الوظائف الروحية لفن السماع في المجتمع المغربي
يسعى هذا العرض الوجيز إلى الإسهام في إضاءة موضوع له بالأفق الروحي للمجتمع المغربي أكثر من علاقة وصلة ، إنه وجه من أوجه الذكر والاجتماعات الدينية التي تعلق بها المغاربة في محافلهم الخاصة والعامة ، ومحضوها من العناية والرعاية ، تأصيلا وتأليفا وإبداعا وإحياء ووجدا وتواجدا ، ما لا يخفى عن كل منصف وذي بصيرة , ويتعلق الأمر بما يعرف في ثقافتنا بـ ” فن السماع ” . ومناط تناولنا لهذا الموضوع الرحب ، الممتدة أطرافه وأوصاله بين الفقه والتصوف والأدب والموسيقى ، سينحصر في تقديم بعض الإلماعات عن مفهوم فن السماع ، ووظائفه الروحية من خلال رصد طبيعة حضور هذا الفن في المجتمع المغربي ، وتعيين بعض الأدوار الروحية التي يضطلع بها ، وكذا اقتراح نظرة مستقبلية للإمكانات التي يتيحها استثمار هذا الفن من أجل بلورة مناعة روحية تقينا عواصف عديدة تتهدد حياتنا المغربية المعاصرة .
1 ـ مفهوم ”فن السماع“ :
السماع فن مغربي أصيل يقوم على ترتيل الأشعار الدينية والصوفية ، قصائد كانت أم توشيحات أم أزجالا أم براول ، وفق الطبوع الأندلسية المغربية وأساليبها في التوقيع والغناء، واعتمادا الأصوات والحناجر ، وذلك بغية تحقيق غايات روحية تبلورت بشكل رئيس ، مع سن الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف ، وانتعاش الطرق والزوايا الصوفية . والسماع بهذا المعنى العام يضم تحت لوائه شقين : الشق الأول هو المديح النبوي الشريف ، ومتعلقه مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، وتمثله مختلف النصوص المديحية سواء كانت ـ مولديات ـ تتمحور حول إرهاصات وبشائر ولادة الرسول وسمو نسبه وشرف دوحته وما رافق مولده من معجزات وخوارق عادات ، أو ـ شمائليات ـ تتغنى بكمالات الرسول الخلقية وخلاله الخلقية ومعجزاته الظاهرة والباطنة ، أو ـ تصليات ـ مناطها الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وتمجيده ، أو ـ حجازيات ـ تتغنى بالأماكن المقدسة والمعاهد الحجازية فتتغزل فيها وتشوق إليها ، أو ـ استشفاعيات ـ مدارها التوسل بالرسول الأكرم وطلب الحضوة بشفاعته يوم العرض ، أو غيرها من نصوص المديح النبوي العام الذي لا يتقيد بغرض من هذه الأغراض ، وضمن هذا الحقل الدلالي الذي يميز شق المديح النبوي من السماع ، تندرج مطولات شهيرة تمثل الأغراض السالفة الذكر وتسبح في فلكها مثل *بردة* الإمام البوصيري " تـ . 696 هـ / 1296 م " و *همزيته * ، ووتريات الإمام أبي بكر ابن رشيد الوتري البغدادي " تـ . 663 هـ / 1264 م " وتلحق بهذا الشق نصوص الابتهالات والغوثيات والتوسليات وضمنها تندرج مثلا مطولات *الناصرية* للشيخ ابن ناصر الدرعي ، و*المنفرجة* للشيخ يوسف بن محمد التوزري المعروف بابن النحوي " تـ . 513 هـ / 1115 م " و *الفياشية* لصاحبها سيدي عثمان بن يحيى الشرفي ، والشهري بسيدي بهلول، وال\ي عاش بمدينة فاس على عهد السلطان المولى سليمان .
أما الشق الثاني من السماع فيتعلق فيتعلق بما يعرف *بكلام القوم* أو ما يسميه الشيخ محمد بن العربي الدلائي في رسالته فتح الأنوار بـ * السماع المجرد * . ويتضمن نصوص القوم التي يعبرون بها عن مذاقاتهم ومواجيدهم وأسفارهم الروحية ، أكانت هذه النصوص في غرض * المديح الولوي * ، أي تلك تقوم على مدح القوم وإبراز سجاياهم وطلب الحظوة بصحبتهم والاستصراخ بجاههم ، أم كانت نصوصا في * المحبة الإلهية * ، أي تلك التي تبسط شروط هاته المحبة وأعراضها وأحوالها وآثارها ، أم نصوصا في التجليات التي يثمرها سلوك طريق القوم كما تعبر عن ذلك نصوص * الخمريات* و * تغزلات الحقيقة* ، أي تلك التي تتغزل بالخمرة الأزلية والأنثى الكلية ، أم كانت نصوصا في *المعارف* التي تعبر عن رقائق المعرفة الصوفية ، من *شهود الأحدية* و *وحدة الشهود* وغيرها مما يندرج ضمن ما ما يعرف لدى القوم بـ *التوحيد الخاص* ، وهي نصوص غالبا ما يتخللها بعد تربويتأهيلي للمريد الراغب في سلوك الطريق وخوض السفر الذوقي لمعرفة الحق .
و إلى جانب هذا التمايز الأدبي بين شقي السماع : المديح النبوي والسماع المجرد ، ثمة تمايز طربي بين الشقين ، ويتمثل في بعض الخصائص الفنية التي تسم وتشم كل قسم بملامح تخصه وتميزه عن القسم الآخر ، فالشقان معا وإن كانا يتقاطعان في كثير من الطبوع والإيقاعات ، فإنهما يتمايزان على مستوى أسلوب الإنشاد ، ذلك أن أسلوب غناء المديح النبوي يبقى أقرب إلى أسلوب طرب الآلة ، لاعتماد أرباب المديح أساسا على آلية القدود ، المتمثلة في نقل صنائع طرب الآلة من أشعار التشبيب والغزل ، ووصف الطبيعة ومجالس الأنس إلى أشعار المديح النبوي بمختلف أغراضها المحددة أعلاه ، بحيث يبدو المديح النوي في غالب الأحيان وكأنه وجه ديني لطرب الآلة ، فيما يتميز شق *السماع المجرد* بأناشيد ومرددات وهيللات ملحنة وفق أسلوب زاوياتي يستجيب لطقوس حلق الذكر ومقتضياتها الدلالية والفنية والمقاصدية ، ويقوم هذا الشق على أركان ثلاثة هي *الجلالة* المخللة بكلام القوم ، و*الحلل* وهي صيغ مخصوصة لذكر الهيللة والاسم المفرد محددة في عددها وترتيبها ونغمها ، ةتعتبر بمثابة مهاد للركن الثالث والذي يعرف بأسماء عديدة ، أبرزها تداولا بين الطرق الصوفية ذات المشرب الشاذلي اصطلاح *العمارة* ، وهي نوع من الذكر قياما يتحلق خلاله الذاكرون في شكل دائري لإنجاز رقصات صوفية وجدية مع ترديد جملة الذكر "الله حي" أو الاقتصار على الاسم المفرد "الله" وذلك بتناسق وتساوق وتناغم مع إنشاد المسمعين لمرددات القوم ومقتطعاتهم التي تتعلق بغرض من أغراض الصوفية المحددة آنفا .
ومع تسجيل هذا التمايز بين المديح النبوي والسماع المجرد ، فإن الشقين قد تفاعلا وتآثرا بحيث تأثر أرباب المديح بكثير من تلاحين وإيقاعات أرباب كلام القوم ، كما حصل العكس ، حتى أصبحنا أمام قدود في الاتجاهين ، وهو ما يمثل وجها من أوجه التفاعل بين المديح النبوي والسماع المجرد ، ويعضد الحديث عنهما ضمن إطار فني عام هو "السماع" .
إن هذه الإضاءة المفاهيمية تمكننا من الوقوف عند بعض خصائص فن السماع التي أهلته للاضطلاع بجم الوظائف الروحية ، والتي أسندت إلى شقيه معا.
|