المستقبل - حاورتها: سحر طه
نجاح سلام فنانة ارتبط اسمها بالغناء الرشيق والطرب المحبب، نشأت في كنف والدها محيي الدين سلام الموسيقي الأكاديمي الذي أطلق فنانين من خلال عمله الدؤوب والطويل في الإذاعة في لبنان، وتخرّجت على يديه أسماء لمعت. نجاح سلام اسم مرادف لخفة الظل أيضاً والوجه البشوش، والعطاء الكبير.
مسيرتها الفنية بدأت في الأربعينات من القرن الماضي، حفلت بأعمال لا تزال تتردد على ألسنة الناس والأجيال التالية من الفنانين والفنانات. صوتها لا يشبه صوتاً آخر، بمعنى أنك حين تسمعها تعرف منذ الوهلة الأولى أنها هي، إذ رسمت لها بصمة واضحة في الأغنية العربية، وشخصية مستقلة. لم تقلد فنانة، ولم تتأثر سوى بالفن الأصيل والجملة التطريبية الشرقية. والحديث عنها قد يغفل الكثير من الحقائق، وأهمها أن نجاح سلام تتمتع بذاكرة تحسدها عليها إبنة العشرين، إذ تتمكن من سرد ذكريات عاشتها قبل بلوغها الثلاث سنوات أو أقل، وهذه ليست سوى واحدة من صفاتها.
"المستقبل" لا تحاور السيدة سلام بقدر ما تحاول الاستماع إلى ذكريات في سنوات مضت. وسماع بعض آرائها في فن وفناني هذه الأيام. (هنا الحلقة الأولى)
***
نعود إلى الطفولة والتربية وأثر الوالد؟
ـ أنا أكبر أخوتي. لي خمسة أشقّاء، ثم جاءت أختي التي تصغرني بعشرين سنة. ولدتُ في بيت "النحاس" في الطريق الجديدة، في بيروت ثم انتقلنا إلى بيت الدنا. بعدها بنى جدي بيتاً في منطقة الملعب البلدي، وسُمي الحيّ بحي الشيخ عبد الرحمن لأنه لم يكن فيه سوى بيت "الداعوق" وبيت جدي، وبيتين آخرين صغيرين. وآنذاك حين يقولون الملعب البلدي، وكأنه سفر إلى منطقة أخرى. أما منطقة "شوران" التي أسكن فيها حالياً فكانت لا تزال منطقة "شط البحر"، والمزرعة آنذاك كلها رمولاً ومليئة بأشجار الصبّار.
تتحدث السيدة سلام بكثير من الحنين حول تلك المرحلة التي كانت تجمع العائلات كلها في بيت واحد. "... حين تكبر العائلة ويتزوج الأبناء ويولد الأحفاد لا يخرج هؤلاء من كنف كبير العائلة بل يتم بناء بيت أو بيوت ملحقة بالبيت الأساسي فتبقى العائلة مجتمعة، متكاتفة.
والدي محيي الدين سلام رحمه الله وحيد أهله، لذلك حين ولدتُ وكنت البكر، كان الأمر محزناً للعائلة. أخبروني أن جدي ذلك العالم المتبصّر، الأديب والشاعر، وعازف العود من الطراز الأول، أي "عالم دين ودنيا" كانت له ما يشبه الرؤيا، حين دخل ووجدهم كأن "على رؤوسهم الطير"، نظر إليّ وقال لهم: "... زعلانين؟ هذه نجاح بدكم تشوفوا يا بابا على وجهها الخير". سمّاني نجاح ودلّلني، وجرّ الأمر العائلة التي دللتني هي الأخرى، ومن كثرة الدلال مرضت، فحين آن فطامي، أرسلتني والدتي إلى عمتي في تركيا حيث كانت تسكن وزوجها السوري، وهناك بدأت تطعمني أنواع اللحوم والمأكولات، ولما أتجاوز السنة.
تقول سلام: الشيء الغريب والذي أحمد الله عليه أنه أنعم علي بذاكرة نادرة، ففي تلك الأيام في تركيا، وعلى الرغم من أن عمري لم يكن يتجاوز السنة، فما زلت أذكر تماماً شكل البيت الذي أقمت فيه، وحين وصفت البيت والحي والشارع لوالدي، استغرب وقال: كان عمرك سنة، أرسلناك لكي نفطمك..." لذلك أعتبر هذه المسألة نعمة من الله.
أيضاً أحمد الله أنني نشأت في كنف عائلة فيها الدين والفن في الوقت نفسه، وفي ظل قيم أخلاقية واجتماعية، تعلمت منها التذوق الجيد للأدب والكلمة ولأن البيت استقبل كبار العلماء والأدباء الذين كانوا يقصدون جدي الشيخ عبد الرحمن، وكنت الطفلة المدللة، وكان جدي يستقبل كبار الشخصيات وأنا جالسة في حضنه.
الموهبة
متى اكتشفت العائلة موهبتك؟
ـ منذ ولادتي. قد لا تصدقين، لكن الموهبة تخلق مع الإنسان، ثم تصقل بالعلم. أذكر أن الفنان الراحل عبد الكريم مطر، الذي لقب بأمير البزق، أحضره والدي إلى بيتنا قرابة العام 1936، وكان قصير القامة، احتارت والدتي بمكان نومه فقال لها والدي: ينام في سرير نجاح. وكان سريري صغيراً جداً. وبالفعل نام فيه. وعندما أبكي كانت تطلب منه أن يعزف على البزق لإسكاتي، وبالفعل حين يبدأ بالعزف أسكت ثم أنام، فتقول لوالدي: يا محيي الدين هذه البنت بدّا تطلع فنانة. حين تبكي سمّعها أي موسيقى تسكت.
طبعاً ما من إنسان يصدق أن المعهد يخلق موهبة. كبار الفنانين لم يدخلوا معهداً، السنباطي، عبد الوهاب، زكريا أحمد. المعهد كان الاستماع إلى الفنانين الأكبر والأقدم. نشأتُ في كنف والدي الذي كان فناناً، وأذكر جيداً منذ كنت في الثانية فما فوق، أولئك الفنانين الذين ترددوا على بيتنا.
مثل؟
ـ الكثيرين، على سبيل المثال، للمرة الأولى رأيت في بيتنا، زكريا أحمد، محمد الكحلاوي، محمد فوزي، محمد عبد الوهاب، سعاد محمد، نازك.
قرابة العام 1940، أو 1941، بعد أن انتقلنا إلى منطقة البسطة الفوقا رأيت كل هؤلاء الفنانين. اكتشف والدي جمال صوتي في تلك الفترة المبكرة، حين كنت في مدرسة الحاج سعد الدين الحوري الملاصقة لبيتنا، كنت أقرأ القرآن في طابور الصباح حيث كان الملعب يطل على غرفة نوم والدي، ومنذ ذلك الوقت أدخلني "زهرة الإحسان" وهي مدرسة راهبات داخلية ليقطع الطريق عليّ، كون المدرسة شديدة، فيها قسوة، فكانت مسألة محزنة بالنسبة لي. في اليوم الأول كنت مكتئبة، في اليوم الثاني زال الاكتئاب، إذ سمعت رخامة صوت الراهبة ماري، المسؤولة عن تدريب الكورس في الكنيسة، ففرحت جداً وقلت لها إن صوتي حلو، وأنني راغبة في الاشتراك في الكورس في الكنيسة.
اعترضت الراهبة ماري على أساس أن ديني هو الإسلام، وكنت يومها في التاسعة أو ربما العاشرة، قلت لها عيب: الذي أعرفه أن المطران مبارك كان يزور جدي الشيخ عبد الرحمن وله صور كثيرة تجمعهما.. وهكذا بدأت صباح كل يوم أرتل مع مجموعة الكورس، فوجدت في ذلك متنفّساً لي. بعد ذلك أصبحت أغني في الحفلات المدرسية نهاية كل عام، بحيث صاروا يستدعونني من مدرسة إلى أخرى.
عام 1942، تقريباً، كان أول حفل لي في "جونيور كوليدج"، في الجامعة الأميركية، في قاعة "الوست هول"، حضرها كما أذكر تماماً أنطوان سعادة، صائب سلام. وكان شامل ومرعي، يعرضان مسرحية "خدعوك" وطلبا مني الغناء في وسط العرض، وكنت يومها مازلت في "زهرة الإحسان"، ولم تكن لدي أغنيات خاصة. كنت ألبس جوارب بيضاً، وجديلتين صغيرتين على كتفيّ، وياقة بيضاء.
في تلك الحفلة غنيت "أسقنيها" لأسمهان، "يا أم العباية"، وأذكر أنني لم أصدق حين سمعت التصفيق الكثير، صرت أنظر حولي وورائي وأتساءل بيني وبين نفسي إن كانوا يصفقون لي أم لغيري، على الرغم من أنني كنت واعية تماماً لمعدن صوتي وأذني الموسيقية وأذكر أن أنطون سعادة التفت إلى صائب سلام وقال له: "يا صائب بيك، ما بيكفيكن السياسة، كمان الفن بدكن تاخدوه...".
المشكلة أن والدي غضب جداً حين عرف أنني أُطلب إلى الحفلات المدرسية، وفي هذا الحفل بالذات، لأنه لم يرغب بدخول الفن بهذه الطريقة، بل بالتعلم على الأصول أولاً، لكن ظروفنا العائلية لم تكن تسمح، خاصة أن جدي عالم دين معروف، والعائلة المحافظة انقسمت بسببي إلى قسمين بين مؤيد ورافض، حيث لم تمتهن بنات العائلات في ذلك الزمان الفن، بل كان مهنة اليهود في الغالبية.
بعد انتهاء المدرسة، وفي أوائل الصيف ضقت ذرعاً بالبيت، حيث لا ترتيل ولا غناء، ولا قرآن. والدتي تمتعت بصوت جميل، وكانت عازفة عود من الطراز الأول، وكذلك عماتي، لكن من دون أن يحترفن بالطبع، فقد كان الأمر مستحيلاً، بل لم نكن نتجرأ على العزف والغناء بوجود جدي في البيت.
بدأت في تلك الأيام "أزنّ" في أذن والدتي، وأخبرها برغبتي الملحة في الغناء، لكنها كانت تخاف على الرغم من أنها أخبرتني قصة زواجها من والدي، قالت: "...تزوجت من والدك على الرغم من أنني كنت مخطوبة لرجل آخر، لكنني حين عرفت أن جارنا الذي يعزف على العود يودّ الارتباط بي، فسخت خطبتي من ذلك الرجل وتزوجت من والدك لشدة حبي للفن...".
في إحدى المرات، حين كنت في سن الحادية عشرة، طلبت والدتي من والدي أن يأخذني معه إلى الإذاعة، فقط للتسلية وقضاء بعض الوقت. رفض لأنه خاف أن أسمعه يعزف مثلاً، لكنها أقنعته بأن الطفلة فقط ترغب في إثبات شخصيتها، دعها تتعلم الطباعة مثلاً على الآلة الكاتبة.
كان ذلك قرابة العام 1946، وهكذا بدأت أقصد الإذاعة برفقة والدي كلما سنحت الفرصة.
ألبير أديب كان مديرها العام الأول، ووالدي كان رئيس الدائرة الموسيقية، وبدأت أطبع بعض المناقصات في ثلاث دقائق أو أربع، على الآلة الكاتبة، ثم أقف في الصف الأخير في كورس الإذاعة بعيداً عن مرأى والدي.
مطربو الإذاعة
من تذكرين من المطربين المعروفين في الإذاعة في تلك الأيام؟
ـ كانت نور الهدى، وصباح اللتان ذهبتا إلى مصر من قبل، ووداد، وفؤاد زيدان، وديع الصافي، كانت الإذاعة يومها تحتل السرايا الكبيرة مكان مجلس الوزراء اليوم، وعرفت أن ميزانيتها في الشهر كانت ثلاثمائة ليرة لبنانية.
لقاء الطفلة بعبد الوهاب؟
في العام 1947 عرفت أن عبد الوهاب آت إلى بيروت. لم أنم تلك الليلة. توسلت والدتي الذهاب إلى الإذاعة لرؤية عبد الوهاب فقط. قلت لها: لن أتكلم، سأغني، أعرف أن والدي سينهرني، لكن أعرف أن عبد الوهاب سيقول لي صوتك حلو. المهم أن والدي رفض اصطحابي لرؤية عبد الوهاب، لكن والدتي أقنعته بعد جهد، فهو فنان عظيم وكل الناس تتمنى رؤيته. وبعد جدل طويل أخذني معه ووقفنا في الزحام، وكنت آخر، وأصغر واحدة بين الجماهير. أقف أحياناً على رؤوس أصابعي كي أتمكن من رؤيته، وعبد الوهاب كان لمّاحاً وذكياً سأل والدي: "... البنت الصُّغننة هناك مين دي..." التفت والدي ولم يجد أحداً، سأله: مين؟ قال: هناك بنت ورا. نظر والدي وقال له: بنتي نجاح. سأله: صوتها كويس؟ قال والدي: لا عادي مثل الناس. عندها عرفت بأن الفرصة سنحت، فأزحت الناس من أمامي بسرعة واخترقتهم وصولاً إلى عبد الوهاب، وأنا أتخيل العلقة الساخنة التي تنتظرني في النهاية، لكني أردت الإطمئنان.
سألني: ما اسمك يا شاطرة؟ قلت: إسمي نجاح. "باللهجة المصرية"، إذ كنت أذهب مع عمتي إلى السينما وشاهدت أفلام أم كلثوم مثل "دنانير"، "وداد"، وغيرها. قال: بتحبي تغني؟ قلت: آه. وأنا حافظالك كثير. غنيت له "إيه جرى يا قلبي إيه"، وكنت أنظر إلى والدي فأجده غاضباً، إذ كان لديه عادة، رحمه الله، حين يغضب يعض شفتيه. عبد الوهاب بعد سماعي قال: "إسمع يا محيي الدين، بكرا تجيب نجاح وتطلع على "بالاس هوتيل" في بحمدون، عاوز أسمعها على رواق".
وكان برفقة عبد الوهاب محمد الكحلاوي، والشيخ زكريا أحمد، والأخطل الصغير ومعهم مصباح سلام شقيق صائب سلام، والتفت عبد الوهاب وقال: يا مصباح، بكرا حاعتمد عليك تطلع المزموزيل نجاح لفوق"، قال له: إن شاء الله.
بعد عودتنا إلى البيت كانت معركة حامية الوطيس جعلت والدتي تهرب إلى غرفتها. وبقي الجدال طوال الليل. المشكلة أن والدي كان يعرف صوتي وإمكاناتي لذلك كان يخاف أن يظهر الأمر قبل أن أكمل تعليمي. كان يحاول إقناعي بأن الفنان من دون علم يهان.
في اليوم التالي جاء مصباح سلام وذهبنا على الموعد فوجدنا عند عبد الوهاب طوابير طويلة من الناس. بعد فترة جلسنا معه وسألني: عندك كم سنة؟ قلت: 12 ونصف. لكن والدي أجاب: لا 12 بس. سأل: خلّصتي تعليمك؟ قلت: لا، بعد. قال: تحبي تغني إيه؟ في ذلك الوقت كان يعرض له فيلم "لست ملاكا" فغنيت من أغنياته: "عمري ما حنسى يوم الاتنين". ثم "إنت وعذولي وزماني"، "خايف اقول اللي في قلبي"، "حسدوني وباين في عينيهم"، وكان بين الأغنية والأخرى يصدر حركة معينة من فمه ويقول: الله الله. استغربت وسألته معتقدة أن صوتي لم يعجبه. لكنه قال: ياعبيطه ده لما الواحد ياكل أكلة جميلة يعمل كده ويقول يا سلام. قلت له براحة: طب قول يا سلام، أرعبتني وفكرت إن صوتي مش عاجبك. وسهرنا معاً وفي النهاية قال لوالدي: شوف يا محيي الدين، كل مائة سنة لما يطلع فنان له شخصية بصوته. يعني تفتح الراديو تقول ده عبد الوهاب. أو تقول ده فريد، دي نجاح. إنت بتكون مجرم إذا حجرت على البنت. ثم إن البنت مش متعلمة فنياً، لكنها تغني بالفطرة، لها رأي فيما تقوله، غنت أغنياتي وأضافت من دون أن تعرف ما تفعل، لكن إضافتها جميلة جداً.
لكن والدي رحمه الله قال له بأن الظروف لا تسمح فالوالد شيخ وعالِم معروف. قال: يا سيدي العلماء كثر. لكن الفنانين الصادقين قلة. ثم قام مصباح سلام وقال: خلاص الآن نسمع شوية عود من الأستاذ محيي الدين. لم يكن عبد الوهاب يعرف بأن والدي يعزف على العود، وبعد أن استمع، سلطن رحمه الله وقال: الله إيه ده يا محيي الدين، إنت جنّ. عشان كدة نجاح فنانة. وكان والدي معروفاً في ذلك الوقت بأنه عازف مبدع على العود.
المهم أنني في تلك السهرة، كنت أرجو عبد الوهاب مرات ومرات إقناع والدي بأن أغني، ونزلنا تلك الليلة من عنده وكان الاتفاق: إن شاء الله.
كان والدي يقول: إن شاء الله عندما تكمل تعليمها. حين أسمع هذه الجملة يخيل إليّ بأن ذلك يعني بعد أن أنهي الثانوية والجامعة، يعني بعد أن أبلغ الثلاثين، فيجن جنوني وأقول: لكني أعرف القراءة والكتابة ألا يكفي؟ قال: لازم تاخذي الشهادة، أولاً عندما تكون لغتك العربية الفصحى سليمة، ومخارج الألفاظ لديك صحيحة، تستطيعين الوقوف بين الكبار، وتغنين القصائد والأغاني الصعبة. قال: هل تذهبين إلى مصر جاهلة؟ بلد أم كلثوم وعبد الوهاب والعمالقة؟ إذا كنت أنت تقبلين فأنا لا أقبل أن تمري مرور الكرام. وبالفعل أتى لي بأستاذ علّمني القواعد وأصول اللفظ وغيرها.
إلى مصر
عام 1948 قرر والدي اصطحابي معه إلى مصر. قبل قراره كنت راسبة دائمة في المدرسة، وعندما عرفت بأنني ذاهبة إلى مصر، صرت من الأوائل. الجميع استغرب الأمر حتى مديرة المدرسة. لا أحد توقع أن أكون من الأوائل بعد السقوط، لكني بصراحة كنت أسرح دائماً خارج الصف، خاصة أنني على الشباك، لا أسمع ما تقوله المعلمة، بل ما يقوله عبد الوهاب من راديو الجيران.
في إحدى المرات طلبت منا المعلمة موضوع إنشاء، كتبت أغنية يا جارة الوادي، قالت لي اكتبي شيء من عندك وليس أغنية لعبد الوهاب.
كان هناك تبادل ثقافي وفني بين إذاعتي مصر ولبنان ومن حسن حظي أن والدي سيذهب إلى مصر فرافقته في رحلته، ولم أنم تلك الليلة. كنت أفكر بأنني سأرى في الشارع أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان، كل العمالقة سألتقيهم وأتحدث معهم، فمصر حلم يراود كل فنان.
سبق لوالدي أن التقى أم كلثوم في لبنان قرابة عام 1930 أو ربما 1931 حين أحيت حفلاً كبيراً وقدمها بقصيدة جميلة، وحين ذهبت إلى مصر توسلت إليه أن يعرفني إلى أم كلثوم. كان عبده صالح عازف القانون، صديقاً حميماً للوالد، حدّد لنا موعداً وذهبنا. بعد أن استقبلتنا، قالت لوالدي أنا أتذكرك يا أستاذ، أنت الذي ألقيت قصيدة قدمتني بها في الحفل في لبنان. ثم قدمني إليها وقال إنها معجبة بكِ جداً، سألت: صوتها كويس، قال: يعني. قلت بسرعة: والله صوتي حلو بس هو مش عاوز يقول.
بالطبع يومها لم أصدق جلوسي أمام أم كلثوم. وبعد أن نلت شهادة عبد الوهاب، فأنا متشوقة اليوم إلى رأي أم كلثوم. قالت: إيه الأغاني اللي تحبي تغنيها؟ قلت: أحب غناء كل الأغاني بتاعتِك. فغنيت "أهل الهوى ياليل فاتوا مضاجعهم" من ألحان زكريا أحمد، و"أراك عصي الدمع" وفي كل مرة تردد: الله الله ياسيدي، الله الله قولي. ثم التفتَت إلى والدي وقالت له عبارة لا أنساها: "تعرف يا سي محيي، نجاح لها رأي الغُنا. هي تغني أغنياتي لكنها ما بتقلدنيش، بتغني بطريقتها، وده شيء جيد في الفنان".
أسمع كثيرين يقولون عنها رحمها الله إنها تغار أو لا تشجع المطربات. وأنا لا أصدق هذا الكلام بسبب تجربتي معها. أم كثلوم تغار من الفنان السيّئ الناجح. لكنها تعترف بالجيد.
بدليل أننا عشنا عصر الكبار أمثالها. كلنا: أنا، وديع الصافي، صباح، فايزة أحمد، وردة، نور الهدى وغيرنا. وحين ذهبنا إلى مصر احتضننا أهلها، وفتحوا أياديهم لنا واشتهرنا من مصر وليس من لبنان.
المهم في الأمر إنني حصلت على الشهادة الثانية الأهم في حياتي عبد الوهاب وأم كلثوم.
وبقي فريد الأطرش!!
محمد سلمان
عدنا إلى الفندق بعد رؤية أم كلثوم، فالتقينا هناك محمد سلمان رحمه الله. وكانت قصة قبل الزواج.
عام 1941 أو 1942 كان محمد سلمان يعلمني اللغة الفرنسية. ذلك أنني تأسست في المعارف ولم أدرس الفرنسية، وعندما حان الوقت لدخولي الراهبات كان لا بد من تعلم اللغة الأساسية فيها. والدي كان على معرفة وصداقة مع محمد سلمان إذ عرف موهبته وسمع صوته في ذلك الوقت وساعده على دخول الإذاعة فطلب منه تعليمي الفرنسية في البيت.
طوال حياتي أكره اللغات عدا العربية، التي أفضلها على غيرها. وفي كل مرة يأتي سلمان ليعلمني أضع له الدبابيس على الكراسي وأتحجج كي لا أدرس. وكنت أتوسل والدي أن يعفيني من تعلم الفرنسية لأني لا أحبها قائلة له إنني حين أكبر سوف أتعلمها، وبالفعل هذا ما حدث إذ تعلمتها حين كبرت بالممارسة.
سافر سلمان عام 1943 تقريباً إلى مصر وبدأ اسمه يشتهر ويعرف من خلال الأفلام التي أخرجها أو شارك فيها. وكان المعجبون والمعجبات يحومون حوله. التقيناه عام 1948 في القاهرة في فندق "غراند أوتيل" حيث المطعم اللبناني الذي يرتاده الفنانون وبالصدفة شاهد والدي وأخذه بالأحضان وحين رآني حملني وهو يقول تلميذتي يا حبيبتي، وكان عمري في ذلك الوقت قرابة 14 عاماً وأضع المنديل على رأسي، لكنه لم ينتبه إلى تلميذته التي كبرت إلا فيما بعد.
وهكذا بدأت أتعرف إلى الكبار وكان الجميع يحب والدي ويحترمه كشخص وفنان، إضافة إلى أنه يكرمهم في لبنان ويستضيفهم في الإذاعة.
رأيت رياض السنباطي، وأنور وجدي كان صديقاً لوالدي منذ أيام المدرسة. يعقوب طاطيوس عازف الكمنجة الشهير. وبدأ الوسط الفني يعرفني ووصل الخبر إلى عبد الوهاب وذهبنا إلى بيته وفرح بقدومي مع والدي وعرض علينا مشروع فيلم عنوانه "العيش والملح".
الفشل الأول
الفيلم سبب لي عقدة من السينما في البداية. والقصة أن شركة "نحاس فيلم" صاحبها غبريال نحاس لبناني، وأنطوان خوري العضو فيها يبحثان عن فتاة تقوم بدور البطولة، فأخبرهم عبد الوهاب عني وتعهد بتلحين أغاني الفيلم. وفي اليوم التالي ذهبنا إلى استديو ناصيبيان، وتمّ عمل الماكياج اللازم للاختبار. وأول مشهد سيصور هو: أنني فتاة بنت بلد أحمل سلة مليئة بالبيض وماشية، فيصدمني سعد عبد الوهاب بدراجته، ومن غضبي عليّ أن "أردح" له بلهجة بنت البلد المصرية، حين يقول لي: لا مؤاخذة يا بيضة. أرد وأقول له: "بيضة لما تنطش في حبابي عنيك. لا قيم ولا سيم ووووو" جملة طويلة عريضة. بعد أن قلتها تعجب المخرج على أساس أنني فتاة صغيرة وآتية من لبنان قبل أيام فقط. ففرح وتأمل خيراً. في اليوم الثاني كان المشهد هو الطامة الكبرى. فالموقف غرامي يتطلب مني أن أقول: "أحبك". وفي كل مرة يقول لي: أحبكِ، أخجل وأعود إلى الوراء. وهكذا لم أستطع تمثيل المشهد.
المخرج حسين فوزي تفهّم المسألة، وعرف أن التربية وجو البيت المحافظ، كانا السبب في خجلي، فنصح والدي أن يعطيني فترة قبل أن أبدأ في السينما، أكتسب خلالها الخبرة في التعاطي مع المسرح والجمهور والمعجبين وغير ذلك ومن ثم تأتي مرحلة التمثيل.
ويومها سألني: كيف رضي والدك أن تمثلي. قلت: رضخ تحت تأثير الضغوط المتعددة مني ومن والدتي والمحيطين به. لكنه كان يعرف حقيقة موهبتي وقدراتي وكان يحثني على التعلم أولاً.
وماذا تعلمت من هذه المرحلة؟
ـ أولاً في تلك الفترة القصيرة رأيت الفنانين الذين كنت أحلم بلقائهم. نجيب الريحاني، يوسف وهبي كان يمثل فيلم "رجل لا ينام"، فريد شوقي وفاتن حمامة وراقية ابراهيم وكاميليا كانت لاتزال جديدة وغيرهم كثيرين. وتعلمت أن الإنسان لا تكفي فطرته وموهبته عليه أن يتعلم ويسعى حتى يستطيع استغلال الفرصة على أحسن وجه. وعرفت أن همي الأساسي ليس السينما أو استديوات التصوير والأضواء والعمالقة. كان هاجسي هو المسرح. الغناء على خشبته وسماع تصفيق الجمهور وعبارات الطرب والاستحسان والتشجيع.
عدت إلى بيروت زعلانة بسبب هذا الدور. والدتي ابتسمت وقالت: سيأتي يوم يقبّل المخرج يديك لتعملي معه.
في العام 1948 سجلت أغنية "حوّل يا غنام" لحّنها إيليّا المتني، ثم تلتها "يا جارحة قلبي" لحن سامي الصيداوي. هاتان الأغنيتان طارت شهرتهما في أنحاء الوطن العربي. ثم جاء دور العديد من الأغنيات التي كانت تنجح الواحدة تلو الأخرى، مثل: "يا عربجي خفف سيرك"، "ع الوادي يالله ع الوادي"، "على مسرحِك يا دنيا" لنقولا المنّي الذي لقبوه بسنباطي لبنان. ثم من الصيداوي سجلت: "ع نار قلبي ناطرة" و "وينك يا ليلى" ومن فليمون وهبه "حملتّني فوق الألم ألم البعاد" و "القطر جه وحبيبي ما جاش". في ذلك الوقت كان الملحنون يطبعون ألحانهم بالنَفَس المصري لإثبات قدراتهم التلحينية أمام الأعمال المصرية.
بغداد
بعدها سافرت إلى الأردن، حيث استضافتني إذاعة رام الله، ومن بعدها مباشرة إلى بغداد، وكان هذا أواخر عام 1948.
في طريقنا إلى بغداد، حيث ذهبنا بالباص، كانت الصحراء على مدّ البصر، والطريق طويل، كنت نائمة، أفقت على صوت والدي يقول لي انزلي لنشرب الشاي. وأنا صغيرة بعد قلت: دعني، أريد النوم. أصرّ على الأمر فتحت عيني مجبرة. نزلنا حيث المقهى والكراسي وأنا أتباكى من النعاس. دخلنا المقهى الذي يسمونه "جايخانة" فأشار والدي بيده إلى أحد الجدران فوق وقال انظري. نظرت وإذ بصورتي معلقة على الحائط كتب تحتها "المطربة الناشئة الآنسة نجاح سلام". قال والدي: أرأيت؟ أنت موجودة في وسط الصحراء. وحين وصلنا بغداد، كان شيئاً لا يصدق، أغنية "حول ياغنام" على كل لسان هناك. الناس كلهم يتغنون بها. ستة أشهر في نادي "روكسي" وأنا أغني "حول يا غنام" و"يا جارحة قلبي"، وكان الوصي "عبد الإله" حضر إحدى الليالي ومن ثم غنيت في عرسه حين تزوج من عائلة الطرابلسي من مصر.
في بغداد تعرفت على فنانين وفنانات: عفيفة اسكندر، سليمة مراد، الملقبة سليمة باشا، وزوجها الراحل ناظم الغزالي ولميعة توفيق التي تغني أجمل الغناء الشعبي المسمى "التجليبة". وكما في مصر أيضاً في العراق حيث كان والدي معروفاً إذ كان له رحلة سابقة إلى هناك مع عمر الزعني ويكنون له الاحترام والود. أما أكبر مفارقة فهي إنني كنت أقبض في الشهر ستة آلاف دينار. وهذا لم يحدث مع أكبر مطرب أو مطربة في تاريخ الفن في ذلك الوقت. وكانت الصالة كاملة تحجز لأسبوع مسبقاً. وفي إحدى المرات وكنت أغني في مطعم "سَلكت" في بغداد، جاء الرئيس الراحل كميل شمعون، ولم يكن وصل إلى سدة الرئاسة بعد، لكن التحضير للأمر كان يجري فغنيت له "ليّا وليّا يا بنية، ياهل الله ردوا عليّ، اليوم الدنيي بتضوي، عنّا أحلى رئيس جمهورية". وهذا الأمر أفرحه إذ رحبت به رئيساً قبل الأوان وحيّاني على الإلتفاتة.
من بغداد عدت الى سوريا، وبقيت من العام 1948 حتى عام 1950 أذهب كل سبت وأحد لأغني في الإذاعة على الهواء مباشرة وأعود الى بيروت، إذ كنت مازلت في المدرسة أتابع التعليم.
في المرة الأولى ذهبت إلى سوريا برفقة والدتي إذ انشغل والدي بعمله في الإذاعة، وغنيت في حفل كان يرعاه جميل مردم بيك. بعد الحفل دعينا الى العشاء في نقابة المحامين وغنيت القليل ومن الحضور شخصيات ونواب ووزراء، سألني رشيد..... وكان وزيراً آنذاك. قال: أنت إبنة من؟ قلت: بنت سلام. قال: سلام بيروت؟ قلت: نعم. قال: ماذا يقربك الشيخ عبد الرحمن سلام؟ قلت: جدي. أجفل الرجل. وقال: عبد الرحمن العلاّمة هو جدك؟ قال: ومحيي الدين؟ قلت: والدي. زاد تعجب الرجل ونادى الجالسين قائلاً لهم: بنت فلان وحفيدة فلان. قال لي: والدك صديقنا وجدك أستاذنا. أنت ممنوعة من الغناء في أي مكان من دون علمنا. كان جدي رحمه الله علّم فترة طويلة في سوريا ولذلك له اسمه وهيبته هناك، ويحمل الجنسية السورية.
في هذه المرحلة كانت أغنيات مهدت للمرحلة اللاحقة في مصر، مثل "رقّة حسنك وسمارك" اللحن البديع لأمير البزق عبد الكريم، الأغنية لاتزال الأكثر شعبية في سوريا وكنت غنيتها مباشرة على الهواء وكل مذهب فيها على مقام مختلف، أي أنها تحمل غزارة تطريبية لافتة.
بيروت
في الخمسينات بدأت الغناء في بيروت، ابتداءً مع جمعية زاهية سلمان رحمها الله. وكانت الإذاعة تصل الى البلاد العربية ما عدا مصر، لكن الأسطوانات كانت منتشرة، قبل الكاسيتات بالطبع. في العام 1951 كنت أغني في فندق طانيوس في عاليه، وكان فريد الأطرش سمع بي وحجز طاولة وجاء خصيصاً ليسمعني، وبصحبته شقيقه فؤاد وسامية جمال، عزيز عثمان وليلى فوزي ولم تسنح الفرصة أن ألتقيه في مصر. غنيت له: "يا عواذل فلفلوا" وقف وصفق طويلاً ثم التقيناه في الفندق وطلب من والدي مرافقتي الى مصر، فأخبره والدي إن نجاح لن تذهب الى مصر، يكفيها مرة واحدة. قال: لا لازم تروح مصر.
مصر
وبالفعل ذهبت الى مصر مرة أخرى عام 1952 لعمل فيلم اسمه "على كيفك" للمخرج حلمي رفلة، الذي سمعني من قبل وطلب من والدي أيضاً الحضور الى مصر، وحكى والدي قصتي مع الفيلم السابق وحكاية الحب والغرام. جلسنا لمدة ساعتين يحاول فيها إقناعي حتى وافقت بشروط. أولاً: مايوه ممنوع. كلمات مثل أحبك ممنوع لا أقولها لأحد ولا أحد يقولها لي. ثم أنا بنت أغني ودمي خفيف وبس. قال: حاضر. حتروحي وتعملي فيلم زي ما انت عاوزة ومشهد الغرام يكون من دون كلام بل بالغناء فقط. وهذا ما حدث. مثلت فيلم "على كيفك" لحلمي رفلة والإنتاج لعزيز عثمان وليلى فوزي.
وحصيلتك من الأفلام والأغنيات؟
ـ ستة عشر فيلماً. وبقي التمثيل على الهامش بالنسبة لي فأنا لست من رواد السهر والخروج المتواصل من البيت، بل أحب الأسرة وأفضل الجلسات العائلية والبيتية ولي ربما أكثر من ستمئة أغنية.
ما الذي أحبه المصريون في شخصية نجاح سلام؟
ـ أهم مسألة أنني جئت بهويتي. غنيت لهم نجاح سلام. شخصيتي أنا، وشخصية الأغنية اللبنانية. وأقولها بكل فخر أنني صاحبة الفضل في نشر الأغنية اللبنانية في مصر. في عام 1952 عندما ذهبت الى مصر غنيت باللبنانية، لأني رغبت بتمثيل بلدي فكيف أغني مصري في بلد أم كلثوم. كان عليّ في البداية أن أقدم هويتي ليستمعوا الى غنائنا، جملتنا الشعبية الجميلة التي تجعل كبار الملحنين المصريين يقولون: الله. وبالطبع كان هذا عبر الأداء الذي أوصل الأغنية بأمانة.
لكنك غنيت بالمصرية؟
ـ فيما بعد. تعرفت الى الملحن الكبير رياض السنباطي فغيّر اتجاهي. قال لي: هذه الأغنيات قليلة بالنسبة لصوتك وموهبتك. صوتك فيه أكثر من هذا بكثير. فلحن لي "النيل مقبرة للغزاة" الذي يعتبر معجزة في التلحين، عام 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر. ثم لحن لي "عايز جواباتك"، "أمة الحق"، "ياظالمني"، "الشهيد" وغيرها الكثير الرائع.
في كل لقاءاتك تتحدثين عن رياض السنباطي بشكل مختلف عن الملحنين الآخرين؟
ـ رياض السنباطي هو أستاذي. له فضل كبير علي. علّمني الكثير. صحيح أن صوتي جميل، وأغني حلو. لكنه علمني كيف أزخرف الأغنية. وهذه مسألة هامة في الغناء. مثل البناء الجيد الذي يحتاج الى مهندس ديكور ليكمل جماله. السنباطي أعظم من زخرف الغناء، ومن علّم المغني كيف يفعل ذلك. وله فضل على كثيرين غيري.
أم كلثوم قالت: من أراد أن يتعلم الغناء فليستمع الى رياض السنباطي. ولا يقف الأمر عند هذا، بل إنني أعشق جملة السنباطي اللحنية، لأنه الملحن الوحيد الذي لم يشب جملته غبار التغريب، ولا أسميه التطوير. ولم ينل جائزة الأونيسكو عبثاً إذ لم يقتبس جملة من أحد.
وبالطبع غنيت من ألحان كثيرين وتطرقت الى كل القوالب الغنائية، بدأت بالبدوي، مع "حوّل يا غنام"، و "ع نار قلبي" والأغنية اللبنانية ومواويلها، من عتابا وميجانا وكلها أصلها من العراق، وتعتمد نغمة بسيطة، لكن أنا ووديع الصافي وحدنا غنينا الموال والعتابا والميجانا بتفرد وبتعدد مقامات، لا مقام أو نغمة واحدة كما كان متعارفاً، غنيت الموشح والدور والقصيدة والتواشيح الدينية والطقاطيق وغيرها.
لم أدخل معهداً لكن معهدي العظيم كان استماعي الى فنانين كبار ومنهم والدي. ثم معرفتي لملحنين كبار أيضاً دعم موهبتي.
ما رأيك بتسمية الأغنية الشبابية؟
ـ هذه التسمية، بدعة، ليس من أغنية شبابية وأخرى عجائزية، هناك أغنية شعبية لا تقل قيمة وأهمية عن الأغنيات الأخرى التطريبية أو الوطنية أو غيرها. لها مواصفاتها، لوازمها، أسلوب أدائها وإيقاعاتها ونغماتها الخفيفة، في حين الأخرى أثقل إيقاعاً ولحناً ولها أسلوب آخر في الأداء وغيرها من العناصر.
مثل محمد عبد المطلب على سبيل المثال؟
ـ يا عين. هذا شيخ المغنين الشعبيين. كان يطرب السمع بطريقة أدائه للجملة الشعبية الجميلة. وأعتقد أن المطربين في غالبيتهم تطرقوا لهذا اللون الغنائي المحبب. فمثلاً أم كثلوم غنت "يا بختها ضرتها طقّت منها" و "ليه تلاوعيني" مثلاً، هذه طقاطيق لكن الأداء المتفرد يجعل لهذه الأغاني قيمة فنية كبيرة ويجبر السامع على قول كلمة الله. هناك مطربون أصواتهم جميلة لكنهم لا يعرفون كيف يغنون، فالمغنى علم ومعرفة وليس صوتاً جميلاً فحسب، على المطرب أن يعرف كيف ينطق ومتى يطلق صوته من التجاويف ليحصل التلوين، وعدم البقاء في خامة واحدة رتيبة ومسطحة.
ملحنون آخرون
وماذا عن الملحنين الآخرين؟
ـ كما قلت كان نصيبي الأوفر من ألحان رياض السنباطي. وهو رحمه الله كان يحب الأصوات الكبيرة الواسعة التي تمتلك جوابات وقرارات وتعتمد على القفلات.
أما عبد الوهاب فكان يشجع ويلحن لكل الأصوات ومنها الصغيرة، لحن الكثير لنجاة وعبد الحليم وغيرهما، لذلك كنت والبعض الآخر غيري ننحاز لألحان السنباطي مع كل احترامنا لعبد الوهاب. وله تاريخ طويل وألحان جميلة مثل: "خايف اقول اللي فقلبي"، "حسدوني وباين في عنيهم"، "يا جارة الوادي"، "في الليل لما خلي"، وغيرها أغانٍ ذات قيمة فنية كبيرة. كان مبدأ عبد الوهاب مواكبة كل الأجيال، عكس السنباطي الذي يلحن الجملة المدروسة والقصيدة الثقيلة التي لم يرتق غيره الى مستواها. لكنني غنيت من ألحان عبد الوهاب وخاصة أول فيلم مثلته عنوانه "سكة السعادة".
والموجي؟
ـ لحن لي "يا مالكاً قلبي" الأغنية نفسها التي غناها عبد الحليم حافظ، وكذلك "يا أغلى اسم في الوجود"، "ليه كل قلبي ما يصفى لك"، "ما احلى الغنا"، "يا أرض يا أم الخير يا طيبة"، وكذلك أغاني لفيلم كامل.
ومن سيد مكاوي غنيت "الله يا ليل" و"يا مفرحة قلبي" للأم، "آخر حلاوة"، ولبليغ حمدي خمسة ألحان. ومن الملحن الملهم والكبير عبد العظيم محمد "بالسلامة يا حبيبي"، و "ياعايدة ياختي يا فلسطينية"، وغنيت من ألحان أحمد المحلاوي وفؤاد حلمي وتقريباً أغلب الملحنين في مصر.
ومن لبنان؟
ـ غنيت لكثيرين. لنقولا المني وشفيق أبو شقرا، حليم الرومي، إيليا المتني، عبد الغني شعبان، وأنا أول فنانة غنت للراحل سامي الصيداوي. وعفيف رضوان الذي اكتشفته مع المؤلف الغنائي ميشيل طعمة. كان طعمة يعمل ممرضاً لدى الدكتور الخاص فيليب توما الذي أتردد عنده للعلاج وفي كل مرة يقول أود أن أسمعك بعض أشعاري. وأنا من عادتي لا أرفض قبل أن أسمع وهكذا أعجبت بشعره وغنيت منه. أما رضوان فقد عمل انقلاباً في مصر، عبد الوهاب قال عنه: إنه جملة جديدة في الموسيقى العربية. وغنيت لحسن غندور.
ومن سوريا غنيت من لحن عدنان قريش وسهيل عرفة وشفيق شكري ونجيب السراج وغيرهم.
العودة والاستقرار في لبنان؟
ـ على الرغم من نجاح الأفلام الاستعراضية، إلا أن عوامل كثيرة أدت الى توقف إنتاجها، إذ انحصرت الأغنية في إطار الموقف وأحياناً أصبح الممثل يغني، وبدأ عصر الأغاني المصورة فيما يسمى فيديوكليب، وغيرها من تقنيات العصر. لذلك كانت الفكرة أن أعود وأستقر في لبنان، على الرغم من أنني كنت ما أن أنتهي من عمل ما في مصر، حتى أعود الى بيروت. حين أنتهي من تصوير فيلم مثلاً أو تسجيل أغانٍ أو إحياء حفلات أو غيرها.
في عام 1974 كانت بداية الأحداث. سُرق بيتي في منطقة سن الفيل، وكنت في القاهرة أقوم بتصوير فيلم "عنتر يغزو الصحراء" مع فريد شوقي، اضطررت للبقاء في القاهرة وفي ذلك الوقت مُنحت الجنسية المصرية، وبقيت هناك حتى عام 1986، حيث جئت الى بيروت لإجراء لقاء في الإذاعة اللبنانية مع محمد حجازي، وإذ بأحداث عاصفة مفاجئة تحاصرني في الإذاعة التي بقيت فيها 45 ساعة متواصلة عدت بعدها الى القاهرة وبقيت حتى انتهاء الحرب وتسلم الياس الهراوي الرئاسة والحريري للحكومة، وكان الهراوي هو الذي حثنا وكل المغتربين على العودة حين كان موجوداً في السفارة اللبنانية في القاهرة.
الزواج
والزواج؟
ـ في كل الأحوال لم أكن موفقة في زواجي. والأكيد أن الخطأ ليس مني. أنا وأبو سمر (محمد سلمان) بقينا عشر سنوات معاً ثم طلقنا لكن صداقتنا بقيت. والزواج قسمة ونصيب. تزوجت من دكتور في مصر لكنه توفي بعد فترة. وأنا بطبعي بيتوتية أحب الأسرة، لدي ابنتان وأحفاد.
قرار الحجاب والتوقف عن الغناء سوى الديني؟
ـ أنا لم أتوقف عن الغناء أبداً. في العام الماضي سجلت في القاهرة حفلتين أحييتهما في دار الأوبرا، غنيت "من أي عهد في القرى تتدفق" لأم كلثوم وكذلك غنيت "أغراب" و "زمان الوفا" وغيرها الكثير. في دار الأوبرا غنيت عام 1998 و 1999و 2000 وفي قاعة الاحتفالات غنيت في مئوية أم كلثوم، "القلب يعشق كل جميل" وغيرها. لكن أقولها آسفة، وهذا ليس بجديد، أن لبنان يصدّر فنانين لكن ليس لدينا فن متقن. لا نمتلك العناصر التي تشجع الفنان الجاد على الاستمرار. دائماً نسير على مبدأ الاستسهال والاستهتار بالفن. لكن لبنان أكثر بلد صدّر فنانين الى مصر والبلدان المجاورة، وإذا عددنا الأسماء لن تنتهي القائمة، نور الهدى، فريد الأطرش المحسوب مع شقيقته أسمهان على لبنان بالطبع، محمد البكار، صباح، محمد سلمان، سعاد محمد، نازك، فايزة أحمد، بعدها أنا ووردة، وكثيرين، واللافت أن لكل من هؤلاء لونه وبصمته.
حين عادت نور الهدى الى لبنان انطفأ نجمها. صحيح الدولة بدأت منذ سنوات قليلة تهتم بالفن، لكن بشكل خجول لا يكفي.
أنا وغيري نسأل: إذا أراد واحد من جيلنا أن يقدم فنه، فأين يمكنه ذلك؟ ليس لدينا إلا "مهرجان بعلبك" أو "بيت الدين" وغيرهما من مهرجانات أخرى قليلة، لكن هل هي متاحة لنا؟ ثم لو أتيحت على سبيل الافتراض فما هو عدد الجمهور الذي سيأتي لحضورنا. المسألة معقدة في لبنان ومحصورة، بفئات قليلة وجهات معينة لا تحسن التعامل مع الفن العربي وتراثه الأصيل. ودائما نتمنى أن يكون للدولة دور فاعل وبخاصة وزارة الثقافة، التي تستطيع الإفادة من صالة الأونيسكو التابعة لها لتقيم حفلاً فنياً مرة واحدة في الشهر، يحييه أحد فنانينا الكبار، وهذه أقل مساهمة في تحسين ذوق الشباب الذي أفسدته الفضائيات، وهو فئة مظلومة وبريئة مما يحدث ومن هذا الفن الذي لا يمثله.
أضرب لك مثلاً، منذ سنوات، فيما كنت أسجل بعض أغاني أم كلثوم، قال لي حفيدي الذي لم يبلغ يومها الثالثة عشرة بعد، قال: تيتة، أنت تغنين بشكل مختلف عن هؤلاء. قلت له: هذا ليس فناً. سألته هل تفهم هذا الغناء؟ قال: أنا لا أفهم ماذا يقولون. وأتفرج على الفيديو كليب فأجده "بهدله"، يقلّدون فيه المطربين الأجانب فيأتي تقليدهم مضحكاً أو مؤسفاً.
ولماذا لا يقوم الفنان بنفسه بهذه الحفلات بدل انتظار الدولة لتقيمها؟
ـ المشكلة إن العمل الجيد يحتاج الى تكاليف. والفنان الذي يحترم فنه ونفسه وجمهوره، يجب أن يأخذ وقته ويحضر جيداً وينفق عليه بسخاء، والعمل الذي ينتج هكذا بسهولة ومن دون جهد و"بملاليم" على قول المصريين، هو كمثل بناء عمارة بأرخص التكاليف، لكنها تقع بسرعة. في مصر وفي بلدان أخرى حين يقيمون حفلة برعاية وزير أو مسؤول، ينفقون عليها للدعاية والإعلان، ويدفعون للموسيقيين للبروفات الكافية، أين نحن هنا في لبنان من كل هذا. أولاً الموسيقي هنا أجره لا يتعدى المئتي دولار، وإذا أردت أن أحيي حفلة فأحتاج الى ما لا يقل عن عشرة أيام تمارين. فكيف يعيش الموسيقي إذا استهلكت كل حفلة منه هذا الوقت؟ وله هذا الأجر الزهيد. ثم أننا في لبنان ليس لدينا فرقة خاصة بالدولة. في مصر هناك فرقتان لدار الأوبرا، الفرقة القومية للموسيقى العربية بقيادة سليم سحاب، وفرقة الموسيقى العربية بقيادة صلاح غباشي. عناصرالفرقتين موظفون يقبضون رواتب شهرية ولديهم بروفات دائمة، من هنا يحفظون التراث ويتدربون عليه باستمرار. مثلاً في مؤتمر الموسيقى العربية في العام الماضي والذي قبله أحييت حفلات وقدمت فيها أصعب وأجمل قصائد السنباطي لأم كلثوم "من أي عهد في القرى" طلبت يومها من رئيسة المهرجان رتيبة الحفني أن يرافقني موسيقيون يعزفون سماعياً، فجاءتني بموسيقيين كبار ومع ذلك قمنا بتدريبات كثيرة، حتى يوم الحفل فكانت الموسيقى رائعة وهذا يساعد المطرب في التفرغ للغناء والتفرد، والسلطنة، لأن باله مرتاح من ناحية الموسيقى، فمن غير المعقول أن يغني وفكره مشغول بأخطاء الموسيقيين. من هنا الوضع في لبنان موسيقياً صعب، على الرغم من أن اللبنانيين يتذوقون الموسيقى الجيدة، ولديهم أذن موسيقية يستطيعون من خلالها التمييز وقول الآه. عبد الوهاب قال: الأغنية التي لا تنجح في لبنان لا تنجح في أي بلد. لكن مع الأسف ليس هناك من اهتمام بالفن المتقن اليوم.
لكن المعروف أن كل الأسماء تنسى يوماً ما ويبقى اسم الفنان المبدع والعالِم. وكما نعرف أن الأمة التي ليس فيها فنان عظيم لا يوجد فيها سياسي ناجح.
وما رأيك، ولم يصدر حتى الآن قانون تنظيم المهنة يحفظ حقوق الفنان؟
ـ هذا أمر آخر. تصوري حين أنزل الى السوق وأجد بائعاً يبيع نسخاً من الشرائط المزورة. أين حقوق الفنان؟ الكاسيت الذي ينسخونه وهو أساساً كلّف ما لايقل عن مئتي ألف دولار، عادة، ومع فيديو كليب يكلف نصف مليون. هكذا ببساطة يتم تزوير الشريط ويباع في الأسواق بأرخص الأثمان فيحرق النسخ الأصلية وتكسد وتحصل الخسارة الفادحة، ونسمع عن شركات تفلس أو تغلق أبوابها أو فنان يفلس للسبب نفسه. أين النقابات وأين جمعية المؤلفين والملحنين. في مصر وسوريا لاتزال الأمور مضبوطة أكثر من لبنان. هل يمكن أن تتخيلي أن هناك فنانين لا يملكون ثمن الرغيف، يعيشون على مساعدات من هنا وهناك؟ هل هذا معقول في هذا الزمن وفي بلد نعتبره متحضراً مثل لبنان؟
الفنان واجهة بلده. زمان أنا أحببت مصر بسبب أم كلثوم وعبد الوهاب والسنباطي. كدت أجنّ وأنا متلهفة للذهاب الى مصر. في لبنان زمان أيضاً كان العرب يصيّفون في لبنان لكي يحضروا حفلات وديع الصافي ونجاح سلام وغيرهما. الآن من أجل أي فنان يأتي المصطاف العربي؟ حتى رمضان لم يبق منه إلا النارجيلة والأكل والخيمة.
أما برامج الفضائيات الفنية فتعتبرها سلام بأنها تهين الفنان وتسطّحه بسب الأسئلة التافهة التي توجه إليه وكأنه من البديهي أن يكون جاهلاً، قليل الفكر لا يعنيه إلا الطعام والشراب واللباس والموضة بعد الغناء.
ثم تروي الفنانة إحدى القصص الطريفة، والمحرجة في آن، قالت:
ـ أنا ملكة الوقعات في العالم. لكن الوقعة الكبرى في حياتي في تونس. كنت من المفترض أن أحيي حفلة في ملعب امتلأ بقرابة مئة ألف شخص وبحضور بورقيبة رئيس تونس وعقيلته. لبست فستاناً أصفر وكعب عال وخطوت أولى خطواتي على خشبة المسرح كالحمامة الطائرة. وإذ بكعب حذائي يعلق بطرف فستاني وأقع على وجهي. حاولت الوقوف عبثاً، بسبب فستاني الضيق، ركض أحمد الحفناوي عازف الكمان وقائد الفرقة حاول إيقافي لكنه وقع هو الآخر، ومن شدة الإحراج أصابتني نوبة من الضحك، ويومها لم أستطع الغناء بشكل عادي، لأني طوال السهرة كلما تذكرت أضحك، وكانت الحفلة مصورة وتبث على شاشة التلفزيون.
التكريم
تستعرض سلام صورها الفوتوغرافية الكثيرة التي واكبت مسيرتها، حفلات في أنحاء العالم، لقاء شخصيات هامة، ملوك، أمراء ورؤساء وجمهور كبير:
ـ كرّمني المصريون بمنحي الجنسية المصرية، إضافة الى أوسمة رفيعة من دول عدة: فرنسا، أميركا، سوريا، لبنان، وشهادات تقدير لا تحصى.
في لبنان نلت وسام الاستحقاق عام 1952، ثم منحني الرئيس الهراوي وساماً، إبان حكمه. ومُنحتُ مفاتيح دول عدة إضافة الى أوسكار أميركي منذ خمس سنوات، وأهم من هذا كله التقدير والاحترام من ملايين الأشخاص في العالم.
أين أنت اليوم؟
ـ في رمضان الماضي سجلت عشرين دعاءً لإذاعة "الشرق الأوسط" وعشرين أخرى لـ "صوت العرب" في القاهرة. وأحييت حفلات رمضانية في "دار الأوبرا"، إضافة الى حفل "رعاية الأمومة" في بيروت، وحفلات في سوريا. اليوم أدرس خطواتي بما يتناسب مع الحج والحجاب ومع مسيرتي وتوجهي. فالكثير من المهرجانات تعرض عليّ المشاركة في إحياء أمسيات لكن أحس أنه تقع عليّ مسؤولية احترام ماضيّ الفني واسمي فليس كل مكان يناسبني ولا كل جمهور.
ـ في السابق شاركت في مهرجانات "عنجر" و "بيت الدين" وفي الشمال عدة مهرجانات، لكنني شخصياً لا أحبذ المشاهد التي أراها في هذه المناسبات، إذ تخلو من آداب الاستماع، فالمستمع منشغل بالأكل والشرب والرقص. الصخب والفوضى تعم المكان بسبب الداخلين والخارجين طوال الوقت وغيرها الكثير من الأمور التي تشوش على الفن وهذا لا يجوز. هذا الجو ليس جوّي ومن مثلي. لكن أعتقد أن الجيل اليوم بدأ يصحو، ويتساءل ويفهم أن ما يراه أو يسمعه على الدوام وفي كل مكان ليس هو الفن الذي ينشده، أو "يملأ راسه". الفنانون اليوم وكأنهم يمشون على قاعدة واحدة، أو مبدأ واحد وهو الرقص والقفز على المسرح، وأنه إذا لم يتحرك الجمهور، أو يرقص، أو لم يصفق ويصفّر ويصرخ فالفنان فاشل.
__________________
لايحمل الحقد من تعلو به الرتب .....ولاينال العلا من طبعه الغضب
علينا أن نتعلم العيش معاً كإخوة ....... أو الفناء معاً كأغبياء..
مارتن لوثر كينغ