الزمن
صحا من نومه متثاقلا يحاول جاهدا فتح عينيه رغم بياته الليل كله فى فراشه يغط فى نوم عميق , مال برأسه يمينا جهة النافذة , لمح حزمة من شعاعات الشمس تنفذ من الشراعة وسط الظلام كاشفة عن ذرات من الغبار تبدو وكأنها تتراقص فى حركة لولبية مجنونة متسارعة , مد يده تحت الوسادة يتحسس ساعته العتيقه , إنها من نوع ساعات الجيب القديمة النادرة آلت إليه ميراث أب عن جد , لم تكد عيناه تقع على عقاربها حتى تجهم وجهه وألقى بها جانبا متمتما فى غيظ .... "منك لله يا ساعاتى النقر يا حرامى , ده انت لسه لاهف ثمانيه جنيه من يومين علشان تصلحها وتمسحها , طب استنانى لما اشوف وشك العكر" ..
نادى على امرأته بصوت مرتفع ..."محاسن , يا حاجه محاسن , الساعه عندك كام , لا ساعتى راكنه" ......
جاءه صوتها من المطبخ .... "إنت لسه نايم يا حاج, قوم انت اتأخرت , الساعه دلوقتى .....الساعه ...." .......
مرت لحظات من الصمت أردفت بعدها ... "غريبه .. دا حتى ساعة الحيط كمان واقفه" ...
هز رأسه ممتعضا وأدار مؤشر الراديو محاولا معرفة الوقت من خلال برامجه , فوجئ بجميع المحطات وكأنها على اتفاق ,لا تبث سوى موسيقى خفيفه .. زاد امتعاضه وهو ينهض قائما من فراشه , أثناء تناوله فطوره مع قهوة الصباح وقعت عيناه على لفافة أمامه , أشار بيده إلى امرأته متسائلا ,أجابته وهى تحرك ملعقة السكر فى كوب الشاى ....
... "دى كل الساعات اللى عندنا , ساعتك ,وساعتى ,وساعة الحيطه ,والمنبه بتاع الأولاد" ...
.... "ليه ده كله , مالهم كفى الله الشر ,إيه راكنين كلهم ؟.".....
إكتفت بمط شفتيها مع إشارة قاطعة بيدها تؤكد ظنه ...
أخذ يحدث نفسه ... "الموضوع كده مش طبيعى , معقوله , هو إيه اللى بيجرى فى الدنيا ؟." ......
فتح النافذة مرسلا بصره ناحية دكان الساعاتى فى مواجهة منزله, فوجئ بجمهرة من الناس يتحاورون وقد علت أصواتهم مع صاحب الدكان الذى أغلق أبوابه ...
تناول اللفافة مسرعا وهو فى عجب مما يراه وقبل أن يعبر الطريق تجاه الدكان رأى أحد جيرانه راجعا , سأله فأجاب ....
... "حاجه عجيبه يا حاج ,الناس دى كلها ساعاتها عطلانه ,ولما رحنا للساعاتى لقيناه قافل المحل وواقف قدامه يخبط كف على كف" ....
... "ليه , ساعته هيه كمان راكنه ؟." ...........
... "يا ريت , لما سألناه قال انا ما اقدرشى اعمل لكم أى حاجه , إذا كانت كل الساعات اللى عندى فى المحل واقفه هيه كمان" ..
رجع مسرعا إلى داره وهو يحوقل ويستعيذ بالله وقد بدأ الخوف والوحشة يتسربان إلى نفسه , وقبل أن يهم بصعود درجات سلم الدار , إستدار ميمما صوب المقهى , إنضم إلى جماعة تحلقت حول جهاز الراديو وقد بدا أنهم فى انتظار ما يذيعه عليهم من أخبار , وكل واحد منهم يدلى بدلوه كأنه عليم ببواطن الأمور ......
... "بيقولوا الساعات صابها فيروس من اللى بنسمع عنهم الأيام دى" ....
... "لأ فالح , هو البتاع ده بيصيب الحديد" ....
... "أنا بأه سمعت إنها إشعاعات مش نظيفه من الفضا بيصيب الساعات بس" ....
... "يا سلاااااام , يعنى انت جبت التايهه ,طيب ليه ما يكونش بفعل فاعل , إنت مسمعتش المذيع وهو بيقول إن مجلس الوزرا فى اجتماع عاجل ودائم , والا إيه رأيك يا سيدنا الشيخ ؟." ....
... "ده غضب من ربنا على أفعال البشر , هو اللى بيحصل اليومين دول شويه , سلم يا رب سلم" ....
... "أقطع دراعى إن ماكانتش إسرائيل ورا الملعوب ده" ....
.... "الكلام دا لو لكانت المصيبه دى فى بلدنا بس , أنا لسه سامع قبل ما آجى إن فيه عشرين دوله بلغوا ان عندهم نفس المشكله" .....
.... "لأ دا كده الموضوع مش سهل أبدا , الحكايه أكبر من كل ده يا جماعه , يا رب لطفك" .....
قطع ثرثرتهم توقف الفاصل الموسيقى والمذيع يعلن ....
.... "صرح مصدر مسئول بالخارجيه أن مجلس الأمن دعا لجلسة عاجلة بعد أن أبلغت جميع الدول بنفس المشكله , وقد توقفت حركة الطيران بجميع مطارات العالم والنقل البحرى بعد أن أصيبت جميع أجهزة الحاسوب بالشلل التام , ويعكف حاليا جماعة من علماء الفلك والجيوفيزيقا والميتافيزيقا فى كل دولة ببحث هذه الظاهرة الغريبة ومعرفة أسبابها وتداعياتها" .......
..... "جاءنا الآن ما يلى , صرح مصدر مسئول من غرفة عمليات هيئة الأرصاد الجويه ووزارة البحث العلمى , بأنه من المرجح أن تكون هذه الظاهرة راجعة إلى دخول المجموعة الشمسيه فى مجال مغناطيسى قوى مصدره إحدى المجرات القريبه مما أدى إلى توقف حركة دوران الأرض والمشترى وأورانوس والمريخ , وتجرى الآن حركة تنسيق ضخمه بين جميع المراصد الكبرى فى دول العالم وتبادل فورى للمعلومات وتحليل النتائج أولا بأول .. هنا القاهره" ......
ما كاد المذيع ينتهى من بيانه حتى أصاب الجميع وجوم لا تسمع فيه إلا صوت أنفاسهم المتلاحقة , بينما صاحبنا ينهض قائما متخذا طريقه إلى بيته وهو يتمتم فى سره .... "الكلام ده خطير , معناه إيه ؟. معناه .... مفيش حركه ... يعنى مفيش زمن , يعنى إيه ؟. يعنى اللحظه اللى انا فيها دلوقتى لا تتحرك , أمال اللى حصل النهارده كله حصل ازاى وإمتى لو مفيش زمن .. " ....
أخذ يقلب فى رأسه أحداث اليوم وهو يصعد درجات السلم ثم وقف مكانه فجأة وقد لمعت فى رأسه فكرة , بيد مرتعشة فتح الباب ليجد امرأته لا تزال مكانها تقلب قطعة السكر فى كوب الشاى , جرى إلى النافذة نظر يسارا ناحية دكان الساعاتى ليفاجأ بجمهرة الناس كما رآها تتحلقه على باب دكانه , دار ببصره يمينا ناحية المقهى , رأى الناس كما تركهم جالسون حول جهاز الراديو , ورأى نفسه لا يزال جالسا معهم , إستدار إلى غرفة نومه , فتح الباب وماكادت عيناه تقع على سريره حتى مادت به الأرض ووقع مغشيا عليه .........
لم يدر بنفسه إلا وامرأته جالسة إلى جواره تمسح بمنديل مشبع بالماء البارد على جبهته لتخفف من آثار الحمى وعلى رأسه قربة ثلج .....
... "حمد الله على سلامتك يا حاج , ألف بعد الشر عليك" ...
... "أنا فين , هو فيه إيه يا حاجه , هيه الساعه عندك كام ؟."
......تمت .............
وربنا يستر
أنس ................. 16 رمضان 1430