31/05/2009
مفترق طرق
وائل عبدالفتاح
لا أقصد طه حسين.
ولا الأديب الأرجنتيني بورخيس الذي أحب كتاباته وعرفته من مقال مكتوب تحت نفس العنوان.
أقصد الشيخ إمام.
بعد أيام تمر ذكري رحيله.. ربما لا يتذكرها الكثيرون لأن الشيخ إمام بالنسبة لهم مازال حيًا وموسيقاه تنتقل من جيل إلي جيل.. ومع كل جيل تتخلص من الفكرة الضيقة للمغني السياسي المعارض لنظام السادات والمطارد مع رفيق رحلته أحمد فؤاد نجم.
تبقي موسيقي الشيخ مثل كنز معتق تزداد قيمته كلما قدم.
أراه كذلك الآن بعد أن تحول هو ونجم إلي أسطورة الشباب في السبعينيات.
وحجرته التائهة في بيوت قديمة كانت عاصمة الغضب.
تحت هذه الصورة يبدو إمام عيسي رجلاً يحب الملذات. يبحث عنها بالحواس السليمة بعدما ضاع النظر بقوة الخرافة الجاهلة. أراه مثل مغني جاز اشتركت حياته في صناعة الحضور الساحر لموسيقاه. لا أعرف لماذا..؟ ربما لأنني أحب سيرة مغني الجاز. أراهم صنعوا من تاريخ الألم موسيقي تورث علاماتها الغائرة علي الأرواح المرهقة.. جيل وراء جيل. الشيخ الهارب دائما من مصيره المنتظر. بارع في الانفلات من عالم مكتمل. قراءة القرآن في الإذاعة أو علي ناصية المقابر. أو أسطي الاحتجاج السياسي. كلما حاصرته الاختصارات في حياته أو موته أفلت بأعجوبة، يمكن أن نسميها القوة الشخصية وسيسميها عموم المصريين: بركة العواجز.. ربما سحر الشيخ في أنه لا يحب الحافة. لا هو ثائر صارخ ولا هو مستسلم للوقوف في طابور طويل.
قريته (كفر النمرس) أصبحت مشهورة الآن به. اكتشف موسيقي بين طيات النص المقدس. وعرف أن الصوت ينير الطريق لكائنات محبوسة في غرفة مظلمة. رحلته هادئة.. صنعت تحولات عنيفة.. ترك أحمد فؤاد نجم كتابة أغاني لمشجعي كرة القدم والعشاق الذين يبحثون عن موصل جيد للعواطف.. واتفق مع المغني القادم من سلالة الشيخ زكريا أحمد.. علي بداية مختلفة لا تشبههما. عكس المسار. وبثقافة خفيفة تعتمد علي حس شعبي غامض بالتمرد علي كل سلطة. اكتشف الشيخ الطريق الذي حفره شيخ آخر خلع قبله العمامة والكاكولة التقليدية لشيوخ الأزهر. اختار إمام إذن أن ينتمي إلي سلالة سيد درويش. لكنه بمزاج الستينيات اللاذع. الشيخ عثر علي الجزء الضائع من نفسه في يسارية فطرية. دون أفكار كبيرة. خشنة. متقشفة. تخلط مزاج التحريض بهجاء أخلاقي شعبي. هذه هي الأشعار. لكن الموسيقي كانت في رحلة أخري. تبحث عن أسلاف غائبين. موسيقي دائمة لكلمات تبدو يومية وعابرة في هجاء اللحظة الساخنة.
رحلة إمام تختصر أحيانًا في المطاردة السياسية من أمن دولة عبدالناصر إلي السادات. لكنها ليست كذلك تمتم هو: مغني جوال. أصبحت حجرته عاصمة الغضب. ومقر تجمع مجنونات البرجوازية المفتونين بالمذاق الشعبي الحارق. كوّن عائلة جديدة هو ونجم ومتطوعون أصبحوا شركاء. عائلة تتعارك. وتختلف علي أشياء بسيطة من اقتسام الشهرة إلي المال. طارت الخلافات وبقيت الذكريات.
عالقة في حجرات وبيوت كأنها محطات اكتشاف لجوقة واسعة. متجددة. الجمهور يتجول إلي جوقة. والجوقة تذوب لتصبح جمهورًا يحمل طرائف عن العاجز الذي يضحك علي العجز. عجزه الشخصي وعجز سياسي كامل الأوصاف.
ألحان إمام سافرت خارج الحجرة والرفاق المتجمعين حول أعجوبة الستينيات: نجم وإمام. كلما بدا أن زمنه انتهي. يظهر من جديد ليس علي موجة الهجاء السياسي الحالية التي تستعيد ربيرتوار الستينيات كما يحدث مع نجم. بل إن موسيقي إمام عابرة أكثر. تستيقظ طريقته في الغناء وألحانه كأنها مقيمة في منطقة عميقة لا يمكن اختصارها أو وضعها في مخزن تحت لافتة: الأغنية السياسية. أو معارضة الأنظمة الجبارة.
موسيقي هاربة من استهلاك البضاعة الشعبية. تتجاوز تصنيفها. وتمنح للغضب صورته الحيوية. لا نموذج الصلابة المتخيلة بل موسيقة تلاحق الحواس المهجورة. المشحونة بسخرية ودلال وألعاب في الحياة تشبه صاحبها الشغوف مرة أخري بالملذات الذي لم يكن يخفي الولع لا بالنساء ولا بالطعام.. لم يحب صناعته مثالاً للزهد.. إنه مقتنص المتع المحرمة. ومن بينها متعة الغضب والاحتجاج.. وتحويل الزنزانة إلي جزيرة للمطرودين. هكذا قاد الأعمي مبصرين حرمتهم الحياة من القدرة علي مغامرة بدون حساب.
في النهاية لابد من اعتراف بأنني كنت أنوي الكتابة عن عادل إمام.. لكنني وجدت الشيخ إمام يقفز بكامل هيئته.. أين عادل إمام؟
أين الزعيم الذي يعيش أيامًا صعبة؟
أين نجم النجوم الذي يظهر علي الشاشة ليعلن أن سنده في الحياة هو الرئيس؟
ربما أعود إليه.
__________________
د. هشام سعيدي