(((واثق الخطوة يمشي ملكا )))
منذ فترة طويلة كنت أسير في إحدى أسواق القديم والمعروف
في مصر باسم (سوق الجمعة)
وهو عالم فريد جدا وقائم بذاته يمتلئ حقا بالأعاجيب والغرائب التي سنتحدث عنها فيما بعد
كان يوما شديد الحرارة وكنت أسير في منتصف السوق الكبير تقريبا الذي يقع أسفل كوبري التونسي بين المقابر والجبانات ..
فجأة
تسمرت في مكاني ووقفت مشدوها كالتمثال بعد أن وقعت عيناي علي شيئ كنت احلم باقتنائه منذ صغري .. كان عبارة عن آلة عرض سينمائي مقاس (16 مللي) ياباني الصنع
نظرت في وجه البائع المتجهم الدميم الذي كان منشغلا في العراك مع (ذباب وجهه) ..
تأملته بعمق وأحسست لحظتها أنه ليس إنسانا عاديا مثلنا
.. لا..
بل جنيا جميل الصورة له صفات خارقة للعادة .. خرج من قمقمه الصدئ وأتي إلي السوق متخفيا في صورة بائع قديم ليحقق لي أحد أمنياتي العظيمة في الحياة ألا وهي امتلاك جهاز عرض سينمائي ..
وما الذباب الذي يحوم حوله إلا جنيات رقيقة حالمة تنكرت هي الأخرى في هيئة ذباب صيفي بغيض لتلفت نظري إلي المكان الذي يرقد فيه حلمي العظيم ..
تفحصت الجهاز بعيني وكنت أريد أن احتضنه (لكن التقل صنعة)
تقدمت خطوة أخري نحو الجني وقلت له بنبرة اللامبالاة التي أخبرتكم بها قبل ذلك :
- احم .. بكام الجهاز ده يا حج ؟
عرفت بفطنتي فورا أن البائع ذو صفات شخصية خاصة وفريدة جدا فهو لم يعيرني التفاتا وتجاهلني تماما وكأن الذي يقف أمامه كيس شفاف فارغ يمتلئ فقط بالهواء المشبع بالأتربة ..
أو قل (كيس جوافه)
أعدت عليه سؤالي مرة أخري بنبرة قوية وواضحة وجلية لا لبس فيها :
- بكام الجهاز ده ؟
فالتفت نحوي بعينيه الجاحظتين وقال بأقبح صوت خشن يمكن أن تسمعه في حياتك :
- هــه .. عايز حاجه ؟
في الحقيقة كنت أريد أن اصفعه بيدي أو حتي اركله بقدمي من شدة غيظي (أو أعضه) ثم بعد ذلك امضي في طريقي .. واثق الخطوة امشي ملكا ..
لكن كيف اترك حلمي الجميل مع هذا الرجل البعيد كل البعد عن معني الجمال ..
لذلك كظمت غيظي وقلت له بابتسامة عذبة ساحرة تشبه تلك الابتسامة التي شاهدناها جميعا ترتسم علي وجه الديناصور المتوحش في فيلم الحديقة الجوراسية قبل أن يلتهم أحد تجار التحف أو هكذا تمنيت :
-الجهاز ده شغال يا حج ؟
اخرج الجني من حنجرته صوتا يشبه (خرفشة) راديو قديم الطراز يبحث عن موجه ضالة لا يستطيع التقاطها وأدركت بعد نوبة تفكير عميق أنه كان يتنحنح فقط ..
عطس الرجل ثلاث مرات
وحك رأسه مرة
وأخذته نوبة سعال مفاجئة
ثم هداه الله وقال لي أخيرا بصوت يشبه فحيح افعي افريقية حان قطافها :
- أمال حبيعه خربان يا ستاذ.. (بدون ألف)
فقلت له بهدوء قبل أن تجف ابتسامتي المفتعلة وتسقط لأدهسها بأقدامي :
- وده بكام يا حج ؟
رفع البائع عيناه في خشوع نحو السماء وتمتم بكلمات لم افهمها ثم طأطأ رأسه ونظر تجاهي وأخذ يقسم بكل عزيز لديه وبالسماوات وبالأرض وبكل كواكب مجموعتنا الشمسية.. عطارد وبلوتو وأخواتهم .. ثم قال بهدوء مفاجئ:
- في الحقيقة ومنغير حلفان .. لسه مفصول لي بـ550 جنيه وأنا مرضيتش أبيعه .
في الحقيقة لو مرت كلمات هذا الرجل علي جهاز كشف الكذب فبلا أدني شك سيرتج ويرتعش ويتكور وينبعج قبل أن يخرج دخانا كثيفا ويحترق أو علي الأقل ستنتهي صلاحيته للأبد بسبب حجم الكذب الذي تفوه به..
بسرعة استحضرت في رأسي كتاب
(علم الفكاكة ) باب ( فصال التوحفجية ) صفحة (هات وخد )
و قلت له بنبرة قاطعة :
- حادفع فيه 200 جنيه بس .. ينفع .
فقال لي :
- لا .. حدهولك بـ 350.. ماشي يابا .
أخيرا وافق الجني علي بيعه بـ 300 جنيه فقط
كان جهاز العرض السينمائي ثقيلا للغاية
لم أتوقع أبدا أنني استطيع حمل جهاز بهذا الثقل الكبير في يوم من الأيام لكن يبدو أن فرحتي وحماسي الكبيران هما فقط اللذان كانا يحملانه وليس كتفي المسكين ..
كنت أسير ببطء وبصعوبة كبيرة علي أحجار شريط السكك الحديدية في يوم كان شديد الحرارة وكما يقول شاعرنا عبد الرحمن الابندوي
جاعد أنا علي الجسر في الجياله
والرحمة من جلب اللهيب متشاله
نعم اللهيب هو اصدق تعبير عن حرارة ذلك اليوم الرهيب
بعد مسافة كبيرة جدا أو هكذا شعرت وقتها.. استطعت أخيرا أن أصل إلي سيارتي .. وهناك وجدت جنيا آخر كان يقف في انتظاري وهو يدس وجهه في دفتر ويدون شيئا ما..