رد: عبد الوهاب أكومي .
المدخل
إن ما يعوق طريق إي باحث في أي مجال هو قلة المعلومة و المرجع الأدبي و التاريخي و هذا حال الباحث في الموسيقى المغربية العصرية. و رغم بعض المحاولات النادرة لتوثيق هذا التراث المغربي المشرق من التاريخ الفني و الحضاري للمغرب. و قد اطلعت شخصيا على بعض المحاولات الفردية لتوثيق هذا الإرث الفني للموسيقى العصرية المغربية و التي تفتقر بدورها للمرجعية التاريخية و الأدبية في أسلوب سردي لمراحل النشأة و التكوين في بدايتها . إن الدارس و الباحث في الموسيقى العصرية المغربية يجد نفسه أمام صرح ثقافي و حضاري كبير يجعله يطرح أكثر من سؤال عن ظروف النشأة و كيف مرت مراحل التكوين لشخصية هذا الفن الموسيقي المغربي و من كان وراء بنيان هذا الصرح الفني الزاهر الذي سيظل شاهدا على عظمة الفن المغربي و حضارته في هذا المجال لما له من غناء و تنوع.
في بداية الثلاثينات من القرن الماضي عرف المغرب حركة موسيقية جديدة تحاكي مثيلتها في مصر على عهد الموسيقار سيد درويش و الموسيقار محمد القصبجي و الموسيقار محمد عبد الوهاب شعارها الحداثة والتميز عن الموسيقى التقليدية القديمة. دون أن المساس بالموروث الموسيقي المغربي و الأندلسي للمغرب. بل وظفته في إبداع روائع أغنية مغربية حديثة.
إن مصطلح الأغنية العصرية المغربية يطلق على مرحلة جديد من تاريخ الموسيقى المغربية الزاخر بالتنوع الموسيقي وعرفت الأغنية المغربية العصرية فترة ازدهار هذه المرحلة دامت زهاء ثلاثة عقود منذ منتصف الخمسينات إلى أوائل الثمانينات من القرن الماضي.
مرحلة ما قبل التأسيس
لقد أجمعت كل الدراسات و البحوث على أن هذه المرحلة من تاريخ الموسيقى المغربية تميزت بأسلوب التقليد للموسيقى الشرقية الذي أبدع فيه نخبة من المواهب المغربية آنذاك و لكن الانطلاقة الفعلية لتأسيس حركة موسيقية عصرية جديدة تعود للرائد الفنان المغربي الحسين السلاوي الذي أعتبره شخصيا الأب الروحي للموسيقى العصرية المغربية بحيث خلق نوعا جديدا من الموسيقى يعتمد لغة مغربية تتغنى بحياة الإنسان المغربي في أسلوب عامي مستوحى من التراث المغربي الأصيل. و قد لعب الرائد الحسن السلاوي دورا كبيرا في تسهيل عملية الانتقال من مرحلة التقليد الأعمى إلى مرحلة الإبداع و المنافسة على خلق منتوج موسيقي محلي مغربي كلمة و لحنا و غناء. و يعتبر الجوق الموسيقي للحسين السلاوي اللبنة الأولى في صرح بناء أجواق موسيقية مغربية في جل ربوع المغرب تحت قيادات فنية مهمة ستؤثر في تاريخ الموسيقى العصرية المغربية لاحقا. هذه الأجواق التي سيتم حلها لخلق أول جوق موسيقي عصري للمغرب بمبادرة من المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة سنة 1959 الذي كان مديرا عام للإذاعة و التلفزة المغربية.
إن عملية التجديد في الموسيقى المغربية العصرية كانت بمبادرة كريمة من الملك الراحل محمد الخامس قدس الله روحه في بداية الثلاثينيات من القرن المنصرم تمثلت في تأسيس ”الجوق الملكي للموسيقى العصرية”. وأسندت رئاسته للملحن والعازف المصري مرسي بركات الذي كان قد قدم إلى المغرب أيام السلطان المولى عبد العزيز بن الحسن ( ولد 1878 في فاس و توفي 1943) وكان من بين عناصر هذا الجوق فنانون أمثال أحمد البيضاوي ( التحق الموسيقار أحمد البيضاوي بالجوق الملكي سنة 1938) و العازف الكبير محمد سميرس و الرائد الملحن عباس الخياطي ومحمد القزوي، والحاج عبد القادر بن صالح. وقد كان للأستاذ مرسي بركات الفضل في إرساء قواعد التأليف الشرقي وتلقين أصول الموسيقى العربية لهؤلاء المغاربة الذين شكلوا الجيل الأول من رواد الأغنية المغربية العصرية الذين تبنوا مدرسة التلحين الشرقية مدة من الزمن ليؤسسوا لأنفسهم نمط جديد و ابتكار قوالب لحنية مغربية جديدة بعد الاستقلال.
و بهذه المبادرة الملكية دشن المغاربة لمرحلة جديدة من تاريخ المغرب الفني أطلق عليها الأغنية المغربية العصرية. فكان للجوق الملكي للموسيقى العصرية نصيب كبير في إحياء العديد من المناسبات و خاصة تخليد عيد العرش بصفته أحسن جوق إلى حدود تلك الفترة نظرا لما يتوفر عليه من أجود الفنانين و العازفين.
في سنة 1950 كانت الحركة الموسيقية المغربية قد عرفت تطور ملموس على صعيد المدن المغربية. فتأسس على يد الأستاذ عبد النبي الجراري بمدينة الرباط أول جوق عصري خارج الأسوار الملكية تحت إسم جوق الاتحاد الفني الرباطي سنة 1949 وكان من أفراده الأستاذ عبد القادر الراشدي ، الأستاذ إسماعيل أحمد، الأستاذ أحمد محمد بن خرابة، الأستاذ إبراهيم بن عبد الله، الأستاذ عبد الكريم بوهلال، المكي رايسي، أحمد البيضاوي، أحمد جبران، أحمد الشجعي، إبراهيم العلمي، محمد فويتح، العربي الكوكبي، العباس الخياطي، عبد الوهاب أكومي و آخرون. و قد ترك عبد النبي الجراري قولته الشهيرة ( من السهل على الإنسان أن يقف متحدثا عن الموهبة، لكن من الصعب عليه أن يكشف خبايا ومكامن تلك الموهبة ).
غير أن مسيرة بناء صرح موسيقي مغربي حديث هيأت لميلاد جوق الطرب العصري التابع للإذاعة المركزية بالرباط سنة 1952 الذي ترأسه الموسيقار أحمد البيضاوي ليضم لهذا الجوق أمهر العازفين و المطربين الذين أصبحت أسماؤهم وازنة في الساحة الموسيقية المغربية، كأحمد البيضاوي رائد القصيدة المتأثر بالأسلوب الغنائي الشرقي ، و محمد فويتح، والأخوان الخياطي. فكان هذا الجوق بداية حقيقية لمشروع حداتي سيعطي أكله فيما بعد.
و حكى مرة الملحن محمد المزكلدي أحد أفراد جوق الشعاع أنه في تلك الفترة كانت أجهزة الاستعلامات الفرنسية أنشأت إذاعة كانت تبث فقراتها بشكل أسبوعي من "دار السلاح" بمدينة فاس، و عندما علم مسؤولي هذه الإذاعة بجوق "الشعاع الفني" الذي كان يرأسه الراحل محمد فويتح، فبعثوا أحد المسؤولين وطلب من أفراد الجوق تقديم حصة أسبوعية بهذه الإذاعة، تهم المغرب كله، فطلب منه هؤلاء مهلة للتفكير في الموضوع. واستشار أفراد جوق "الشعاع الفني" مع بعض رجال الحركة الوطنية بفاس، في شأن الدعوة التي تلقوها من قبل مسؤولي إذاعة "دار السلاح"، خاصة أنها تابعة لجهاز الاستعلامات الفرنسية، فتلقوا الإشارة بالاشتغال فيها. وهكذا وجد المزكلدي نفسه يقدم فقرات غنائية رفقة جوق "الشعاع الفني" بهذه الإذاعة، ويذكر أنه في إحدى المرات غنى أغنية عبد الوهاب "يا شراعا وراء دجلة" وبعد انتهائه من الغناء، وبينما هو يتجول هو ورفاقه من أعضاء الجوق بالمدينة القديمة بفاس، سألهم بعض الناس إن كان عبد الوهاب أتى فعلا ل"دار السلاح" وغنى فيها، إذ قلده المزكلدي في تلك الأغنية لدرجة أن الأمر التبس على المستمعين.
كما لا ننسى الدور الفعال الذي لعبه جوق الميتم البيضاوي من دور في تعزيز بناء صرح الأغنية المغربية العصرية لمؤسسه المعلم أحمد زنيبر والذي تعلم على يده عدد من العازفين مثل : الأستاذ صلاح الشرقي الأستاذ عمر الطنطاوي و عازف الرق الأول بالمغرب الأستاذ محمد كرم الأستاذ محمد السميرس الأستاذ مصطفى الحريري الأستاذ رحال عبد العزيز سباعي و اللائحة طويلة.
سأحاول تتمة هذه المداخلة في القريب العاجل إنشاء الله
بقلم الباحث الأستاذ عزوز الحوري = بروكسيل
|
العرض الشجري