عن جريدة القدس العربي
إذاعة القدس: أسسها الانتداب البريطاني لكن الفلسطينيين جعلوا منها أداة مقاومة!
محمد منصور
17/03/2009
فيما يتم الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية العام 2009 تتبادر إلى الأذهان صور شتى من عهود مضت، كانت فيها القدس مركزاً من مراكز الثقافة العربية فعلاً لا قولاً أو شعاراً وحسب... ولعل أبرز تلك الصور ما يرتبط بإذاعة القدس التي انطلق بثها في ثلاثينيات القرن العشرين، وكانت مقصداً للكثير من الفنانين العرب والسوريين على وجه الخصوص!
هنا عودة إلى تاريخ (إذاعة القدس) وقصة انطلاقتها وتوقفها، ثم إلى حكايات ومساهمات بعض الفنانين السوريين فيها!
قصة الانطلاقة الأولى!
المعروف أن افتتاح إذاعة القـدس، كان في عهد الانتداب البريطاني، فقد انطلق بثها بتاريخ الثلاثين من آذار (مارس) 1936 وقد كانـــت تبث بثلاث لغات، هي العربية والإنكليزية والعبرية... وقد تسلم رئاسة القسم العربي في إذاعة القدس، الشاعر الفلسطيني المعروف إبراهيم طوقان الذي قدم من خلال الإذاعة أحاديث أدبية وروايات تمثيلية وأناشيد وسلسلة محاضرات عن شخصيات فلسطينية الأمر الذي جعل من الإذاعة منبرا للوطنية الصادقة.
وكانت البرامج العربية في إذاعة القدس متنوعة وغزيرة، إلا أنه لم يكن لها وقت كاف لإذاعتها جميعها لسببين: الأول هو تعدد اللغات التي تبث بها الإذاعة... وثانيها أن الجهاز الحكومي المشرف عليها والمتمثل في الانتداب البريطاني، كان يقوم بتضييق الخناق حول عمل طاقم الإذاعة وتقليص البرامج العربية كما كان يخضع العاملين العرب فيها لرقابة شديدة، وهو ما طال أكبر مسؤوليها الشاعر إبراهيم طوقان، الذي اتهم بالتحريض على الفتن وأقالته سلطات الانتداب من عمله سنة 1940.
ورغم ذلك فقد حظي المستمع العربي بنصيب وافر من البرامج التي كانت تبثها محطة الإذاعة... ففي ساعات الصباح مثلا كانت تتلى آيات مختارة من القرآن الكريم من خلال مقرئ من المسجد الأقصى وفي ساعات الظهيرة تقدم الإذاعة برنامج (ما يطلبه المستمعون العرب) حيث كانت تقدم الإذاعة اسطوانات فونوغراف لمطربين محليين وأحيانا من الدول العربية ومنهم محمد عبد الوهاب وزكريا أحمد وصالح عبد الحي والمطربة لور دكاش التي غنت أغنيتها المشهورة (آمنت بالله) شخصيا في دار الإذاعة الفلسطينية عام 1939.
كان القسم العربي للموسيقى تحت إشراف الموسيقار يحيى اللبابيدي، وهو ملحن متميز أعطى فريد الأطرش إحدى أشهر أغنياته في الثلاثينيات (يا ريتني طير لطير حواليك) وقد عمل يحيى اللبابيدي الذي ولد في عكا ودرس في بيروت، مع طاقمه على التأليف والتلحين والعزف والغناء وتجهيز البرامج اليومية والمناسبات خاصة بمواسم الأعياد أو الاستقبالات الرسمية وما أكثرها في تلك الحقبة!
وكانت الإذاعة تقدم بعض التقاسيم لبعض الموسيقيين العاملين بالمحطة ومنهم عازف الناي (توفيق جوهرية) من القدس، وعازف العود (يحيى السعودي) و(محمد عبد الكريم) على البزق، وعلى آلة الكمان (أنطون بنيامين) وعازف القانون (إبراهيم عبد العال).. إلى جانب هذه البرامج كانت تخصص فترة غنائية لبعض المطربين الشعبيين كالمطربة ماري عكاوي. والمطربة الشعبية رجاء الفلسطينية، والمطرب روحي الخماش، والمطرب فهد النجار.
الإذاعة تطلق نجومها!
وقد حظي بعض مطربي إذاعة القدس من الفلسطينيين بشهرة لا بأس بها في ذلك الوقت، الأمر الذي دفع الإذاعة المصرية في مطلع العام 1939 لاستضافتهم لمدة شهر كامل... وقد نشرت مجلة (الراديو المصري) التي كانت تصدر في القاهرة بتاريخ 25/3/1939، موضوعاً بعنوان: (مطربو الإذاعة الفلسطينية يذيعون من محطات إذاعة لاسلكية في القاهرة) عرفت به بثلاثة من مطربي هذه الإذاعة، أبرزهم ماري عكاوي التي قالت تروي قصتها مع الفن والتحاقها بإذاعة القدس:
(هويت الغناء منذ صغري فكنت أترنم بالأناشيد وأشترك في إنشادها مع زميلاتي الطالبات بالمدرسة، ثم انتقلت إلى تعلم الأغاني فكنت أحفظها نقلاً عن أسطوانات الآنسة أم كلثوم التي كانت تؤثر في نفسي أكثر من سواها، وقد حدث أن كنت مدعوة إلى إحدى الحفلات العائلية منذ حوالي سنوات، وكنت لا أزال حينذاك طالبة بالمدرسة، ثم دعاني الحاضرون إلى الغناء فغنيت وكان من بين الحاضرين ملحن معروف اسمه الأستاذ يعقوب... ما كاد يسمعني حتى أبدى إعجابه بحسن استعدادي لتعلم الغناء ونصح أن أتعلم أصوله،وتبرع بأن يكون هو معلمي الأول فرضيت... وأخذت عن الأستاذ يعقوب بعض الأغاني، ثم علمت أن الحكومة الفلسطينية تنوي افتتاح محطة للإذاعة اللاسلكية، وأنها في حاجة إلى مطربات ومطربين... فتقدمت إليها، ودعاني الأستاذ اللبابيدي المدير الفني للإذاعة اللاسلكية الفلسطينية لاختباري، فلما غنيت أمامه اقتنع بأن استعدادي طيب وصوتي جيد، وأنه لا ينقصني إلا بعض التدريب والتعليم، ودعا الأستاذ اللبابيدي الأستاذ صالح الفروجي، المطرب المصري المعروف إلى تعليمي بعض الأغاني، وقمت بإذاعتها عندما افتتحت محطة الإذاعة الفلسطينية). (1)
نشاط فني حافل!
وسرعان ما تحولت إذاعة القدس إلى قبلة لكثير من الفنانين العرب... وازدهر نشاطها الثقافي والفني، الذي سنتوقف عند بعض علاماته... إلا أن مصير الإذاعة ومن التحق بها من الفنانين العرب، كان مرتبطاً بطبيعة الحال، بما كان يجري على أرض فلسطين ككل... وبما كانت تحضر له سلطات الانتداب البريطاني على صعيد تحقيق وعد بلفور الشهير ... وهكذا كان على الصوت العربي في إذاعة القدس أن يخفت تماماً في المدينة، مع أولى فصول نكبة 1948 وإعلان قيام الكيان الصهيوني، حيث قامت القوات الإسرائيلية باحتلال مبنى الإذاعة كاملاً، ويذكر توفيق محمود الشاهد في كتابه (رحلتي مع المايكروفون) أن (عصمت النشاشيبي حَمَل مع من حَمَل على ظهره أجهزة الإذاعة من مقرها في حي الطالبية في القدس إلى مدينة رام الله بعد أن تمّ احتلال مباني الإذاعة في القدس، حمل الأجهزة إلى رام الله والى مكان أعمدة الإرسال فيها لينطلق صوت القدس من هناك ولتتابع الإذاعة الفلسطينية رسالتها بعد إلغاء الانتداب البريطاني). (2)
وكان الأردن قد واصل بث الإذاعة من رام الله وسماها 'إذاعة القدس العربية' والتي كانت تعرف أيضا بـ 'راديو رام الله' أيضاً... إلا أن احتلال إسرائيل للضفة الغربية في الخامس من حزيران (يونيو) 1967 أنهى بث 'إذاعة القدس العربية' أيضاً، ووضع نهاية لتجربتها ونشاطها الذي انطلق على أرض مدينة القدس في ثلاثينيات القرن العشرين، بوجود قامات ثقافية كبيرة كالشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وفدوى طوقان، وخليل السكاكيني... الذي روى عنه الناقد فيصل دراج، أنه حين عمل في إذاعة القدس... (جاءه صوت من غرقة مجاورة يقول: (هنا أرض إسرائيل) فتوقف عن العمل وخرج صارخاً: إذا كانت هذه أرض إسرائيل... فأين أرض فلسطين، ومضى وقدم استقالته إلى المسؤول الإنكليزي، أجابه الأخير: هو يقول ما تريد وأنت تقول ما تشاء... احتفظ السكاكيني باستقالته وخرج يندد بالمشروع الصهيوني والتواطؤ الإنكليزي) (3)
أم كلثوم في القدس: أعياد الطرب والسرور!
وبالعودة إلى النشاط الفني الذي اجتذب كبار الفنانين العرب لزيارة القدس أمثال صالح عبد الحي ومحمد عبد الوهاب، ومحمد عبد المطلب وسواهم، نعثر على صورة لإعلان نشر في إحدى الصحف عام 1935 عن حفلات أم كلثوم في القدس ويافا وحيفا... ومما جاء في نص الإعلان الذي تصدرته صورة لأم كلثوم في مطلع شبابها:
(أعياد الطرب والسرور في مدن فلسطين العامرة، بتشريف المطربة الفنانة بلبلة الشرق والأقطار العربية: الآنسة أم كلثوم مع فرقتها المكونة من مشاهير الفنانين... منتخبات من أجمل وأعذب الأغاني تتقدم بها في حفلاتها بمدن فلسطين العامرة. يومي 1 و 2 ايار (مايو) القدس- مسرح سينما أديسون، 5 و6 ايار (مايو) يافا- مسرح أوبرا مغربي، 7 و8 ايار (مايو) حيفا- سينما عين دور).
أمير البزق: أجمل أغنياته في إذاعة القدس!
الملحن السوري محمد عبد الكريم الذي اشتهر باسم (أمير البزق) وكان واحداً من كبار العازفين والمجددين في التعامل مع البزق، التحق بإذاعة القدس منذ افتتاحها، وقد كان ضمن الفنانين الذين أوفدتهم الإذاعة بعد ذلك إلى القاهرة، حيث عومل هناك باعتباره من مطربي الإذاعة الفلسطينية، ويذكر الناقد صميم الشريف، في كتابه: (الموسيقى في سورية) حول نشاطه في إذاعة القدس ما يلي:
(وجهت إليه إذاعة القدس دعوة رسمية ليساهم بفنه في افتتاح إذاعة القدس بصورة رسمية. وفي القدس وجد في استقباله كل من: يوسف بتروني ويحيى السعودي وروحي الخماش، الذين تولوا في الإذاعة مديريات الموسيقى الحديثة والموسيقى الشرقية. وبعد الافتتاح الرسمي، وانبهار مدير الإذاعة البريطاني بعزف محمد عبد الكريم، طلب إليه البقاء في القدس والعمل في إذاعتها لقاء راتب مغر. وأثناء إقامته التي امتدت أربع سنوات، انصرف إلى التلحين، فوضع للمطربة الشابة 'ماري عكاوي' أجمل ألحانه، تانغو 'يا جارتي ليلى' التي نظمها الشاعر 'جلال زريق' ليغدو هذا التانغو الذي غنته فيما بعد المطربة الراحلة 'فايزة أحمد' من الألحان السائرة) (4)
أسمهان وفريد الأطرش: يا ريتني طير!
كانت أسمهان، ومن قبل شقيقها فريد الأطرش من الفنانين الذين ترددوا على القدس وإذاعتها... وفي كتاب (حول فراش الأمير محمد عبد الكريم) ثمة صورة منشورة لفريد الأطرش مع أمير البزق محمد عبد الكريم في القدس، يعود تاريخها إلى عام 1934، والمعروف أن فريد الأطرش سجل أغنية (يا ريتني طير) التي لحنها يحيى اللبابيدي لمطرب لبناني، ثم غناها واشتهر بها فريد... سجلها لأول مرة في استوديوهات إذاعة القدس مع مجموعة أغان خفيفة ومواويل كانت بمثابة الانطلاقة لحياته الفنية، وكان فريد الأطرش يقيم في جمعية الشبان المسيحيين حين كان يزور القدس في بداية حياته الفنية.
أما أسمهان التي زارت القدس عام 1941 في مهمة استخباراتية سرية مع المخابرات البريطانية، ونزلت في فندق الملك داود... فقد التقت أثناء إقامتها بعض العاملين في إذاعة القدس... وكانت لها معهم صور تذكارية، ومنهم أمير البزق محمد عبد الكريم، الذي يذكر أن أسمهان غنت من ألحانه تانغو (آلام الطير) على الهواء من القاهرة لكنه لم يسجل! (5)
عبد الفتاح سكر: بداية ونهاية!
الملحن السوري المتميز عبد الفتاح سكر، الذي قدم للأغنية السورية بين خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين عشرات الألحان والأغنيات التي بقيت في الذاكرة... كانت له محطة أيضاً في إذاعة القدس... ففي عام 1946 التقى في الأردن مصادفة بمطرب الإذاعة الفلسطينية مصطفى المحتسب، الذي استمع لعبد الفتاح سكر وهو يغني لحن محمد القصبجي 'يا طيور' المعروف بصوت أسمهان فأعجب بصوته وأدائه... وعرض عليه احتراف الغناء!
وبعد أيام على ذلك اللقاء، تلقى عبد الفتاح سكر دعوة رسمية من إذاعة القدس للمثول أمام اللجنة الفاحصة التي يرجع إليها اختيار المطربين من الهواة. وسافر إلى القدس، ومثل أمام اللجنة الفاحصة المكونة من عازف الكمان المعروف فاضل الشوا شقيق العازف الكبير الملقب بأمير الكمان سامي الشوا والمطرب الشهير روحي الخماش والموسيقي القدير يحيى السعودي وغنى أمامها أغنية محمد عبد الوهاب الشهيرة 'يا ورد من يشتريك' التي تتطلب براعة خاصة في الأداء، فنجح بتفوق، ليغدو بين ليلة وضحاها مطرباً في إذاعة القدس براتب شهري لا يزيد عن اثنتي عشر جنيهاً.
وفي إذاعة القدس قدم العديد من الألحان والأغنيات الناجحة: (إن كنت ناسي) و(شدو البلابل على الغصون)... إلا أنه سرعان ما وجد نفسه في صبيحة أحد أيام شهر أيار من عام 1948 محمولاً مع بضعة عشر رجلاً في عربة بريطانية مصفحة، توجهت بهم إلى جسر اللنبي فألقت بهم هناك بعد أن أفهمهم الضابط البريطاني المسؤول بأن عليهم العودة من حيث أتوا... حيث قررت السلطات البريطانية طرد كل العرب من غير الفلسطينيين إلى أقرب نقطة للحدود، وكان عبد الفتاح سكر واحداً من هؤلاء... فعاد إلى دمشق ليبدأ من جديد في إذاعتها، وقد بقيت صورة تجربته في إذاعة القدس عالقة في ذاكرته ووجدانه.
هوامش ومراجع:
(1) (مطربو الإذاعة الفلسطينية يذيعون من محطات لاسلكية بالقاهرة): مجلة (الراديو المصري)، القاهرة 25/3/1939.
(2) محمود توفيق الشاهد: (ذكريات إذاعية)، جريدة 'الدستور' الأردنية، العدد (14651) 2/3/2009.
(3) د. فيصل دراج: (قوة الكلمات ودلالة القراءة)، مقدمة الترجمة العربية لكتاب (في غابة المرآة) لألبيرتو مانغويل، دار كنعان، دمشق 2006.
(4) صميم الشريف: (الموسيقى في سورية: أعلام وتاريخ) وزارة الثقافة- دمشق 1991.
(5) علي حسني النجار: (حول فراش الأمير) ص (82) وزارة الثقافة - دمشق 1997.