قالوا في الفنان عزيز علي
__________________________
فنان الشعب العراقي عزيز علي "حياته سفينة شراعها المنولوج"
عبد الكريم العبيدي
15 نيسان 2007
مقال منشور في موقع مجلة نوافذ ثقافية
عندما بدأ العصر الذهبي للإعلام العراقي بافتتاح دار الإذاعة في بغداد عام 1936 كان عدد الذين يمتلكون جهاز راديو في بيوتهم محدوداً جداً وإذا ما رغب البعض في الاستماع إلى الجهاز السحري هذا فيتعين عليهم الذهاب إلى المقاهي ... هناك حيث يجلسون على "دكة" يحتسون الشاي ، وهم مندهشون لما يسمعونه من ترتيل للقرآن الكريم أو نشرة الأخبار أو أغنية محببة . في تلك الأيام تعرف العادي والمميز، سقّا الماء وصيّاد السمك وعامل الحداد والفلاح القابع خلف أحلامه تظلله بيادر الشلب أو الحنطة، والجندي والضابط ... رجل السياسة وبائعة القيمر إلى مخمن البضائع في كمرك ومكوس بغداد الشاب عزيز علي ، الذي استحالت أحلامه عن مساحة ضيقة تتكون من أرقام الضرائب والبضائع إلى مساحات رحيبة عرضها أرض العراق ، ليكون أحد فناني هذا العصر، والذي قال عنه الناقد الشهير سعاد الهرمزي "عزيز علي آخر الفنانين العظام الذين ختموا بالشمع الأحمر فن المونولوج العظيم".
وعزيز علي هو ابن عائلة عراقية بغدادية فقيرة الحال ولد في جانب الكرخ ببغداد سنة 1914، وأنهى دراسته الثانوية في (الثانوية المركزية) سنة 1931، وفصل من الدراسة عام 1927 لاشتراكه في التظاهرة الشهيرة التي انطلقت آنذاك في بغداد احتجاجاً على زيارة (السير الفردموند – العميل الصهيوني) إلى العراق. ومنذ نشوء الإذاعة العراقية حيث عمل فيها، اعتقل مرات ومرات بسبب أزجاله الجريئة ومناصرته لحركة مايس 1941 . عمل في السلك الدبلوماسي في وزارة الثقافة والإرشاد، وهو يحسن خمس لغات نطقاً وكتابةً وقراءةً وهو أحد الفنانين القلائل الذين لم يرتزقوا أو يعتاشوا على فنهم.
في عام 1936 أُعلن عن افتتاح دار الإذاعة العراقية حيث ضمت وقتها غرفتين من غرف بناء بغدادي عتيق كانت تشغله مديرية البريد والبرق ، اتصل به "فؤاد جميل" ليطلب إليه تقديم وصلات غنائية على الهواء مباشرة . حيث كانت الاذاعة تبث ثلاث فترات ثم صارت اعتباراً من بداية 1937 تبث بصورة منتظمة ، يومها قدم أولى وصلاته "يا من يجن إليه فؤادي" ويعتقد إن كلماتها كانت أما مراكشية أو جزائرية.
يؤكد الكاتب حسن العلوي مؤلف "عزيز علي اللحن الساخر" على البناء القصصي أو المسرحي لمونولوجات عزيز علي من خلاله استخدامه (الكورس) ودوره المعروف في إعادة تكرار الفقرات أو الإقفال التي يقرأها المطرب . إلا أن الكاتب المذكور يشير بأحقية عزيز علي في ريادته الفنية من خلال إشراكه على نحو غير مسبوق في نتاجه وخصص لها مكاناً في لوحاته الغنائية.
وبسبب الشعور المستمر بالحرمان والفاقة وانتشار الأمراض والإهمال المتعمد من لدن الحكومات المتعاقبة في فترة الاحتلال غير المباشر لقطاع واسع من الطبقات الشعبية. أحس المواطن العراقي بوطأة الظلم والإجراءات التي (شرعها الحاكمون) . عزيز علي كونه ابناً باراً للواقع الاجتماعي العراقي بنا فنه على نزعة النقد بمستوييه السياسي والاجتماعي . فسكب عاطفة المقموع ، فنال نصيبه من السجن والتقريع والفصل من قبل السياسيين والطبقات المنتفعة من الوضع السائد . وفي سؤال لصحفي عن سبب اتجاهه للنقد السياسي والاجتماعي يضيف ما يشير إلى وعيه المتطور قائلاً : لا افترض إنه نقد اجتماعي فقط أو سياسي فقط - اجتماعي فقط . إنه نقد نفسي أولاً ولحقارة العادات التي تصبغنا يومياً، وكان لجوئي إلى هذا النوع هو الحرمان المرير الذي صاحب مولدي وحياتي و شكل فيما بعد نوعية ثقافتي ... إن ما يغيظني فعلاً ما يصدر عن المثقفين لا الأميين، فالثقافة عبارة كبيرة لا تحتملهم وعلى هذا الأساس يجب ان يكون عقابهم أشد .
لقد عالجت موضوعات منولوجات عزيز علي أهم الأحداث السياسية في العراق إبان الثلاثينات والأربعينات والخمسينات. فانتقد مقتل الملك غازي مشيراً بإصبع الاتهام إلى الانكليز وأذنابهم . كما تحدث عن المؤامرات التي كانت تحاك ضد العراق والأمة العربية من وراء الكواليس ، إضافة إلى ما يحاك للأمم الضعيفة من جراء ما ترتب على الحرب العالمية الثانية من نتائج ، وليس أدل على ذلك من منولوجات (ما ظل صبر - عيش وشوف - حبسونا) وغيرها العشرات .
لقد أثرت المرحلة التاريخية التي ناضلت فيها الأمة العربية من أجل تحقيق استقلالها في أزجال عزيز علي، فكان له من المستمعين ما لم يكن لآخر . فنان استطاع أن يجعل الناس البسطاء تلتف حوله وذلك باستخدامه وسيلة حضارية جديدة بإسماع أبناء الشعب الذي ينتمي إليه (فن المونولوج) . لم يغفل هذا الفنان الكبير ما أحدثته نكبة فلسطين عام 1948 من تنامي للشعور القومي العروبي لدى الإنسان العربي ، فقدم روائع المونولوج السياسي التي مزج فيها تنامي هذا الشعور مع مشاعر الخيبة التي انتابت المجتمع برمته من عجز الجيوش وخنوع الحكام وذل الخونة فرسم ببراعة مدهشة "مرض السقوط" كما أسماه الأستاذ حسن العلوي في منولوج "دكتور" وصور الضياع والقلق في منولوج "السفينة" و"تهنا" حيث دعا فيهما إلى الثورة الشاملة كحل لأزمة التخلف والضياع .
ومثلما أشار عزيز علي الفنان إلى الواقع السياسي فقد أشار بنفس الذكاء والموهبة إلى عناصر الخلل في الواقع الاجتماعي من خلال المونولوج مستعيناً بالمثل الدارج والشخصية التراثية والمفردة التي يفهمها الجميع معللاً ومعرياً "سطوة الماضي وسحره بالرجعية" فسخر من الموروث الذي لم يعد ينسجم مع روح العصر كما سخر من "التفاسير الغبية" للظواهر الطبيعية والاجتماعية فقدم "عال العال - ام جواد -شواش القبول- البياعين – مسعود - الشياطين... الخ" لقد استعان هذا الفنان المبدع بالرمزية لتحقيق أمرين اثنين الأول : جعل المونولوج يبدو وكأنه يبتعد عن قضية سياسية لها علاقة بالهم العام مانحاً في الوقت ذاته خطابه بعداً شعبياً خالصاً . أما الثاني: فالتأكيد على الترابط العضوي بين العام والخاص السياسي والاجتماعي ويبدو هذا واضحاً في مونولوج "دكتور- البستان" فيما نحا منحىً آخراً وهو المباشرة فيما يتعلق بقضايا الهم القومي مؤكداً على حتمية الانتصار عبر الصيغ الثورية مثل المونولوج "منهّ منهّ" و"يا بلاد العرب" حيث نجح في إعطاء الأخير صورة حية لمأساة الشعب العربي داعياً للاستنفار ، ثأراً للحق وللحرية المذبوحة.
عزيز علي لم ينتقد الواقع فقط، بل انتقد الأغنية العراقية ، فأحدث زوبعة كبيرة بين مؤيد ومعارض ، مؤيدوه قالوا: أن عزيز علي هاجم الجمود والتكلس في غنائنا وهذا النقد دعوة للتطوير من خلال البرنامج المعروف الذي يقدمه في تلفزيون بغداد أواسط الستينات (في رحاب الفن) عندما أكد في إحدى الحلقات " هذه الأنغام (الابوذية) الحزينة الباكية، إذا جاز ترديدها في المآتم والأحزان والفواتح لإثارة الحزن والأسى بالنفوس ... الخ " إن هذه الأنغام الحزينة تتجاوب إلى حد بعيد مع نفوسنا ومع ترسباتنا .
ارتبط عزيز علي منذ الخمسينات من القرن المنصرم بعلاقة روحية مع دمشق وبرفيق عمره الفنان السوري المعروف سلامة الاغواني الذي كان إضافة لعمله كمونولوجي يمتلك أستوديو خاص به ولعل إحدى الغرائب التي حدثت أشارت بوضوح إلى مدى ارتباط هذا الفنان بدمشق حيث حضر إليها عام 1956 وسجل مجموعة من الأغنيات والمونولوجات وطلب إلى سلامة الاغواني أن يهديها إلى إذاعة دمشق فور سماعه بسقوط الحكم الملكي الفاسد آنذاك . وبعد عامين حدثت ثورة 14 تموز 1958 فاستغرب الشارع العراقي قيام إذاعة دمشق ببث أغاني لعزيز علي لم يسمعها قبل الثورة ... وعلق سلامة الاغواني وقتها على هذا الأمر بأنه استمع إلى نبأ سقوط الحكم الملكي في العراق فتذكر وصية عزيز علي فما كان منه إلا أن ترك عمله متوجها إلى إذاعة دمشق مقدماً للقائمين عليها هدية عزيز علي وحبه .
رحل عزيز علي أواخر 1995 تاركاً خلفه إرثاً وطنياً وقومياً هائلاً ، حريٌ بكل من يعرف قدر هذا الفنان جمعه ومن ثم الحفاظ عليه من عبث الأقدار ليكون ذخراً لأجيال قادمة قادرة لأن تعيد لهذا الفنان الكبير قيمته الحقيقية.
هامش
المقال يستند إلى مصادر منوعة "كتب، مقالات صحف، ولقاءات أجراها كاتب المقال مع ابنة الفنان مي عزيز علي خلال زيارتها لدمشق عام 2002 "
ومن هذه الكتب :
*اللحن الساخر لمؤلفه حسن العلوي
*صحف الثورة، الجمهورية ، القادسية العراقية وغيرها.
*بعض ما كتبه الفنان الراحل بخط يده.
(المقال وكل ما ورد فيه يعبر عن رأي ووجهة نظر الكاتب فقط وليس المنتدى او لجنة الاحتفالية)
___________________________________
وردت ضمن المقال بعض المعلومات الغير صحيحة ومن بينها سنة ولادة الفنان عزيز علي وكذلك اسم الشخص الذي دعى الفنان الى الاذاعة بعد بعد افتتاحها وموقع الاذاعة كان في بناية القشلة , مما يقتضي التنويه .
وسام