هل من الأصالة في شيءٍ، أن تقدم الأغنية الليبية في سرادق الخيمة الغنائية، وأن تعزف على وقع إيقاعات (الطبيلة والبرول) أم أن ذلك محض (أقلمة) لها، فقد ساد على أغنيتنا المحلية منذ فترة ليست بوجيزة، هذا الطابع الفني الملصق على مظروفها، لحناً وكلمةً، ولما كان المكتوب يبان من عنوانه كما يقولون، صار الأمر يفضي بأي مراقب للأغنية الليبية، إلى أن يحكم بداهةً، على أي عمل ٍ غنائي يعرض خارج الخيمة الغنائية، بأنه غير أصيل، هكذا خبطة عشواء، وما جعل الأغنية الليبية تتأطر ضمن هذا الإطار الضيق، والمنكفئ على ذاته، هو ظهور ثلةٍ من الشعراء الشعبيين،التي قامت بتوظيف الشعر الشعبي في العمل الغنائي الليبي، وأذكر أول ما أذكر منها، رائد هذا التوجه الغنائي وقيدومه، ألا وهو، الشاعر الراحل سليمان الترهوني ومن جاء في ركبه من شعراء تابعين، مثل: علي الكيلاني، وعبد الله منصور، الذين كان وما يزال همهم الغنائي الأول والأخير، هو البحث بطريقة أو بأخرى عن بلاغة الكلمة على حساب التلحين، فنجد كمستمعين، أن ثمة نسبة تفاوت شاسعة بين هذين العنصرين اللازمين، في هذا الضرب من الغناء الذي يقدمونه، نظراً لكونه منسوجاً على ترنيمات أوزان الشعر الشعبي، البالغ عددها ستة عشر وزناً، لا سابع عشر لها، ويبدو هذا واضحاً في طريقة أدائه، حيث إن اللحن يكون فيه ثابتاً، أما الكلمات فهي التي تتغير، ولكن ليس ببعيدٍ عن المضامين المتداولة في هذا الغناء السائد، مثل الهجر والفراق والبكاء على الأطلال، ولست أعني بخصوص العمل الواحد، الأغنية نفسها، فما أعنيه هو، أنك قد تستمع إلى اللحن ذاته في أكثر من عملٍ واحدٍ، مع اختلاف الكلمات فقط.
ففي هذا النمط من الغناء، ليس ثمة أي إبداع كما أرى، فكأنني بالشاعر هنا، ينظر لنفسه خارج ديوانه الشعري فحسب، متخذاً من هكذا غناء مطية ً له، ليروج لشعره بها، من دون أن يأبه لدور الملحن، الذي يفترض بأن يكون شريكه في العمل، رامياً من ذلك إلى إبراز موهبته الشعرية في شكل أغنية، لم تكتمل عناصرها كلها، فالشاعر وكما أسلفت الذكر، ينسج كلماته على منوال الشعر الشعبي، فيكون بذلك قد حجم من دور الملحن، الذي سيقف عاجزاً عن طرح رؤيته اللحنية، فما عساه أن يفعل، سوى الإعداد الموسيقي لها وكفى، وحال حدوث هذا الأمر، يكون الغناء على هذه الوتيرة، نشازاً وشواذاً، لا يمس الغناء العربي الأصيل بوشيجة، لا من قريب ولا من بعيد، فالأصول تقول بأن الشاعر، هو من يختار المضمون، ويعده في شكل كلمات غير مبتذلة، ويقولبها في صيغة تفعيلات وتشطيرات خاصة، تنم عن مقدرة وذكاء فني منه، لأجل أن تغنى، ومحاولاً في الوقت ذاته، أن يفسح المجال للملحن، كي يلقي بدلوه هو الآخر، ليظهر العمل ناضجاً ومتكاملاً، ببعديه الشعري واللحني معاً.
فلا يغرنك يا عزيزي القارئ، يا من يفترض بك أن تكون مستمعاً لهذا الغناء، الشكل الظاهري له - أي - عرضه في كواليس الخيمة الغنائية، وكذلك ما يثار حوله من كلام بخصوص أصالته، فالأصالة لا تكون بالشكل بل بالمضمون، فعليك أن تعرف، بأن كل من يخالف الأصول، ليس بأصيلٍ، وإن أدعى هذا، وقد بينت لك، كيف ينبغي للأصول أن تكون في الغناء، ثم لا تنس بأتك عندما تستمع إلى أية أغنية، تجيء على شاكلة هذا الغناء، ستعرف لحنها الذي تمضي عليه عربة كلماتها، التي قد يصعب حتى على الليبي معرفة مفرداتها وأدراك كينونتها، فهو غناء فقير، لكونه مستهلك اللحن.
نعم فالأغنية الأصيلة تعرف من خلال مضمونها، وليس من شكلها، فأغنية كأغنية الراحل محمود الشريف التي لحنها له الملحن القدير إبراهيم أشرف أظن بأن عنوانها قد تقافز إلى أذهانكم وعرفتموهاِ، نعم هي كذلك، أغنية (يا بيت العيلة يا عالي) ستبقى أصيلة ولو قدمها الراحل على مسارح أوربا وستظل كذلك، وإن غناها هذا الفنان، وهو يرتدي البزة الإفرنجية، لأن أصالتها مستمدة من معرفة مغنيها وملحنها وكاتبها بأصول الغناء العربي القح، وبالمقامات الموسيقية العربية الغنية بها، ولأن هذا التحدي، لن يتحقق بعد رحيل هذا الفنان الأصيل، فإني أطالب المواهب الجديدة بأن تدخل إلى فناء وفصول هذه المدرسة الغنائية، التي افتقدناها، لتعرف ونعرف معها، كم كان غناؤنا أصيل المضمون لا الشكل، ومن دون زيف ولا إدعاء، حتى ولو قدمت هذه الأغنية، بصوت لإحدى هذه المواهب، على مسارح أمريكا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
بقلم : زياد العيساوي / بنغازي