@ صبيحة اليوم التالى ذهب الربيع للقاء المنصور .. بعد أن نفذ أوامره وأجهز على حياة أبى أيوب .. بعد أن اعترف له بكل شئ وأقر بأماكن ثرواته كلها .. عندما دخل عليه مجلسه .. وجده يجلس وحيدا شاردا شاخصا بعينيه إلى أعلى .. وعلى أساريره إنطبعت أمارات الأسى والحزن الشديد .. وفى خطى وئيدة تقدم ناحيته .. وقال مواسيا وهو يبالغ فى إظهار الحزن والأسى على صفحة وجهه .......
ــ عظم الله أجرك فى ولدك يا أمير المؤمنين .. وأسكنه جنة الفردوس .. وألهمك جميل الصبر ...
أمن المنصور على كلامه .. وأشار إليه براحة يده ليجلس .. ثم قال بصوت يقطر أسى ولوعه .......
ــ إنها لكارثه فادحة والله .. مصيبة عظمى .. ولدى فى دارى على مقربة خطوات منى .. ويعمل فى ديوان من دواوينى .. وأنا لا أعلم ...
استطرد قائلا .......
ــ أظنك علمت بالحقيقة من هذا الخائن ؟!..
ــ أجل يا مولاى .. إعترف لى بكل شئ .. قبل أن آمر بقتله فجر اليوم كما أمــرت ...
ــ أتدرى يا أبا الفضل .. أننى لما رأيته أول مرة .. أحسست بشعور غريب ناحيته .. شعرت للوهلة الأولى .. أن شيئا ما يربطنى به .. ورأيت فيه شيئا منى .. منذ شهر مضى أرسلت فى طلبه سرا .. وظللت أسأله عن إسمه وإسم أبيه وأمه .. إرتبك ولم يجد ما يقوله لى .. فقلت له ألست من الموصل وأمك فلانة الأزديه !.. بوغت وتعجب من معرفتى بهذه الحقائق .. التى أخفاها عن كل من حوله ثم قص على قصته .. وفى هذا اللقاء عرفته أنى أبوه .. وحكيت له حكايتى مع أمه .. إلا أننى طلبت إليه أن يكتم هذا الأمر .. وألا يخبر به أحدا حتى أعلن ذلك بنفسى على الملأ .. ثم أعطيته رسالة لأمه بالموصل .. أطلب منها أن تعود معه .. مرت أيام كنت خلالها أنتظر وصولهما معا على أحر من الجمر .. لكنه لم يرجع ثانية أو يأتنى منه شئ .. ولما طالت غيبته تشككت فى الأمر .. وانتابتنى الظنون والهواجس .. أرسلت أحد رجالى إلى أمه .. وكنت عرفت منه مكانها .. ولما جاءتنى هنا وكان ذلك منذ أيام .. سألتها عن جعفر .. فاجئتنى بقولها أنها لم تره منذ سنوات .. جن جنونى وأرسلت رجالى على الفور يستطلعون الأمر ويقتفون الأثر .. حتى عثروا عليه أخيرا جثة هامدة .. عند حائط مهجور فى طريق الموصل .. تحريت المسئلة.. فعرفت من عيونى أن وراء هذه الفعلة الشنعاء .. واحدا من رجالى وخاصتى .. الخائن الحقير أبو أيوب الموريانى ...
ــ هون عليك يا مولاى هون عليك .. إن الله إذا أحب عبدا إبتلاه .. نسأل الله أن يعظم لك الأجر………………
@ مضت الأيام تترى .. وأم حبيبة ترقب ولدها يوما بعد يوم .. وهو يحاول أن يحبو على يديه ورجليه .. ثم محاولا الوقوف على قدميه .. فيتكفأ أحيانا ويثبت واقفا أخرى .. وتمر الأيام تتاليا .. فيحاول أن يمشى الهوينا خطواته الأولى على أرض الدار .. شيئا فشيئا وخطوة خطوه .. كان يسير خطوات ويتعثر أخرى .. حتى أكمل أخيرا عامه الرابع ...
كان يحلو للصغير أحيانا أن يتسلل إلى القاعة التى يستقبل فيها جده الأزدى زواره .. يجلس فى ركن منها مرهفا سمعه لأحاديثهم ومناقشاتهم .. التى كانت تدور بين الحين والحين فى أمور تتعلق بالدين وقضاياه وأحكامه .. ذلك أن الأزدى شأنه شأن الكثيرين من أهل زمانه رجالا كانوا أم نساء .. لديه دراية بكثير من أحكام القرآن والسنه .. ومعرفة بأقوال السلف وأخبارهم .. فهم لا يزالون حديثوا عهد بزمن النبوة وعصر الصحابة والتابعين ...
ومما يدل على معرفة الناس فى تلك الآونة .. بدقائق أحكام الشرع أن أم الشافعى "أم حبيبه" نبهت قاضى مكة ذات مرة لحكم شرعى غاب عنه .. لما أراد أن يفرق بينها وبين إحدى النسوة فى موقف الشهاده .. أراد أن يستمع لكل منهن على حدة فنبهته قائلة .......
ــ كيف تفرق بينى وبينها !.. ما يكون لك ذلك ...
سألها القاضى مدهوشا .......
ــ لم ؟!..
ــ الله تعالى يقول فى شهادة النساء ....... أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ………………
@ وفى الدار الواسعة التى يقيمون فيها بمكه .. رقد جده عبيد الله الأزدى طريح الفراش .. لا يفارقه إلا مرات قليله .. بعد أن بدأ الوهن يدب فى أوصاله .. وأخذت أمراض الشيخوخة تتسابق إلى جسده الضعيف .. حتى زادته وهنا على وهن وصارت قواه تخور وتضعف .. يوما عن يوم ...
وذات مساء بينما هو راقد فى فراشه .. وإلى جواره ابنته تناوله قدحا فيه خلاصة بعض الأعشاب الطبية .. بعد أن طحنتها ووضعتها فى الماء على النار لتغلى .. كان قد أحضرها من دكانه لتخفف عنه بعض آلام المرض .. إذا بها تلتفت إليه متسائلة .. وهو يحاول شرب الدواء على مهل .. ويداه ترتعشان .......
ــ أبى ؟!..
ــ نعم يا ابنتى ...
ــ ولدى محمد أكمل عامه الرابع ...
ــ إيه يا ابنتى .. ما أسرع الليالى والأيام .. من يصدق أنه قد مر عليك عامان هنا فى مكه .. مذ قدمنا من غزه .. تريدين أن تقولى شيئا ؟!..
ــ أجل .. أريد أن أدفع به إلى الكتاب ليحفظ القرآن ويتعلم علومه .. إنها وصية أبيه كما سبق وأخبرتك ...
ــ نعم الرأى يا ابنتى .. والله لو كنت قادرا على المشى .. لأخذته بنفسى لأحد القراء فى ساحة الحرم .. إنى أعرفهم جميعا .. كلهم أصدقاء لى ...
ــ لا عليك أنت من هذا يا أبى .. سآخذه بنفسى .. إلى كتاب واحد منــهم بعينه ...
ــ من يكون ؟!..
ــ كتاب الشيخ إسماعيل بن قسطنطين ...
ــ لم هذا الكتاب بالذات ؟!..
ــ إنها وصية إدريس .. لقد كلمنى عنه قائلا لى قبل أن يرحل إلى جوار ربــه "إن بقى هذا الشيخ على قيد الحياه فلا تذهبى لأحد غيره فإنه خير من يعلم ولدنا القرآن قراءة وحفظا" … لن أنس ما قاله لى ما حييت .. تلك وصيته بنصها يا أبى .. لا زلت أتذكرها وأسمع رجع صداها حتى اليوم ...
تنهد الأب بارتياح قائلا .......
ــ إيــــه يا ابنتى .. يرحمك الله يا إدريس .. حتى معلم القرآن .. لم ينس أن يذكره فى وصيته !.. حقا إنه أكبر معلم للقرآن .. إنه شيخ القراء فى مكة كما أخبرك ...
ــ أكبر معلم للقرآن !.. كيف ذلك يا أبى ؟!..
ــ أجل يا أم حبيبه .. لقد قرأ الشيخ إسماعيل على شبل بن عباد .. الذى قرأ على عبد الله بن كثير .. الذى قرأ على مجاهد .. تلميذ الصحابى الجليل عبد الله بن عباس .. لقد أخذ القرآن علما وقراءة من أصوله ومنابعه الصحيحه .. كابرا عن كابر ...
سكت قليلا واستدرك قائلا .......
ــ هنالك أمر .. لا أظنه قد غاب عنك يا ابنتى !..
ــ أى أمر ذلك يا أبت ؟!..
ــ تعلمين يا ابنتى .. أنه ليس لدينا ما يكفى لنعطيه أجرا لشيخ جليل مثله .. إنه أكبر القراء فى مكة وأعلاهم أجرا !..
ردت قائلة فى عزم وتصميم .......
ــ مهما يكن أجره .. لن أدفع بولدى لأحد سواه .. مهما كلفنى ذلك من مال أو جهد ...
ــ كيف يا ابنتى .. ماذا أنت فاعله ؟!..
ــ سأطلب من الشيخ أن يسمح له بالجلوس مع الصبية .. ولو مستمعا فى بادئ الأمر .. إلى أن تتيسر لى بعض الدراهم أو الدوانيق .. إنى لعلى ثقة أنه سيستجيب .. ولن يرفض رجائى ...
فرت من عينيها دمعة رغما عنها .. وهى تردف قائلة .......
ــ إنها وصية الراحل الغالى .. لن أضيعها أبدا مهما كلفتنى ………
@ صبيحة اليوم التالى إصطحبت الأم ولدها .. خرجت قاصدة ساحة المسجد الحرام .. كانت تبدو سعيدة وهى تمسك يده فى حنان .. بينما صورة إدريس لا تفارق خيالها .. وهما يسيران معا على قدر خطواته القصيرة المتقاربة .. حتى وصلا أخيرا إلى ساحة البيت الحرام ...
فى تلك البقعة المباركة من الأرض .. لا تتوقف الحركة ليلا أو نهارا .. حيث يرى الوافد إلى هناك صنوفا شتى من البشر .. جاءوا من كل فج عميق .. من شتى بقاع الأرض .. قاصدين زيارة البيت العتيق .. منهم من يطوف بالبيت .. منهم من يصلى فى خشوع عند مقام إبراهيم أو فى حجر إسماعيل .. وآخرون يقرأون القرآن .. وفى زوايا الساحة تنتشر حلق العلم والدرس .. وكتاتيب تحفيظ القرآن ...
ورغم تباين هذه التجمعات واختلاف ألوانها وأجناسها .. إلا أنه يجمعها ذكر الله تبارك وتعالى .. وفى ساحة البيت العتيق ترتفع أصوات الذاكرين إلى عنان السماء .. تدعوا ربا واحدا أحدا .. وبالقرب من هؤلاء وأولئك .. ينتشر نفر من الباعة من الرجال والنساء .. يفترشون الأرض فى أماكن متفرقه حيث يبيعون العطور والثياب القطنية والحريرية الموشاه .. والأردية والمساويك والبخور .. وأعواد المجامر والحلى وأدوات الزينه ...
أخذت تسأل وسط هذا الزحام الصاخب عن كتاب الشيخ إسماعيل .. بينما الولد يرقب ما يدور من حوله .. محملقا بعينيه الصغيرتين باهتمام ودهشه .. وفى طريقهما للكتاب .. وقعت عيناه على حلقة سفيان بن عيينه .. أكبر حلق العلم .. وعلى مقربة منها حلقة سعد بن سالم .. ثم حلقة مسلم بن خالد الزنجى .. أخذ الصبى الصغير ينظر فى إعجاب برئ إلى هذه التجمعات المتباينه .. وكأن لسان حاله يقول .......
ــ ليتنى أتمكن يوما ما من الجلوس مع هؤلاء القوم ...
وأخيرا وصلت أم حبيبه إلى زاوية الشيخ إسماعيل .. أكبر زاوية لتحفيظ القرآن الكريم .. لدى اقترابها منها وقعت عيناها على شيخ مهيب وقور .. فى حوالى الستين من عمره متخذا مجلسه فى صدر الحلقه .. على درج يشرف من فوقه على الصبية الجالسين من حوله .. وهم يكتبون ما يمليه عليهم .. وقفت فى طرف الحلقة إلى أن لمحها الشيخ فأدرك أن وراءها أمرا .. أشار إليها برأسه أن تقترب منه .. إمتثلت وسلمت عليه .. ثم قالت وهى تقدم ولدها .......
ــ سيدى الشيخ .. هذا ولدى محمد .. إنه يتيم .. مات أبوه بعد مولده بقليل .. وقبل وفاته أوصانى وأكد على أن آتى به إليك ليحفظ القرآن .. عندما يكمل الرابعة من عمره ...
سألها عن ولدها وقبيلته التى ينتمى إليها فأجابت قائلة .......
ــ أبوه إدريس بن العباس .. من ولد شافع وجده المطلب بن عبد مناف ...
هز رأسه قائلا وهو يحاول أن يتذكر .......
ــ إدريس .. إدريس .. آه تذكرته .. إنه حفظ القرآن فى صباه على يدى هنا حقا .. كان فى عمر ولده تقريبا وكان يزورنى من حين لآخر .. إلا أنه انقطع عنى زمنا .. ثم علمت أنه سافر منذ سنوات طوال .. للعمل فى بلاد الشام .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا سيدى الشيخ .. عشنا هناك بضع سنوات .. إلى أن مات ودفن هناك إلى جوار جده هاشم .. وقبل أن تصعد روحه إلى بارئها أوصانى ضمن ما أوصى .. ألا أدفع بولدى لأحد غيرك ...
ــ على بركة الله .. إذهبى أنت لشأنك ودعى هذا الولد الشافعى هنا .. وقبل الغروب أرسلى من يأخذه من هذا المكان .. على أن يأتينى هنا كل يوم قبل الضحى .. أفهمت يا امرأه ؟!..
ردت فى حياء وكأنما تبحث عما تقوله .. كانت تقدم كلمة وتؤخر أخرى .......
ــ أجل يا سيدى .. لكن .. لكن أريد أن أقول لك إنى ……
قاطعها الشيخ وهو يبتسم ابتسامة حانية .. فهم بفراسته مرادها .. وقرأ بعينيه الذكيتين ما يختلج فى رأسها .......
ــ إنك ماذا يا ابنتى .. هيه تكلمى .. لا عليك !..
ــ فى الحقيقة يا سيدى الشيخ .. أنا .. أنا لا أملك الآن من الدراهم ما أعطيها لك .. مقابل ما ستبذله من جهد مع الصبى ...
ــ فهمت .. لا عليك من هذا الآن .. ولا يشغلنك هذا الأمر أبدا .. إن ولدك يا ابنتى ذو نسب شريف .. وينتمى لأصول طيبة طاهره ...
شكرته بامتنان وانصرفت إلى دارها والسعادة تغمرها .. تاركة ولدها بين يدى الشيخ بينما صوته الأجش يتناهى إلى سمعها .. والصبية يرددون من ورائه بأصوات متباينة
::........ نون والقلم وما يسطرون .. ما أنت بنعمة ربك بمجنون .. وإن لك لأجرا غير ممنون .. وإنك لعلى خلق عظيم ........
ظلت أصواتهم تخفت شيئا فشيئا .. كلما ابتعدت خطواتها عن ساحة البيت العتيق .. وهى عائدة أدراجها إلى شعب الخيف ………………
@ مضت الأيام وتعاقبت الليالى .. والولد مواظب تماما على دروس القرآن .. يذهب إلى الكتاب كل يوم فى الضحى تارة بصحبة أمه .. وأخرى بصحبة جده أو خاله على .. يسلمه للشيخ ثم يتوجه إلى دكان العطارة القريب من ساحة الحرم .. وقبل الغروب يأخذه إلى دكانه لا يفارقه .. بل يظل معه إلى ما بعد صلاة العشاء .. ثم يعود به مرة أخرى إلى الدار .. ومع الأيام إعتاد الصبى أن يذهب بنفسه إلى دكان جده .. دون معونة من أحد بعد أن عرفت قدماه طريقهما إليه .. ومرات كثيرة كان يرجع وحده إلى الدار فى شعب الخيف ...
إعتاد الصبى أن يجلس فى حلقة شيخه فى مكان ثابت .. لا يغيره إلا إن اضطر .. ومن هذا المكان فى الركن الأيسر من الحلقه .. كان يعطى سمعه كله للشيخ .. منصتا إلى تلاوته لآى القرآن .. وعلى مر الأيام تفتحت ملكات الصبى .. وظهرت مواهبه وقدراته الفذة التى أودعها الله تعالى فيه ووهبها له .. فما إن يستمع للشيخ وهو يقرأ الآية مرة واحده .. حتى يحفظها على الفور ولا ينساها أبدا .. وكأنها طبعت فى ذاكرته .. لم يكن فى حاجة لأن يحفظه الشيخ وحده .. ويعيد عليه مرات كسائر أقرانه ...
حدث فى إحدى المرات .. بينما كان الشيخ جالسا فى مكانه المعهود وأمامه صبى .. يبدو من ثيابه وهيئته أنه من بيت ترف ويسار .. كما تشى ملامحه أنه ليس من أهل مكه .. بل من الوافدين إليها لتعلم القرآن .. وبقية الصبية متحلقين حول شيخهم .. كل واحد منهم يهمهم فى سره بصوت هامس .. مراجعا ما هو مدون أمامه فى اللوح الخشبى .. بينما الشافعى قابع فى ركنه وحده .. يتابع بأذنيه وعينيه حوارا يدور بين الشيخ وذلك الصبى المترف .. الذى جلس فى أدب أمامه متربعا .. وهو يضم ذراعيه على صدره .. بدا الشيخ نافذ الصبر ضيق الصدر وهو يقول له .......
ــ يا بنى .. إنك أتعبتنى كثيرا .. وأوجعت قلبى .. لقد بذلت معك قصارى جهدى مذ جئتنى مع أمير مكه الذى أوصانى عليك .. واستنفذت كل حيلة معك كى تحفظ ما ألقنه لك وما أتلوه عليك .. إننى لا أدرى سببا لنسيانك الدائم هذا .. ألك هوى فى شئ آخر .. إن لم تكن لك رغبة فى تعلم القرآن وحفظه صارحنى أيها الغلام .. ولا توجع قلبى أكثر مما أوجعته ...
رد الصبى قائلا فى أدب وحياء .. وهو ينظر من خلال عينين شبه دامعتين إلى موقع قدميه .......
ــ لا يا سيدى الشيخ .. لا رغبة لى فى شئ .. إلا حفظ القرآن وتعلمه ...
ــ إذن ما سبب نسيانك الدئم هذا .. إسمع يا ابن كبير الحجاب .. سأعطيك فرصة أخيرة .. فإن لم تستجب .. فلسوف أرسل إلى أمير مكة لكى يردك إلى والدك الربيع بن يونس فى بغداد ...
ــ سمعا وطاعة يا سيدى الشيخ ...
ــ عليك الآن أن تحفظ ما أمليته عليك صبيحة هذا اليوم .. وغدا بإذن الله تعيد على ما حفظته .. إتفقنا ؟!..
ــ أجل يا سيدى الشيخ ...
ــ إذن قم واجلس هناك بعيدا .. فى آخر الحلقه ...
قام الصبى مطرقا رأسه حياء وعيناه مغرورقتان بالدموع .. جلس وحده حزينا فى أحد الأركان البعيده .. لم تمض إلا لحظات حتى تقدم الشافعى منه .. جلس إلى جواره .. أخذ يربت على كتفيه فى براءة وود .. وهو يقول له .......
ــ أنا إسمى محمد بن إدريس .. وأنت .. ما اسمك ؟!..
رد عليه بصوت حزين .......
ــ إسمى الفضل بن الربيع ...
سأله الشافعى عن بلده .. فأجاب قائلا .......
ــ أنا عراقى من بغداد .. وأبى هو الربيع بن يونس كبير الحجاب فى قصر أمير المؤمنين .. وأنت من تكون ؟!..
ــ أنا من ولد شافع .. جدنا المطلب بن عبد مناف .. جد رسول الله[صلى الله عليه وسلم ] ...
صمت برهة ثم قال .......
ــ سمعت كلام الشيخ معك .. لكن لا تيأس يا أخى الفضل .. سأجلس معك وأعيد عليك الآيات .. التى أملاها عليك سيدنا ...
أدار الفضل رأسه ناحيته .. نظر إليه متعجبا ثم سأله فى دهشة وهو يمسح دموعه .......
ــ هل حفظتها أنت ؟!..
إبتسم الشافعى قائلا .......
ــ أجل حفظتها .. ما وجه الغرابة فى ذلك ؟!..
قال الفضل وقد زادت دهشته .......
ــ كيف لا أعجب .. وأنا أعلم أن الشيخ لم يلقنك هذه الآيات .. ولم أسمعك تقرأها عليه من قبل !..
أجابه الشافعى والإبتسامة لم تغادر شفتيه .......
ــ سوف أخبرك بكل شئ .. وأشرح لك الأمر لكن عليك الآن أن تفتح آذانك لى جيدا .. ردد من ورائى ما أقول .. وستحفظ هذه الآيات بإذن الله ولن تنساها بعد ذلك أبدا………………
@ وفى اليوم التالى .. بينما الصبية جالسون فى الحلقة .. وكل منهم يهمهم فى صوت خفيض ما حفظه من آيات .. إذ دخل عليهم الشيخ إسماعيل .. فى خطواته الوئيدة متكأ على عصاه .. إتخذ مجلسه فوق الدرج .. وضع عصاه إلى جانبه .. ثم أخذ يدور بعينيه الفاحصتين يتفقد الصبية .. إلى أن وقعت عيناه على الفضل بن الربيع .. نادى عليه .......
ــ تعال إلى هنا يا ابن الربيع ...
قام الولد من مكانه وهو يبدو أكثر ثقة بنفسه من البارحه .. لم لا يكون كذلك وهو لم يغادر الكتاب بالأمس برفقة الشافعى .. إلا بعد أن حفظ الآيات تماما .. تقدم حتى صار قبالة الشيخ الذى قال له .......
ــ هيه كيف حالك اليوم ؟!..
ــ بخير حال يا سيدى ...
ــ هل حفظت ما أمليته عليك بالأمس .. أم لا زلت على عهدك ؟!..
فوجئ به يرد عليه بالإيجاب .. وبدأ يقرأ فى ثبات وثقة .......
ــ ا ل ر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير .. ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه بشير ونذير .. وأن استغفروا ربكم .....
قاطعه الشيخ .......
ــ صدق الله العظيم .. فتح الله عليك يا ولدى .. أخيرا بدأت تجيد الحفظ وتتقن التلاوه .. أخبرنى كيف تمكنت من حفظ هذه الآيات .. ما الذى جد عليك يا ابن الربيع ؟!..
أخبره بما كان من أمر الشافعى معه بالأمس .. وكيف قرأ عليه هذه الآيات من الحفظ .. تعجب الشيخ والتفت من حوله متسائلا .......
ــ أين الولد الشافعى ؟!..
رآه فأشار إليه مناديا .......
ــ تعال يا ولدى .. أدن منى ها هنا .. أنا لم ألقنك هذه الآيات .. ولم أقرأها عليك .. كيف حفظتها ؟!..
رد قائلا فى حياء .......
ــ إننى يا سيدى أعى كل آية أستمع إليها منك .. وأظل أرددها إلى أن أحفظها تماما .. ثم لا أنساها أبدا بعد ذلك ...
نظر إليه بإعجاب وانفرجت عن شفتيه ابتسامة عريضة .. ثم خبط على كتفيه مشجعا .. وقال له بصوت متهدج .. بعد أن أدناه منه وأجلسه إلى جواره .......
ــ مثلك يا ولدى لا يليق به إلا أن يكون كذلك .. وكيف لا .. وأنت ابن عم رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. إسمع يا ابن شافع .. لقد قررت أمرا .. من الغد إن شاء الله .. إذا أنا خرجت للصلاه أو لأى أمر آخر .. فأنت هنا مكانى .. تملى على إخوانك ما تسمعه أو تحفظه حتى أعود .. إننى أرى فيك رجل علم .. لن يجود الزمان بمثله ...
@ إستطاعت أم حبيبه بعد جهد وعناء .. أن تدخر رغم ضيق الحال .. بعض الدريهمات .. تعطيها للشيخ إسماعيل كما وعدته من قبل فى أول لقاء معه .. لم يكن ولدها قد أخبرها بما جرى له مع الشيخ .. وما قاله له منذ أيام .. فى واقعة الفضل بن الربيع ...
وبينما هى فى طريقها إلى الكتاب .. ظلت تفكر فيما ستقوله له .. وأى حجج تتعلل بها .. أخذت تبحث عن عذر تعتذر به عن تأخرها عليه .. وهى تشعر بالحرج الشديد من لقاء الشيخ بعد طول غياب .. وعندما وصلت إلى الزاويه .. فوجئت به يرحب بها .. ويلقاها فى حفاوة بالغه .. لم تدر لها سببا فى بادئ الأمر .. إلا أنها شكرته فى حياء بعد أن تنفست الصعداء .. كانت تتوقع لقاء جافا باردا ...
مدت يدها فى جيبها وهى تقول فى خجل .......
ــ لا تؤاخذنى يا سيدى .. تأخرت عليك كثيرا .. ها هى عشرين درهما .. أعلم أنها دريهمات قليلة .. لا تكافئ ما تبذله من جهد مع الصبى .. غير أنى فى القريب العاجل إن شاء الله .. سوف أسعى جهدى لإحضار مثلها .. وربما أكثر منها ...
تركها الشيخ حتى تفرغ من كلامها .. دون أن يقاطعها وهو ينظر إليها باسما .. ثم رد فى نبرات هادئة قائلا .......
ــ أمسكى عليك دراهمك أيتها الأزديه ...
ــ كيف يا سيدى الشيخ .. لم ترد على دراهمى .. إنها بعض حقك ؟!..
ــ ليس لى بها حاجه .. وأرجو ألا تعيدى ذلك مرة أخرى ...
إنزعجت قائلة فى وجل وخوف .......
ــ لم يا سيدى الشيخ ؟!.. هل فعلت الآن ما أغضبك .. آه أنه ولدى .. هل أغضبك ولدى .. لذلك لن تكمل معه دروس القرآن .. هل ……
قاطعها ضاحكا .......
ــ على رسلك يا امرأه على رسلك .. هونى عليك .. إنك لم تغضبينى .. وكذلك هذا الولد الشافعى .. كل ما فى الأمر .. أنه لا حق لى فى تلك الدراهم ...
ــ ما هذا الذى تقوله يا سيدنا ؟!..
ــ أجل .. لا حق لى فيها .. إن ولدك صار يساعدنى فى عملى .. ويجلس أحيانا مكانى هنا .. على رأس الحلقه ...
نظرت إليه فاغرة فاها .. لا تفهم ما يعنيه بكلامه .. ما معنى أن ولدها .. الذى لم يكمل عامه الخامس .. يساعده ويجلس أحيانا مكانه !.. معقول هذا ؟!..
أخذ يشرح لها ما كان من ولدها منذ أيام .. وأعلمها بتلك الموهبة التى أنعم الله بها عليه وحباه بها .. إزدادت دهشتها .. لمعت الفرحة فى عينيها وهى تخبر للشيخ .. إن ابنها لم يخبرها بتلك الحكايه .. وأن هذه أول مرة تعلم بهذا الأمر .. استأذنت تاركة ولدها بين يديه .. وهى ترمقه بعينين ملؤهما الإعجاب والزهو والحنان ...
الله الله .. ها هى بشائر صدق رؤياها تهل عليها .. تذكرت إدريس وهو يعبر لها رؤياها .. تذكرت تأكيده لها وهو على فراش الموت .. أن ولدها سيكون عالم قريش المنتظر .. ولما رجعت إلى الدار .. قصت على أبيها وأمها .. ما كان من أمرها اليوم مع الشيخ .. وما قاله لها عن ولدها ...
يتبع إن شاء الله ........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها