رد: كم اناديك..(يا أم كلثوم)
ولم أكن أعرف أن الأذن تري إلا بعد أن أصبحت ليلة الخميس التي تطل فيها نجمة الشرق أم كلثوم علي الناس ليلة مقدسة.. ليلة يتحول فيها الهواء إلي نغم والأنفاس إلي دندنة والقمر إلي رغيف محبة والليل إلي مظلة أمان والناس إلي أصابع في قبضة المودة, وأبي إلي مخلوق رومانسي.. ليلة تتمشي فيها الطمأنينة والرضا في شوارع القاهرة وحواريها وأزقة القري ودروب النجوع.. في بيتنا ــ مثل آلاف البيوت ــ كنا نعيش طقس استقبال أم كلثوم في حفلها الشهري مبكرا.. نتولي نحن الصغار إعداد كل شيء باستثناء الاقتراب من مربع الراديو التليفونكن ذي الجسد الخشبي الرابض بكبرياء في الصدارة.. كان الوحيد الذي يمارس حق الاقتراب وتقدير الموقف واتخاذ القرار المناسب هو الوالد ومن ورائه أمي.. كان يحرك الكتلة الخشبية طبقا لوجهة نظر لم أعرفها إلا فيما بعد حين علمت أنه كان يستشعر أفضل جهات الاستقبال وذبذبات الكيلو سايكل ــ كما ينطقها المذيع ــ وكانت في جعبته شرائح خشبية يرفع بها أحد جوانب الجهاز أيضا تبعا لتقديره في ضبط الموجة مع سريان الإرسال ثم يمسك بالمؤشر يتعامل معه كأنه مبضع جراح يجري عمليته البالغة الحساسية في أدق شرايين العين.. دقة مغلفة بحزم
للوصول إلي الهدف حتي يأتي صوت المذيع واضحا بدون خدش أو ظلال خروشة.. جليا نقيا خاليا من أي شوشرة قد تنقع عليها محطة زايطة مجاورة, وها هي الخلفية تأتي نسمات آلات موسيقية توحي بإرهاصات أن سيدة الغناء العربي سوف تطل علي جمهورها بعد قليل.. مازلت أذكر تلك الليالي.. ورغم أنني لست من هؤلاء الذين يؤمنون بأن كل ما ذهب هو من ذهب.. ولا أنا ممن يعاني من الترف الذي يجعلني أستريح لوهم أن الماضي كان جميلا وفقط.. إلا أنني وحقيقة لا أستطيع أن أكذب علي حياة شهدتها بعيني في قلبها كانت تسكن أم كلثوم.. لا أستطيع أن أنسي أن منزلنا كان يستقبل الجيران وفي ليالي خميس أخريات كانت بعض منازل الجيران هي التي تستقبلنا لنعيش نفس الطقوس الخلابة, ولنلتف بنفس الأسلوب وتحت نفس المظلة وحول نفس التليفونكن.. لم يكن يجمعنا بالجيران بزنس أو مصلحة أو منفعة, ولم يكن شعارنا صباح الخير يا جاري انت في حالك وأنا في حالي, فقد كنا أسرة واحدة والأحوال واحدة وبوصلة مزاجنا واحدة.. وكانت بيننا أم كلثوم جسرا من مودة ورحمة وأرضا من محبة وحنان وهواء نقيا شجيا سلسبيلا يدخل القلب يموج بالترحاب.. وكنت في أوقات عديدة أنسحب بهدوء لأطل من نافذت
ي في الدور الثالث لأمسح بعيوني نوافذ البيوت المجاورة في حي العباسية الشرقية.. يا إلهي.. ما كل هذه السكينة.. كل هذا الجمال يتمطي في حينا وكل هذا الحب يطل من خلف كل هذه النوافذ المضيئة بحنجرة أم كلثوم.. وأتخيل المقهي الوحيد علي الشارع العمومي بمذياعه المفتوح والجالسون حول جمرات الشيشة يهزون رءوس الانسجام مع زمن جاد بالحب فجعله أغنية تري بالأذن وتحس بالقلب وتدق الفؤاد لتقيم في الشغاف.. كل هذا الحب كنت ألتقطه سريعا بنظرة من نافذتنا لأعود بعدها مسرعة للجلوس في صمت مقدس.. ويتكرر نفس المشهد مع كل حفلة.. ومع الأيام والنضج والانغماس في حياة الناس اكتشفت أن الأمر أكبر بكثير من محيط شارعنا وأوسع من المقهي في شارع التروماي والجيران الذين يحتسون معنا السحلب في ليلة أم كلثوم.. اكتشفت أن سيدة الغناء العربي هي راية حريرية خفاقة ظلت مرفوعة فوق هامة الوطن لأكثر من نصف قرن وأن الشاعر العربي الذي تمزق عقله بين مختلف الرؤي والأفكار طوال نفس الفترة الزمنية لم يجد الطمأنينة القلبية المشتركة بين كافة أبنائه مثلما حدث تحت راية أم كلثوم.. وأن الذوق العام الذي كان قد انحدر تحت الليل العثماني قد بدأ يستعيد وعيه, وأن
ثقافة فيك عشرة كوتشينة وارخي الستارة اللي ف ريحنا في زوال وأن أم كلثوم كانت إيذانا بعصر جديد يعلن انتهاء زمن المطربة العالمة أو الأسطي الباشا التي تسطع في الأفراح والليالي الملاح وتخلط الغناء بالزغاريد بالنقطة, ولو كانت أم كلثوم مجرد صوت جميل يغني بأسلوب العصر الذي ظهر فيه ولا يزيد عليه شيئا ولا يغير فيه ولا يبدل لما كان لها أثر في الغناء العربي طوال حياتها ولما بقي لها أثر.
أم كلثوم التي كان اسمها حتي عام1919 كلثوم فقط فيسمعها الشيخ زكريا أحمد فيمنحها لقب أم.. والكلثوم معناها لغويا الراية الحريرية التي يرفعها الجندي فوق رأسه خفاقة, وظلت الكلثوم ملء أسماع العرب منذ علق الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم معلقته الحماسية علي الكعبة في مكة قبل أربعة عشر قرنا فتداولتها الأجيال العربية جيلا بعد جيل.. أم كلثوم.. ثومة.. يا بخت السميعة وهناهم إذا ما أعلن سلفا قبل خميس أول الشهر عن مولد أغنية لها جديدة.. الأمل.. صالحت بيك أيامي.. رق الحبيب.. فات الميعاد.. يا فؤادي أين الهوي.. حمامة الأيك من بالشجو طارحها.. هذه ليلتي.. سهران.. سهرانة.. يا مسهرني.. سهرانين للصبح مع الست ليلة الجمعة.
حقيقة بيتنا كان كلثومي النزعة ونقطة الارتكاز الكلثومية فيه خارج دندنات المطبخ كانت تكمن في رف مجاور للأرض تعلوه عشرات من أسطوانات أم كلثوم التي تضم تسع قصائد غنتها لأمير الشعراء أحمد شوقي و19أسطوانة لحنها لها داوود حسني وزكريا أحمد.. الرف قاعدة ترابيزة رشيقة الأعمدة تحمل علي سطحها الفونوغراف الذي يلقمه والدي أسطوانة تلو أخري يوخزها بالإبرة ليعود إلي جلسته المسترخية في الشرفة يحتسي قهوته المحوجة علي مهل.. مؤرجحا مع الأنغام رأسه علي مهل.. مستنشقا علي مهل عبق زهرة الفل المجوز النضرة هدية أمي من أحدث نتاج زرعها ورعايتها وتسميدها للشجرة الفواحة بتنوة البن المتبقي علي جدران فناجين القهوة.. مبتسما علي مهل.. منتشيا علي مهل.. مرتاحا علي مهل.. فالأوقات الحلوة ممتدة.. والشارع المورق الأشجار من تحته مغسول مرصوف تتلاشي فيه الظلال المتهادية التي تمشي الهويني علي مهل.. علي مهل.. وتزقزق أم كلثوم:
هوه دا يخلص من الله
القــوي يذل الضعيف
حتي يبخل بالمطلة
شيء ولو دون الطفيف
ليه دا كله ليه دا كله
مين يقول له.. مين يقول له
.. وعلي مهل يدير الوالد الوجه الآخر للأسطوانة الحميمة العتيقة بدور امتي الهوي الذي أشار إليه أديبنا العالمي نجيب محفوظ في رواية خان الخليلي عندما وصف في سياق الرواية قعدة في حي الحسين تحدث فيها الأصدقاء عن الغناء, فقال أحدهم: اسمعوا القول الفصل: أجمل ما تسمع الأذن, سي عبده الحامولي إذا غني ياليل.. والشيخ علي محمود إذا صعد مئذنة مسجد الحسين وأذن لصلاة الفجر.. وأم كلثوم في دور إمتي الهوي يجي سوا.. وماعدا هؤلاء فحشيش مغشوش بتراب.
امتي الهوي ييجي سوا
وارتاح ولو في العمر يوم
يا ناس أنا قلبي انكوي
وعيني ما يهواها نوم
في شرع مين يا منصفين
العمر كله لوم في لوم
ليه يا تري حيرتني
إيه يعني لو ريحتني
وعملت غيري لعبتك
وتميل عليه وتقول له ليه
يا دي الهوي حيرتني
إيه يعني لو ريحتني
وتهل الوالدة تحمل طبقا صغيرا من مربي قرع العسل بالملعقة الصيني تلقمها لوالدي لتكمل أم كلثوم شدوها:
آه يا سلام زاد وجدي آه
والصبر طال من غير أمل
كوي الهيام قلبي وضناه
واللي كواه عنه انشغل
وكأنما كانت أم كلثوم تدير بينهما الحوار بصوت رفيع ضغطته أجهزة التسجيل العتيق:
ليه تكايديني كل ما أتكلم
ليه تلاوعيني والفؤاد سلم
وتترقرق المآقي في عيونهما مع الذكري:
لي لذة في ذلتي وخضوعي
وأحب بين يديك سفك دموعي
وتموت الوالدة, ومن بعدها والدي, وأم كلثوم رحلت هي الأخري, ولم تعد الحياة تمشي علي مهل, ولم تعد عيشة العباسية هنية, ولا القاهرة الكبري ولا الصغري مرية, ولا الإسكندرية هنية ومرية, وأصبحنا نلقي بالتحية ولا يحفل أحد بردها.. وتخرج الآهات من الصدور مكبلة بالعجز لا لتصل إلي السماء وإنما لتتهاوي علي الأرض, وعلي الأرض تموت.. وكانت آهات أم كلثوم بمثابة عطر نفاذ يمتلئ به المكان, تنضح به الدنيا, تأتينا بالحبيب.. كم مرة نادته. كم مرة تلونت في حنجرتها الآهة وتنوعت وطالت ورقت, وكم من المعاني قيلت فيها وبها, وكم استعطفت وكم استجدت وكم غضبت وكم امتعضت وكم تدللت وكم دمعت وابتسمت, وكم صعدت وكأنها آخر الأنفاس, وكم انبثقت وكأنها صرخة الحياة, وكم خرجت من حنجرة لونتها البراءة, وكم كانت حنجرة مذنبة ومتألمة وشاكية وباكية, وكم عبرت عن اليائسة وعن المعلقة في خطوط واهية بين اليأس والأمل.. وما كان كل هذا الاهتمام العظيم بحبال حنجرتها المتفردة ككائنات بالغة الحذق والنشاط تلتف علي بعضها البعض لتخرج الأنة والصرخة والابتهال والآهة من الأعماق.. شدو حبال تنحني تزقزق تفرق تجمع تندس تدخل تحت الجلد تع
شش في شغاف القلب.. حنجرة يسكنها عوالم وأكوان وسلامات وتحيات واحتجاجات ووداعات واستغاثات. أعظم غناء في العالم يغني والأنفاس معلقة بالصوت.. تغني الحب فيغدو الحب لي فأكون لأول مرة معك. بكل كياني معك ولك, وبكل كيانك لي ومعي لا شريك لك في ولا شريك لي فيك. انت الحب. انت عمري. الحب كله حبيته فيك. انت لي تماما كما أنا لك.
ماتت أمي وماتت أم كلثوم وضاعت تسجيلات أبي وأغلقنا شرفة الاستمتاع بحوائط الألوميتال لاستغلالها غرفة نوم ولعب ومذاكرة الأحفاد, وتمضي بنا الأيام بلا مهل فيها اللعبة الجديدة تتم في صمت ولا أحد يخرج عن قواعدها, والقاعدة أنك تسمع هـيـيييييه لشعبوللة, وحاركب الحنطور واتحنطر لبعرور وسلطان والصغير وريكو, وقوم أقف وانت بتكلمني, وغير كده ماتسمعشي ولا تشوفشي وإن شفت ماتقولشي وكأنك ماشفتش, وإذا حصلت لغيرك ماتقولشي, وحتي لو حصلت لك انت ماتنطقشي ولا كأنه حصل.. و.. في طنطا شنق الطباخ نفسه بحبل غسيل لعجزه عن دفع مصروف البيت, ومن الاكتئاب انتحر أب وابنتاه الجامعيتان, وفي مارينا موسم يصرخ وينط فيه آلاف الشباب إلي مطلع الفجر بالمايوهات علي رتم نغمة واحدة مستوردة من البوب, وفي بورتومارينا ينصحنا العسيلي المذيع الشاب في برنامجه التحرري ــ من حرية ــ من علي الكنبة المتحررة بأن تعمل ما بدالك فأنت حر في روحك مادمت لا تسيء بحريتك للآخرين إن شاء الله يعني تطلع في مخ واحدة حرة تخرج من دارها دون تخوف من أن ينقل مقدارها لتتسوق من السوبر ماركت في الرابعة صباحا كي تتجنب الزحام.. حرة في بلد حرية!
وأهرب, وأنا حرة, لصوت جلال معوض وحفلات أم كلثوم في سينما ريفولي في الخميس الأول من كل شهر التي يعيد البرنامج العام إذاعتها مشكورا محمودا علي صموده الكريم العفيف الشريف أمام إغراء خصخصة تلك الشرائط الكلثومية القومية في مهب رياح الخصخصة التي تذرو أمامها كل ما هو وطني لتقلع من الجذور جذور طلعت حرب وأمثاله وبيعها فوق البيعة مع تراث أفلامنا لكل من شخشخ جيبه بالدراهم والدنانير.. و.. فاكر لما كنت جنبي.. وما أنا بالمصدق فيك قولا. وهذه الدنيا كتاب أنت فيه الفكر. هذه الدنيا عيون أنت فيه البصر.. ويارب كثير اللقاء كان قليلا. يارب هل يرضيك هذا الظمأ. يارب يد تمتد نحوي كيد من خلال الموج مدت لغريق. كان منايا يدوم هنايا مادامشي ليه. وشوف بقينا إزاي أنا فين يا حبيبي وانت فين.. و.. إذا ما سألت القلب يوما تولي الدمع عن قلبي الجوابا. و.. بيريحني بكايا ساعات!
المصدر:جريدة الأهرام 4/8/2007
__________________
مع تحيات سمير عبد الرازق
|