دراسة نقدية ومعارضة
لقصيدة الشاعرة بلقيس الجنابي
****************************************
أ ُناديْ أسمَــريْ حُلوالمحيّا
الشاعرة بلقيس: إكرام الجنابي
أ ُنادي أسمَــريْ حُلوالمحيّا
فأمسى الشوقُ مأسورا ً لديّا
وقد جاءَ الصبــاح ُبعندليبيْ
على الأغصان ِ صدّاحا ًشجيّا
يطالعنـــيْ وقـــد لبّــى ندائــي
بأغنيةٍ يــَــرُدُّ بهــــــا علــَــيّا
فيغمرنــي حيـــــاءٌ منــهُ حلوٌ
ويحمَــــرُّ جبينيْ بـــــــهِ مليّا
وأسْتحْيي إذا مــا قــــال أهلاً
ويغدو صوتي من خجلي خفيّا
يرُدُّ عليــــه قلبـــي ياحبيبي
فينضَحُ من لسانيْ الحبَّ ريّا
وأ ُخفي رَعْشتـيْ فأدُسُّ وجهي
بكفـّيَّا وقـــــد رَجفـَـتْ يــَــديَّا
وأهربُ منه كي تـَرضى شفاهيْ
لتُسعفنــــيْ بمـــــا كَتَمَتْهُ شيّا
وينتظرُ الكـــــلامُ علــى لساني
فتـَحْكيـه ِ حَيــــــــــاء ًمُقـْلتيَّا
دراسة نقدية لقصيدة الشاعرة بلقيس / أنادي أسمري ... بقلم / صالح المزيون
كعادتها دائماً تطربنا بأعذب الألحان وتعطرنا بألوان الشذى والعبير ...
إنها شاعرتنا بلقيس بنت الجناب ويحلو لي أن أقول شاعرتنا لنستأثر بها في وحيها فهي لنا وبنا ومنا فاسكبي لنا رحيقك المختوم فلقد اشتقنا للرواء ...
ألمح في حنبات كأسك اليوم في قصيدتك هذه مقاماً للوجد كبير ! يعرضه على أسماعنا ذلك الحَبَبُ المتناثر كالآلئ على سطور القصيدة ... فهو موقف ليس باليسير ! فالنداء كان مخبوءً خلف نبض الأماني وحنين الكلمات منذ سنين ... والشوق مكبوت يعذبه الصمت والجَنان .. وبين هذا وذاك تحرر النداء لينهي حالة الصراع تلك ويعلن فوزه على جميع عوائقه ! فسار محلقاً حراً طليقاً يخاطب روحه في رقة وصفاء :
أ ُنادي أسمَــريْ حُلوالمحيّا
ولكن الشوق لم يزل حبيس تلك الضلوع الحيارى وكأنه الباعث الخفي للنداء
فأمسى الشوقُ مأسورا ً لديّا
آه على ذلك الشوق الكبير وما يعتمله في النفوس .. فإما الخروج بالنداء وإما التكتّم والأنين وكلاهما حلٌ وَبِيل ! ونستطيع أن نتلمس مرارة التردد وحيرة الاختيار من خلال ما عبّرتِ به من مترادفات تحمل النقيضين في المعاني بكلمة : (أنادي) وجملة : (الشوق مأسور) فكيف للنداء أن يظهر وهو الحبيس المُعنّى ؟ وذلك هو الإبداع العفوي لدى الشاعرة .
ولكن الصباح بعد ذلك لم يدعها في حيرة من أمرها فاحتمل عنها صعوبة اتخاذ ذلك القرار الجميل وسرعان ما أسعفها بتدخله معيناً لها راحماً بها ليحضر لها طائرها المغرد في داخلها الذي جاء وهو يعزف لها أجمل ألحان التبتل والشعور ..
وكذلك فإننا نلمح في لفظة : أسمري تركيباً رائعاً بديعاً حيث أضافت الشاعرة للفظة (الأسمر) حرف الياء (أسمري) فتراقص المعنى وابتهج بالتخصيص الآسر الذي يدل على أن ذلك الأسمر لها وحدها دوناً عن الخلائق أجمعين وكأنها لاتقبل أي شراكة فيه ...
كذلك فإنني لست أدري ... أحس أن خلف هذه الياء قد دارت رحى معركة حميمة بين عوطف شتى ونظرات عديدة بغية الفوز بذلك الأسمر المحبوب حتى انطلقت هذه الياء مزهوة فخورة بالنصر لتنادي بأعلى صوتها (أسمري) أنا وحدي حقي دون منازع !
عجيبة هذه الياء .. وسأعتبرها من شدة وجدها أنها للنسب ! فلقد أسماها اللغويون أو النحويون بياء النسب كأن تقول عراقي نسبة إلى العراق أو أزهري نسبة إلى ماقبلها من المتعلقات ولكنها هنا تنسب إلى ماذا ؟؟؟
لذلك (ومع عذري لأساتذتي النحويين) يطيب لي أن أسميها ياء الغزل والتشبيب فهنيئاً لك ياشاعرتنا على ذلك الابتكار المَعين...
وقد جاءَ الصبــاح ُبعندليبيْ
على الأغصان ِ صدّاحا ًشجيّا
يطالعنـيْ وقـد لبّى ندائـي
بأغنيةٍ يَـرُدُّ بهـا علـَــيّا
تذكرني هذه الجزئية من قصيدتك بحالة الافتتان التي اعترت شاعرنا الرائع طاهر أبو فاشا ولم يتمكن من البوح بها أمامنا فأوكلها إلى روح شاعرة العشق والتصوف رابعة العدوية لترويها لنا وتصورها بكل دقة وشفافية ونور عندما قال :
سألت عن الحب أهل الهوى
سقاة الدموع ندامى الجوى
فقالوا حنانك من شــجوه
ومن جــده بك أو لهـوه
ومن كــدر الليل أوصفوه
سلي الطير إن شئت عن شدوه
ففي شـدوه لمسات الهوى
وبرح الحنين وشرح الهوى
تقول الشاعرة وأنا كذلك جاءني طائري مغرداً بعدما أخبره الصباح مذيعاً له أشواقي فأتى صداحاً طروباً يبادلني أنغام الحب والوفاء
فيغمرني حياءٌ منهُ حلوٌ
ويحمرُّ جبينيْ بـهِ مليّا
وأسْتحْيي إذا ما قال أهلاً
فيغدو الصوت من خجلِ خفيّا
وفي تصوير الشاعرة لهذه الحالة عمدت سريعاً إلى استحضار مترادفات الحياء واحمرار الجبين والخجل وذلك حفاظاً منها على الصورة المشرقة العفيفة للغزل العذري الفريد فنفت الاسفاف في الصورة لما تنضح به روحها الزكية الطاهرة وذلك لإبعاد أدنى الاحتمالات التي تتولد صدفة في مخيلة القارئ المجهول فالقراء ليسوا سواء وهذه نقطة ذكاء وعفاف تحسب للشاعرة ..
كذلك نلحظ أنها قد استعملت في مفرداتها تراكيب الفعل المضارع (يغمرني يحمر أستحي) وذلك لتثبيت معنى الاستمرار والتتابع في الحدث ...
يرُدُّ عليـه قلبي ياحبيبي
فينضَحُ من لسانيْ الحبُّ ريّا
وأ ُخفي رَعْشتيْ فأدُسُّ وجهي
بكفّيَّا وقد رَجفتْ يـَــديَّا
وأهربُ منه كي تَرضى شفاهيْ
لتُسعفنيْ بمـــا كَتَمَتْهُ شيّا
وينتظرُ الكـلامُ علـى لساني
فتَحْكيـه ِ حَيــاء ًمُقـْلتيَّا
إبداع متميز متفرد يكتنفه تياران من العاطفة :
أولهما تيار الافتتان بالقلب والجسد وآخرهما تيار العشق الروحي النفسي حيث أنها غلّبت هذا الأخير في ملحمتها الشعرية وذلك من وجهة نظري أبقى للتجربة في الوجدان وبؤرة الأحاسيس لأن هذا التيار الروحي العفيف أسمى من النظرات الجسدية الشوهاء لذلك نجدها آثرت الهروب والانطواء على ذاتها لأنها خجولة لاتريد أن تبوح بمشاعرها خوفاً منها وتحفظاً لعدم تفلت أي لفظة من شفتيها من شأنها أن تخدش تلك الصورية الروحية العلوية المشرقة فآثرت الانسحاب ليبقى الشوق والافتتان منتظراً في ثغرها الوضاء تلوكه حلواً مستساغاً كلما رغبت في التذكر ... وذلك برأيي أدوم بقاءً وأشد خلوداً لهذه التجربة العاطفية التي كُتب لها البقاء وقُيض لها الخلود ....
سامحك الله ياشاعرة لقد حركت بأنفسنا ما قد غفى من اللواعج والاشتياق منذ سنين ... وأججت بكلماتك العذبة الرقيقة ماخبا من مجامر الوجد والغرام !
ولكن مايعزينا في ذلك أنك بعثت إلينا أملاً مجنحاً مشرقاً من خلال عزفك الرائع على أوتار قلوب العاشقين علنا بذلك أن نستعين به على ما تبقى لنا في المسير فرحلة العشق نضاحة بالسعادة والألم ولاتثريب في ذلك حتى وإن قطعنا الطريق بخطوات الأماني والأمل والسراب ....
معارضة لقصيدة الشاعرة بلقيس / أنادي اسمري.... شعر : صالح المزيون
مقام الوجد
سأهتفُ باسمِ من أهوى مليّا
لعلي أنشرُ الأشواقَ رِيّا
ويرتحلُ النداءُ الى حبيبي
فيعرف ذلك الحبّ الخفيّا
وَتُخبرُه النجومُ بأنّ قلبي
يُكتمُ شَـوقَهُ غَضّاً نديّا
فَتملِكهُ الصبابةُ ثمّ يأتي
ليقرأ ما انطوى في مقلتيّا
أخافُ من اللقاء .. يدقُ قلبي
وأُخفي رعشةً سـكنت يديّا
ويُقبل كالربيع وأمنياتي
تُسابقُ موعدي شيّا فشيّا
يُعانقُ نبضُه نبضاتِ قلبي
وَتكشفُ روحُه سِراً خفيّا
ويروي الصمتُ عنّا كلَّ شيئٍ
فيغدو الكونُ عُشـاً مخمليّا
وَتشتعلُ الصبابةُ في دِمائي
وَتعزِفُ داخلي لحناً شجيّاً
وَيملؤني شعورٌ لست أدري
غريبٌ لم يكن يَوماً لَديّا
حياءٌ أم دلالٌ أم فتونٌ ؟
صراعٌ أم مُنىً تَكسو المُحيّا؟
فأهربُ كي أَلوذَ بأُمنياتي
لهيبُ الشوقِ جَبارٌ عليّا
وتبقى الذكرياتُ مِدادَ عُمري
وَتَحيا خالداتٍ في المُحيّا
***
الشاعر صالح المزيون
10ــ 07 ــ 2011