لن أنتظرَ حتّى يُنشرَ المقالُ على الموقعِ الاليكتروني :
******************************
بورتريه ، ص9
العدد 94مـــــن جريدة ((فيتـــــو))
الثلاثاء 26 نوفمبر 2013م
***
بشــير عيـَّـاد يشعلُ الضوء الأحمر ويرفعُ له الكارت الأصفر ويحذّر :
***
إلا السـِّــــــــتّ يا أبنــــودي !!
***
على طريقة رفيقه في الكفاح وجدي الحكيم ، تفرّغ الزجّال عبد الرحمن الأبنودي لتأليف تاريخ خاص به ليسرحَ به عابرو الإعلام في الأزمنة المقبلة ، وينثروه على ضفاف الحكايات الليلية مثل السيرة الهلالية لعمّك جابر أبو حسين وشركاه رحمة الله عليهم !
الزجال المذكور يحملُ ربابته ويجلس هناك تحت السجر يا وهيبة .. في الهواء الطلق ويلتقط الأبرياء من حملة القلم أو الميكروفون ويصبّ في آذانهم ما يحبّ أن يُقال عنه حيًّا أو ميّتًا ، ولكنه ـ من قبيل الاستخفاف ـ يطلق الأحداث عارية ملساء مجرّدة من التواريخ ، أي لا يقول : في يوم كذا .. بتاريخ كذا .. سنة كذا ... عملنا كذا كذا كذا !،والناس في بلادي يصدّقونه مثلما يصدّقون رفيقه المشار إليه ، إذ ينظرون إليه بحالته الراهنة ،ويتناسون أنه في يوم ما كان طفلا ، ثم شابا مكافحا ، ثم حالمًا لم يجد لنفسه وجودا في القاهرة ، فغادرها ، ثم عاد ، وبعد أن عاد بدأ رحلة الكفاح من تحت الصفر ومن فوق السطوح ، والمصيبة الكبرى أن الرجل لم يتكلّم إلا بعد أن رحل الأبطال ، ورحل الشهود أو دخل الموجودون منهم دوامة الزهايمر أو خلف ستار الحياء ، فتجرّأ ـ بعنف ـ ليصنع لنفسه تاريخا على جثث الموتى من عظماء القرن العشرين ، لكنه تجاوز الحدّ عندما قفز أسوار أمّ كُلثوم العالية جدًّا ، وراح يكيلُ لها سيلا من الكراهية ، ويضرب ضربته التي لا يصدّقها أي طفل في أروقة التعليم الأساسي عندما يقول إنه رفض أن تغني أمّ كُلثوم من كلماته ...ثلاث مرّات !!
في الحلقة السادسة من سيرته المسلسلة التي يرويها للأستاذ محمّد توفيق باليوم السابع ( 15 نوفمبر 2013م ) ، قال الأبنودي "إنه لا يحبّ أمّ كُلثوم ، وإنها كانت تكرهه "، وهذه مشاعر إنسانية لا دخل لنا بها ، لكنه أطلق لربابته العنان وراح يزكمنا بعزفه النشاز عندما قال إنه رفض أن تغني كلماته ثلاث مرّات !!
سأضعكم في قلب التواريخ التي يتهرب منها الأبنودي ، فأوّل أغنية أذيعت من كلماته كانت بعنوان "إنجد قطنك م الدود" ، من ألحان حلمي أمين وغناء فاطمة علي ، وتم تسجيلها في 21 مايو 1962 ومدتها 4 دقائق و41 ثانية !، في اللحظة ذاتها كانت أمّ كُلثوم قد قطعت أربعين عامًا متصلة من الغناء والارتقاء بأذواق الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج ، وكانت قد غنّت لواحدٍ وخمسين شاعرًا ( من ستّة وخمسين غنّت لهم ) وكانت تجرّ وراءها تاريخًا لا يعادل هذا الأبنودي نقطة ـ لا حرفًا ـ فيه ، كانت أمّ كُلثوم تحملُ في صوتها أشعار رامي وشوقي وبيرم وأبي فراس والخيّام وطاهر أبي فاشا ومحمود حسن إسماعيل وصالح جودت وصلاح جاهين وأحمد فتحي وعبد الفتاح مصطفى وعبد الله الفيصل وعبد المنعم السباعي وعبد الوهاب محمد وأحمد شفيق كامل ومأمون الشناوي .....إلخ إلخ ، وجاء الأبنودي ليقول :
ما تقولشي حاجات مقسومة
ما تقولشـــي الأيّام ســود
قوم من أحــــــلاها نومة
وانجِــــد قطنك م الدود
أهو إنتَ بكدّك .. الدود مش قدَّك
قوّم له عيالك تطلع وتســــاعدك
ما تروحشي لواحدك ،، وانجـِد قطنك م الدود !!
زجّال يحبو على سلالم الأصوات التائهة في الزحام ، وبما يتواءم مع حملات الإرشاد الزراعي ، ثم يدّعي أن أمّ كُلثوم أرادت أن تغني أغنية من كلماته فرفض ( ولفروسية الرجل يقول إنه رفض لأنه رأى الكلمات لا تليق بمكانة أمّ كُلثوم ) ، ما هي الكلمات الأبنوديّة التي توحّمت عليها أمّ كلثوم فرفض الرجل حرصًا على صحّتها الغنائيّة ؟ وما قصّتها ؟ كتبَ المحرّر ـ المحاوِر :
" جاء بليغ حمدى إلى الأبنودى، وهو فى غاية السعادة، وقال له: "افرح يا عم.. أمّ كلثوم هتغنيلك"
فردّ الأبنودى بهدوء: "هتغنيلى إيه؟".
بليغ فَرِحًا: "بالراحة يا حبيبى".
الأبنودى ساخرًا: " بقى أم كلثوم هتغنى أغنية اسمها "بالراحة يا حبيبى "أنت اتجنيت ولّا إيه؟!، صداقتنا كوم والأغنية دى كوم، أم كلثوم عايزة تغنى لى أكتب أغنية تليق بيها وبيَّا وبيك".
بليغ مندهشًا: " طب أنا دلوقتى أقول لأم كلثوم إيه؟!".
الأبنودى: "قول لها هاعمل حاجة تليق بيكى" ، أمّا الكلمات ـ وامسك نفسك أيها القارئ الكلثومي ـ فتقول :
" بالراحة يا حبيبى.. كلّمنى بالراحة..
دا أنا مشيت يامه علشان أشوف راحة..
يا مالينى حِنيّة ومودة وسماحة..
عايز تريحنى كلّمنى بالراحة"
الأبنودي يقول إنه رفض أن تغني أمّ كُلثوم هذه الكلمات حرصا على مكانتها ، لكنك عندما تراجع الخضّة والورطة التي وقع فيها بليغ حمدي " ماذا يقول لأمّ كلثوم " تشعر أن الستّ قالت : حياتي في كفة ، وهذه البتاعة في كفة!ولأن الأبنودي يعطينا الحكايات ملساء بلا تواريخ ، سنفترض جدلا أن هذا حدث بعد النجاح الساحق لأغنيته "انجد قطنك م الدود "، والتي بفضلها نجحت الدولة في الحفاظ على محصولها الاستراتيجي ، القطن ، وأصبحت الأغنية علامة فارقة في تاريخ الغناء والإرشاد الزراعي ، ولأننا أوردنا التاريخ الفعلي لتسجيل "إنجد زفتك م الدود "، فسيكون تاريخ تلهّف أم كُلثوم على كلمات الأبنودي بعد مايو 1962 ، في تلك الآونة كانت الست ـ إلى أبريل 1966 ـ تستعد لـ" ح اسيبك للزمن ، ظلمنا الحبّ ، طوف وشوف ، أقول لك أيه عن الشوق ، كلّ ليلة وكل يوم ، للصبر حدود ، إنت عمري ، سيرة الحبّ ، أراك عصيَّ الدمع ـ السنباطي ، إنت الحبّ ، بعيد عنّك ، أمل حياتي ، الأطلال " وأعني غناءها للمرة الأولى ، فقل لي يا عالِم بالأشواق أين تضع "بالراحة يا حبيبي "بتاعة الأخ الأبنودي بين تلك الأعمال ؟ وكيف تركت أمّ كلثوم كلّ هذه الشواهق لتتوحّم على مخللاية الأبنودي ؟ هل بلغت الطفاسة بأمّ كُلثوم ذلك الحد من الدناءة ؟
قال الأبنودي إن أمّ كُلثوم لم تغفر له ذلك !وبرغم ذلك عاد ليرفض ، كيف ؟ يقول إنه: عندما قامت ثورة اليمن كان يعد أغنية مع عبد العظيم عبد الحق عن ذلك الحدث ، لكن صلاح جاهين نشرها في الأهرام فطلبتها أم كُلثوم ، و.......... رفض الأبنودي للمرة الثانية ! ومتى قامت ثورة اليمن يا سي عيّاد يا منحاز لأم كلثوم ؟ قامت ثورة اليمن في 26 سبتمبر 1962م يا أخي المؤمن ، و... خلّيك مكاني ، بعد السرد ـ أعلاه ـ إلى أبريل 1966م!
ثمّ ... جاءت نكسة 1967 ، ورفض الأبنودي للمرة الثالثة أن تغنّي أم كُلثوم من كلماته ، ويا عيني ..ماتت الست بقهرة ، إذ لم تنل شرف ترديد كلماته البليدة الميتة ، وحرمها من أن تضعه إلى جوار رامي وشوقي وبيرم ومأمون وعبد الوهاب محمد وناجي ونزار وجورج جرداق وأبي فراس والخيّام!!
كان ردّ فعل القراء ـ في موقع اليوم السابع ـ قاسيًا وواعيًا ، وكان ردّي أعنف وأقسى ، فالأبنودي لا يستحي ويرمي نفاياته السامة في عقولنا، ومحاوروه مساكين لا دراية لهم بالوثائق ولا بالتواريخ ، وإذا كان يصر على أن يصنع لنفسه سيرة وتاريخا على جثث الراحلين فإنني أقولُ له بأعلى صوتي : إلا أمّ كُلثوم يا أبنودي ، فكل ما كتبته يتطاير كالغبار ولا يصمد لحظة واحدة أمام تصفيق الجمهور عند رفع الستار عن حضورها الطاغي البهيّ ، ولن نسمح لك أبدًا بأن تتقيّأ حقدك عليها وكراهيتك لها ولو على صورة لحذاءٍ من أحذيتها !!
*******
البورتريه
بريشة الفنّان خضر حســــن
رسّام جريدة " فيتـــــــــو "
*******