* : طلبات نوتة أ / عادل صموئيل الجزء الثانى (الكاتـب : عادل صموئيل - آخر مشاركة : omarhalim - - الوقت: 22h42 - التاريخ: 12/05/2024)           »          إبراهيم حمودة- 12 يناير 1912 - 16 يناير 1986 (الكاتـب : سماعي - آخر مشاركة : حازم فودة - - الوقت: 19h13 - التاريخ: 12/05/2024)           »          تترات البرامج الإذاعية والتليفزيونية المصرية (الكاتـب : حازم فودة - - الوقت: 19h03 - التاريخ: 12/05/2024)           »          حلقات إذاعية نادرة (الكاتـب : حازم فودة - - الوقت: 18h42 - التاريخ: 12/05/2024)           »          أم كلثوم (نوتة) ‏ (الكاتـب : semsem - آخر مشاركة : عمرو الهنداوي - - الوقت: 17h07 - التاريخ: 12/05/2024)           »          الفنانه ليلى عبدالعزيز (الكاتـب : بوبنيان - آخر مشاركة : shokri - - الوقت: 11h31 - التاريخ: 12/05/2024)           »          فنانين لم يحالفهم الحظ... (الكاتـب : Sami Dorbez - آخر مشاركة : سماعي - - الوقت: 10h48 - التاريخ: 12/05/2024)           »          فى يوم .. فى شهر .. فى سنة (الكاتـب : د.حسن - - الوقت: 05h18 - التاريخ: 12/05/2024)           »          سيد درويش الطنطاوي (الكاتـب : سماعي - آخر مشاركة : نور عسكر - - الوقت: 23h22 - التاريخ: 11/05/2024)           »          عبد الغني السيد- 16 يونيو 1908 - 9 ديسمبر 1962 (الكاتـب : Talab - آخر مشاركة : حازم فودة - - الوقت: 21h43 - التاريخ: 11/05/2024)


العودة   منتدى سماعي للطرب العربي الأصيل > أصحاب الريادة والأعلام > الأيكة الكلثومية (31 ديسمبر 1898- 3 فبراير 1975) > في ظلال الأيكة الكلثومية

في ظلال الأيكة الكلثومية مناقشات و اقتراحات

 


رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #1  
قديم 04/08/2007, 08h56
الصورة الرمزية samirazek
samirazek samirazek غير متصل  
مشرف
رقم العضوية:51
 
تاريخ التسجيل: novembre 2005
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
العمر: 78
المشاركات: 685
افتراضي كم اناديك..(يا أم كلثوم)

كــم أنـاديك ...(يا أم كلثوم)

بقلم‏:‏ سناء البيسي



كان فرح شقيق الوالدة‏..‏ خالي‏..‏ زماااان‏..‏ وأم كلثوم بفرقتها وجلالة قدرها من عبده صالح والقصبجي وكمنجة الحفناوي سوف تأتي كمطربة لتغني لخالي وعروسه‏,‏ والسهر للصبح‏..‏ علي وجه الوالدة تصيدت تعبيرا شامخا وهي تحشر اسم خالي العريس والعيلة وأكابر القوم والفرح وحضور أم كلثوم علي مسامع الوالد بمناسبة وبدون مناسبة حتي ولو كان الكلام يدور حول زرار القميص الناقص أو طبق البامية الدلع‏..‏ أيضا ظلت علي مدي أيام قبل المناسبة السارة تدندن مقاطع من أغاني ثومة‏,‏ وتختتم كل مقطع بتنهيدة يعقبها لفظة ياريت‏..‏ و‏..‏ ياريت تقول سلوا كئوس الطلا هل لامست فاها‏..‏ وتعجبت كطفلة من كيفية تقديم الطلاء أي الدهان في الكئوس للضيوف‏..‏ و‏..‏ جاء اليوم‏..‏ واصطحبتنا الوالدة صغيرات لامعات مع حقيبة سفر ضخمة حملها خدم بيت الفرح كقضية مسلم بها مع سرب حقائب وافدة مماثلة في الضخامة لمدعوات أخريات‏,‏ للصعود بها لحجرات النوم في الطابق الثاني‏,‏ ليعلق ما بداخلها فورا علي الشماعات لزوم فرد المحتويات من فساتين سهرة سوف يتم تغييرها تباعا طبقا لبرنامج الفرح‏,‏ ففي تلك الأيام لم يكن يكتفي لحضور أي حفل زفاف بارتداء فستان يتيم واحد فقط‏,‏ بل كانت تقام
هناك مباريات للقلع واللبس بين المدعوات لعدة فساتين مختلفة تبعا لذوق وثراء وأناقة ومنزلة عائلة كل واحدة‏..‏ كان هناك علي أقل تقدير فستان خاص لحضور الزفة‏,‏ وفستان لحضور البوفيه‏,‏ وفستان للسهر حتي خيوط الفجر‏,‏ وهذا الأخير بالذات يزداد النسيج فيه التصاقا بالقوام ويرتدي معه أهم قطع المصاغ إلي جانب كثافة في حبات التطريز وعلو شأن أبليكات الزهور الصناعية المثبتة في مواضع لا تخطر علي بال‏,‏ وتتجرأ فيه تقويرة العب أي الديكولتيه إلي مشارف شارع ما بين النهدين لتدور حولهما بحبكة أو بحرية في قصة علي هيئة القلب المعدول أو المقلوب‏,‏ وقد تكتفي الخياطات اليهوديات إستر وراشيل وماريكا في تثبيت الفستان علي الجسد المهلبية بالحمالات‏,‏ وقد يتغاضي التصميم تماما عما يستر زقزوقة الكتف والترقوة وملاحات العنق أو يغطي سلسلة الظهر وريش الرئات‏..‏ و‏...‏ عادي‏..‏ وبونسوار يا تيزة‏..‏ وعقبال دودو يا حكمت هانم‏..‏ وتعالي يا نازلي سلمي علي أونكل حشمت‏..‏ وعيب يا سوسو خللي عمو كمال بك يبوسك‏..‏ و‏...‏ وكانت أيام غير أيامنا الآن التي تستشعر فيها المدعوة السافرة بين سيادة الحجاب الذي غدا مسيطرا علي نساء العائلة والأقارب والمعارف والنسايب وكأ
نها بتفرد هيئتها برأسها العاري بلا عمامة لامعة‏,‏ وبسيقانها المكشوفة وركبتيها الباديتين للعيان قد حضرت لأداء مهمة العالمة التي ستنفلت بعد قليل لعرض نمرتها القارحة في رقصة الرعشة علي واحدة ونصف‏,‏ وفقط ينقصها الصاجات‏..‏ ولأنه قد أصبح هناك ثوب واحد يتيم للمناسبات العائلية يواكب نمو أولاد وبنات العائلة من حفلات سبوعهم لعقد قرانهم فإنه يظل معلقا علي شماعته سنينا في جانب الدولاب ليغدو بمثابة راية تعلن عن قدوم صاحبته‏,‏ ويصبح تحصيل حاصل عندما تصف مظهر المدعوات لقريبة لم يصلها كارت دعوة أن طنت تحية كانت بفستانها البروكار الأخضر الذي أصبح تماسك خيوطه حول هضابها المحشورة نوعا من بطولات النسيج‏,‏ وصفية بالتايير الجرسيه الذي لا لون له منذ بداية طلعته والذي غدت أرضية صدره جدباء قاحلة إلا من حبات خرج نجف عشوائية تجاورها نهايات فتل ضامرة وذلك بفعل فاعل يستدل عليه فوريا ألا وهو الزمن‏,‏ وسميرة بفستان فرحها الذي تم منذ أكثر من حول وكانت قد قصت ذيله وزرعت في صدره ترتر ملون من قبيل التمويه ليغدو مجرد فستان سهرة عادي تحضر به المناسبات‏.‏

ومشينا في الزفة التي أبدعتها فرقة نعيمة عبده وخلص البوفيه الذي شاركتنا فيه أم كلثوم بحميمية وخفة ظل لألاحظ هرجا ومرجا وتغييرا في ديكورات ونظام وشخوص المقام‏..‏ خالي‏..‏ العريس‏..‏ وعروسه اللي كانت قمر بيلالي والمفروض أنهما نجما الحفل ينسحبان ليذوبا بين المعازيم بينما الكوشة قد تربعت علي عرشها أم كلثوم وفي خلفيتها فرقتها‏..‏ وطال الوقت‏..‏ طال‏..‏ طال‏..‏ وأنا مفروسة وقربت أطق من عبث الآلاتية بآلاتهم الموسيقية ولا أدري معني لكلمات الوالدة التي تشرح لي بها هذا التسكع أصل الفرقة بتدوزن‏..‏ العود بيدوزن‏..‏ والقانون بيدوزن‏..‏ والكنترباس بيدوزن‏..‏ وفضلوا يدوزنوا كتير حتي التحم اللحن‏..‏ هذا بينما أم كلثوم جالسة في صمت تنظر إلي الأرض بسرحان وإلي المعازيم وكأنهم ليسوا هنا‏,‏ ويتوقف سؤالي داخل حلقي حول سكوتها بزغرة من عين الوالدة تقطع مني النفس‏..‏ و‏..‏ أخيرا ينطلق شدو من فيلم سلامة الذي كان معروضا في ذلك الوقت‏:‏
برضاك يا خالقي‏..‏ لا رغبتي ورضاي
ويقع الرجال علي الأرض‏,‏ وتطير طرابيش في السماء ويزايل الوقار صاحبات الحمالات وتلبي أم كلثوم رغبة جامحة‏:‏
حبيبي يسعد أوقاته عالجمال سلطان
في نظرته وابتساماته‏..‏ فرحة‏..‏ فرحة‏..‏ فرحتك‏..‏ يا زماااان
ولما يخطر‏..‏ ولما يخطر‏..‏ يخطر بقوامه‏..‏ ترقص الألحان
آه هاهاها‏..‏ آه هاها‏..‏ ولما ينعم‏..‏ ولما ينعم‏..‏ ينعم بـ‏...‏

وفجأة ينقطع الغناء كما في فيلم سلامة تمام عندما يدخل أبو الوفا‏..‏ أم كلثوم بالفعل غاضبة‏..‏ يا ليلة سوده‏..‏ ولا أدري حتي الآن ما الذي أغضب صاحبة العصمة بالضبط‏..‏ الست‏..‏ آسفة الآنسة أم كلثوم في ذلك الوقت‏,‏ ولكن ما تعيه الذاكرة أن أحدهم قد خدش إطار المهابة حولها بضجة صاخبة‏,‏ وما تعيه الذاكرة أيضا أن جمع الباشاوات والباكوات السميعة الجلوس تحت قدميها‏,‏ حيث تضع ساقا علي ساق علي أعتاب سلم الكوشة انهالوا تقبيلا واعتذارا ورجاء مبتهلا لتعاود الغناء‏..‏ وغنت أم كلثوم أخيرا لكن بشرط أن يبوس الجدم ويبدي الندم علي غلطته في حقها‏..‏ ومن المؤكد أنها قد استرضيت بكل ماهو ممكن ومتاح وذلك لما تبعه من تلبية الرغبات‏..‏

الأولة في الغرام والحب شبكوني
و‏..‏ هو صحيح‏..‏ صحيح‏..‏ الهوي غلاب‏..‏ ما اعرفشي أنا
و‏..‏ الصب تفضحه عيونه
و‏..‏ النوم‏..‏ يداعب جفون حبيبي
من بعد ما تمنيت رؤياه‏..‏ لو كان يجيني في الأحلام

وقلت يمكن‏..‏ وقلت يمكن‏..‏ يوم ألقاه‏..‏ معايا في دنيا الأحلام‏..‏ الفكر تاه في الخيال‏...‏ نام يا حبيبي نام‏..‏ نام يا حبيبي نام‏..‏ نام‏..‏ نام‏..‏ ونمت أنا‏..‏ تكومت فوق مقعدي علي أرجوحة الأحلام‏..‏ وقمت فزيت من شدة جذب عصبي تسوقني به الوالدة مع الركب أمامها لنترك الفرح المعظم وهو لسه شغال‏..‏ ليه يا ماما‏..‏ ليه يا ماما؟ قريبتها التي نزلت ضيفة علينا مع أنجالها من قبل الفرح بأسبوع قررت أن العيال عايزين يروحوا يناموا‏..‏ وكفاية بقي الفرح وحضرناه والفساتين ولبسناها وصاحبتك وكدناها وأم كلثوم وشفناها ناقص إيه تاني‏..‏ ولم تكن والدتي تنطق ببنت شفة‏,‏ لكني كنت عارفة وفي الضلمة إن لونها ازدرد‏,‏ وإن عروق رقبتها قد غلظت وأنها كاظمة غيظها بمعجزة‏..‏ وإن أنسي لن أنسي جلستها بعد عودتنا أمام المرآة وهي تنزع برعشة غضب من فورمة رأسها حلقات من الشعر المستعار كانت تعطي مظهر الكعكة الشهيرة أو التسريحة الشينيون زمان‏,‏ بينما قريبتها التي بترت ليلة أنسها تعابثها ساخرة مواسية في موضع يحتاج الصمت البليغ‏:‏

يعني أم كلثوم كانت حتغني إيه تاني‏..‏ شوحه شوحه‏..‏ أغنيها لك أنا‏..‏ أغنيها وخدي عنيه وكانت تقصد بالطبع غني لي شوية شوية‏..‏ ولابد أن أمي قطعت شعرها الطبيعي مع حشو شعر الفورمة المستعار‏.‏

تعوشبت أم كلثوم في حنجرة الوالدة بطقاطيقها وقصائدها وموشحاتها وأغانيها‏,‏ فكانت تصاحب دوران الكبشة في حلل الطبيخ‏:‏ الوداد روح المحبة‏..‏ واللي مال يبقي طول العمر فيه أسير الجمال‏..‏ لـ يـ يـ ــه‏..‏ ليه تقضي الليل حزين وانت في حبك أمين يا بنت قشري لي الباذنجان وهاتي لي شعرة فلفل‏.‏ ياما نديت من طول أسايا في وحدتي يا حبيبي‏..‏ وتقضي الوالدة ساعات في قص جرانين رفوف المطبقية زجازيج متماثلة الفتحات والأهلة‏:‏ لي لذة في ذلتي وخضوعي‏..‏ وأحب بين يديك سفك دموعي‏..‏ ولا تسمح ميزانية الوالد بالتصييف ذلك العام فيكون مقابل المنع وقفة أمي في الشباك ناظرة للأفق البعيد تستجلب أغنية لأم كلثوم بأي شكل‏:‏
علي بلد المحبوب وديني
زاد وجدي والبعد كاويني
يا مسافر علي بحر النيل

أنا لي في مصر خليل
تتمني عيني رؤياه
أشكي له وهو يواسيني


..................يتبع
__________________
مع تحيات سمير عبد الرازق
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04/08/2007, 08h57
الصورة الرمزية samirazek
samirazek samirazek غير متصل  
مشرف
رقم العضوية:51
 
تاريخ التسجيل: novembre 2005
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
العمر: 78
المشاركات: 685
افتراضي رد: كم اناديك..(يا أم كلثوم)


ولم أكن أعرف أن الأذن تري إلا بعد أن أصبحت ليلة الخميس التي تطل فيها نجمة الشرق أم كلثوم علي الناس ليلة مقدسة‏..‏ ليلة يتحول فيها الهواء إلي نغم والأنفاس إلي دندنة والقمر إلي رغيف محبة والليل إلي مظلة أمان والناس إلي أصابع في قبضة المودة‏,‏ وأبي إلي مخلوق رومانسي‏..‏ ليلة تتمشي فيها الطمأنينة والرضا في شوارع القاهرة وحواريها وأزقة القري ودروب النجوع‏..‏ في بيتنا ــ مثل آلاف البيوت ــ كنا نعيش طقس استقبال أم كلثوم في حفلها الشهري مبكرا‏..‏ نتولي نحن الصغار إعداد كل شيء باستثناء الاقتراب من مربع الراديو التليفونكن ذي الجسد الخشبي الرابض بكبرياء في الصدارة‏..‏ كان الوحيد الذي يمارس حق الاقتراب وتقدير الموقف واتخاذ القرار المناسب هو الوالد ومن ورائه أمي‏..‏ كان يحرك الكتلة الخشبية طبقا لوجهة نظر لم أعرفها إلا فيما بعد حين علمت أنه كان يستشعر أفضل جهات الاستقبال وذبذبات الكيلو سايكل ــ كما ينطقها المذيع ــ وكانت في جعبته شرائح خشبية يرفع بها أحد جوانب الجهاز أيضا تبعا لتقديره في ضبط الموجة مع سريان الإرسال ثم يمسك بالمؤشر يتعامل معه كأنه مبضع جراح يجري عمليته البالغة الحساسية في أدق شرايين العين‏..‏ دقة مغلفة بحزم
للوصول إلي الهدف حتي يأتي صوت المذيع واضحا بدون خدش أو ظلال خروشة‏..‏ جليا نقيا خاليا من أي شوشرة قد تنقع عليها محطة زايطة مجاورة‏,‏ وها هي الخلفية تأتي نسمات آلات موسيقية توحي بإرهاصات أن سيدة الغناء العربي سوف تطل علي جمهورها بعد قليل‏..‏ مازلت أذكر تلك الليالي‏..‏ ورغم أنني لست من هؤلاء الذين يؤمنون بأن كل ما ذهب هو من ذهب‏..‏ ولا أنا ممن يعاني من الترف الذي يجعلني أستريح لوهم أن الماضي كان جميلا وفقط‏..‏ إلا أنني وحقيقة لا أستطيع أن أكذب علي حياة شهدتها بعيني في قلبها كانت تسكن أم كلثوم‏..‏ لا أستطيع أن أنسي أن منزلنا كان يستقبل الجيران وفي ليالي خميس أخريات كانت بعض منازل الجيران هي التي تستقبلنا لنعيش نفس الطقوس الخلابة‏,‏ ولنلتف بنفس الأسلوب وتحت نفس المظلة وحول نفس التليفونكن‏..‏ لم يكن يجمعنا بالجيران بزنس أو مصلحة أو منفعة‏,‏ ولم يكن شعارنا صباح الخير يا جاري انت في حالك وأنا في حالي‏,‏ فقد كنا أسرة واحدة والأحوال واحدة وبوصلة مزاجنا واحدة‏..‏ وكانت بيننا أم كلثوم جسرا من مودة ورحمة وأرضا من محبة وحنان وهواء نقيا شجيا سلسبيلا يدخل القلب يموج بالترحاب‏..‏ وكنت في أوقات عديدة أنسحب بهدوء لأطل من نافذت
ي في الدور الثالث لأمسح بعيوني نوافذ البيوت المجاورة في حي العباسية الشرقية‏..‏ يا إلهي‏..‏ ما كل هذه السكينة‏..‏ كل هذا الجمال يتمطي في حينا وكل هذا الحب يطل من خلف كل هذه النوافذ المضيئة بحنجرة أم كلثوم‏..‏ وأتخيل المقهي الوحيد علي الشارع العمومي بمذياعه المفتوح والجالسون حول جمرات الشيشة يهزون رءوس الانسجام مع زمن جاد بالحب فجعله أغنية تري بالأذن وتحس بالقلب وتدق الفؤاد لتقيم في الشغاف‏..‏ كل هذا الحب كنت ألتقطه سريعا بنظرة من نافذتنا لأعود بعدها مسرعة للجلوس في صمت مقدس‏..‏ ويتكرر نفس المشهد مع كل حفلة‏..‏ ومع الأيام والنضج والانغماس في حياة الناس اكتشفت أن الأمر أكبر بكثير من محيط شارعنا وأوسع من المقهي في شارع التروماي والجيران الذين يحتسون معنا السحلب في ليلة أم كلثوم‏..‏ اكتشفت أن سيدة الغناء العربي هي راية حريرية خفاقة ظلت مرفوعة فوق هامة الوطن لأكثر من نصف قرن وأن الشاعر العربي الذي تمزق عقله بين مختلف الرؤي والأفكار طوال نفس الفترة الزمنية لم يجد الطمأنينة القلبية المشتركة بين كافة أبنائه مثلما حدث تحت راية أم كلثوم‏..‏ وأن الذوق العام الذي كان قد انحدر تحت الليل العثماني قد بدأ يستعيد وعيه‏,‏ وأن
ثقافة فيك عشرة كوتشينة وارخي الستارة اللي ف ريحنا في زوال وأن أم كلثوم كانت إيذانا بعصر جديد يعلن انتهاء زمن المطربة العالمة أو الأسطي الباشا التي تسطع في الأفراح والليالي الملاح وتخلط الغناء بالزغاريد بالنقطة‏,‏ ولو كانت أم كلثوم مجرد صوت جميل يغني بأسلوب العصر الذي ظهر فيه ولا يزيد عليه شيئا ولا يغير فيه ولا يبدل لما كان لها أثر في الغناء العربي طوال حياتها ولما بقي لها أثر‏.‏

أم كلثوم التي كان اسمها حتي عام‏1919‏ كلثوم فقط فيسمعها الشيخ زكريا أحمد فيمنحها لقب أم‏..‏ والكلثوم معناها لغويا الراية الحريرية التي يرفعها الجندي فوق رأسه خفاقة‏,‏ وظلت الكلثوم ملء أسماع العرب منذ علق الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم معلقته الحماسية علي الكعبة في مكة قبل أربعة عشر قرنا فتداولتها الأجيال العربية جيلا بعد جيل‏..‏ أم كلثوم‏..‏ ثومة‏..‏ يا بخت السميعة وهناهم إذا ما أعلن سلفا قبل خميس أول الشهر عن مولد أغنية لها جديدة‏..‏ الأمل‏..‏ صالحت بيك أيامي‏..‏ رق الحبيب‏..‏ فات الميعاد‏..‏ يا فؤادي أين الهوي‏..‏ حمامة الأيك من بالشجو طارحها‏..‏ هذه ليلتي‏..‏ سهران‏..‏ سهرانة‏..‏ يا مسهرني‏..‏ سهرانين للصبح مع الست ليلة الجمعة‏.‏

حقيقة بيتنا كان كلثومي النزعة ونقطة الارتكاز الكلثومية فيه خارج دندنات المطبخ كانت تكمن في رف مجاور للأرض تعلوه عشرات من أسطوانات أم كلثوم التي تضم تسع قصائد غنتها لأمير الشعراء أحمد شوقي و‏19‏أسطوانة لحنها لها داوود حسني وزكريا أحمد‏..‏ الرف قاعدة ترابيزة رشيقة الأعمدة تحمل علي سطحها الفونوغراف الذي يلقمه والدي أسطوانة تلو أخري يوخزها بالإبرة ليعود إلي جلسته المسترخية في الشرفة يحتسي قهوته المحوجة علي مهل‏..‏ مؤرجحا مع الأنغام رأسه علي مهل‏..‏ مستنشقا علي مهل عبق زهرة الفل المجوز النضرة هدية أمي من أحدث نتاج زرعها ورعايتها وتسميدها للشجرة الفواحة بتنوة البن المتبقي علي جدران فناجين القهوة‏..‏ مبتسما علي مهل‏..‏ منتشيا علي مهل‏..‏ مرتاحا علي مهل‏..‏ فالأوقات الحلوة ممتدة‏..‏ والشارع المورق الأشجار من تحته مغسول مرصوف تتلاشي فيه الظلال المتهادية التي تمشي الهويني علي مهل‏..‏ علي مهل‏..‏ وتزقزق أم كلثوم‏:‏
هوه دا يخلص من الله
القــوي يذل الضعيف
حتي يبخل بالمطلة

شيء ولو دون الطفيف
ليه دا كله ليه دا كله
مين يقول له‏..‏ مين يقول له
‏..‏ وعلي مهل يدير الوالد الوجه الآخر للأسطوانة الحميمة العتيقة بدور امتي الهوي الذي أشار إليه أديبنا العالمي نجيب محفوظ في رواية خان الخليلي عندما وصف في سياق الرواية قعدة في حي الحسين تحدث فيها الأصدقاء عن الغناء‏,‏ فقال أحدهم‏:‏ اسمعوا القول الفصل‏:‏ أجمل ما تسمع الأذن‏,‏ سي عبده الحامولي إذا غني ياليل‏..‏ والشيخ علي محمود إذا صعد مئذنة مسجد الحسين وأذن لصلاة الفجر‏..‏ وأم كلثوم في دور إمتي الهوي يجي سوا‏..‏ وماعدا هؤلاء فحشيش مغشوش بتراب‏.‏
امتي الهوي ييجي سوا
وارتاح ولو في العمر يوم
يا ناس أنا قلبي انكوي

وعيني ما يهواها نوم
في شرع مين يا منصفين
العمر كله لوم في لوم

ليه يا تري حيرتني
إيه يعني لو ريحتني
وعملت غيري لعبتك

وتميل عليه وتقول له ليه
يا دي الهوي حيرتني
إيه يعني لو ريحتني

وتهل الوالدة تحمل طبقا صغيرا من مربي قرع العسل بالملعقة الصيني تلقمها لوالدي لتكمل أم كلثوم شدوها‏:‏
آه يا سلام زاد وجدي آه
والصبر طال من غير أمل
كوي الهيام قلبي وضناه
واللي كواه عنه انشغل
وكأنما كانت أم كلثوم تدير بينهما الحوار بصوت رفيع ضغطته أجهزة التسجيل العتيق‏:‏
ليه تكايديني كل ما أتكلم
ليه تلاوعيني والفؤاد سلم
وتترقرق المآقي في عيونهما مع الذكري‏:‏
لي لذة في ذلتي وخضوعي
وأحب بين يديك سفك دموعي
وتموت الوالدة‏,‏ ومن بعدها والدي‏,‏ وأم كلثوم رحلت هي الأخري‏,‏ ولم تعد الحياة تمشي علي مهل‏,‏ ولم تعد عيشة العباسية هنية‏,‏ ولا القاهرة الكبري ولا الصغري مرية‏,‏ ولا الإسكندرية هنية ومرية‏,‏ وأصبحنا نلقي بالتحية ولا يحفل أحد بردها‏..‏ وتخرج الآهات من الصدور مكبلة بالعجز لا لتصل إلي السماء وإنما لتتهاوي علي الأرض‏,‏ وعلي الأرض تموت‏..‏ وكانت آهات أم كلثوم بمثابة عطر نفاذ يمتلئ به المكان‏,‏ تنضح به الدنيا‏,‏ تأتينا بالحبيب‏..‏ كم مرة نادته‏.‏ كم مرة تلونت في حنجرتها الآهة وتنوعت وطالت ورقت‏,‏ وكم من المعاني قيلت فيها وبها‏,‏ وكم استعطفت وكم استجدت وكم غضبت وكم امتعضت وكم تدللت وكم دمعت وابتسمت‏,‏ وكم صعدت وكأنها آخر الأنفاس‏,‏ وكم انبثقت وكأنها صرخة الحياة‏,‏ وكم خرجت من حنجرة لونتها البراءة‏,‏ وكم كانت حنجرة مذنبة ومتألمة وشاكية وباكية‏,‏ وكم عبرت عن اليائسة وعن المعلقة في خطوط واهية بين اليأس والأمل‏..‏ وما كان كل هذا الاهتمام العظيم بحبال حنجرتها المتفردة ككائنات بالغة الحذق والنشاط تلتف علي بعضها البعض لتخرج الأنة والصرخة والابتهال والآهة من الأعماق‏..‏ شدو حبال تنحني تزقزق تفرق تجمع تندس تدخل تحت الجلد تع
شش في شغاف القلب‏..‏ حنجرة يسكنها عوالم وأكوان وسلامات وتحيات واحتجاجات ووداعات واستغاثات‏.‏ أعظم غناء في العالم يغني والأنفاس معلقة بالصوت‏..‏ تغني الحب فيغدو الحب لي فأكون لأول مرة معك‏.‏ بكل كياني معك ولك‏,‏ وبكل كيانك لي ومعي لا شريك لك في ولا شريك لي فيك‏.‏ انت الحب‏.‏ انت عمري‏.‏ الحب كله حبيته فيك‏.‏ انت لي تماما كما أنا لك‏.‏

ماتت أمي وماتت أم كلثوم وضاعت تسجيلات أبي وأغلقنا شرفة الاستمتاع بحوائط الألوميتال لاستغلالها غرفة نوم ولعب ومذاكرة الأحفاد‏,‏ وتمضي بنا الأيام بلا مهل فيها اللعبة الجديدة تتم في صمت ولا أحد يخرج عن قواعدها‏,‏ والقاعدة أنك تسمع هـيـيييييه لشعبوللة‏,‏ وحاركب الحنطور واتحنطر لبعرور وسلطان والصغير وريكو‏,‏ وقوم أقف وانت بتكلمني‏,‏ وغير كده ماتسمعشي ولا تشوفشي وإن شفت ماتقولشي وكأنك ماشفتش‏,‏ وإذا حصلت لغيرك ماتقولشي‏,‏ وحتي لو حصلت لك انت ماتنطقشي ولا كأنه حصل‏..‏ و‏..‏ في طنطا شنق الطباخ نفسه بحبل غسيل لعجزه عن دفع مصروف البيت‏,‏ ومن الاكتئاب انتحر أب وابنتاه الجامعيتان‏,‏ وفي مارينا موسم يصرخ وينط فيه آلاف الشباب إلي مطلع الفجر بالمايوهات علي رتم نغمة واحدة مستوردة من البوب‏,‏ وفي بورتومارينا ينصحنا العسيلي المذيع الشاب في برنامجه التحرري ــ من حرية ــ من علي الكنبة المتحررة بأن تعمل ما بدالك فأنت حر في روحك مادمت لا تسيء بحريتك للآخرين إن شاء الله يعني تطلع في مخ واحدة حرة تخرج من دارها دون تخوف من أن ينقل مقدارها لتتسوق من السوبر ماركت في الرابعة صباحا كي تتجنب الزحام‏..‏ حرة في بلد حرية‏!‏

وأهرب‏,‏ وأنا حرة‏,‏ لصوت جلال معوض وحفلات أم كلثوم في سينما ريفولي في الخميس الأول من كل شهر التي يعيد البرنامج العام إذاعتها مشكورا محمودا علي صموده الكريم العفيف الشريف أمام إغراء خصخصة تلك الشرائط الكلثومية القومية في مهب رياح الخصخصة التي تذرو أمامها كل ما هو وطني لتقلع من الجذور جذور طلعت حرب وأمثاله وبيعها فوق البيعة مع تراث أفلامنا لكل من شخشخ جيبه بالدراهم والدنانير‏..‏ و‏..‏ فاكر لما كنت جنبي‏..‏ وما أنا بالمصدق فيك قولا‏.‏ وهذه الدنيا كتاب أنت فيه الفكر‏.‏ هذه الدنيا عيون أنت فيه البصر‏..‏ ويارب كثير اللقاء كان قليلا‏.‏ يارب هل يرضيك هذا الظمأ‏.‏ يارب يد تمتد نحوي كيد من خلال الموج مدت لغريق‏.‏ كان منايا يدوم هنايا مادامشي ليه‏.‏ وشوف بقينا إزاي أنا فين يا حبيبي وانت فين‏..‏ و‏..‏ إذا ما سألت القلب يوما تولي الدمع عن قلبي الجوابا‏.‏ و‏..‏ بيريحني بكايا ساعات!‏


المصدر:جريدة الأهرام 4/8/2007
__________________
مع تحيات سمير عبد الرازق
رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى


جميع الأوقات بتوقيت GMT. الساعة الآن 00h19.


 
Powered by vBulletin - Copyright © 2000 - 2010, Jelsoft Enterprises Ltd