قافلــة الحجازيين
أبت الأيام إلا أن تقسو عليها ويرهقها الزمان من أمرها عسرا .. راحت أم حبيبه تكابد فى دار الغربة وحدها رحلة الشقاء والمعاناة بعد رحيل شريك حياتها ورفيق عمرها وسندها فى تلك البلاد .. وركنها الشديد الذى كانت تأوى إليه وتلوذ به وهى بعيدة عن أهلها وعشيرتها .. ظلت شهرا وراء شهر فى تعب ونصب لا تعرف للراحة طعما ولا تجد إليها سبيلا .. وهى تذهب كل صباح إلى أسواق غزه تجوبها طولا وعرضا إما مترقبة وصول إحدى قوافل الحجاز .. أو ساعية على رزقها تشترى بعض الأشياء بالأجل من بعض الباعة ثم تبيعها بربح ضئيل .. حتى توفر قوت يومها وهى تحمل رضيعها بين يديها لا يفارقها لحظة واحدة .. حتى صارت وجها مألوفا للتجار والباعة ورواد السوق من كثرة ارتيادها وسؤالها لهم عن قوافل تجار الججاز ..
مضت أياما وشهور كلها كد ومعاناة إختلطت فيها آلام الفراق بآمال الإنتظار .. كانت الساعات تمضى بطيئة متثاقلة كأنها دهر فما أبطأ الأيام وما أطول الليالى عندما تقسو على إنسان .. إلى أن كان يوم بينما هى فى قلب السوق تبحث عن ضالتها .. إذ بصوت يأتيها من بعيد لشاب ينادى عليها من بين ضجيج أصوات الباعة ورواد السوق التى ملأت أرجاء المكان ............
ــ يا امرأه .. يا أزديه .. يا أم الرضيع !.
إلتفتت حواليها فى ترقب تبحث عن صاحب هذا النداء بين الوجوه الكثيرة من حولها .. لتجده شابا فتيا فى الثلاثين من عمره يشير إليها من بعيد , بينما يلوك فى فمه حبة من التمر الذى يحمل بعضا منه فى يمناه .. توجهت ناحيته فى الحال فإذا به يبتدرها مبتسما .....
ــ أجل أنا الذى أنادى عليك .. ألست أنت الحجازية التى تسأل كل يوم عن قوافل تجار الحجاز ؟!.
ردت فى لهفة وشوق ....
ــ بلى يا أخا العرب , هيه هل وصلت إحداها ؟!.
ــ نعم بالأمس رأيت قافلة تجار حجازيين وهى تدخل من بوابة السوق .. أجل فأنا أعرفهم وأعرف شيخهم .. تذكرتك لحظتها على الفور وتمنيت أن أراك لأخبرك .. وها أنا أعثر عليك أخيرا ..
ــ أين أجدها بالله عليك ؟!.
ــ فى سوق الحرير ..
ــ قافلة من هذه ؟!.
ــ قافلة المزنى .. إذهبى أنت هناك واسألى عن أبى سعيد المزنى ..
ــ أهو شيخ القافله ؟!.
ــ أجل .. إنه شيخ القافلة وكبير تجار الحرير . ألم أقل لك أنى أعرفهم ..
ــ شكرا لك يا سيدى على معروفك هذا ………………
إنطلقت من فورها لا تلوى على شئ فرحة مسرورة إلى سوق الحرير .. إنها لم تذق للسعادة طعما منذ رحيل زوجها إلا هذه اللحظة التى علمت فيها بوصول قافلة التجار .. سألت أول بائع صادفته فأشار لها على شيخ وقور يجلس غير بعيد فى الجهة المقابلة وإلى جواره شاب فى حوالى العشرين من عمره وأمامهما أكوام من البضائع بينما يحتسيان على مهل شرابا ساخنا من إبريــق أمامهما وضعاه فوق قطع من الخشب المتوهج والبخار يتصاعد من بين جنباته ..
بخطى أضناها التعب وأثقلتها الليالى والأيام عبرت الطريق إليهما .. لكن تهون الصعاب وتزول الآلام فى سبيل الرجوع إلى الديار والأهل .. إبتدرتهما قائلة ....
ــ السلام عليك يا سيدى ..
ــ وعليك السلام يا ابنتى .. تفضلى ؟!.
ــ الشيخ أبو سعيد المزنى .. تاجر الحرير .. أليس كذلك ؟!.
ــ بلى يا ابنتى أنا أبو سعيد المزنى وهذا ولدى يحي .. تفضلى إستريحى ههنا ..
ــ بارك الله فيك يا سيدى ..
ــ يبدو أنك متعبة يا بنيتى .. ما رأيك فى أن تحتسى بعضا من هذا الشراب الدافئ .. إنه شراب النعناع .. سيريحك بعض الشئ ويهدئ من روعك ..
قالها وهو يشير لولده الذى تناول كوبا فارغا بيده وراح يصب فيه النعناع فى سعادة من الإبريق الساخن ثم ناوله إليها وهى تقول له ......
ــ شكرا لك يا سيدى .. إنما أتيت إليك لتصنع لى معروفا ..
ــ على الرحب والسعه .. قولى ما تشائين وكلى آذان صاغيه ..
ردت قائلة بعد أن وضعت كوب النعناع إلى جوارها ....
ــ إنها رسالة أريد أن تبلغها لأبى فى مكه ..
ــ أمر هين يسير لا تشغلى بالك أنت .. ما عليك إلا أن تخبرينى باسم أبيك والمكان الذى يسكن فيه ؟!.
ــ أبى هو عبيد الله الأزدى ويسكن فى دار فى شعب الخيف بالثنيه أسفل مكه ..
رد عليها مبتسما قاصدا تهدئة روعها مؤنسا وحشتها .....
ــ أنت أزدية إذن .. ممن قال عنهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] : " الأزد هم أسد الله فى الأرض , يريد الناس أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم " صدق رسول الله .. لكنك لم تخبرينى بعد عن رسالتك التى تريدين إبلاغها لأبيك ؟!.
ــ أبلغه يا سيدى .. أبلغه أننى فى انتظار أن يأتينى إلى هنا على الفور ..
ــ لم يا ابنتى ؟!.
ــ ليعود بى أنا وولدى هذا إلى البلاد مرة ثانيه ..
ــ مرة ثانيه !. ما سبب ذلك يا ترى .. هل لى أن أسأل أم يكون تطفلا منى ؟!.
ــ عفوا سيدى إنها وصية زوجى الراحل ..
ــ وصية زوجك الراحل ؟!.
ــ أجل لقد توفى زوجى هنا منذ حوالى ثمانية أشهر .. بعد أن رزقنا الله بهذا الولد ولم يكن قد مضى على ولادته بضعة أشهر .. ومنذ ذلك اليوم وأنا أترقب القوافل القادمة من مكه لأبعث بهذه الرساله .. إلى أن علمت الآن بوصول قافلتكم بعد طول انتظار ..
ــ فعلا لقد تأخرت القافلة هذه المرة على غير العاده .. إننا نعانى من بعض الكساد فى سوق التجارة هذه الأيام ..
صمت برهة رشف خلالها رشفة من قدح النعناع ثم قال ....
ــ أخبرينى يا ابنتى .. لأى بطن من بطون مكة ينتمى زوجك الراحل ؟!.
ــ إنه مطلبى ..
ــ من بنى المطلب بن عبد مناف ؟!.
ــ أجل يا سيدى ..
ــ بخ بخ .. أهل السقاية والرفاده .. يرحم الله جده .. كان يسقى الحجيج الماء العذب ويطعمهم طوال الموسم .. إيــه يا ابنتى يا له من نسب رفيع وأصل شريف ..
أردف قائلا وهو يهز رأسه ............
قد ظمئ الحجيج بعد المطلب ؛ ليت قريشا بعده على نصب ..
مرت لحظات من الصمت والشيخ مطرق رأسه ينكت الأرض بعود فى يده .. لم يلبث بعدها أن رفع رأسه قائلا ...
ــ هل تسمحين لى فى سؤال يا ابنتى ؟!.
ــ تفضل سيدى .. على الرحب والسعه ..
ــ متى رحلتم عن مكه .. ولماذا ؟!.
ــ غادرناها منذ حوالى عشر سنوات عندما كلف زوجى أن يكون ضمن حراس الثغور .. يومها اختار أن يكون ضمن الجماعة المتجهة إلى غزه وعسقلان .. إن لأجداده ذكريات فيها ..
ــ أجل أجل “ غزة هاشم “ إن فى ترابها رفات جد آبائه " هاشم بن عبد مناف " .. على كل حال إهنئي بالا يا ابنتى وقرى عينا , سأبلغ رسالتك فور وصولنا بإذن الله . من يدرى ربما يأتى أباك معنا فى رحلتنا القادمه لترجعوا إلى البلاد فى حماية قافلتنا , فالطريق يا أزدية غير آمن كما أن السفر شاق وطويل .. كما تعلمين ..
حاول الشيخ قبل أن تنصرف أن يعطيها بعضا من الدراهم تعينها على أعباء الحياة فى الأيام القادمه لما رأى من رقة حالها .. لم ينس أن يؤكد لها أن هذه الدراهم ليست صدقة وأنها دين عليها سوف يستردها من أبيها الأزدى فور رجوعه إلى مكه .. غير أنها أبت فى إباء وشمم شاكرة له حسن صنيعه وجميل كرمه ..
يتبع إن شاء الله ........................
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور