صباح

[عبد القادر رشيد مسلماني]

الشحرورة صباح دخلت تاريخ الغناء العربي
الياس سحاب/مجلة دبي الثقافية/العدد: 81
تنتمي المطربة والممثلة اللبنانية المشهورة باسم صباح (اسمها الأصلي جانيت فغالي)، إلى نمطين من الفنانين العرب، الذين عرفوا درجة عالية من الشهرة والنجاح في القرن العشرين. النمط الأول، هو أنها واحدة من مجموعة من الفنانين اللبنانيين، الذين عبروا سلم المجد في القاهرة درجة درجة، على موجة اندفاعهم مع موسم الهجرة الفنية من بيروت إلى القاهرة، في النصف الأول والنصف الثاني من عقد الأربعينيات. ومن الأسماء اللامعة في هذه المجموعة: نور الهدى، صباح، سعاد محمد، نجاح سلام، وديع الصافي. وكانت قد سبقت كل هؤلاء في موسم الهجرة إلى القاهرة المطربة الشهيرة لور دكاش.

يختلف أفراد هذه المجموعة في طول وعمق الانتماء الفني إلى النهضة الفنية العربية في مصر، بعد درجات النجاح الأولى. فوديع الصافي مثلاً، عاد من القاهرة بخفي حنين، لأن مواهبه الصوتية كانت أهم كثيراً من مواهبه التمثيلية، فلم يستطع الالتحاق بركب الأفلام الغنائية، التي كانت في تلك الأيام، السلم المضمون إلى الشهرة والمجد.
لكن تاريخ الهجرة الفنية اللبنانية إلى القاهرة، يقول لنا إن اثنتين من أفراد هذه المجموعة عرفتا طريق الشهرة السريعة، بل العاصفة، منذ بداياتهما السينمائية الأولى، وهما نور الهدى، عبر فيلم «جوهرة»، وصباح عبر فيلم «القلب له واحد». فتحولت الفنانتان اللبنانيتان بعد هذين الفيلمين، إلى المنافسة الجدية للمطربة المصرية ليلى مراد، على عرش الأغنية السينمائية، بعد توقف أم كلثوم المبكر عن خوض ميدان السينما الغنائية (في العام 1947)، ورحيل المطربة العظيمة أسمهان في صيف العام 1944.
لكن صباح تميزت على نور الهدى بعد ذلك، أن الثانية اكتفت بعشر سنوات متواصلة من النجاح في القاهرة (1943- 1953)، عادت أدراجها بعدها إلى بيروت، قاطعة بذلك نهائياً كل صلاتها الفنية بعاصمة الفن العربي.
أما صباح، فقد اندمجت في أجواء نجاحها المصري، حتى صارت تقضي أوقاتها بين القاهرة وبيروت. ورغم أن هذا التواصل انقطع في وقت لاحق بعد تقدم صباح في السن، واعتزالها التمثيل والغناء، فقررت تمضية سنواتها الأخيرة في وطنها الأول لبنان، فإن علاقتها بالجمهور المصري لم تنقطع حتى يومنا هذا. بدليل أن المسلسل الاخير الذي يروي قصة حياتها بعنوان الشحرورة، قد لقي نجاحه الأكبر لدى جماهير المشاهدين المصريين، الذين سرعان ما تذكروا نجمتهم المحبوبة جداً، فشدت إليهم الرحال من بيروت إلى القاهرة، لتلقى آيات التكريم، وتقدم لهم فاصلاً قصيراً من الغناء، وهي في عز شيخوختها.
وهكذا تكون صباح إحدى أكثر أفراد المجموعة اللبنانية المهاجرة إلى القاهرة، تعلقاً بعلاقتها مع الجمهور المصري، قديماً وحديثاً، مذكرة بذلك بموقف فريد الأطرش الذي مات في بيروت ودفن في القاهرة بناء على وصيته. بل إنها اندمجت في حياتها المصرية إلى درجة الزواج ثلاث مرات (أنور منسي، وأحمد فراج، ورشدي أباظة) من مصريين، كان الأول أنور منسي، والد ابنتها الوحيدة هويدا.
أما الفئة الثانية من الفنانات، التي تنتمي إليها الفنانة الكبيرة صباح، فهي فئة الفنانات اللواتي امتهنّ فن الغناء وفن التمثيل بالدرجة نفسها، مثل نور الهدى وليلى مراد وشادية، حتى ليبدو موقعهن لدى الجمهور محيراً بين الاثنين: هل اكتسبن الجماهيرية لسبب الإبداع في الغناء، أم النجاح في التمثيل. بالنسبة لصباح، يمكن القول بعد أن وصلت مرحلة الاعتزال الفني، أن شهرتها الطاغية كممثلة خفيفة الظل، شاركت بأفلام جماهيرية شهيرة مع المطربين سعد عبد الوهاب ومحمد فوزي، وفريد الأطرش، قد طغى على موقعها كمطربة كبيرة لها إسهامات جدية في نماذج شديدة النجاح من الأغنيات اللبنانية والمصرية، على حد سواء.
ودليلنا على ذلك أن الفنانة صباح، في كل مقابلاتها الإذاعية والتلفزيونية والصحافية، كانت دائماً تميل إلى الحديث عن حياتها كممثلة، أكثر من الحديث عن إنجازاتها في عالم الموسيقا والغناء. مع أنه لم يبق ملحن كبير في القاهرة أو بيروت، لم يزود صوت صباح، بأنجح الألحان. كذلك، فإن المسلسل الأخير الذي قدم قصة حياتها، ركز على دورها كممثلة ناجحة، وكإنسان معذب في حياته، أكثر مما ركز على إلقاء الأضواء على إنجازاتها في عالم الغناء، حتى إن المسلسل أغفل ذكر عدد كبير من أهم ما قدمت صباح من أغنيات في حياتها.
بدأت صباح تتلقى أصول الغناء اللبناني الفولكلوري الأصيل، على يدي عمها أسعد الفغالي (شحرور الوادي)، أحد أشهر الزجالين اللبنانيين التاريخيين. ومعروف أن فن الزجل، في لبنان بالذات، لا يعتمد فقط على سرعة البديهة، لكنه يعتمد بشدة على أن يقدم على شكل غناء مرتجل، بناء على قوالب فنية معروفة، تحدد الشكل الشعري والشكل الغنائي. وقد ألمح المسلسل بسرعة إلى علاقتها الإنسانية بعمها أسعد الفغالي (شحرور الوادي) لكنه لم يركز على العلاقة الفنية بينهما، وكانت هي الأهم برأيي.
بعد ذلك، راحت المغنية الصغيرة (جانيت) ترتشف نماذج الغناء الجميل من خلال المذياع، فتحفظ أغنيات ليلى مراد وعبد الوهاب وفريد الأطرش، وهكذا، فقد حددت الينابيع التي رشفت منها صباح أصول الغناء، وهي طفلة صغيرة، حددت سلفاً أن تكون علاقتها على قدم المساواة بالغناء اللبناني، والغناء المصري. فجاءت حياتها الفنية بعد ذلك، تؤكد أنها لعبت دوراً بارزاً في نهضة الأغنية اللبنانية المعاصرة، كما في نهضة الأغنية السينمائية المصرية.
ولعل أغزر عطاء لصباح في مجال الأغنية اللبنانية، جاء عبر مشاركتها المطرب الكبير وديع الصافي الغناء، في أكثر من عمل مشترك، حتى إن المطرب الكبير وديع الصافي، كان وما زال يصرح في كثير من أحاديثه أنه يكون أكثر ارتياحاً في أداء ألوان الغناء اللبناني الأصيل، عندما تكون صباح شريكته في الغناء. كذلك فإن صباح، التي حظيت بألحان لبنانية من الأخوين رحباني وعفيف رضوان وزكي ناصيف ووليد غلمية وعصام رجي وإيلي شويري، فإن مساهمتها الأكبر والأبرز في تاريخ الأغنية اللبنانية، كانت من خلال تعاونها الغزير مع عبقري الأغنية اللبنانية فيلمون وهبي. وكلا هذين التعاونين الكبيرين (مع وديع الصافي، ومع فيلمون وهبي) لم يشر إليهما مسلسل «الشحرورة» ولو إشارة عابرة.
كذلك لم يشر المسلسل إلى سلسلة الألحان لبنانية الطابع، التي صاغها خصيصاً لحنجرة المطربة الكبيرة صباح، الموسيقار محمد عبد الوهاب، وأشهرها أغنية «عالضيعة»، وآخرها أغنية «كل ما بشوفك». وقد كان عبدالوهاب يعتمد في كل هذه الألحان، التي بلغت الخمسة، على استيحاء الفلكلور اللبناني الموسيقي، فيستعير منه جملاً موسيقية قصيرة، ويبني عليها ألحانه اللبنانية لصباح.
وخلاصة القول في تجربة صباح في أداء الألوان الغنائية اللبنانية، أنه مع امتلاء تاريخ الغناء اللبناني بأصوات كبيرة وشهيرة، لكنه من الثابت أننا إذا بحثنا عن أفضل الأصوات النسائية، التي أدت الألوان الفلكلورية اللبنانية الأصيلة مثل المعنى والعتابا والميجانا وأبو الزلف، فإن صوت صباح يقف حتماً في مقدمة الأصوات النسائية، التي أدت هذه الألوان باقتدار يصل إلى حدود العبقرية الغنائية.
كما حدث مع سعاد محمد، ونور الهدى، عندما بدأتا الغناء في مصر، حدث مع صباح أيضاً، من حيث إن البداية كانت كبيرة. فقد التفت لصوت صباح أول ما التفت في أغنياتها السينمائية، ملحنون عباقرة من وزن رياض السنباطي ومحمد القصبجي وزكريا أحمد. وبعد ذلك فتحت أبواب التعامل واسعة بين صوت صباح، وألحان كل من محمد عبد الوهاب ومحمد فوزي وفريد الأطرش، ثم جاءت مرحلة كمال الطويل ومحمد الموجي ومنير مراد وبليغ حمدي وسيد مكاوي وسواهم.
من هنا، فإن تجربة صباح في أداء ألحان الملحنين المصريين، جاءت على غزارة وتنوع هائل، بحيث تشكل تجربة صباح في الغناء في القاهرة، تجربة غنائية هامة، تستحق التوقف عندها بدراسات مطولة ومعمقة، تتجاوز مجرد الاهتمام بخفة ظل صباح الشهيرة كممثلة سينمائية، لعبت أدواراً ناجحة في عدد كبير من الأفلام التي لقيت نجاحاً جماهيرياً حاشداً. ومن تجارب صباح الغنائية الهامة في مصر، التي لم يتطرق إليها المسلسل، تجربتها الفريدة مع ألحان محمد عبد الوهاب في فيلم «سبوني أغني»، حيث قدم لها الموسيقار الكبير ثلاثة ألحان، ينتمي إثنان منها إلى نمط الموسيقا العربية الكلاسيكية، هما «الرقص نغم» و«يا ورد يا زرع إيديا». كما اختارها عبد الوهاب لأداء المقطع الخاص بالوحدة العربية في نشيده الجماعي الشهير«الوطن الأكبر».
كذلك يلفت الانتباه تجربة صباح في أداء الألحان العذبة لفريد الأطرش في فيلمهما المبكر «بلبل أفندي». بعد ذلك أبدع محمد فوزي تلحين عدد من أجمل الأغنيات لصباح، خصوصاً في فيلمي «الآنسة ماما» و«الحب في خطر». ثم جاء دور كمال الطويل في لحنه البديع لصباح «مال الهوى»، الذي كتب كلامه البديع الشاعر مرسي جميل عزيز، في معارضة أدبية بالعامية المصرية لقصيدة بشارة الخوري الفصحى «أتت هند يوماً إلى أمها» ثم دور محمد الموجي في عدد من ألحانه الرائعة ذات الطابع المصري الشعبي، على نسق أغنية «الغاوي ينقط بطاقيته» ثم لحن سيد مكاوي الطروب «أنا هنا يا ابن الحلال» على شعر لصلاح جاهين، إلى أن جاء دور بليغ حمدي في عدد من الأغنيات الناجحة جماهرياً (مثل يانا يانا) وكذلك لحن جمال سلامة الناجح في الأيام الأخيرة لقدرة صباح على الغناء: «ساعات ساعات». ولا ندري لماذا ركز المسلسل على هذا اللحن، كأنه أهم ما غنت صباح في حياتها، مع أنه حتماً أحد أغنياتها الناجحة.
وقد ظهرت لصباح في مرحلتها المصرية، أربع أغنيات عرفت انتشاراً جماهيرياً مدهشاً، هي على التوالي: «بين الأهلي والزمالك» (لحن محمد عبد الوهاب) و«حبيبة أمها» (ألحان فريد الأطرش) «الراجل دا حا يجنني» (ألحان محمد الموجي) التي تحكي تململ الزوجة من شراهة زوجها على مائدة الإفطار في شهر رمضان الكريم، وكل هذه الأغنيات من كلمات الشاعر حسين السيد. أما الأغنية الرابعة ذائعة الصيت فهي من ألحان محمد عبد الوهاب (سنة حلوة يا جميل) على كلمات للشاعر اللبناني محمد علي فتوح.
إن ما قدمته صباح من مساهمات في أغنياتها اللبنانية، ثم أغنياتها المصرية، دخل تاريخ الغناء العربي الجميل في البلدين العربيين، بدرجة تستحق منا مزيداً من العمق في بحث نتاج الموهبة الغنائية لصباح، أكثر من تلهينا بخفة ظلها كممثلة أو أناقتها كسيدة مجتمع.