كوكب الشرق أم كلثوم.. الهرم الرابع لمصر
القاهرة - بشير عياد
2008-09-19
يضرب الغناء المصري بجذوره في أعماق التاريخ، ويبدأ من آلاف السنين منذ أن عرف الفراعنة الكلام، وقد سبقوا العالم القديم كله في ابتكار آلاتهم الموسيقية وألحانهم الخاصة، وإن كانوا قد سجلوا -بالرسم- حفلاتهم وهم يغنون ويحتضنون آلاتهم الموسيقية على جدران المعابد، فإن الأيام لم تستطع أن تحفظ لنا تدويناتهم الموسيقية.
وفي العصر الحديث جاءت الحملة الفرنسية وكان من بين آثارها ذلك التأثير المباشر على الموسيقى والغناء، وفي بحر القرن التاسع عشر استورد محمد علي فرق الموسيقى السلطانية من الدولة العثمانية (تركيا) فحدث نوع من الإضافة -وإن كانت سلبية في معظمها- إلى الموسيقات الموجودة، وكان الغناء المصري يكادُ يكون محصورا في التواشيح والمدائح الدينية بأصوات المشايخ وبطاناتهم.
وفي الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر كان عبده الحامولي ومحمد عثمان ومن حولهما يحاولون التخلص من العباءة العثمانية وفرض الزيّ الغنائي المصري، وكانوا -برغم كل الأكبال والمعوّقات- يمهّدون الطريق لسطوع منيرة المهدية وسيد درويش، منيرة كسلطانة للطرب، والشيخ سيد درويش كأوّل ثائر موسيقي مصري يفرض «المصرية» على الساحة الغنائية، ويؤسس لمدرسة ستجعل القرن العشرين مصريا خالصا، وقبيل رحيله الخاطف بزغ نجم أمّ كلثوم، الفتاة القروية القادمة من عمق الريف المصري، والتي ستزيح سلطانة الطرب وكل الأخريات، وتتحول إلى رمز متفرّد يلخّص مصر كلها في القرن العشرين (كوصف فرجينيا دانيلسون في رسالتها للدكتوراه عن أمّ كلثوم).
واليوم، وبعد رحيل أمّ كلثوم بثلث القرن بالتمام، تحتفل فرنسا بـ «الهرم الرابع» على مدار خمسة أشهر في أحضان معهد العالم العربي بباريس، وكانت إشارة البدء في يوم الاثنين، السادس عشر من يونيو الجاري، بحضور فاروق حسني (وزير الثقافة المصري) ودومينيك بوديس (رئيس معهد العالم العربي) بمناسبة مرور مائة عام على ميلاد أمّ كلثوم، ويبدو أنّ الاحتفالية تعتمد عام 1908 عام ميلاد أمّ كلثوم، وهو الثابت في جواز السفر الدبلوماسي الذي منحته مصر للسيدة أمّ كُلثوم، لكن الواقع يقول غير ذلك، ومن خلال بحثي وعملي الدائم في مسيرة أمّ كلثوم وشعرائها، وجدت لها ثمانية تواريخ ميلاد بدءا من 1896 إلى 1910، ورغم أن التاريخ المُعْتَمَد هو تاريخ التسنين الطبي، الرابع من مايو 1904، فإن احتفالية مصر بمئوية أمّ كلثوم جاءت في الثلاثين من ديسمبر 1998م، كما افتتح متحفها في الثامن والعشرين من ديسمبر 2001، على اعتبار أنه في ذكرى ميلادها. أما جواز السفر الدبلوماسي فقد نالته أمّ كلثوم بعد وقفتها البطولية عقب هزيمة 1967 النكراء، وقيامها بعدد من الجولات الغنائية دعما للمجهود الحربي، وكانت باريس من بين محطاتها، وهناك غنت على مسرح الأولمبيا في الثاني عشر من نوفمبر 1967، وشدت بروائعها « إنت عمري»، «الأطلال»، «بعيد عنك»، ويومها بعث إليها شارل ديغول (الرئيس الفرنسي آنذاك) ببرقيته الشهيرة: «سيدتي.. لقد لمست بصوتك شغاف قلبي وقلوب الفرنسيين»، وتدور الأيّام وتختار صحيفة لوموند الفرنسية قصيدة «الأطلال» ضمن أعظم مائة عمل خلال القرن العشرين، وينال السنباطي (بالأطلال) المرتبة السابعة على مستوى العالم!! وها هي باريس تحتفل بمئوية أمّ كلثوم (انطلاقا من تاريخ جواز السفر) وتعطيها وصف «الهرم الرابع» (هذا الوصف الذي أنهكناه من كثرة ما أطلقناه على الكثيرين بدافع التقدير الواجب فعلا، أو بدافع النفاق الممقوت). الاحتفالية متنوعة، والمشاركات متعددة، وعلى هامشه يُقام معرض يضم اثنتين وثلاثين قطعة من محتويات متحف أمّ كلثوم تمثل نماذج من الآلات الموسيقية التي كانت في منزلها، ونماذج من الفساتين التي كانت ترتديها في حفلاتها، ونصوص بعض أغانيها بخط مؤلفيها، وبعض مذكراتها بخطها، وجواز السفر الدبلوماسي، وعدد من القلادات والأوسمة والنياشين التي حصلت عليها، كما شارك عدد من الفنانين التشكيليين بأعمالهم (لمدة أربعة أيام) منهم هدى لطفي، حلمي التوني، محسن شعلان، عادل السيوي، جورج البهجوري، خالد حافظ، ديرنو كارمن، إبراهيم الدسوقي.
كانت أمّ كلثوم جامعة عربية إسلامية، لم تقتصر على غناء أشعار المصريين، ولكن غنت لعمر الخيام (من إيران، توفيَ في 1131م تقريبا، ولكن رامي ترجم رباعياته، وتغنت بخمس عشرة رباعية منها)، ومحمّد إقبال (من باكستان)، كما غنت لعبدالله الفيصل (السعودية)، وأحمد العدواني (الكويت) وجورج جَرداق (لبنان)، ونزار قباني (سوريا)، والهادي آدم (السودان)، وغنت لشعراء قدماء أشهرهم أبوفراس الحمْداني، والعباس بن الأحنف، ونصر الدين الدجاجي، وكانت تسعى لاستكمال المشروع العربي «من كل بلد شاعر» ولكن القدر لم يمهلها.
غنت أمّ كلثوم -بدءا من 1923 إلى 1973م- ما يجاوز مائة قصيدة بالفصحى، منها خمسٌ وثمانون لها تسجيلات معروفة، كما غنت حوالي مائتين وخمسين أغنية بالزجل أو العامية المصرية ضاع منها النزرُ اليسير في بداية المشوار، غنت لخمسة وخمسين شاعرا منهم أربعة مجهولون، وأربعة عشر ملحنا منهم أم كلثوم إذ لحنت لنفسها بعض الألحان. لم تكن أمّ كلثوم مجرّد صوت يصدح بالغناء، ولكنها كانت وطنا لكل المحبين والتائقين إلى كل ما هو أصيل ونبيل.. غنت للعشاق فأسهرتهم وأسكرتهم وواستهم، وغنت للوطن فجعلتنا نشعر بقيمة التراب الذي نمشي عليه، وغنت المدائح الدينية فسافرت بنا إلى النجوم سباحةً فوق غيوم بيضاء وفي عُباب من العطر والصدى، صدحت بالفصحى فجعلتها كساءً شعبيا من المحيط إلى الخليج في وقت كانت فيه الأمية تقترب من حدود التسعين بالمائة، وغنت بالعامية المصرية فحولتها من لهجة محلية دارجة إلى لغة عربية ثانية تصلح وسيطا للتفاهم بين المشرقي والمغربي عندما لا يستطيعان التحدث بالفصحى، وعندما تعجز لهجاتهما المحلية عن الوفاء بالغرض.
كانت أمّ كلثوم تدرك خطورة ما تحمله على عاتقها من مسؤولية وأمانة، فظلت خمسين عاما قابضة على الجمر ولم تسمح لنفسها بالسقوط أو التهاوي، وفي المرة الوحيدة التي جارت فيها السائد وغنت أغنية هابطة، سارعت بعد يومين بالاعتذار وجمعت الاسطوانة من الأسواق (الخلاعة والدلاعة) وتكبدت خسائر فادحة، ولكنها كانت ضريبة الصعود إلى المجد، وكان الدرس الذي جعلها تتأنى عشرات المرات في اختيار الكلمة التي تواجه بها الجمهور، ولذلك أرهقت مؤلفيها وملحنيها إلى الحد الذي لا يُطاق، لم يسلم منهم أحد، بما فيهم أحمد رامي، معلمها الأكبر الذي علمها وثقفها وحولها إلى باحثة في تاريخ الأدب، وعلم النحو، والعَروض، وناقدة تبتلع عشرات الأكاديميين، ولهذا عاش فنها وها هو الزمن يثبت أن فنها هو الأبقى، وها هي الفضائيات تحاصرنا بالعرايا، وتتسابق في مزاد النخاسة الفنية، وها هو الغناء يتحوّل إلى الأداء الجسدي الأقرب إلى الدعارة منه إلى الفن.
رحلت أمّ كلثوم في الثالث من فبراير 1975م، ولكنها ستعيش في قلوب كل الباحثين عن الأصالة والقيمة والاحترام، ستعيش في عقول كل الذين يحترمون عقولهم ولا يتركونها حقول تجارب أو مقالب نفايات يئن فيها غبار الكلام الهابط الممسوس بطعم الرذيلة.
نقلاً عن صحيفة (العرب) القطرية