الريح تزأر وليل بارد قارس
نراها تأتي من بعيد تجر نفسها جراً إلينا ، فتاة بائسة في مقتبل العمر تدخل ذلك المطعم الصغير .. لعلها تحصل على بعض الدفء تدفع الباب بضعف ووهن شديدين ، فيحاصرها الناس بنظرات فضولية .. نظرات مؤلمة !
تجلس على تلك المائدة البعيدة ، تجلس في الظل كما لو كانت تتمنى أن تبتلعها تلك الظلال .
ترتجف ، ترتعش لا إرادياً من شدة البرد .. تدلك أطرافها المتجمدة لعلها تستطيع تحريكهم .. وكيف لا وهي لا ترتدي سوى ثياب صيفية بالية لا تصد عنها ريح أو برد و لا تمدها بأي دفء !
تنظر إلى المائدة أمامها فتشتاق إلى شراب ساخن يدفئ روحها ، بيد مهتزة خوفاً وبرداً تمسك ذلك الكتيب الذي يحوي قائمة الطعام والشراب و ... الأسعار .
ترده إلى مكانه بسرعة .. حتى المياه لن تقدر على دفع ثمنها التي يتجاوز سعرها الجنيهات القليلة جداً معها .. تسمع من بعيد ضحكة طفل يجلس بين والديه فتنظر إليهم كيف هم سعداء ؟ .. وفي دفء وأمان ؟!
ضحكة أخرى ويقول الطفل بسعادة كبيرة : ( أمي ، أبي .. انظرا الثلج يتساقط ! )
فينظر الجميع في سرور بينما يرتسم على وجهها الهلع والفزع ثلج ؟ ، كيف ستخرج فيه إنها لا تقوى على الحركة وهي في الداخل فماذا ستفعل عندما تخرج ؟؟
تأتي نادلة المطعم وتقول في صبر نافذ : ( ها .. ماذا ؟ ، هل ستطلبين شيئاً أم ستكتفين بالنظر ؟؟) ينادي عليها احدهم فتقول لها:( سأذهب لأرى ماذا يريد وأعود إليكِ .. )
تبتعد النادلة وتتنفس هي الصعداء ، تنظر إلى باب المطعم تحبس دموعها بأقصى ما لديها من قوة تنهض وبخطى مترددة تقترب منه ، تفتح الباب برفق فيقابلها هواء يقطع جسدها وأوصالها كالسكاكين الحادة تأخذ أول خطوة وهي تنحني مع وطأة الرياح ، يغلق الباب خلفها وتعلم أنه قد فات أوان العودة إلى الداخل .
تمشي ، خطوة تلو الأخرى والجليد ينهال على رأسها مؤلماً إياها ، والرياح تدفعها بقسوة فتسقط ما بين الحين والآخر حتى تخور قواها وتنفجر في البكاء ، بكاء يمزق نياط القلب .
وتقول : ( آه ... لا استطيع الاحتمال أكثر من هذا ، يا إلهي ساعدني ، لم أعد أقوى على النهوض ، أريد فقط أن أنام .. ) تغمض عينيها وهي ملقاة على الأرض الباردة وتشعر بوخز وظلام يلتفان حولها .
فجأة تفتح عينيها بسرعة وتعتدل ، تلتقط شيء ما من الأرض وتبكي بسعادة هذه المرة وتقول : ( يا إلهي ..... أشكرك يا كريم ، ألف حمد وشكر إليك )
تبكي وتبكي وهي تحتضن تلك الورقة .. ورقة نقود من فئة المائة جنيه !!!وتذهب مسرعة إلى ذلك المطعم لتطلب شرابها الساخن ، مع أن روحها قد شعرت بالدفء منذ الآن !!