متى غنّى عبد الوهاب مع أم كلثوم
كتب الراحل محمد بديع سربيه عام 1984:
آخر ما استمتع به عبد الوهاب وهو على وشك إنهاء إجازته السنوية التي أمضاها في فندق “انتركونتننتال” في باريس، انه احتضن عوده وغنّى قصيدة “أغداً ألقاك” التي كان قد لحّنها لسيدة الطرب الراحلة أم كلثوم، التي يحتفل الجمهور الذي أحبَّها وما زال يعايش تراثها الغنائي حتى الآن، بذكرى رحيلها!.
واستمعت إلى القصيدة التي كانت مسجّلة على شريط كاسيت، واجتذبني صوت عبد الوهاب الرائع الذي ازداد حلاوة وهو في السبعين، عما كان عليه وهو في الخمسين، واعتبرت أن عبد الوهاب كان فقط يعطي شهادة اعتراف لأم كلثوم بعبقريتها وزعامتها للغناء عندما لحّن لها، وإلاّ لما آثر أن تكون أروع ألحانه لحنجرتها وليس لصوته!!.
وعندما طرحت أمام عبد الوهاب هذا الرأي، كان بداية لحوار بيني وبينه عن أم كلثوم امتدّ إلى أكثر من ساعتين..
والحديث كان منذ شهر ونصف..
ولكن المناسبة هي التي حدّدت موعد نشره، وبالمناسبة هي ذكرى رحيل سيدة الغناء العربي..
وأقول للموسيقار الكبير:
*على كثرة أحاديثك عن سيدة الطرب أم كلثوم، فإنك لم تتحدث بعد بإسهاب عن اللقاء الأول بينك وبين أم كلثوم، ولم نعرف إذا كنت قد توسّمت فيها العبقرية منذ هذا اللقاء!.
ويضع محمد عبد الوهاب يده على جبهته، وكأنه يستعيد ذكريات الماضي البعيد، ثم يقول:
ـ عندما كنت في بداية حياتي الفنية طالباً في معهد الموسيقى الشرقية كان هناك معرفة بيني وبين الشاعر الأستاذ أحمد رامي، وهو كان على صلة بالكثير من الفنانين والفنانات، وعندما جاءت أم كلثوم إلى مصر من الريف، وغنّت في صالة “السيلتي” التي كان مكانها في حديقة “الأزبكية”، أخذني أحمد رامي لسماعها لأنه كان يعرفها، وبالفعل فقد توسّمت فيها العبقرية منذ أن استمعت إليها لأول مرة، ثم أخذ إحساسي بأنها صوت ممتاز فعلاً يتضاعف يوماً بعد يوم، وكلما ذهبت أنا ورامي لسماعها..
وأقول له:
*هنا عرفت أم كلثوم كمطربة ولكن متى التقيت بها؟
وأجاب:
ـ كان معنا في معهد الموسيقى صديق من هواة الفن هو الأستاذ خيرت المحامي، والد الموسيقي المعروف الآن الأستاذ أبو بكر خيرت، وكان يعقد في منزله في حي السيدة زينب ندوات موسيقية بين الحين والآخر، ومرة ذهبت إلى إحدى هذه الندوات، وجاءت أم كلثوم إليها أيضاً مع الأستاذ أحمد رامي، الوثيق الصلة بها، وكان معها يومئذٍ المرحوم والدها، وشقيقها الشيخ خالد، وفي تلك الأيام كانت قدّ بدأت تصل إلى أسماعنا أغنية جديدة لحّنها الشيخ سيّد درويش، هي “على قد الليل ما يطول” وكان يغنّيها في رواية “العشرة الطيّبة” كحوار بينه وبين مطربة إسمها حياة صبري، وكان جميع طلاب معهد الموسيقى يحفظون هذه الأغنية ويرددونها أيضاً..
واستراح عبد الوهاب لحظة، وعادت الذكريات تتدفّق على لسانه:
ـ ان الذين كانوا في السهرة، أو الندوة الموسيقية عند أبو بكر خيرت اقترحوا أن أغنّي أنا وأم كلثوم معاً أية أغنية، وأذكر أنني فرحت ليلتها بهذا الاقتراح ورحّبت به، وقلت: قوي.. نغنّي مع بعض أغنية سيّد درويش: “على قدّ الليل ما يطول”!!.. واتجهت إلى أم كلثوم وسألتها: هل تحفظين هذه الأغنية؟ فقالت: ايوه! وبدأنا نغنّي الأغنية، وكان من مقاطعها أن أخاطبها قائلاً: يا ننوسها يا حلاوتها!! فتردّ عليَّ هي بما معناه: يا كتاكيته!! وكان غنائي مع أم كلثوم يومئذٍ لأول مرة أيضاً ومن بعدها لم نغنّ مع بعض أبداً..
وأسأله:
*هل معنى هذا أنك لم تعد تلتقي بها في أية سهرة؟
أجاب:
ـ لم نعد نلتقي إلاّ قليلاً، وبقيت معرفتنا سطحية، لأن الجلسات التي كانت أم كلثوم تذهب إليها كانت كلها سهرات تجمعها بالكبار في السن، وأنا يومها كنت ما زلت في مقتبل العمر، غير أنني كنت مستمعاً جيداً إلى أم كلثوم، وأنا في الحقيقة كنت أتذوّق الطرب منذ صغري، وكثيراً ما كنت في طفولتي، أي وأنا في السابعة من عمري، أذهب إلى حيث يغنّي الشيخ محمد رفعت لأستمع إليه، وبالتأكيد فأنا ما كنت سأكون فناناً لولا أنني كنت مستمعاً ذواقاً للغناء!.
__________________
عايزنا نرجع زي زمان....قل للزمان ارجع يا زمان.
عودة الي الزمن الجميل. منير
|