( إهداء إلى حارس الجمال ، وأعضاء منتدانا وزوّاره )
لامــيـَّـة ُ الــسَّــمَــوْأل
هو السََّمَوْألُ بن غريض بن عاديا بن حبا ، من شعراء العصر الجاهلي وكان يهوديًا ، وقيل إنه من ولد هارون بن عمران ، أي هارون أخي موسى كليم الله .
والسَّمَوْألُ مضربُ المثل في الوفاء ، فيقولون : << أوفى من السَّمَوْأل >> إذ كان صاحب حصن يُسمَّى " الأبلق الفرد " مشرف على تيماء بين الحجاز والشام ، وكان العربُ ينزلون بالسَّمَوْألِ ضيوفًا ، فيمتارون في حصنه - أي يأخذون ميرتهم وهي الطعام والشراب – والتجأ إليه امرؤ القيس فأودعه دروعه وأسلحته وابنته فيما يقال ، يوم رحل إلى القُسطنطينية يستنجد بقيصر الروم ويسأله النصرة على قتلة أبيه من بني أسد ، و كان من خبر امرئ القيس أنه مات في طريق عودته في أنقرة ، فأقبل الحارث بن أبي شمّر الغسَّاني على السَّمَوْألِ في جيش يطلب الدروع والأسلحة ، فتحصَّن السَّمَوْألُ منه وأبى تسليمه الوديعة ، وكان ابن السَّمَوأل قد خرج للصيد ، فلما رجع أخذه الحارث ، ثم قال للسَّمَوأل : تعرف هذا ؟ قال : نعم هذا ابني . قال : أفتسلّم ماقِبَلك أم أقتلُه ؟ قال : شأنك به فلست أخفر ذمتي ، ولاأسلم جاري ، فضرب الحارث وسط الغلام فقطعه قطعتين وانصرف عنه ، فقال السّموأل مما قال في ذلك :
وَفـَيْتُ بِأُدْرُعِ الكِنْدِيِّ إنّي
إذا ماخانَ أقوامٌ وَفـَيــْتُ
وقد بقي السَّمَوْألُ محافظًا على تلك الدروع حتى وافى بها الموسم فدفعها إلى ورثة امرئ القيس ،
و من يومها والعرب يضربون المثل بوفائه .
وشعرُ السّمَوأل يخلو من روح التكسّبِ والمدح ، و يقوم على معاني الشرف والإباء والاندفاع إلى المجد والفخر والتباهي بالحسب والنسب وحفظ الذمام وبسطة اليد ، و الجانب الأعظم من شعره يقع في مقطوعات قصيرة بشكل يلفت الانتباه حتى أن أطول قصائد التي حفظتها كتب التراث والتاريخ الأدبي تقع في ثلاثة وعشرين بيتا فقط ، وهي القصيدة اللامية التي خلدته ورشقت اسمه كالوردة في ذاكرة الشعر .
ومن مأثورات السَّمَوأل من شعر الحكمةِ قصيدته - مقطوعتة فهي أقل من سبعةِ أبيات - القصيرة التي يفلسف فيها موقفه من الموت ، يقول :
اسْلَمْ سَلِمْتَ ، و لا سَلِيْمَ على البلِى
فنِيَ الرّجالُ ذَوُو القُوَى فـَفـَنِيْــــــتُ
كيفَ السلامَة ُ- إنْ أرَدْتُ سلامَـة ً-
والموتُ يطلبُني ولســتُ أَفــــُوتُ
وأَقِيْلُ حيثُ أُرى فلا أخفى لــَــــهُ
ويـــرى فــــلا يَعْيَا بحيثُ أَبِيْـــتُ
مَيْتًا خُلِقْتُ ولــــمْ أكـــنْ مِنِْ قبلِها
شيئًا يمــوتُ فَمِــتُّ حيثُ حَيِيـــْتُ
وأموتُ أخرى بَعْدَها ولأعْلَمَـــــنْ
- إِنْ كانَ يَنْفَعُ - أَنَّني سَأَمُــــوتُ
يدعو لنفسه بالسلامة - سهوًا - ثم يستيقظ على حقيقة الموت الذي يترصدنا ويدركنا ولو كُنّا " في بروج ٍمُشَيَّدَة " بالرغم من أنه لم يعش حتى يقرأ الآية الكريمة .
وماذا عن لامية السَّمَوأَل ؟!
إذا المَرْءُ لم يَدْنَسْ من اللؤْمِ عِرْضُهُ ،
فكُــــلُّ رداءٍ يَــــرتَـــدِيـــهِ جَميـــلُ
وإنْ هُوَ لمْ يَحْمِلْ عَلَى النـَّفـْسِ ضَيْمَهَــا
فليـــسَ إلى حُسْــــنِ الثَّنَاءِ سَبِيــــلُ
استهلال مباشر بلا تعقيد ، في جزء من الثانية - لنقل فيمتوثانية - يقفز بنا الشاعر في قلب الحكمة ليؤطِّر لنا قيمة سامية " من أول السطر " ولم يمهد لقصيدته بالبكاء على الأطلال أو الغزل أو أي غرض آخر ، بل جاء على العكس من مجايليه الذين كانوا يؤجلون الحكمة إلى نهاية القصيدة .
" اللؤم " اسم جامع لكلّ الخصال المذمومة ، و الذي يتدنَّس هو الثوب ... الرداء ... ، لكن الشاعر ذهب إلى الأرقى ليؤكد أن الرداء الظاهر ليس سوى بريق خادع ... فالثياب النظيفة لا تدل - بالضرورة - على نظافة النَّفْسِ / المَرْءِ الذي يتهادى فيها .
خلاصةُ القول : إن الإنسان إذا لم يتدنّس باكتساب اللؤم واعتياده ، فإن أي ملبس يلبسه - رداء يرتديه - سيكون جميلا .
و" الضّيْمُ " هو الظلم ، ومن لم يكبح جماح نفسه فلن يبقى منه ما يستحق الثناء عليه ، وعندما تكون النفس نفسا حرّ ةً أبيةً لا تقبلُ الظلم منها أ و عليها فلا بد أن ينضوي الإنسان تحت جناحيها ولا يكون معاندًا رافضًا لها إلا في حال كونها أمَّارةً بالسوء .
بعد هذين البيتين المضيئين يدلف الشاعر إلى الفخر بقومه ... بالكيان الجمعي فلم يستخدم صيغة المفرد إلا مرة واحدة حتى أخر القصيدة ، وهنا تبرز قيمة " الانتماء " والذوبان في " الكل " .. أن يصبح الواحد ذرة تدورفي معنى وتنصهر في روح الجماعة فتتلاشى " الأنا " وتعلو الـ " نحن " :
تُعَيِّرُنـــا أنَّا قليلٌ عَـــدِيْــدُنـــا
فقلتُ لها : إنَّ الكِرامَ قَلِيْـــــلُ
وما قلَّ مَنْ كانت بقاياهُ مثلَنــا
شبابٌ تسامى للعُلى وكُهُـــولُ
وماضَرًّنا أنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنـــــا
عزيزٌ ، و جارُ الأكثَرينَ ذَلِيلُ
لم يقل : " تعيّرني " بالرغم من أنه يعطف عليها الرد " فقلتُ " وبالرغم من أنه لو قال :" تعيّرني" لما كسر الوزن فالكلمة في الحالتين - الجمع و المفرد - بوزن " مُفَاعَلَتُنْ " ( إذا وزنّاها بمعزل عن البيت كله بالقطع ) ، لكنه اضطر إلى استخدام صيغة المفرد في " فقلتُ " اضطرارًا عروضيا ( أي من أجل الوزن العروضي )
الشاعرُ لا يؤمن بنظرية " المقياس العددي " فالعبرة ليست بالكثرة بل بالقوة، و قوله :
" وَمَا ضَرَّنا أنَّا قَليلٌ وجَارُنـا
عزيزٌ ، و جارُ الأَكْثْرِينَ ذَليِلُ "
يُضاف - أيضا - إلى أبيات الحكمة والأقوال المأثورة ، و " ما " يجوز إعمالها على وجهين : أن تكون نافية بمعنى " لم يضَّرنا " ، أو أن تكون استفهامية على سبيل التقرير فيكون المعنى : أيّ شيءٍ ضرّنا ؟! أو - بشكل أقرب - : " وهل ضّرنا ......؟ " .
لَنَا جَبَلٌ يَحْتَلـُّهُ مَــــنْ نـُجِيـــــــرُهُ
منيعٌ يردُّ الطّرفَ وَهْوَ كَلِيــــــلُ
رَسَا أَصْلُهُ تحتَ الثرى وَسَما بِــهِ
إلى النَّجْمِ فَرْعٌ لايُنَالُ طَويـــــلُ
هُوَ الأَبْلَقُ الفَرْدُ الذي شاعَ ذِكْرُهُ
يَعِزُّ على مَنْ رَامَهُ وَيَطـُــــــولُ
يتحدث عن حصنهم ... جبلهم ... وبنائهم الشهير " الأبلق الفرد " ... وكلها بمعنى ، فالأبلق الفرد هو الحصن المبني فوق الجبل ، و أخذ صفة " الفرد " - اللقب - حيث لم يكن له شبيه أو مثيل وقتها ، و هو عالٍ منيع - حصين - يرد البصر كليلا قاصرًا عن إدراك آخره ، و كل الصفات في الأبيات الثلاثة عائدة على الجبل - الحصن - الأبلق الفرد ... الذي هو " جبلهم " ، أقصد أن كل استخدامات صيغة المفرد تتم ترجمتها إلى الجمع لأنها تعود على جملة " لنا جبلٌ .... " .
وإِنَّا لَقَوْمٌ لا نَرى القَتْلَ سُبَّــــــــــة ً
إِذَا ما رأتْهُ عَامِرٌ وسَلـُـــــــــــولُ
يُقَرِّبُ حُبُّ الموتِ آجَالَنَا لَنـــــــا
وتَكْرَهُهُ آجالُهم فَتَطـُـــــــــــولُ
وَمَا مَاتَ مِنَّا سَيِّدٌ حَتْفَ أَنْفِـــــــهِ
ولا طـُلَّ مِنَّا - حَيْثُ كانَ - قَتيِلُ
تَسِيْلُ على حَدِّ الظُّبَاتِ نـُفـُوسُنــــا
وليستْ على غيرِ الظُّبَاتِ تَسِيْــلُ
<<سُبّة : عار ، عامر وسلول : قبيلتان ، آجال : جمع أجل و هو العمر ، حتف أنفه : على فراشه ، الظُبات : جمع ظُبة وهي حدّ السيف>>
ربما كان من أجمل أبيات القصيدة قوله : " يقرّبُ حبُّ الموتِ آجالَنَا لنا .... " معنى رائع وبسيط وفي متناول اليد يحمل في طياته تراثا هائلا من الشجاعة والإقدام والصبر على العدو ، و كنتُ – ذات قراءة - قد قرأتُ الشطر الثاني : " وتكرههم آجالهم فتطولُ " فوجدتها أجمل من قوله : " وتكرهه آجالهم ..... " لأن الأجل هو الموت - بمعنى - فعندما يكرههم الموت / الأجل ... تطول أعمارهم ، لكن عندما " تكره آجالهم الموت ... " يخفت جمال البيت .
<< وما ماتَ منّا سيّدٌ حَتْفَ أنفِهِ ....>>
جاء في " المزهر " ( الجزء الأول – ص 126 – مطبعة السعادة - مصر ) أن لفظة " ماتَ حتفَ أنفِهِ " لم تُسمع إلا من النبي صلى الله عليه وسلم وما سُمعت عن العرب من قبل ، أما قوله : " ولا طلُّ منّا حيث كان قتيلُ " أي لم نترك دمه يضيع هدرًا بل لا نهدأ حتى نأخذ بثأره من قاتليه .
ثم يعرج بنا ليتحدث عن أصلهم فيقول :
صَفَوْنَا فَلَمْ نَكْدُرْ وَأَخْلَصَ سِرَّنَــا
إنَاثٌ أطابتْ حَمْلَنَا وَفـُحُــــــــولُ
عَلَونَا إلى خيرِ الظـّهورِ وحَطـَّنَــا
لوقتٍ إلى خيرِ البطونِ نــــزولُ
فنحنُ كَمَاءِ المُزنِ ما في نِصَابِنا
كَهَامٌ ، و لا فينا يُعَدُّ بَخِيـــــــــلُ
يقول : صفت أنسابنا ولم يَشُبْها أي كدر ، و شبّه صفاء هذه الأنساب بصفاء ماء المُزن - المطر - الذي لا تشوبه شائبة .
بعد ذلك يعود مّرةً أخرى إلى ساحة المعركة غير أنه - هذه المرّة - يدخلها بسلاح القول "الحجّة" ثم سلاح الكرم ، ثم السيف ليقترب من الهدف الرئيسي أو " بيت القصيد " :
ونُنْكِرُ – إنْ شِئْنَا - عَلَى النَّاسِ قَوْلَهُــمْ
ولايُنْكِـــرونَ القَــــوْلَ حيــــنَ نَقـُـــولُ
إذا سَيِّدٌ مِِنَّــــا خَــــــلاَ قَــــامَ سَيِّــــــدٌ
قَــؤُولٌ لِمَــا قـــالَ الكِــــرامُ فـَعُـــــولُ
وَمَـــا أخْمِـــدَتْ نَــــارٌ لنا دُوْنَ طَـــــارِقٍ
ولا ذَمَّنَــــا في النَازِليـــنَ نَــــزِيــــــلُ
وأيَّامُنـــا مَشْهُــــورةٌ فـــي عَـــدُوِّنَـــا
لَهَـــا غُـــرَرٌ مَعْلُومَـــة ٌوحُجُــــــــولُ
وأَسْيافـُنـــا في كلِّ شـــــرقٍ ومغـــرِبٍ
بها من قِــــراعِِ الــدّارِعينَ فـُلـــــــُولُ
مُعَـــــــوَّدَةٌ ألاَّ تُسَـــلَّ نِصَــــالـُهــــــا
فـَتُغـْمَــــدَ حتّـــــى يُسْتَبـــــاحَ قَبِيـــــلُ
سَلِي - إنْ جَهـِلْتِ - النّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ
فليــسَ سَــــوَاءً عَــــالِـــمٌ وَجَهُــــولُ
فإنَّ بَنِــي الريَّـــانِ قـُطـْـبٌ لِقَــومِهِـــم
تّدُورُ رَحَـاهُـمْ حَـولَهُــمْ وَتَجُـــــــولُ
إلى هنا تنتهي " لامية السَّمَوْأل " ولكن الكلام فيها وعنها أو " صداها " لم ينتهِ بعد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
( بشير عيّاد : ( ناطحاتٌ شعريّة ، دار " فرحة " بالقاهرة ، مارس 2003م ، مكتبة الأسرة ، أغسطس 2003م )