الفارس..
لا تنتظري ان يبتسم العابس
فالفارس ليس الفارس
مدي بانائك
عبر السلك الشائك
واسقيه من مائك
مدي طرف ردائك
حتى يصنع منه للقلب ضمادا
ويسد شقوق البرد القارس
تتوالي كل فصول العام على القلب الباكي
لم يستروح عبر الاشواك سوى رؤياكي
فعيناك,الفردوسان:هما الفصل الخامس
عيناك هما اخر نهر يسقيه
اخر بيت يؤيه
اخر زاد في التيه
اخر عراف يستفتيه
ضِدُّ منْ..?
في غُرَفِ العمليات,
كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ,
لونُ المعاطفِ أبيض,
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ, أرديةُ الراهبات,
الملاءاتُ,
لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن,
قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبةُ المَصْلِ,
كوبُ اللَّبن,
كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!
فلماذا إذا متُّ..
يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..
بشاراتِ لونِ الحِدادْ?
هل لأنَّ السوادْ..
هو لونُ النجاة من الموتِ,
لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ,
***
ضِدُّ منْ..?
ومتى القلبُ - في الخَفَقَانِ - اطْمأَنْ?!
***
بين لونين: أستقبِلُ الأَصدِقاء..
الذينَ يرون سريريَ قبرا
وحياتيَ.. دهرا
وأرى في العيونِ العَميقةِ
لونَ الحقيقةِ
لونَ تُرابِ الوطنْ!
الطيور
(1)
الطيورُ مُشردةٌ في السَّموات,
ليسَ لها أن تحطَّ على الأرضِ,
ليسَ لها غيرَ أن تتقاذفَها فلواتُ الرّياح!
ربما تتنزلُ..
كي تَستريحَ دقائقَ..
فوق النخيلِ - النجيلِ - التماثيلِ -
أعمِدةِ الكهرباء -
حوافِ الشبابيكِ والمشربيَّاتِ
والأَسْطحِ الخرَسانية.
(اهدأ, ليلتقطَ القلبُ تنهيدةً,
والفمُ العذبُ تغريدةً
والقطِ الرزق..)
سُرعانَ ما تتفزّعُ..
من نقلةِ الرِّجْل,
من نبلةِ الطّفلِ,
من ميلةِ الظلُّ عبرَ الحوائط,
من حَصوات الصَّياح!)
***
الطيورُ معلّقةٌ في السموات
ما بين أنسجةِ العَنكبوتِ الفَضائيِّ: للريح
مرشوقةٌ في امتدادِ السِّهام المُضيئةِ
للشمس,
(رفرفْ..
فليسَ أمامَك -
والبشرُ المستبيحونَ والمستباحونَ: صاحون -
ليس أمامك غيرُ الفرارْ..
الفرارُ الذي يتجدّد. كُلَّ صباح!)
(2)
والطيورُ التي أقعدتْها مخالَطةُ الناس,
مرتْ طمأنينةُ العَيشِ فَوقَ مناسِرِها..
فانتخَتْ,
وبأعينِها.. فارتخَتْ,
وارتضتْ أن تُقأقَىَء حولَ الطَّعامِ المتاحْ
ما الذي يَتَبقي لهَا.. غيرُ سَكينةِ الذَّبح,
غيرُ انتظارِ النهايه.
إن اليدَ الآدميةَ.. واهبةَ القمح
تعرفُ كيفَ تَسنُّ السِّلاح!
(3)
الطيورُ.. الطيورْ
تحتوي الأرضُ جُثمانَها.. في السُّقوطِ الأخيرْ!
والطُّيُورُ التي لا تَطيرْ..
طوتِ الريشَ, واستَسلَمتْ
هل تُرى علِمتْ
أن عُمرَ الجنَاحِ قصيرٌ.. قصيرْ?!
الجناحُ حَياة
والجناحُ رَدى.
والجناحُ نجاة.
والجناحُ.. سُدى!
مقابلة خاصة مع ابن نوح
جاء طوفانُ نوحْ!
المدينةُ تغْرقُ شيئاً.. فشيئاً
تفرُّ العصافيرُ,
والماءُ يعلو.
على دَرَجاتِ البيوتِ
- الحوانيتِ -
- مَبْنى البريدِ -
- البنوكِ -
- التماثيلِ (أجدادِنا الخالدين) -
- المعابدِ -
- أجْوِلةِ القَمْح -
- مستشفياتِ الولادةِ -
- بوابةِ السِّجنِ -
- دارِ الولايةِ -
أروقةِ الثّكناتِ الحَصينهْ.
العصافيرُ تجلو..
رويداً..
رويدا..
ويطفو الإوز على الماء,
يطفو الأثاثُ..
ولُعبةُ طفل..
وشَهقةُ أمٍ حَزينه
الصَّبايا يُلوّحن فوقَ السُطوحْ!
جاءَ طوفانُ نوحْ.
هاهمُ "الحكماءُ" يفرّونَ نحوَ السَّفينهْ
المغنونَ- سائس خيل الأمير- المرابونَ- قاضى القضاةِ
(.. ومملوكُهُ!) -
حاملُ السيفُ - راقصةُ المعبدِ
(ابتهجَت عندما انتشلتْ شعرَها المُسْتعارْ)
- جباةُ الضرائبِ - مستوردو شَحناتِ السّلاحِ -
عشيقُ الأميرةِ في سمْتِه الأنثوي الصَّبوحْ!
جاءَ طوفان نوحْ.
ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينهْ.
بينما كُنتُ..
كانَ شبابُ المدينةْ
يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ
ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين.
ويستبقونَ الزمنْ
يبتنونَ سُدود الحجارةِ
عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضاره
علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ!
.. صاحَ بي سيدُ الفُلكِ - قبل حُلولِ
السَّكينهْ:
"انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!"
قلتُ:
طوبى لمن طعِموا خُبزه..
في الزمانِ الحسنْ
وأداروا له الظَّهرَ
يوم المِحَن!
ولنا المجدُ - نحنُ الذينَ وقَفْنا
(وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا!)
نتحدى الدَّمارَ..
ونأوي الى جبلٍِ لا يموت
(يسمونَه الشَّعب!)
نأبي الفرارَ..
ونأبي النُزوحْ!
كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ
كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ
يرقدُ - الآن - فوقَ بقايا المدينه
وردةً من عَطنْ
هادئاً..
بعد أن قالَ "لا" للسفينهْ
.. وأحب الوطن!
شجوية
لماذا يُتابِعُني أينما سِرتُ صوتُ الكَمانْ?
أسافرُ في القَاطراتِ العتيقه,
(كي أتحدَّث للغُرباء المُسِنِّينَ)
أرفعُ صوتي ليُغطي على ضجَّةِ العَجلاتِ
وأغفو على نَبَضاتِ القِطارِ الحديديَّةِ القلبِ
(تهدُرُ مثل الطَّواحين)
لكنَّها بغتةً..
تَتباعدُ شيئاً فشيئا..
ويصحو نِداءُ الكَمان!
***
أسيرُ مع الناسِ, في المَهرجانات:
أُُصغى لبوقِ الجُنودِ النُّحاسيّ..
يملأُُ حَلقي غُبارُ النَّشيدِ الحماسيّ..
لكنّني فَجأةً.. لا أرى!
تَتَلاشى الصُفوفُ أمامي!
وينسرِبُ الصَّوتُ مُبْتعِدا..
ورويداً..
رويداً يعودُ الى القلبِ صوتُ الكَمانْ!
***
لماذا إذا ما تهيَّأت للنوم.. يأتي الكَمان?..
فأصغي له.. آتياً من مَكانٍ بعيد..
فتصمتُ: هَمْهمةُ الريحُ خلفَ الشَّبابيكِ,
نبضُ الوِسادةِ في أُذنُي,
تَتراجعُ دقاتُ قَلْبي,..
وأرحلُ.. في مُدنٍ لم أزُرها!
شوارعُها: فِضّةٌ!
وبناياتُها: من خُيوطِ الأَشعَّةِ..
ألْقى التي واعَدَتْني على ضَفَّةِ النهرِ.. واقفةً!
وعلى كَتفيها يحطُّ اليمامُ الغريبُ
ومن راحتيها يغطُّ الحنانْ!
أُحبُّكِ,
صارَ الكمانُ.. كعوبَ بنادقْ!
وصارَ يمامُ الحدائقْ.
قنابلَ تَسقطُ في كلِّ آنْ
وغَابَ الكَمانْ!
سفر الخروج
(أغنية الكعكة الحجرية)
(الإصحاح الأول)
أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحهْ
أَشهِروا الأَسلِحهْ!
سَقطَ الموتُ; وانفرطَ القلبُ كالمسبحَهْ.
والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ!
المنَازلُ أضرحَةٌ,
والزنازن أضرحَةٌ,
والمدَى.. أضرِحهْ
فارفَعوا الأسلِحهْ
واتبَعُوني!
أنا نَدَمُ الغَدِ والبارحهْ
رايتي: عظمتان.. وجُمْجُمهْ,
وشِعاري: الصَّباحْ!
(الإصحاح الثاني)
دَقت الساعةُ المُتعبهْ
رَفعت أمُّه الطيبهْ
عينَها..!
(دفعتهُ كُعُوبُ البنادقِ في المركَبه!)
دقتِ السَّاعةُ المتْعبه
نَهَضتْ; نَسَّقتْ مكتبه..
صَفعته يَدٌ..
- أَدخلتْهُ يدُ اللهِ في التجرُبه!
دقَّت السَّاعةُ المُتعبه
جَلسَت أمهُ; رَتَقَتْ جوربهْ...
وخزنةُ عُيونُ المُحقَّقِ..
حتى تفجّر من جلدِه الدَّمُ والأجوبه!
دقَّتِ السَّاعةُ المتعبهْ!
دقَّتِ السَّاعة المتعبهْ!
(الإصحاح الثالث)
عِندما تهبطينَ على سَاحةِ القَومِ, لا تَبْدئيبالسَّلامْ.
فهمُ الآن يقتَسِمون صغارَك فوقَ صِحَافِ الطعام
بعد أن أشعَلوا النارَ في العشِّ..
والقشِّ..
والسُّنبلهْ.!
وغداً يذبحونكِ..
بحثاً عن الكَنزِ في الحوصله!
وغداً تَغْتَدي مُدُنُ الألفِ عامْ.!
مدناً.. للخِيام!
مدناً ترتقي دَرَجَ المقصلهْ!
(الإصحاح الرابع)
دقّتِ الساعةُ القاسيهْ
وقفوا في ميادينها الجهْمةِ الخَاويهْ
واستداروا على دَرَجاتِ النُّصُبْ
شجراً من لَهَبْ
تعصفُ الريحُ بين وُريقاتِه الغضَّةِ الدانيه
فَيئِنُّ: "بلادي.. بلادي"
بلادي البعيدهْ!
دقت الساعةُ القاسيهْ
"انظروا.."; هتفتْ غانيهْ
تتلوى بسيارة الرقَمِ الجُمركيِّ;
كلمات سبارتكوس الأخيرة
(مزج ثان):
مُعَلَّقٌ أنا على مشانقِ الصَّباحْ
وجبهتي - بالموتِ - مَحنيَّهْ
لأنني لم أَحْنِها.. حَيَّهْ!
***
يا إخوتي الذينَ يعبُرون في المِيدان مُطرِقينْ
مُنحدرين في نهايةِ المساءْ
في شارِع الإسكندرِ الأكبرْ
لا تخجلوا.. ولترْفعوا عيونَكم اليّ
لأنكم مُعلَّقونَ جانبي.. على مشانِق القيصَرْ.
فلترفعوا عيونَكم اليّ
لربما.. إذا التقتْ عيونُكم بالموتِ في عَينَيّ:
يبتسمُ الفناءُ داخلي.. لأنكمْ رفعتم رأسَكمْ.. مرَّهْ!
"سيزيفُ" لم تعدْ على أَكتافهِ الصَّخرهْ
يحملُها الذين يُولدونَ في مخادِع الرقيقْ.
والبحرُ.. كالصّحراءِ.. لا يروي العطَشْ
لأنَّ من يقولُ "لا" لا يرتوي إلاّ مَن الدُّموعْ!
.. فلترفعوا عيونَكم للثائرِ المشنوقْ
فسوف تنتهونَ مثلَه.. غدا
وقبّلوا زوجاتِكم.. هنا.. على قارعةِ الطريقْ
فسوف تنتهون ها هنا.. غدا
فالانحناءُ مُرّ..
والعنكبوتُ فوق أعناقِ الرّجالِ ينسجُ الردى
فقبِّلوا زوجاتِكم.. إني تركتُ زوجتي بلا وداعْ
وإن رأيتم طفليَ الذي تركتُه على ذراعِها بلا ذراعْ
فعلّموهُ الإنحناءْ!
علّموهُ الانحناءْ!
اللهُ. لم يغفر خطيئةَ الشيطانِ حين قال لا!
والودعاءُ الطيبونْ..
هم الذين يرِثون الأرضَ في نهايةِ المدى
لأنهم.. لا يُشنقون!
فعلّموهُ الإنحناءْ!
وليس ثَمَّ من مَفَرّ.
لا تحلُموا بعالمٍ سعيدْ
صفحات من كتاب الصيف والشتاء
1 - حمامة
حين سَرَتْ في الشارعِ الضَّوضاءْ
واندفَعَتْ سيارةٌ مَجنونةُ السَّائقْ
تطلقُ صوتَ بُوقِها الزاعقْ
في كبدِ الأَشياءْ:
تَفَزَّعَتْ حمامةٌ بيضاءْ
كانت على تمثالِ نهضةِ مصرْ..
تَحْلُمُ في استِرخاءْ
طارتْ, وحطَّتْ فوقَ قُبَّةِ الجامعةِ النُّحاسْ
لاهثةً, تلتقط الأَنفاسْ
وفجأةً: دندنتِ الساعه
ودقتِ الأجراسْ
فحلَّقتْ في الأُفْقِ.. مُرتاعهْ!
أيتُها الحمامةُ التي استقرَّتْ
فوقَ رأسِ الجسرْ
وعندما أدارَ شُرطيُّ المرورِ يَدَهُ..
ظنتُه ناطوراً.. يصدُّ الطَّيرْ
فامتَلأتْ رعباً!
أيتها الحمامةُ التَّعبى:
دُوري على قِبابِ هذه المدينةِ الحزينهْ
وأنشِدي للموتِ فيها.. والأسى.. والذُّعرْ
حتى نرى عندَ قُدومِ الفجرْ
جناحَكِ المُلقى..
على قاعدةِ التّمثالِ في المدينهْ
.. وتعرفين راحةَ السَّكينهْ!