الأغنية الوطنية .. من المقاومة إلى التذلل
يعيب العرب على ذواتهم ، أنهم كانوا على الدوام ، يتحدثون فيما بينهم عن مشكلاتهم و المظالم التي وقعت و ما تزال تعصف بهم ، و أنهم لا يحسنون لعبة الإعلام التي يستخدمها عدوهم ، فهم بتصورهم لم يفلحوا في الإخبار عن الأوليات ، و لا حتى في إيصال الأخيرات إلى الآخرين ، الذين من حولهم ، كي يكسبوا تأييدهم في المحافل الدولية ؛ من هنا ، انبرى بعضهم يدعو إلى ضرورة توجيه خطابهم إلى الخارج ، و نقل و لست أقول ' تصدير ' معاناتنا إلى الرأي العالمي من خلال مؤسساته الدولية و الإنسانية ، و إلى شعوب العالم قاطبة .
فريد الأطرش في بدايته
فريد الأطرش في شبابه
لما كان لا سبيل هناك أمام تحرير أية أرض إلا بالمقاومة المسلحة ، فقد التحمت الأغنية الوطنية مع السلاح ، لدكّ قواعد المحتل الغاصب ، خصوصاً في العقد السابع من القرن الفائت ، لأجل أنْ تستقل بقية الأقطار ، التي كانت ما تزال ترزح تحت نير و جبروت المستعمر ، و لتطهير فلسطين من براثن المغتصب الصهيوني ، حيث حشّدت الأنظمة العربية مقدرات الشعوب العربية كافة و اختزلتها في خوض هذه المعارك الفاصلة و الحاسمة في تاريخ الأمتين العربية و الإسلامية ، فكان للعرب انتصارات في مواقع عديدات كالجزائر مثلاً ، حيث تمّ تحريرها و إجلاء أخر جندي و مستوطن فرنسيين عنها ، إلا أنّ بيارقهم قد أُنتكـِست في حرب 1967 – فسمّوها ( نكسة ) إذ التهم الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب مساحة من أراضيهم ، تربوا بثلاثة أضعاف على مساحة فلسطين المحتلة حتى ذلك التاريخ ، و الحال كذلك ، حريٌّ بنا أنْ نسمّي الأشياء بمسمياتها الطبيعية ، ذلك أنّ تلك الحرب أسفرت عن هزيمة نكراء و مخجلة ، لا يمكن مداراتها – بأية حال من الأحوال - خلف ستار مثل هذه التسمية ؛ فقد انعكست تداعياتها المدمرة على العرب مجتمعين ، حيث كفر الجيل المعاصر لها من شباب العرب بالمبادئ و القيم ، إلى الحد الذي جعله لا يؤمن و لا يعترف بالبديهيات و المسلمات ، التي تأتي في صدارة أولوياتها ، حقيقة أن التحرير لا يُنال سوى بالبندقية .
فريد الأطرش محتضناً عوده في إحدى حفلاته
و حينما اختارت الأنظمة العربية التفاوض – الذي سوف لن يُجدي نفعاً – سبيلاً للسير على أرضه لإعادة الأراضي العربية المحتلة ، بات لزاماً عليها ، أنْ تخمد جذوة النار المشتعلة على جبهة الأغنية العربية المناضلة ، التي لطالما شحذت الهمم ، و ألهبت بكلماتها و إيقاعاتها مشاعر العرب بلهيب القتال مثل أغنية ( ثورة كفاحي ) و ( يا قدس ) و غيرهما العديدات ، فخرجت إلينا في الفترة الأخيرة كوكبة من الأعمال – لن أصفها هنا بالملاحم ، فلفظة ( الملحمة ) عادةً ما تلتصق بالمعارك و الجهاد و تـُعرب مضافاً لهما ، فهذه الأعمال لم تدعو و لم تحفز البتّة على المقاومة بقوة السلاح ، كالتي واكبت العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف سنة 2006 و على غزة في عام 2008 – التي دعت إليه ثــُلة منهزمة محتسبة زوراً على النخب العربية ، لكأنها ارتأت في الملاحم الغنائية إبان حروب التحرير التي سبقت هزيمة 1967 م أنها كانت تخاطب الداخل العربي و كفى لتعبئته ضدّ المحتل البغيض ، من دون أنْ تصل إلى الخارج ، و إنْ وصلت إلى وجهتها المبتغاة ، فهي تخشى ، من أنْ تؤلب الرأي العالمي في غير صالحنا ، بخصوص هذه القضية الشائكة التي استعصت على العالم بأسره ، خصوصاً و أنّ المقاومة المسلحة في عـُرف القوى المتسلطة عالمياً هي إرهابٌ مسلحٌ ، لذا أعلنت هذه الأنظمة ، مباركتها لمثل هذه الأعمال ، التي يتغنى فيها عدد كبير من مغنيي اليوم – متاجرين طبعاً - بقضية الشعب الفلسطيني ، بكلمات تـُظهر العرب مستسلمين لمصائرهم ، من دون أنْ تكون لهم حتى ردة فعل ، كالنعاج - أعزكم الله – المـُساقـَة إلى حتفها ، أو هي أكثر مقاومة منهم ، و بصور لقتلى و أشلاء متناثرة و صورلثكالى و أرامل يبكين فيها على أولادهن و أزواجهن ، و صور ترهب العرب ، إذ تـُظهـِر فيها طائرات العدو و أسلحته المتطورة أمام شباب عزل إلا من سلاح الحجارة و قبله سلاح الإيمان ، كما نرى في هذه الأغاني المتخاذلة المصورة ، صوراً أخريات لجنود الاحتلال و هم يضربون و ينكلون بأبنائنا ، في مشاهد مـُذلة ، على هؤلاء المغنين أن يستحوا منها ، لأنها تبين للعالم أنّ العرب أمة جبانة و ذليلة لا تستحق أن تعيش على هذه البسيطة .
فريد الأطرش في لحظة تأملية
فهذا ما يُراد للأغنية الوطنية ، أنْ تنتهجه ، كي تصل هذه الصور إلى العالم ، فتستدر عاطفة الشعوب علينا بطريقة جديدة على الغناء العربي المألوف سابقاً في هذا النمط بالذات ، حيث يـُضمّ إلى العمل الغنائي الواحد أحياناً أكثر من ثلاثين فناناً دفعة ً واحدة ً - بعضهم من المغنين و البعض الآخر من الممثلين ذوي الأصوات الرديئة لغرض ٍ - سأخبركم عنه في نهاية هذه الفقرة – بحيث يؤدي الواحد منهم مقطعاً بطريقة خاطفة لا تتجاوز في الغالب ثواني معدودة ، لإضفاء الأهمية على العمل ، فما دام الفنانون العرب – المحتسبون من ضمن النخبة – بهذا المعتقد و هم من هم في وضعهم ، لجهة الجمهور ، فهم في معتقد المتلقي الأجنبي ، يعكسون خياراً و مساراً جديداً ، ينتهجه العرب في نظرتهم إلى الصراع العربي الإسرائيلي ، على النقيض مما كان عليه فنانونا الرواد ، و منهم مثلاً ' فريد الأطرش ' الذي استطاع بصوته ، أنْ يداوي جراحات العرب عقب الهزيمة التي محقت بهم سنة 1967 م – إذ قدر بمفرده ، على أنْ يبعث الروح المعنوية المقاومة ، التي خارت قواها لدى الجندي و المواطن العربيين على حدٍّ سواء ، لكونه سليل أسرة مجاهدة ، تربى في كنفها على مناكفة المحتل حتى أخر رمق ، فاسمع المتلقي العربي نشيد ( يوم الفداء ) الذي تغنى فيه بيوم النصر ، الذي آمن به على الرغم من كل الانكسارات و المكابدات ، التي لحقت بالأمة فلم يداهن و لم يهادن العدو ، و لم يُمجّد في عمله هذا ، إلا حقيقة النصر القادم بقوة السلاح ، فقرّ عيناً بانتصار العرب في حرب رمضان 1973 م – و احتفل معهم بالوعد الذي قطعه على نفسه في نشيد ( وردة من دمنا ) الذي جاء احتفالاً بالعبور ، و ذكّر فيه مستمعيه بأنه قد وعدهم وعداً صادقاً بالنصر - لإمانه بتاريخ أمته التليد ، و ليقينه بعدالة الله ، حينما يقول في نهاية كل كوبليه : ' إنّ للباطل جولة ، و كذلك لقناعته بأنّ العرب خسروا في معركة و لم يخسروا القضية برمتها - فلا يجب أنْ تفتّ الهزيمة في عضدهم - عنما خاطب المرأة العربية التي استوحاها الشاعر الكبير ' بشارة الخوري ' في هذا القصيد حيث تغنى منتشياً بطعم النصر صادحاً :
نحن يا أختُ على العهدِ الذي .. قد رضعنـاه من الْمهـدِ كِلانا
يثربُ و القدسُ منذُ احتلمـا .. كعبتانا و هوى العُرْب هوانا
فكان نشيد ( يوم الفداء ) تنبؤاً بل إيماناً منه بهذه الحقيقة ، التي تسرب الشكّ إليها في صدور الشباب آنذاك ، عندما صدح بهذه المبادئ المستشفة من هذه القصيدة :
كلمات الزجّال و الشاعر و الأديب : بيرم محمود التونسي
لحن وأداء : فريد الأطرش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شعبُنا يوم الفداءِ فعلـُه يسبقُ قولـَه
لا تقـُل ضاع الرجاءُ إنّ للباطل ِجولة
***
ما لا لعدوان ٍ مقرٌّ والوغى كرٌّ وفرُّ
نحن للتاريخ ِ أمجاداً بنينا
ورسالاتُ الهُدى بين يدينا
نحن شعبٌ لا يبُالي يتسامى للأعالي
بكفاح ٍ ونضال ٍ وجنود الله حوله
إنّ للباطل ِجولة
***
فوق أرضي لن يمروا وبها لن يستقروا
في طريق ِ النصر ِ لن نحني الجبين
لن يهونَ العزمُ فينا لن يهونَ
أرضنا للحق مهدٌ و انتصار الحق وعدٌ
لم يدُم للظلم ِ عهدٌ لم تعـِش للظلم ِ دولة
إنّ للباطل ِجولة
***
قـُل لهم أين المفرُّ؟ فلهم يوم أمرُّ
قد تأخينا هلالاً وصليباً
وتلقينا بعيداً وقريباً
يا له يومٌ مقدر يذكرُ التاريخُ هوله
هلّل الشعب وكبّر قائلاً :
اللهُ أكبر ُ.. اللهُ أكـبر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم : زياد العيساوي
بنغازي- ليبيا
لا إله إلا الله