..
ــ ما الذى جرى له ؟!..
ــ يقولون إن المنصور استدعاه ثلاث مرات .. وعرض عليه أن يتولى قضاء بغداد .. أخذ يرجوه ويلح عليه فى كل مرة .. إلا أنه أبى وامتنع فى إصرار ...
ــ إنها ليست أول مرة يرفض فيها تولى القضاء .. هيه وماذا بعد ؟!..
ــ توعده أمير المؤمنين وأمر بإلقائه فى السجن .. وقيل أن الحراس أخذوا يطوفون به أسواق الكوفة .. لعل أحدا يثنيه عن رأيه .. وأخيرا ساقوه إلى السجن وضربوه مائة سوط ...
ــ لا حول ولا قوة إلا بالله .. يضربون شيخا فى الثمانين من عمره وفقيها مثله يحمل علوم السلف الصالح .. ألم ينبه أحدا أمير المؤمنين لفداحة هذا الفعل ؟!..
ــ يقولون أن عم المنصور ذهب إليه غاضبا .. وصاح فى وجهه قائلا .......
ــ كيف طوعت لك نفسك ضرب شيخ جليل مثله .. وهو فى هذه السن .. لقد سللت على نفسك بكل سوط ألف سيف ...
ــ وما الذى فعله المنصور يا ترى ؟!..
ــ شعر بفداحة فعله وعظم ذنبه .. فأراد أن يعوض الشيخ بمائة ألف درهم إلا أنه ردها إليه .. ولما قالوا له خذها وتصدق بها .. قال لهم .......
ــ لا أدرى إن كانت حلالا فآخذها ………………

يتبع إن شاء الله .........
...............
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 10/11/2008, 20h34
الصورة الرمزية رايا
رايا رايا غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:29419
 
تاريخ التسجيل: mai 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 90
افتراضي رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن

يقول الامام الشافعى

(ارفع الناس قدرا من لايرى قدره واكثرهم
فضلا من لايرى فضله)

لم اجد الا هذة المقولة لكى تعبر لك
د انس عن شكرنا لمجهودك فى سرد سيرةهذا العالم
والشاعر والفقيه الذى نكن له والمصريين بالذات
حب وتقدير كبير
وانت ترددت فى كتابة هذة السيرة
لانك لاترى قدرك كما تقول المقولة
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 11/11/2008, 09h43
الصورة الرمزية وليدابراهيم
وليدابراهيم وليدابراهيم غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:253980
 
تاريخ التسجيل: juin 2008
الجنسية: مصرى
الإقامة: مصر
المشاركات: 284
افتراضي رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن

بسم الله الرحمن الرحيم
سيدى الاستاذا الدكتور انس البن لااخفى عليكى تشوقى الشديد لتكريس وقتى فى الكتابة عن انبهارى بانسيابية طرحك لسيرة هذا الامام العظيم الحسيب النسيب لاهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد قرئت عنه وله الكثير ولم اقراء مايساوى جمال الطرح والعرض الذى قمتم به يا سيدى الفاضل لذا من جمال ماتكتب لااريد ان اشق تواصل كتاباتك الكريمة بتعليقى عليها فما تكتبه اهم وادوم غير انى لم اتمالك حالى فانالست عاجز عن كلمات شكر ولكن عجزى عن وصف مابداخلى تجاه ماتكتب سقاك الله من كف المصطفى يوم القيامة ابنك الصغير وليد
__________________
أتُرى من أفتاك بالصد عنى ،،، ولغيرى بالود من أفتاك
بإنكسارى بذلتى بخضوعى ،،، بإفتقارى بفـــــاقتى بغناك

https://www.facebook.com/pages/%D8%A...83993678374487
رد مع اقتباس
  #29  
قديم 11/11/2008, 11h36
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي

الأصدقاء الأعزاء
رايا
وليد إبراهيم
كلماتكم فى حقى
وإن كانت أكثر بكثير مما أستحق

لكنى أضعها وساما على صدرى
وأدخرها ليوم يعلم الله كم ستكون

حاجتى لكل حرف منها
وأترككما وبقية الأحباب

مع بداية الجزء السادس
....................
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 11h46
رد مع اقتباس
  #30  
قديم 11/11/2008, 11h36
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي

(6)

العودة إلى أرض مكه

@ أربعون يوما مضت والقافلة لا تزال ماضية فى رحلتها .. إلى أن ظهرت أخيرا جبال مكة الشامخة بألوانها السوداء والبيضاء والحمراء .. وهى تنحدر بشدة ناحية الساحل ...
إستأنف عبيد الله الأزدى قائلا .......
ــ لم تمض غير شهور قليله على أبى حنيفه بعد هذه الواقعه .. إلا وتملكه الضعف واشتد عليه المرض وغدا طريح الفراش .. غير قادر على الحركه .. ظل على تلك الحال إلى أن لقى ربه راضيا مرضيا .. كان ذلك فى آخر ليلة من شهر رجب .. من العام قبل الماضى يا ابنتى ...
شرع ببصره إلى السماء وأردف فى نبرات تنبض بالأسى والمراره .......
ــ كان يوما مشهودا من أيام بغداد .. كنت هناك .. أقوم بشراء بعض البضائع لدكان العطارة .. وشهدت جنازته .. كان الناس يتدافعون ويأتون من كل حدب وصوب .. للصلاة على جثمانه الطاهر .. بلغ من شدة زحامهم وإصرارهم جميعا على الصلاة عليه .. أن صلوا عليه ست مرات .. جماعة بعد أخرى يتقدمهم الخليفة المنصور بنفسه والأسى يغمره .. إيــــه رحمه الله رحمة واسعه ...
كانت أم حبيبه تعطيه سمعها .. غير أنها بدت شاردة الفكر وكأنها تتذكر أمرا .. ثم فاجأت أباها متسائلة فى دهشة واستغراب .......
ــ قلت يا أبت إنه مات .. فى الليلة الأخيرة من شهر رجب .. فى العام قبل الماضى ؟!..
ــ أجل يا ابنتى أجل .. لكن فيم السؤال ؟!..
لم تجبه على سؤاله كأنها لم تسمعه .. وأخذت تحدث نفسها قائلة فى صوت هامس .......
ــ يموت عالم ويولد عالم .. تماما .. كما قال إدريس .. عندما عبر لى الرؤيــا !..
ــ لم تجيبى على سؤالى يا ابنتى .. وأسمعك تقولين كلاما .. لا أفهم منه شيئا ...
ــ آه يا أبى .. آه .. الآن .. أجل الآن .. سأقص عليك كل شئ ...
أخذت تقص عليه رؤياها التى رأتها قبل عامين .. وكيف عبرها زوجها الراحل .. ظلوا يتداولون فى أمرها .. إلى أن دخلت القافلة أرض مكه .. توجه الأب وابنته من فورهما إلى دارهم بشعب الخيف .. كان الأهل جميعا فى انتظارهم .. والتقى الأحباب بالعناق والدموع .. وانتظم الشمل مرة ثانيه ...
...............

@ حول من الزمان مضى على الأم وولدها .. كأنه يوما أو بعض يوم .. منذ وصولهما من ديار غزة إلى دار العائلة بشعب الخيف فى بطن مكه .. عاشت بين أهلها .. تبذل قصارى جهدها وتهب عصارة أيام عمرها .. لوحيدها وثمرة أحشائها .. وهى ترى فى ملامحه صورة زوجها الراحل .. وتنتشق منه عبير ذكرياتها معه .. لقد أخذ الإبن كثيرا من سمات أبيه الوادعة الحانية .. ومن ملامحه أمارات الطيبة الصافية الرائقه .. مرات كثيرة كان يحلو لها أن تنفرد بنفسها .. ترخى لجواد خيالها العنان .. فاتحة خزانة ذكريات الزمن الماضى القريب وأياما خواليا.. مستحضرة فى مخيلتها صورة زوجها إدريس .. تتذكر وتسترجع أيامها ولياليها التى عاشتها معه .. تظهر صورته الوادعة فى بؤرة حدقة عين خيالها .. فتندفع بعض الزفرات الحرى من صدرها .. وتنهمر بعض العبرات رغما عنها .. تمسحها براحة يدها فى صمت .. قبل أن تعود سيرتها الأولى وهى ترهف أسماعها لرجع صدى أحاديثه فيما مضى من سنوات .. وترى طيف خياله كأنه حاضر معها بشحمه ولحمه ...
تذكرت لحظة أن وقعت عينيها عليه أول مرة رأته فيها .. حدث ذلك عندما جاء إلى دار أبيها الأزدى .. برفقة والده العباس طالبا الزواج منها .. سمحت لنفسها فى ذلك اليوم .. أن تتسلل فى خفة لتختلس نظرة سريعة إليه من وراء ستار .. لم تكن لها سابقة معرفة به من قبل .. منذ اللحظة الأولى التى وقعت عيناها عليه .. ملك عليها فؤادها .. ووجد طريقه ممهدا إلى شغاف قلبها .. بهرتها واستولت على مشاعرها .. شعاعات الطيبة والوداعة التى كانت تنبعث من شمس ذاته الدافئة وروحه الصافية البريئه .. شعرت لحظتها أن صاحب هذا الجسد النحيل الضامر .. وهذا الوجه العربى الأصيل الذى زاده الإسمرار حسنا وبهاء .. ينطوى باطنه مع تواضع ظاهره على جوهرة نفيسة ودرة يتيمة غاليه .. وإنسانا يحمل فى داخله أصالة أجداده العظام .. وشرفهم الرفيع ومنزلتهم السامقه ...
لم تر منه طوال حياتها معه .. إلا صورة وحقيقة الإنسان الطيب السمح .. الذى لا يثور ولا يغضب إلا لماما .. عرفت معه معنى الرضى بروح النعم التى أنعم الله بها عليهما .. وليس مقدارها أو قيمتها إذا قيست فى عالم المادة الفانى .. ومع تتابع المرائى والذكريات على مخيلتها .. لم تستطع مقاومة ابتسامة طفت رغما عنها .. فوق ساحل بحر الذكريات والأحزان وهى تتذكر المرة الوحيدة التى رأته غاضبا عليها .. واحتد فيها وعنفها قبل أن يفئ سريعا إلى وداعته وسماحته .. حدث ذلك أثناء إقامتهما فى غزه .. عندما كانت فى شهر حملها الأخير .. إعتادت ألا تجعله يراها تمارس الأعمال الشاقة .. حتى لا تثير غضبه .. دخل عليها ذات مره على حين غفلة منها .. فوجدها تكابد الرحى وهى تطحن عليها حفنة من الشعير لإعداد الخبز .. متناسية أنه نبه عليها مرارا ألا تجلس إلى الرحى أبدا .. أو تكابد أى مشقة حرصا على صحتها وضعفها .. وعلى الجنين الذى تحمله فى أحشائها .. كانت تلك هى المرة الوحيدة التى ثار فيها غاضبا .. ولم يسكت عنه الغضب إلا بعد أن وعدته .. مؤكدة أنها لن تعد مرة ثانيه ...
تذكرت أيام عمرها التى عاشتها معه فى ربوع غزة .. مع أهلها وبين جيرانهم الطيبين .. تضمهما معا تلك الدار الصغيرة التى كانت رغم ضيقها .. رحبة واسعة من فيض المودة والرحمة التى ملأت كل شبر فيها .. تماما .. كما أخبر فتية الكهف عن كهفهم الضيق المعتم .. أن ربهم سينشر لهم فيه من رحمته .. ويهيئ لهم من أمرهم مرفقا .. كم كانت تحبه وتتمنى أن يبقى معها حتى آخر العمر .. يشاركها رحلة الحياة بحلوها ومرها .. ويرى بعيني رأسهتحقيق رؤياها التى عبرها لها وبشرها فيها بأعظم بشرى .. ويشاهد أمنيته الغالية وهى تتحقق يوما .. تغدو حقيقة مشرقة أمام عينيه تدب على أرض الحقيقة والواقع .. بعد أن كانت صورة شاحبة فى عالم الخيال ...
ولدها محمد .. أين هو !.. أخذت تتلفت حولها باحثة عنه .. ها هو ذا يحاول أن يخطو على قدميه الصغيريتين .. مرتكنا على حائط الدار وهو يتعثر خطواته الأولى .. يقع على أرض الدار فتندفع إليه واجفة .. تضمه فى حنان إلى صدرها .. تملأ عينيها الدامعتين منه بعد أن تطبع قبلة على جبينه .. ثم تعود إلى متابعة شريط ذكرياتها مرة أخرى ..
لن تنسى أبدا تلك المرات الكثيرة التى كان فيها إدريس .. يتسلل حثيثا من فراشه فى جوف الليل مجتهدا ألا تراه أو تشعر به .. ثم يقوم إلى الردهة الخارجية فى الدار .. يظل جالسا وحده طرفا من الليل .. على ضوء مصباح خافت وأمامه كومة كبيرة من الليف وقطع التيل .. يجدلها فى مهارة مستخدما أصابع كلتا يديه ورجليه .. ليصنع بضعة أذرع من الحبال والخيوط والأربطه .. ولا يكف يداه عنها إلا عند سماعه صوت المؤذن وهو يشق سكون الليل مناديا ....... حى على الصلاه حى على الفلاح .. الصلاة خير من النوم .. وفى اليوم التالى يتوجه بما صنعت يداه إلى السوق سعيا على رزقه .. قبل أن يذهب إلى مكان عمله ليبيعها للتجار والصيادين بثمن بخس دراهم معدودة .. حتى يتمكن من توفير القوت الضرورى لهما .. وعلى هذا المنوال استمرت حياته .. لم يكن يطعم فى ليله من النوم إلا أقله .. وكذلك فى النهار لا يجلس خاملا دون عمل أبدا ...
كانت تشعر به فى كل مرة يفعل ذلك .. رغم حرصه دائما على ألا يزعجها أثناء قيامه من فراشه .. أو فى رجوعه إليه مرة أخرى .. متظاهرة والألم يعتصرها أنها مستغرقة فى النوم .. لما تعلمه من ضعف صحته وشحوب وجهه .. حتى لا تزيد من آلامه وأشجانه ومواجيده .. فى يوم رأته وهو يعمل فى النهار بكلتا يديه وقدميه .. تماما كفعل الليل .. وقد بان عليه الإرهاق والتعب .. وغارت عيناه وازداد وجهه شحوبا وذبولا .. أخذت تعاتبه وهى مشفقة عليه وعلى جسده النحيل الذى لا يحتمل كل هذا العناء .. واشتد عتبها عليه ولومها له طالبة منه أن يرفق بنفسه .. إلا أنه رد عليها قائلا والبسمة الحانية لم تغادر شفتيه مواصلا عمله .......
ــ صدقينى يا أزديه .. لذتى وراحتى ونعيمى .. فى هذا الذى تعتقدين أنه تعب وكدح ومشقه .. أما عذابى الحقيقى وشقائى وتعاستى .. فى الفراغ والراحة والخمول ...
ذكريات كثيرة تستهلك أحداثها من عمر الزمان .. ليالى وأيام طويلة طويله .. إلا أنها ترد على باحة الخيال كلمعة بارق خاطف فى جنح الليل البهيم ...

@ فى تلك السنة ذاتها انتقل الخليفة المنصور إلى مقره الجديد .. فى قصر آخر شيده فى مدينة بغداد سماه قصر الذهب .. إعتنى بمبانيه وملحقاته اعتناء كبيرا .. حتى أنه كان يعد فى زمانه تحفة فنية رائعة من تحف فنون العمارة وزخارفها ورونقها .. كان المنصور حريصا وهو يضع تصميمات مبانيه بنفسه .. أن يأمر ببناء مسجد خاص فى واجهته الأماميه .. وفى الناحية القبلية خلف أسواره أقام بيتا كبيرا لصاحب الشرطه وآخر لصاحب الحرس .. وإلى جوارهما دور صغيرة لإقامة الحراس والخدم .. كى يكونوا على مقربة منه عند الحاجة لهم ...
وفى الناحية الشرقية من القصر .. شيد المنصور قصور الأمراء وكبار رجال الدوله وكذلك دواوين الحكم .. وجعل من حولها خندقا عميقا مليئا بالماء يحيط بها من كل ناحية .. حتى يكون آمنا من أى هجوم مفاجئ يقوم به أعداؤه المتربصون له .. وزيادة فى الحرص والأمان بنى من فوق الخندق .. مائة وثلاثا وستون برجا فى كل برج حراسه المناوبون للمراقبة عن بعد ...
وذات يوم شوهد المنصور واقفا فى شرفة هذا القصر .. عاقدا يديه خلف ظهره .. بدا مهموما يكسو وجهه شلال جارف من حزن عميق .. يختفى من تحته بركان غضب عارم ..
أخذ يروح جيئة وذهابا .. بينما عيناه تتطلعان فى ضيق ولهفة والشرر يتطاير منهما إلى ساحة القصر الفسيحة التى تنتهى إلى البوابة الرئيسية للقصر .. منتظرا على أحر من الجمر وصول حاجبه الأول ووزيره الربيع بن يونس .. صاحب الرأى والمشوره وكاتم أسراره ...
كان قد أرسل إليه مع أحد الجلاوزة رسالة عاجلة يطلب إليه الحضور فى الحال .. وأخيرا رآه قادما من بعيد يمشى على عجل فى خطوات متقاربة حتى أنه كاد يتعثر فى عباءته .. صاح به فى صوت غاضب وهو لا يزال واقفا فى مكانه من الشرفه .......
ــ ما الذى أخرك عنى يا أبا الفضل .. ألم يخبرك خادمى أنى أريدك فى التو والحين !.. هيا أسرع وتعال إلى هنا يا رجل !..
لم تمض عليه غير ثوان حتى ولج الباب الكبير فى خطوات سريعه .. ارتقى الدرج وثبا وفى لمح البصر كان قد عبر الردهة إلى الشرفه .. وصوته اللاهث يسبق خطواته .. وقد زاد خوفه تحسبا لما سيقوله له أمير المؤمنين .. فلا علم له حتى هذه اللحظة لسبب استدعائه العاجل .......
ــ خيرا يا أمير المؤمنين .. جئتك من فورى عندما أخبرنى كبير الخدم أنك تريدنى على عجل !..
ــ أى خير .. من أين يا كبير الحجاب !.. ومن حولى كل هذا الغدر وتلك الخسة والخيانه ...
ــ ما هذا الذى تقول يا أمير المؤمنين .. غدر وخسة وخيانه ؟!.. قتل الله عدوك يا مولاى ...
ــ أجل غدر وخسة وخيانه .. إسمع أيها الحاجب ...
ــ أمر مولاى ...
ــ عليك فى التو والحين تنفيذ كل ما آمرك به ...
ــ طوع أمرك ورهن إشارتك يا مولاى ...
ــ إذهب فى الحال إلى ديوان الإنشاء .. خذ معك قائد الشرطة وبعضا من الحراس ...
تملكه خوف شديد وهو يرد متسائلا .......
ــ ديوان الإنشاء !.. لم يا مولاى ؟!..
ــ كى تأتوا بأبى أيوب إلى هنا ...
ــ من ؟. أبو أيوب الموريانى !.. كاتب الديوان ؟!..
ــ ما الذى جرى لك يا كبير الحجاب ؟!.. أجل أبو أيوب كاتب الديوان .. ألم تسمع ؟!..
تساءل الربيع غير مصدق .......
ــ أقبض عليه يا مولاى ؟!..
ــ أجل .. ضعه فى السلاسل والأغلال .. وبعد أن تفرغوا منه .. اقبضوا على أهله وأولاده وألقوهم جميعا فى سجن القتلة والخونه أسفل فناء القصر .. هيا انصرف لتنفيذ ما أمرنا به فى التو والحين ..
إصفر وجه الربيع وسرت فى جسده قشعريرة .. جعلت حروف الكلمات تخرج من فمه واجفة مرتعدة متعثرة .. وقد اصطكت أسنانه وارتعشت ركبتاه حتى أنه كاد يفقد توازنه فرقا وهلعا .......
ــ أبو أيوب .. ولم يا مولاى .. ما الذى فعله هذا الأحمق ؟!..
لم يتمالك نفسه فصرخ فى وجهه قائلا .......
ــ ما خطبك اليوم أيها الحاجب !.. ماذا دهاك ؟!.. أهذا وقت السؤال يا رجل .. قم لما أمرناك به .. وإياك أن تنتظر لحظة واحده ...
لم يجد أمامه إلا أن يغلق فمه .. وقبل أن يستدير خارجا أشار إليه المنصور قائلا فى حدة وحزم .......
ــ إسمع أيها الحاجب الأكبر .. إياك أن تسمح لأحد منهم بالماء أو الطعام قبل أن يقر هذا الخائن بالأماكن التى يخبئ فيها أمواله وثرواته .. بعدها أقتله شر قتله .. إجعل كل طرف من أطرافه فى أحد الخيول الجامحه ثم أطلقها كى تمزقه إربا .. أما أهله وأولاده فاقطعوا أيديهم وأرجلهم قبل أن تقطعوا رقابهم .. وبعد أن تفرغ منهم .. عد إلى هنا مرة أخرى .. لأعرف ما انتهيت إليه ...
شعر بالدنيا تسود أمام عينيه .. وكادت أن تفر من عينيه دمعة حرى .. وهو يحاول يائسا محاولة أخيرة أن يستعطف المنصور .. لمكانة صاحبه أبى أيوب عنده وصداقته له .. إلا أنه صرخ فى وجهه كالأسد الجريح .......
ــ لا شأن لك أنت ولا لغيرك فى هذا .. ليس هذا أوان الشفاعة والرجاء بعد أن حل الغضب وقضى الأمر .. أنت لا تعلم شيئا عما فعله هذا الخائن اللعين .. وعن فداحة ما ارتكبه من جرم فى حقى ...
أردف قائلا بصوت متهدج حزين وهو يغالب البكاء .......
ــ لقد .. لقد قتل ولدى جعفر .. هذا النذل الحقير .. قتل ولدى وفلذة كبدى ...
خرج مسرعا يتكفأ فى ثيابه لا يكاد يرى أمامه .. وقد أخذ الخوف منه مأخذا عظيما .. وهو يتمتم فى نفسه .......
ــ قتل ولده ؟. أى ولد ؟. ما هذه الألغاز والأحاجى التى أستمع إليها .. ما الذى يعنيه أمير المؤمنين بكلامه هذا .. ما هى الحكاية يا ترى ؟!.. ومن يكون جعفر هذا .. أنا لا أعلم أن له ولدا بهذا الإسم .. إننى لم أعد قادرا على فهم أى شئ .. لكن لا مناص من تنفيذ أوامره فى الحال .. وإلا قطع رقبتى أنا الآخر !..

على الفور أخذ وجهته إلى أبى أيوب فى ديوانه .. برفقته قائد الشرطة وعددا من الحراس المسلحين .. لم يكد يراه وسط هذا الجمع حتى اصفر وجهه .. وكاد يسقط مغشيا عليه .. علم أن أمره قد انكشف فأسلم نفسه طواعية إلى الحراس الذين قاموا بالقبض عليه فى غلظة ومهانة .. لا يليقان بمثله من كبار رجال الدولة .. لم يجرؤ الربيع أن يتبادل معه كلمة واحدة .. رغم آصرة الصداقة التى كانت تربطهما .. كان خائفا أن يشى به أحد إلى أمير المؤمنين أو يضعف أمامه ...
إقتاده بعد ذلك إلى ساحة السجن وألقاه هناك فى زنزانة وحده .. أما باقى أهله وأولاده فأودعهم زنازين أخرى .. فعل كل هذا وهو لا يزال فى حيرة من أمره .. وأخيرا يمم شطر داره وقد خارت قواه تماما .. وأخذ منه التعب كل مأخذ .. حتى لم تعد قدماه تقوى على حمله ...
رأته زوجته أم الفضل داخلا عليها وقد تبدلت سحنته وتجهمت أساريره .. نظرت إليه نظرة فاحصة وهى تعقد ما بين حاجبيها فى دهشة .. لاحظت خلالها تغير أحواله وأدركت أن وراءه أمرا خطيرا .. سألته فى إشفاق ولهفة .......
ــ إيه يا أبا الفضل .. ماذا دهاك ؟!.. إنك تبدو متعبا .. الإرهاق ظاهر على قسمات وجهك ...
رد فى نبرة يائسة .......
ــ أجل أجل يا أم الفضل ...
ــ ليس هذا فحسب .. بل وتبدو مهموما أيضا .. ما الأمر يا ترى ؟!..
أشار إليها براحة يده أن تكف عنه لسانها وهو يرد قائلا .......
ــ دعينى ألتقط أنفاسى أولا .. و .. ليتك تأتينى الآن بأى شراب بارد ...
خرجت فى الحال تلبى أمره .. بينما ألقى جسده المنهك على الفراش .. يقلب فى رأسه ما مر به فى يومه هذا من أمور غريبة لا يجد لها تفسيرا .. أسرعت إليه بكوب الشراب .. بعد أن تناوله منها ازدرده فى جوفه على عجل .. ثم أخذ يحدثها بما كان من أمره مع الخليفة المنصور وصديقه كاتب الديوان الأكبر .. وما مر به من أحداث كلها أحاجى فى هذا اليوم العصيب .. أخذت تستمع إليه ذاهلة لا تكاد تصدق ما يقول .. بعد أن انتهى من حديثه .. سألها عن ولده الفضل الذى صار له من العمر سبع سنوات فقالت .......
ــ خرج إلى درس القرآن منذ الضحى وعاد منه منذ قليل .. لكنى ألاحظ عليه أمرا ترددت أن أفاتحك فيه .. لكثرة مشاغلك ومسؤلياتك الملقاة على عاتقك ...
سكتت فاستحثها متسائلا .......
ــ أى أمر هذا يا أم الفضل ؟!..
ــ لاحظت أنه لا يجيد الحفظ كما ينبغى لأمثاله .. يبدو أن شيخه الذى يذهب إليه فى مسجد بغداد لا يتقن تعليمه !..
ــ صدقت يا أم الفضل .. لاحظت أنا أيضا ذلك .. إنه حتى اليوم لم يحفظ إلا جزءا واحدا من القرآن .. مع أنه كاد أن يكمل نصف العام مع شيخه هذا .. على أية حال بعد أن أنتهى من مشاغلى هذه .. سأضع حلا قاطعا لهذه المسأله ...
ــ هل قررت أمرا معينا بشأنه ؟!..
ــ أجل .. قد أرسله إلى أمير مكة ليدفع به إلى شيخها الكبير ومقرئها الأول إسماعيل بن قسطنطين .. إنه خير من يعلمه ويحفظه القرآن .. ذرينى الآن يا أم الفضل آخذ قسطا من النوم .. لا يزال أمامى اليوم أشغالا كثيره لم أفرغ منها بعد ...
تركها ودخل غرفته .. ألقى جسده المتعب المكدود على سريره وسحب الغطاء عليه .. لم تمض غير لحظات حتى راح يغط فى نوم عميق .. قام بعده أكثر نشاطا وقد زال عنه بعض التعب .. صلى العشاء وارتدى ملابسه وخرج قاصدا قصر الذهب .. حيث يقع السجن أسفل مبانيه ...
@ عبر البوابة الخارجية لقصر الذهب .. سار بضع خطوات أوصلته إلى باب جانبى يفضى إلى درج أسفل القصر .. أخذ يهبطه على مهل إلى أن وصل إلى بوابة السجن الرئيسية .. يتقدمه أحد الحراس حاملا فى يمناه مشعلا ...
ظل يسير متحسسا خطواته فى فناء طويل .. على جانبيه بعض المشاعل التى ينبعث منها ضوء خافت .. أفضى به الفناء فى نهايته إلى درج ضيق .. أخذ يهبطه متأنيا ومن ورائه حامل المشعل .. حتى وصل إلى طرقة طويلة إنتهت به إلى زنزانة شبه مظلمة .. يقف على بابها اثنان من الحراس الأشداء ...
أشار إلى أحدهم بيده فانحنى فى التو ليفتح له الباب .. ما إن تخطاه وتقدم بضع خطوات .. حتى وقعت عيناه على أبى أيوب جالسا القرفصاء فى أحد أركانها .. واضعا رأسه بين كفيه فى مذلة والسلاسل والأغلال فى يديه وقدميه .. لم يتبين ملامح وجهه فى أول الأمر .. وأخيرا رفع السجين رأسه متوجسا على صوت صرير الباب ووقع الأقدام .. كان وجهه يعتصر حزنا وندما .. نظر أمامه فرأى الربيع واقفا يحدجه بنظرات حادة جامده .. وإن لم تخل من بعض الإشفاق والأسى ...
لم يتمالك مشاعره .. أخذته نوبة من البكاء والعويل .. وهو يخفى رأسه بين راحتيه .. بينما جسده يهتز اهتزازا شديدا .. كأنما مسه طائف من الشيطان .. بعد أن هدأ قليلا سأله الربيع .......
ــ ما الذى فعلته أيها البائس .. إننى لم أر أمير المؤمنين حزينا غاضبا كما رأيته صبيحة هذا اليوم الأسود ؟!..
رد قائلا وقد عاوده البكاء والنحيب .......
ــ إنها مصيبة فادحه ...
قاطعه منزعجا .......
ــ مصيبة فادحه ؟!.. أية مصيبة تلك .. تكلم يا رجل ؟!..
ــ أجل مصيبة كبرى .. لكنى لم أكن أعرف .. وأنى لى أن أعرف ذلك السر .. يالى من أحمق غافل !..
عاود سؤاله وقد زادت حيرته وأخذته الشفقة عليه .......
ــ تكلم أيها المسكين .. أخبرنى يا رجل .. أية فعلة شنعاء تلك التى فعلتها .. إننى حتى هذه اللحظة لا أفهم شيئا .. كل ما سمعته هو قول الخليفة أنك قتلت ولده جعفر .. من يكون جعفر هذا ؟!..
رد قائلا وهو يغالب البكاء .......
ــ إنها حكاية طويله .. سأقصها عليك من بدايتها ...
جلس الربيع على حاشية إلى جواره .. وأخذ ينصت إليه وهو يقول .....
ــ منذ خمسة أعوام .. بعد أن أسست ديوان الإنشاء ببغداد .. أعلنت عن حاجة الديوان إلى مساعدين وكتبه .. يكون لديهم دراية وخبرة بمثل هذه الأمور .. أيامها تقدم كثيرون .. إلا أننى اخترت من بينهم خمسه .. كان فيهم شاب من الموصل .. لاحظت فيه الذكاء وتوسمت لديه النبوغ والتفوق .. سألته عن حاله فعلمت منه أنه نال قسطا وافرا من العلوم .. قربته منى وقدمته على إخوانه .. وأصبحت أعتمد عليه كثيرا فى أعمالى .. إلى أن صار مع الأيام ساعدى الأيمن وكاتم أسرار الديوان .. كان يستحق ذلك فعلا ...
قاطعه الربيع قائلا .......
ــ لعلك تقصد ذلك الشاب الذى أراه برفقتك دائما .. أذكر أن اسمه .....
قال ذلك ثم خبط براحة يده على جبهته قائلا كمن تذكر أمرا .......
ــ آه فهمت إنه هو إذن .. هيــــــه .. أكمل أيها البائس المسكين !..
ــ أجل إنه هو تماما .. وذات يوم .. بينما كنت فى ديوان الإنشاء .. إغتنمت فرصة خلو الديوان من الكتبة والخدم .. لم يكن فيه أحد من العاملين إلا أنا وذلك الشاب .. فقلت له ………………
ــ جعفر .. هل انتهيت من نسخ الرسائل التى تبقت من بريد اليوم ؟!..
ــ لم يتبق منها إلا ثلاث رسائل .. معذرة على تأخرى فى نسخها يا سيدى .. البريد كان مزدحما هذا الصباح على غير العاده ...
ــ أعلم يا ولدى .. وماذا عن بريد الأمس .. هل فرغت منه ؟!..
ــ أجل يا سيدى .. إنتهيت من كتابته ومراجعته .. لم يبق إلا وضع الأختام عليه ...
ــ حسن .. حسن ...
ثم أردفت قائلا وأنا أتحسس كلماتى .. بعد أن مرت لحظات من الصمت .. كنت خلالها أرتب أفكارى .. وأتدبر فى روية ما سأقوله .. كان فتى لماحا ذكيا .......
ــ جعفر .. هناك مسألة . أود أن أنبهك إليها .. أنت تعلم كم أحبك .. أجل كم أحبك كإبن من أبنائى .. وتعلم أيضا أننى قدمتك على إخوانك كلهم .. وقربتك منى لنباهتك وفطنتك .. أجل .. أنت تستحق ذلك .. بل أكثر منه و ……
قاطعنى فى حياء .......
ــ شكرا لك يا سيدى على تلك الثقة الغاليه .. أنا لا أؤدى إلا ما هو واجب على مثلى عمله ...
ــ ليتك لا تقاطعنى قبل أن أنتهى من كلامى .. لقد مضى عليك معنا حوالى خمسة أعوام .. منذ أسسنا ديوان الإنشاء ببغداد .. كانت وقتا كافيا أتاح لك أن تطلع على كثير من الأسرار .. وأن تقف على أمور لا علم لأحد بها .. إلا ......
أردفت قائلا وأنا أضغط على كل حرف .......
ــ إلا .. أنت .. وأنا .. حتى أمير المؤمنين المنصور نفسه .. لا يعلم عنها شيئا .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا سيدى .. أعلم ذلك تماما .. وأحسب حسابه جيدا .. لكن .. لكن ما مناسبة هذا الحديث الآن ؟!.. هل أخطأت فى شئ .. أو بدر منى أمرا أغضبك ؟!..
ــ إنتظر .. لا تعجل على .. أنا لا أقصد شيئا مما قد يكون قد جال فى خاطرك .. بل أردت أن أذكرك بأهمية هذه الأسرار .. وضرورة كتمانها وحذرتك بالخصوص من ديوان أمير المؤمنين .. أفهمت يا ولدى ؟!..
ــ نعم يا سيدى أعلم هذا جيدا .. لكن عفوا .. إنى حتى الآن لا أدرى ما الذى ترمى إليه .. من وراء هذا ؟!..
ــ إسمع يا جعفر .. سأكون صريحا معك .. لقد لاحظت أمرا حيرنى كثيرا .. ولم أستطع فهمه .. ولا وجدت له تفسيرا عندى !..
ــ أى أمر هذا يا سيدى .. لقد أثرت مخاوفى والله ؟!..
ــ لاحظت أن أمير المؤمنين .. يختلس النظر إليك .. فى المرات التى كنت أصطحبك فيها عنده .. كان آخرها اليوم .. عندما كنت أعرض عليه البريد .. لاحظت أنه كان يرنو ببصره تجاهك كثيرا .. يبدو أنه مهتم بك لشئ لا أعلم كنهه حتى الآن .. هذا الأمر أثار شكوكى وحرك من مخاوفى !..
ــ من أى شئ يا سيدى .. ليتك تزيدنى إيضاحا ؟!..
ــ خشيت أن يكون فى نيته إستدراجك .. ومحاولة الإيقاع بك لمعرفة شئ من أسرار الديوان .. التى إئتمنتك عليها كل هذه السنين .. هذا كل ما فــى الأمر يا فتى !..
ــ فى الحقيقة يا سيدى .. إنها المرة الأولى التى أعرف فيها أمرا كهذا .. لم يقع فى خاطرى أبدا .. أن يهتم أمير المؤمنين بمثلى أو يشغل نفسه بالنظر إلى .. وما لاحظت ذلك أبدا فى أى يوم من الأيام .. فمن أكون ؟!.. ما أنا إلا واحدا من المستخدمين الكثيرين .. فى ديوان من دواوينه العديده .. لكن على أية حال .. كن مطمئنا يا سيدى من هذا الجانب .. أنا أعرف جيدا كيف أحافظ على أسرار الديوان ...
ــ عظيم .. عظيم .. هذا عهدى بك أيها الفتى الموصلى .. أتركك الآن كى تتمكن من إكمال البريد .. وفى صباح الغد نلتقى بإذن الله ……………

@ سأله الربيع .......
ــ هيه وما الذى حدث بعد ذلك ؟!..
ــ بعد أن تركته وحده .. وبينما أنا فى طريقى إلى الباب الخارجى .. وسكون الليل يعم أرجاء المكان .. إلتقطت أذناى صوت وقع أقدام من الناحية الأخرى لقاعة الكتبة والمساعدين .. كان صاحبها يحاول جاهدا ألا يشعر به أحد .. ساورتنى الشكوك والهواجس .. وتوقفت مكانى برهة أتدبر الأمر .. ثم عدت أدراجى فى خفة .. إلى أن وصلت إلى باب جانبى كان مفتوحا .. نظرت بركن عينى من خلال فرجة فيه .. فرأيت أحد الجلاوزه العاملين بديوان المنصور يدخل خلسة على جعفر .. وهو يتلفت وجلا من حوله مخافة أن يراه أحد .. كان يبدو من حركاته أنه حريص جدا على ذلك ...
قاطعه الربيع فى لهفة .......
ــ هل سمعت ما دار بينهما من حديث ؟!..
ــ أجل .. سمعته يطلب منه فى صوت هامس .. أن يذهب فى الحال للقاء أمير المؤمنين فى قصر الذهب .. وزاد من ريبتى أنى سمعته يؤكد عليه .. أن يكتم خبر هذه المقابلة ولا يخبر بها أحدا ...
ــ هيه أكمل .. ماذا فعلت أنت ؟!..
ــ تواريت مكانى وأنا أحبس أنفاسى .. حتى غادر القاعة ثم تسللت من ممر جانبى .. أعرف أنه ينتهى إلى إيوان المنصور .. ومن ركن خفى فى مكان لا يرانى فيه أحد .. وقفت أرقب ما يجرى هناك فى الإيوان ...
ــ ماذا رأيت ؟!..
ــ رأيت أمير المؤمنين وهو يدنيه منه .. ويتجاذب معه أطراف حديث كله حب ومودة .. كأنه يعرفه منذ زمن بعيد .. بدا ذلك من قسمات وجهه ...
ــ هل تمكنت من سماع شئ ؟!..
ــ حاولت جاهدا أن أسترق السمع .. لعلى أسمع شيئا أو حتى ألتقط كلمة واحدة دون جدوى .. ذهبت محاولاتى كلها أدراج الرياح ...
ــ لعلك كنت تقف بعيدا عنهما ؟!..
ــ أجل كانا بعيدان عن مجال سمعى .. كما أن حديثهما كان يدور همسا .. غير أنى رأيت شيئا أثار حفيظتى !..
ــ ماذا رأيت .. أيها البائس المسكين ؟!..
ــ رأيت أمير المؤمنين وهو يدس فى يده رسالة معها بعض الأشياء .. تبين لى فيما بعد أنها عقد من الزمرد الخالص وكيس متخم بالدنانير ...
ــ هيه .. وماذا بعد ؟..
ــ فى اليوم التالى توجهت إلى ديوان الإنشاء .. كأنى لم أر شيئا بالأمس ...
ــ وهل تلاقيتما .. أنت .. والفتى جعفر ؟!..
ــ نعم دخلت عليه .. فوجدته يجلس وحده شاردا .. حتى أنه لم يشعر بى وأنا أقف أمامه .. قلت لنفسى أتصنع له وأحتال عليه .. ربما يخبرنى من تلقاء نفسه عن تلك المقابلة وما تم فيها بينه وبين الخليفة المنصور .. بادرته على الفور .. كأنى لم أر أو أسمع شيئا بالأمس ………………
ــ كيف حالك أيها الفتى جعفر ؟!..
ــ من ؟!.. سيدى أبا أيوب ؟!..
ــ أجل أبو أيوب أيها الفتى الشارد .. مالى أراك مهموما هكذا .. وفيم كل هذا الشرود .. هل تعانى من أية متاعب فى صحتك ؟!..
ــ لا .. الحمد لله أنا بخير ...
ــ إذن .. شغلتك إحدى بنات حواء ؟!..
ــ أبدا يا سيدى والله .. لا هذه ولا تلك .. إننى بخير حال .. غير أنى لم أنم ليلة أمس إلا سويعات قليلة .. نلتها فى وقت متأخر من الليل ...
ــ ورسائل الأمس .. هل فرغت منها ؟!..
ــ أجل يا سيدى لم أبرح الديوان ليلة أمس .. إلا بعد أن انتهيت من نسخها وطيها وغلقها ...
ــ رائع .. رائع ...
ثم أردفت بغير اكتراث .. وكأنى أسأل سؤالا عابرا .......
ــ هل يا ترى خرجت من الديوان عائدا إلى دارك فى التو ؟!..
ــ ماذا تعنى يا سيدى ؟!..
ــ لا شئ .. لكن !..
ــ لكن ماذا يا سيدى ؟!..
ــ ألم تذهب إلى أى مكان آخر .. أو .. تلتق بأحد مثلا .. وأنت فى طريقك إلى الدار ؟!..
ظهر عليه الإرتباك والحيره .. وهو يرد على سؤالى بصوت مرتعش مستنكرا قولى .......
ــ أحد .. مثل من !.. لا .. لم ألتق بأحد .. ولم أذهب إلى أى مكان ...
ــ لم الغضب يا بنى .. أنا لا أقصد أحدا بعينه .. لكن تذكر جيدا يا جعفر .. فلربما تكون ناسيا .. مثلا ؟!..
ــ لا .. لم ألتق بأحد ...
ــ تقسم على ذلك ؟!………………
----------
سأله الربيع .......
ــ هل أقر بالحقيقة أم ظل على إنكاره ؟!..
ــ إرتج عليه القول .. وتلجلج لسانه .. ولم يستطع مواصلة الكذب .. إلى أن فاجأته قائلا بنبرة حادة ولهجة قاطعه ………………
ــ لأول مرة تكذب على أيها الفتى .. لا أدرى كيف طوعت لك نفسك أن تنكر عنى أمرا .. أنا الذى وثقت فيك كل هذه السنوات .. وأنزلتك منزلة يغبطك عليها الكثيرون .. ألم تذهب بالأمس إلى ديوان الخليفة المنصور ؟!.. كنت أحسب أنك ستخبرنى بذلك الأمر من تلقاء نفسك .. أم ظننت أنى غافل عما يجرى ها هنا .. إياك أن تظن ذلك ؟!.. أنسيت ما قلته لك بالأمس ؟!.. هيا أخبرنى بكل كلمة دارت بينكما .. وإياك والكذب أو المراوغه ؟!………
عاود الربيع سؤاله .......
ــ وماذا فعل الفتى ؟!..
ــ لم ينطق لسانه بكلمة واحده .. بهت وانعقد لسانه من هول المفاجئه .. وبدا عليه الإرتباك الشديد .. لم يدر بخلده أنى على علم بتلك المقابله .. غادر الغرفة مسرعا .. وتركنى وحدى أضرب كفا بكف .. بعد أن تملكنى غضب شديد وثورة عارمه ...
ــ وماذا فعلت أنت ؟!..
ــ إستدعيت واحدا من رجالى المخلصين .. أمرته أن يتعقبه فى كل مكان يذهب إليه .. لم أنس أن أؤكد عليه ألا يغيب عن عينيه لحظة واحده .. وألا يدعه يغادر بغداد بأية حال .. وإن فعل يأتنى به سالما دون أن يمسه بأذى .. وأيضا دون أن يراه أحد ...
ــ ما الذى دفعك إلى هذا ؟!..
ــ خشيت أن يكون قد أسر بشئ للخليفة المنصور .. وزاد من مخاوفى إنكاره لتلك المقابلة وما دار فيها بينهما ...
ــ كيف إذن لقى حتفه ؟!..
ــ ذلك الغبى الذى أرسلته وراءه .. مع أنى أكدت عليه مشددا إن تمكن منه أن يأتينى به سالما وألا يمسه بسوء .. غير أنه لما رجع من مهمته .. قال لى ..................
ــ ظللت أتعقبه يا سيدى فى كل مكان يذهب إليه .. حتى رأيته يغادر بغداد سالكا طريق الموصل .. سرت وراءه إلى أن وصلنا إلى مكان مهجور لا يرانا فيه أحد .. باغته من الخلف محاولا الإمساك به وتقييد حركته .. غير أنه تمكن من الإفلات من قبضتى .. ولما حاولت مجددا أن أعيد الكرة .. فوجئت به يقاومنى بشدة .. حتى أنه كاد أن ينال منى .. واشتبكنا فى صراع عنيف كاد أن يفلت فيه منى .. فلم أشعر إلا ويداى تلتفان حول عنقه .. إلى أن توقفت أنفاسه وفارق الحياه ...
إختنق أبو أيوب بالبكاء .. حتى لم يعد قادرا على مواصلة حكايته والربيع ينظر إليه فى وجوم .. إلى أن هدأ بعض الشئ ثم قال .......
ــ بعد أن فارق الحياه .. أخذ يفتش فى جيوبه حتى عثر على الرسالة التى أعطاها له المنصور .. ولما قرأت ما فيها مادت الأرض من تحت أقدامى .. ولم أعد أرى شيئا أمامى من هول ما قرأت .. أتدرى ماذا كانت تحوى ؟!..
هز الربيع رأسه يمينا وشمالا .. ناظرا إليه فى ذهول وهو يقول .......
ــ إنها رساله كتبها أمير المؤمنين لامرأة أزدية من الموصل .. فهمت من فحواها أنها أم هذا الفتى .. كان المنصور قد تزوجها سرا أيام شبابه .. فى عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك .. ثم فارقها وهى لا تزال حاملا فى جعفر .. لأنه كان مطاردا من الأمويين .. وترك لها مكتوبا تحضر به إليه عندما تسمع به أميرا للمؤمنين .. غير أنها لم تعر هذا الأمر اهتماما .. وبعد أن أنجبت ولدها أسمته جعفرا كما أوصاها .. ثم ربته فى حجرها ودفعت به إلى مجالس العلم إلى أن صار كاتبا .. لقد عمل عندنا وبقى معنا كل هذه السنوات .. وأنا لا أعلم صلته بأمير المؤمنين .. ولا هو نفسه كان يعلم بذلك ...
قال الربيع معقبا كأنه تذكر أمرا .......
ــ آه .. إنها إذن تلك المرأة التى حضرت إلى هنا منذ أيام .. والتقى بها أمير المؤمنين وحده .. ولما سألته عن شأنها سكت ولم يجبنى .. آه حكاية عجيبة حقا ...
ثم قال يحدث نفسه .......
ــ والأعجب منها .. كيف تعرف هذا الثعلب الماكر على ولده !..
قال ذلك وهو يستدير خارجا .. تاركا أبا أيوب وحده فى هذا المكان الكئيب الموحش .. يندب سوء حظه ويواجه مصيره المحتوم الذى ينتظره ………

يتبع إن شاء الله ........................
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 11h48
رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
طرق مشاهدة الموضوع

تعليمات المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى


جميع الأوقات بتوقيت GMT. الساعة الآن 00h02.


 
Powered by vBulletin - Copyright © 2000 - 2010, Jelsoft Enterprises Ltd