|
 |

26/12/2008, 15h41
|
 |
مواطن من سماعي
رقم العضوية:79058
|
|
تاريخ التسجيل: September 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 737
|
|
|
رد: إستفتاء (عام) على تثبيت درّة أدبية بركن الأدباتية
أستاذنا الكبير الشاعر /كمال عبد الرحمن
(سمعجي)
كل الشكر
من كل عين قارئة وكل قلب واعٍ
جزاك الله خيرا
يا أستاذ الأساتذة
__________________
.
" اللهمَ إنكَ عَفُوٌّ كريمٌ تحبُ العفوَ فاعفُ عنَّا "
|

27/12/2008, 05h54
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
رد: إستفتاء (عام) على تثبيت درّة أدبية بركن الأدباتية
أحباب قلبى جميعا
والله ما انا عارف اقول لكم إيه
دا كتير على والله الكلام الكبير ده
الموضوع وما فيه إن ربنا سبحانه وتعالى خلقنى كده
يعنى لاتواضع ولايحزنون , ده سلوكى العادى جدا وده تصورى الطبيعى لحقيقة الأمر , لأن الحكايه إيه علشان أبسط المسئله , أن من يستطيع التواضع أو من يتواضع لابد ان يكون له معاملات مع الكبر والتكبر
وأنا معرفش أتكبر أبدا على أى شئ حتى لو مش آدمى , بمعنى أنى لم أذق للكبر طعما طول عمرى , وده بالنسبه لى شئ لاكلفة فيه أبدا , لأن من يسلك مسلكا ونقيضه لابد أن يتكلف ويجاهد نفسه فى كل مره يتغير فيها من حال لحال, وده شئ أنا بشعر به فى نواحى اخرى من السلوك أحاول أن أجاهد نفسى كى أتحول من حال إلى نقيضه , إنما فى مسئلة ما يسمى بالتواضع الأمر سجيه جبلت عليها ونشأت عليها
ليس معنى ذلك أنه ليست لى عيوب , أبدا , عيوبى أكثر من أحصيها عددا وأجاهد كثيرا للتخلص منها ولازلت ,
ما علينا المهم .. أقبل أياديكم جميعا وعظيم إمتنانى للحبيب الذى لم أره جسدا ومبنى وإن تعايشت معه روحا ومعنى , فصار بالنسبة لى أعز وأغلى من أخ ولدته أمى , الصديق الحبيب الشاعر الأديب سيد ابو زهده
ومحبتى ومودتى للشاعر الأديب المثقف كمال عبد الرحمن وأشكره على كرمه ولطفه بتثبيت السيره الشافعيه
ولكل إخوتى وسادتى أبو مندور ورائد عبد السلام ومحمد حمدان وكل شعب سماعى الجميل المحترم
ولاتنسونا من دعواتكم مددنا فى الدنيا وزادنا فى الآخره
فإن ألسنة الخلق أقلام الحق.........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
|

01/11/2008, 18h00
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن
عالـم قـريش
السـيرة الشافعـيه
تأليف … دكتور أنس عبد الحليم البن
.............
بسم الله الرحمن الرحيم
قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] : لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ أطباق الأرض علما .. صدق رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] ..
وقال الإمام أحمد بن حنبل : كان الشافعى للناس كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فهل لهذين من عوض !.
وقال : ما مس عالم محبرة . إلا وللشافعى فى رقبته منه ..
*********
هو ابن إدريس ابن عم محمد
سما منه نور فى دجى الكون لامع
أبـى الله إلا رفعـه وعلوه
وليس لما يعليه ذو العرش واضع
الشـافعى إمـام كل معلـم
آثـاره فيـنا نجوم طـوالـع
......................
رسالة اعتذار إلى صاحب السيره ..
شيخنا الجليل صاحب السيرة الزكيه ..................
أتصور أنى تجاوزت كثيرا مما حد لى ولأمثالى إذ تجرأت وسمحت لنفسى بكل ما تحويه من نقصان وتقصير وعجز ومعصيه . أن أدلف بها داخل تلك الرحاب الطاهرة وأن أفتش فى دفاترك وأقلب فى صفحات حياتك وأنت الحبر الجليل الطاهر والعالم القرشى الفذ سليل بيت النبوه وعالم قريش الذى ملأ الدنيا علوما . الذى أخبر عنك رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] بالإشارة التى تغنى عن العباره وبشر بمقدمك إلى الدنيا وسطوع نجمك قبل مائة وخمسين عاما من مولدك .. حضرة الإمام التقى الورع صاحب العلوم والمواهب : علمنا بما وصل إلى أيدينا من سيرتك الزكية ومناقبك العطره أنك عملت بما علمت فعلمك الله علم ما لم تكن تعلم وكنت عبدا من عباده آتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما . سخر له ربه دقائق معانى الألفاظ وفتح له مغاليق أبواب العلوم حتى صارت ملك يمينه كالريح تجرى رخاء بأمره حيث أصاب وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فتفجرت جداول وأنهارا من مأثور القول ولباب الحكم ..
لا أدرى كيف سمحت لنفسى أن أرجع عشرات القرون إلى الوراء حيث زمن التابعين وتابعى التابعين وعصر الأئمة العظام وأدخل هكذا على غير استحياء تلك الرحاب الطاهرة لعالم جليل شريف مثلك . فمعذرة شيخنا الجليل إن كنت قد قصرت وأظننى كذلك لكن يشفع لى أن تعلم أن هذا مبلغ علمى ومنتهى فهم أمثالى من المقصرين . إنى وإن حاولت تقديمك على قدر معرفتى القاصره ومبلغ علمى القليل فذلك لأنى لا أستطيع أن أقدمك أبدا على قدرك ..
.. المؤلـــف .. يتبع .. إن شاء الله........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 18/05/2011 الساعة 12h09
|

04/11/2008, 10h15
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
مرت الأيام بطيئة متثاقلة كأنها دهر وأم حبيبة تتذرع بحبائل الصبر وهى تنتظر الرحيل إلى ديار الأهل على أحر من الجمر .. لم يعد هناك ما يبقيها فى أرض الغربة بعيدا عن الأهل والأحباب بعد رحيل السند والظهر .. وبعد أن مضت أشهر ثلاثه وبضعة أيام , عرف اليأس خلالها طريقه إليها وانقطع بها الأمل وتبدد الرجاء . ظنت أن الشيخ المزنى نسى رسالتها ولم يبلغها لأبيها حتى أنها فكرت فى الرحيل بمفردها دون انتظار لقافلة التجار أو لوصول أبيها ..
وبينما هى راقدة فى فراشها ذات ليلة وقد غلبها التعب , إذ هبت فزعة من نومها وقد شق سكون الليل طارقا يطرق الباب طرقا شديدا متواصلا . قامت مسرعة وهى تتعثر فى ردائها , بينما الطارق لا يكف عن دق الباب بكلتى يديه مناديا بصوت عال .....
ــ أم حبيبه , أم حبيبه , إفتحى الباب يا ابنتى . ماذا دهاك , ما بالك , ألا تسمعين ؟!. ألهذا الحد أنت مستغرقة فى النوم ؟!.
راحت تحدث نفسها ......... يا ربى .. هذا الصوت ليس غريبا على مسامعى .. أجل .. إنه .. إنه صوت أبى ..
أسرعت إلى الباب وهى تتعثر فى ردائها , ولم تنس أن تلتقط وهى فى طريقها غطاء للرأس وضعته على عجل حول رأسها تحسبا .. فتحت الباب فى لهفة وشوق , لتجد أباها أمامها فاتحا لها ذراعيه فى حنان وعلى شفتيه ابتسامة عريضة ..
إرتمت فى أحضانه .. لم تجد ما تقوله غير نوبة بكاء عميق تملكتها وهى بين ذراعيه , بينما راح الشيخ يربت على ظهرها بيديه فى حنان أبوى .. وبعد أن هدأ بكاؤها التفت الشيخ إلى شاب ينتظر لدى الباب أتى معه ليدله على مكان البيت وخاطبه قائلا ............
ــ لا تؤاخذنى يا بنى أن تركتك تنتظر هكذا لدى الباب . تفضل بالدخول كى تستريح بعض الوقت . لقد أتعبتك معى كثيرا ..
ــ عفوا يا سيدى أنا ما فعلت شيئا . هل من خدمة أخرى أؤديها ؟!.
ــ بارك الله فيك يا ولدى . صحبتك السلامه ..
تركته ابنته يغط فى نوم عميق يوما كاملا بعد أن ألقى جسده المكدود على الفراش .. وقد أضناه التعب عقيب تلك الرحلة القاسية الطويلة وهو الشيخ الكبير . لم يكد يستيقظ من نومه فى اليوم التالى حتى أخذت أم حبيبة تلاحقه بالأسئلة تترى عن أهلها وأحوالهم . كانت فى شوق لمعرفة أخبارهم بعد أن طال الفراق وامتدت بها الغربة سنوات كثيره .....
ــ حدثنى يا أبت عن أحوال الأهل جميعا وما جرى لهم فى السنوات الماضيه .. حدثنى عن كل شئ ؟!.
ــ لا تؤاخذينى يا ابنتى لقد بلغ منى الجهد مبلغا كبيرا بعد تلك الرحلة الطويلة الشاقة , لم أقدر على مقاومة النوم بالأمس . على كل حال هم جميعا بخير ..
ــ كيف حال أمى .. كيف حال صحتها .. آه يا أبى كم اشتقت كثيرا إليها ؟!.
ــ أمك بخير حال كما تركتيها قبل سنوات غير أن آلآما بالرأس تعاودها بين الحين والحين , إلا أنى أعطيها خلاصة بعض الأعشاب التى تريحها بعض الشئ ..
ــ وماذا عن إخوتى جميعا .. عبد العزيز وسليم وعلى ؟!.
ــ كلهم جميعا بخير ..
ــ حدثنى عنهم يا أبت ؟!.
ــ أخاك الأكبر عبد العزيز رزقه الله بعد سفركما بولدين وبنت واحده واتخذ دارا وحده .. أما سليم فقد تزوج ابنة خاله عائشه منذ ثلاث سنوات لكنه لم ينجب بعد .. وأخوك على صار فتى فى العشرين من عمره الآن , وهو الذى يساعدنى فى حانوت العطاره ..
ــ حانوت العطاره !. أى حانوت يا أبت .. منذ متى وأنت تمارس تجارة الأعشاب ؟!.
ــ ليست تجارة واسعة كما تظنين إنه حانوت صغير اتخذته منذ سنوات بالقرب من ساحة البيت العتيق أمارس فيه تجارة الأعشاب والطيب والتمر ……
@ بعد أيام قلائل تحركت قافلة صغيرة من الأب وابنته وولدها الذى بلغ حد الفطام بعد أن أكمل عامه الثانى . وصلوا إلى المكان الذى ترابط فيه قافلة التجار وفيه إلتقوا بالشيخ أبى سعيد المزنى وولده يحي . وجداهما يتممان على القافلة وهى تتأهب لرحلة العودة إلى أرض الحجاز . رآهم أبو سعيد فابتدرهم مهللا فى بشاشة .....
ــ أهلا بأهل مكة العائدين إلى الديار . هل أنتم جاهزون للرحيل ؟!.
ــ نعم جاهزون تماما . أعددت دابة لى وأخرى لابنتى وولدها ..
ــ نحن أيضا جاهزون ومستعدون لبدأ الرحله ..
ــ متى نبدأ رحلتنا إن شاء الله ؟!.
ــ بعد صلاة العصر بإذن الله تعالى ..
ــ وأى طريق نسلك فى رحلة العوده ؟!.
ــ سوف نتحرك شمالا بمحاذاة بحر الروم إلى مدينة عسقلان .. وفيها سوف نحط خيامنا ثلاثة أيام للراحه وإنهاء بعض الصفقات التجاريه .. ثم نشد رحالنا جنوبا إلى أن نحاذى شاطئ بحر القلزم .. وآخر مكان نضع فيه خيامنا هو بدر للتزود بالماء والطعام والراحه .. ثم نواصل رحلتنا بعدها إلى مكة باذن الله حيث نترككم فيها ونمضى نحن فى طريقنا لنكمل رحلتنا إلى أرض اليمن ..
رد الأزدى قائلا ....
ــ على بركة الله ورحلة مباركة وآمنة إن شاء الله ..
@ فرغ جميع من فى القافلة من آداء صلاة العصر واستلم كل واحد راحلته وبدأ الركب فى التحرك على وقع أنغام حادى الإبل وهو يرفع عقيرته بالغناء منشدا بصوت عذب شجى والقافلة تردد من خلفه ......
يا أيها البيــت العتيق تعالى ؛ نــور لكــم بقــلوبنا يتلالا .. أشكو إليك مفاوزا قد جبتها ؛ أرسلت فيها أدمعــى إرسالا .. أمسى وأصبح لا ألذ براحة ؛ أصل البكور وأقطع الآصالا .. وقبل أن تنفصل العير عن أرض غزه .. إلتفتت أم حبيبة من خلفها لتلقى نظرة وداع أخيرة على أبنية المدينة التى عاشت فى أحضانها وبين ربوعها عشرة أعوام .. راحت تملأ عينيها من ترابها الذى يضم فى أحضانه رفات زوجها وشريك حياتها .. وهى تردد فى صوت خفيض ملتاع والدموع تسيل على خديها فى أسى وشموخ ......
ــ آه من فراق أرض يرقد فى ثراها شريك حياتى وزوجى الحبيب الغالى .. والله لولا أنها وصيتك يا حبيبى ما فارقتها أبدا ..
إلتفت إليها أبوها وفى عينيه نظرة إشفاق وهو يرى الدموع تنثال على خديها محاولا سماع ما تقول .. ثم ما لبث أن سألها مشفقا ......
ــ ماذا كنت تقولين يا ابنتى .. لم أسمعك جيدا ؟!.
ردت وهى تمسح الدمع عن خديها ....
ــ لا شئ يا أبت لا شئ ..
بعد برهة صمت التفتت إليه قائلة بعد أن استجمعت نفسها ....
ــ أبت .. ليتك تقص على .. وأنا أسمع منك ؟!.
سألها متعجبا ....
ــ أقص عليك !. أى شئ أقصه عليك !. ما الذى تودين سماعه يا ابنتى ؟!.
ردت قائلة بينما عينيها تسبح فى الأفق البعيد .....
ــ ليتك يا أبت تحدثنى ونحن ماضون فى طريقنا .. عن أحوال البلاد عامة .. وما جرى فيها من أحداث .. كنت أسمع وأنا فى غزه أن أمورا جرت على أرض الخلافه .. وحدثت أحداثا مهمة .. ليتك تزيدنى معرفة عنها ؟!.
ــ أحوال البلاد ؟!. يااااه إنه حديث ذو شجون كما يقولون .. مالك أنت وأحوال البلاد .. ما الذى تريدين معرفته منها !. إنها أمور متشعبة كثيرة .. يطول الكلام فيها ..
ــ ليتك تحدثنى عن أهمها .. فأمامنا طريق طويل .. وزمن أكثر منه طولا ..
ــ صدقت والله يا ابنتى صدقت .. إن أمامنا مسيرة شهر أو يزيد .. حتى نصل إلى أرض مكه ..
ــ هى فرصة إذن لتهون علينا وحشة الطريق وطول السفر ..
ــ لقد وقعت أحداثا عظيمة فى العراق ومكة والمدينه .. أحداثا يشيب من هولها الولدان .. وتهتز من بشاعتها هذه الشم الرواسى .. ويشق على مثلك أن يستمع إليها ..
قال ذلك وأشار بيده إلى رؤوس جبال تبدو شامخة من بعيد .. أخذت أم حبيبة تنصت لحديث أبيها .. وقد بدا على وجهها الإهتمام وفى عينيها فضول للسماع .. بينما الشمس تجرجر أذيالها الشاحبة شيئا فشيئا ناحية الغروب وهو يسترجع أحداث الزمن القريب ..................
ــ تعلمين يا ابنتى ما جرى من أحداث دامية على أرض الخلافة فى العراق .. وانتهت بالقضاء على القائد الكبير أبى مسلم الخراسانى بعد أن استدرجه أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور إلى قصره بالهاشميه .. مستعينا بالحيلة والدهاء فى الوقت الذى كان كلاهما يتربص بالآخر ..
ردت معقبة ...
ــ على قدر علمى يا أبت أنه على أكتاف أبى مسلم قامت دولة بنى العباس .. ولولا بلاؤه وبأسه معهم .. لما تم لهم ذلك .. ولما قضى على آخر خلفاء بنى أميه ..
ــ أجل أجل هذا صحيح يا ابنتى .. لكنها الفتن والدسائس ومكائد القصــور ..
ــ مكائد القصور !. وقانا الله شرورها .. وحفظنا وحفظ أولادنا منها ..
ــ المهم .. بعد ذلك شرع المنصور فى تأليف قلوب أصحاب وأعوان أبى مسلم .. بالرغبة أحيانا وبالرهبة أخرى .. لكنها لم تحل دون قيام بعض الثورات والفتن ضده .. وبالمناسبه تولى أمر خراسان واحد من أبناء عمومتنا .. عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدى .. وذلك بعد مقتل أبى داود أمير خراسان أثناء إحدى المعارك الضارية التى دارت مع أنصار القائد أبى مسلم ..
ــ هل حدثت بعد ذلك محاولات أخرى منهم ؟!.
ــ نعم .. فى تلك الأثناء خرجت من راوند من أعمال خراسان طائفة الراونديه .. جماعة من أتباع أبى مسلم .. قاصدين قصر أمير المؤمنين بالهاشميه قرب الكوفه ..
ــ الراونديه !. لم أسمع بهم من قبل .. من يكون هؤلاء القوم يا أبت .. أهم مثلنا مسلمون موحدون ؟!.
ــ أبدا يا ابنتى .. إنها جماعة مارقة خارجة عن الاسلام .. وإن كانوا يدعون كذبا وبهتانا أنهم مسلمون موحدون ..
ــ كيف ذلك يا أبى ؟!.
ــ كان فيهم رجل يدعى الأبلق .. زعم أن الروح التى كانت فى عيسى بن مريم صارت فى على بن أبى طالب .. ثم فى أبنائه واحدا بعد الآخر .. إلى أن حلت أخيرا فى إبراهيم بن محمد سبط العباس عم النبى [صلى الله عليه وسلم ] .. وأنهم جميعا آلهه ..
ــ أعوذ بالله من تلك الأباطيل .. أى إفك هذا الذى يدعونه .. وهل تلك عقيدتهم كلها يا أبت ؟!.
ــ لا .. بل يعتقدون أيضا فى تناسخ الأرواح .. وأنها تحل فى الأجساد بعد الموت .. ويدعون أيضا أن أمير المؤمنين أبى جعفر المنصور هو ربهم الذى يطعمهم ويسقيهم .. وأباطيل أخرى نحو ذلك ..
تساءلت وقد بان عليها العجب وأخذها الدهش ...
ــ كيف يعتقدون فى هذه الخزعبلات وينطقون بهذه الأباطيل ويؤمنون بها .. ثم يدعون بعد ذلك أنهم مسلمون موحدون بالله .. ما قصدهم يا ترى من وراء ذلك كله ؟!.
ــ لا هدف لهم من وراء الترويج لهذه الخزعبلات والأباطيل إلا إحداث الفتن والقلاقل .. تمهيدا لزعزعة أركان الدولة الاسلاميه .. ثم فى نهاية الأمر القضاء على أمير المؤمنين ورجال الحكم ..
ردت معقبة ....
ــ بذلك يتم لهم الإنتقام لمقتل قائدهم أبى مسلم الخرسانى .. أليس كذلك يا أبت ؟!.
ــ بلى يا ابنتى هذا صحيح تماما ..
ــ وما الذى فعله هؤلاء .. الراوندية .. يا أبت فى مدينة الهاشميه وبيت الخلافه .. أرأيت .. لقد شوقتنى والله لسماع حكايتهم ؟!.
ــ سأقص عليك يا ابنتى ما جرى آنذاك وما كان من أمرهم ....................
يتبع إن شاء الله ........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 10h25
|

02/11/2008, 10h07
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
مقدمـة تاريخيـه
مدينــة غـزه .. ســنة 150 هجريــه .. تبدأ الوقائع الأولى لأحداث هذه السيرة الذاتيه فى قلب مدينة غزه ثغر فلسطين الباسم ودرة تاجها ..
هنا ولد محمد بن إدريس الشافعى .. فى أحضانها وعلى ضفاف بحر الروم ( البحر الأبيض ) .. عاش فيها عامين بعد مولده .. رحل بعدهما مع أمه وجده إلى موطن آبائه وأجداده .. فى وديان مكه ..
لمدينة غزه أهمية خاصة للمشتغلين بالتجاره لموقعها المتميز بين مصر والشام كما أنها كانت فى تلك الأيام المحطة الرئيسية وملتقى المسافرين من وإلى الجزيرة العربيه .. لم يكن لأهل الحجاز فى ذلك الحين من حرفة أو صناعة يجيدونها بخلاف رعى الأغنام وبعض الصناعات الصغيرة إلا حرفة التجارة وأمور البيع والشراء فضلا عن الترحال هنا أو هناك بحثا عن منابع الرزق ولقمة العيش الحلال ..
ويضم ثرى غزه قبر صاحب الشوكة والمهابة فى قريش .. هاشم بن عبد مناف جد رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] وشقيق المطلب الجد التاسع للشافعى . وكما تحدثنا كتب التاريخ هو أول من سن رحلتى الشتاء والصيف التى ورد ذكرها فى القرآن الكريم .. لذلك إشتهرت هذه المدينه وعرفت على مر الزمان باسم غزة هاشم ..
وكان للمطلب ولدا أثيرا إلى قلبه أسماه هاشم تخليدا لذكرى أخيه الراحل . زوجه الشفاء إبنة عمه هاشم فأنجبت منه عبد يزيد القرشى الخالص أبا وأما .. والعرب للمناسبة كانت تولى مسألة الأنساب تلك أهمية كبرى ..
أنجب عبد يزيد ولده عبيد الذى أنجب السائب وهو من كبار الصحابه .. دخل فى الإسلام بعد ما أسر فى غزوة بدر وقيل إنه كان يشبه النبى [صلى الله عليه وسلم ] . وكان للسائب ولدان هما شافع وعبد الله والأخير كان واليا على مكه أيام خلافة الفاروق عمر بن الخطاب .. أما شافع فهو جد العباس الذى أنجب إدريس والد الإمام محمد بن إدريس صاحب هذه السيرة الزكيه ..
وكان إدريس يسكن قبل رحيله إلى غزه فى دار ورثها عن أجداده بمكان يعرف بشعب الخيف بالثنية أسفل مكه فيها تزوج أم حبيبه بنت عبيد الله الأزدى الذى ينتمى لقبائل الأزد اليمنيه . سكن كثيرا منهم أرض فلسطين وآخرين سكنوا مصر بعد ذلك .. وانتقل أهلها إلى هذه الدار بعد رحيلها مع زوجها إلى غزه .. وكان لإدريس راتبا فى بيت المال شأنه شأن آل البيت النبوى من الخمس الذى قرره النبى [صلى الله عليه وسلم ] لهم عوضا عن الصدقه ..
وفى عهد الخليفة العباسى الثانى أبى جعفر المنصور سافر إدريس إلى غزه مصطحبا معه أم حبيبه .. عاملا ضمن حراس الثغور الذين أرسلهم والى مكه الهيثم بن معاويه لتأمين حدود الدولة وثغورها من الفتن والقلاقل التى كان يثيرها أعداء الحكم .. سواء كانوا من العرب الذين ينتمون للبيت العلوى الطالبى .. أو من فلول الأمويين فى الغرب أو من الفرس وغيرهم من بلاد العجم ..
وفى قلب مدينة غزه إستقرا حوالى عشر سنوات فى دار صغيرة متواضعة لا تزيد عن ردهة صغيرة على يمينها باب الغرفة التى لم يكن بالدار سواها . وكان للدار باب خشبى متهالك يفتح مباشرة على زقاق ضيق من أزقة المدينه فى حى يعرف باسم حى اليمنيين .
كانت دارا تحدث من يدخلها برقة حال ساكنيها وضيق معيشتهم وما يعانونه من مسغبه . ولم تكن تضم من متاع الحياة إلا الضرورى اليسير . عاش فيها الرجل وامرأته حياة أقرب للعسر والضيق لم يتذوقا خلالها طعما لليسر والسعه . ذلك أنه برحيل إدريس عن أرض مكه إنقطع نصيبه من الدراهم الزهيدة المقررة لآل البيت التى كانت تأتيه من بيت المال .. كانت رغم قلتها إلا تعينهما بعض الشئ على مواجهة أعباء الحياة وقسوتها . أما راتبه من وظيفته فلم يكن سوى دراهم معدودة لا تفى حتى بقوت يومهما . ورغم ذلك العسر والضيق كانا قانعين راضيين بما قسمه الله لهما من رزق وهما يعيشان وحدهما تحت مظلة من القناعة والرضا والسكينه ودثار من المودة والرحمة والأمن ..
*** يتبع .. إن شاء الله.......................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 10h01
|

03/11/2008, 06h20
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
قالت أم حبيبه ......
ــ فى مصر . نعم حط الكوكب هناك .. فى أرض الكنانه .. فى مصر .. ثم .. لم أشعر بعدها إلا وأنت تنادينى .. فانتبهت .. لأراك واقفا أمامى ..
ما كادت تنتهى من سرد رؤياها حتى ساد أرجاء المكان صمت عميق لم يكن يسمع فيه سوى صوت أنفاسهما وهى تتردد فى جنبات الردهة الضيقه .. راح إدريس فى تفكير عميق قطع الصمت بعده قائلا وقد لمعت عيناه وبدت على وجهه علامات الفرح والذهول معا وعلى شفتيه ابتسامة صافية تنبئ عن دخيلة نفسه وما يعتمل فيها من مشاعر البهجة والسرور
ــ ما شاء الله فهمت ورب الكعبة تأويل رؤياك ..
ــ ماذا فهمت يا رجل ؟!.
ــ أتدرين يا أم حبيبه تأويل رؤياك هذه ؟!.
هزت كتفيها قائلة ....
ــ أنى لى ذلك .. لا دراية عندى ..ولا معرفة لى بمثل هذه الأمور !.
ــ لكنى أعرف .. وسأخبرك بتأويلها إن شاء الله ..
ــ تكلم يا رجل ؟!.
ــ إن صدقت رؤياك .. فإنى أبشرك بأعظم بشرى ..
ــ أى بشرى يا رجل .. تكلم .. شوقتنى ؟!.
ــ الجنين الذى تحملينه بين أحشائك .....
ــ ماذا به ؟!.
ــ لا تنزعجى يا امرأه .. سيكون له شأن كبير ..
ــ ماذا تعنى ؟!.
ــ إنه عالم قريش .. أجل عالم قريش المنتظر .. إنه لم يظهر بعد حتى اليوم .. أتدرين يا أم حبيبه من يكون عالم قريش ؟!.
نظرت إليه ذاهلة لا تجد ما تقوله وقد عقدت الدهشة لسانها فأردف قائلا غير منتظر جوابها ......
ــ إنه عالم قريش الذى أنبأ به رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] وأخبر عن مقدمه قبل مائة وخمسين عاما ..
ــ ما هذا الذى تقوله يا إدريس .. مالك اليوم تلغز فى كلامك هكذا !. لا أفهم شيئا مماتقول . ليتك تفصح عن قصدك .. أو تزيدنى فهما وإيضاحا ؟!.
ــ لا عليك .. سأشرح لك الأمر ..
ــ وأنا كلى آذان صاغيه ..
ــ كان بعض الصحابة على عهد النبى [صلى الله عليه وسلم ] يسبون قريشا لما يرونه من إيذائهم له .. فغضب من ذلك ونهاهم عنه قائلا لهم : " لا تسبوا قريشا فإن عالمهم يملأ أطباق الأرض علما . اللهم كما أذقتهم عذابا فأذقهم نوالا " ... أفهمت يا أم حبيبه قوله [صلى الله عليه وسلم ] " فإن عالمهم يملأ أطباق الأرض علما " . أفهمت ؟!.
ــ أبدا.. لم أفهم بعد !. ما علاقة هذا الذى تقوله .. بالرؤيا التى رأيتها ؟!.
قبل أن يجيبها أردفت وهى تسبح بعينيها إلى الفضاء البعيد وكانت امرأة ذكية لماحه
ــ آآآآآآآآآآآآه .. فهمت .. فهمت الآن ..
ــ هيه .. ماذا فهمت ؟!.
ــ تعنى بكلامك هذا أن الكوكب الذى رأيته فى منامى وهو يدور حول مكة وبلاد العرب .. ثم يحط فى مصر هو ذاك العالم القرشى الذى تنبأ بمقدمه النبى [صلى الله عليه وسلم ] والذى لم يظهر بعد ؟!.
ــ أجل هو ذاك تماما يا ابنة الأزدى ..
ــ يا ربى !. ما أعجب كلامك يا إدريس إنه لأمر عجيب والله . لا أكاد أصدق . حقا لا أكاد أصدق !.
ــ ستثبت لك الأيام صدق مقالتى باذن الله .. بل أقول لك ما هو أكثر من ذلك ..
ــ ماذا تعنى ؟!.
ــ لتعلمى يا أزديه أنه يوم يموت عالم يولد آخر .. تذكرى جيدا تلك الكلمات وإياك أن تنسيها .. يوم يموت عالم يولد آخر ....
فى اليوم التالى ذهب إدريس والسعادة تغمره إلى مكان عمله المكلف به فى الثغر شاعرا بالنشاط والقوة يدبان فى جسده النحيل . كان للرؤيا التى رأتها زوجته أثرها الكبير عليه وكأنما شرب بها إكسير الحياة .. بدا منتشيا على غير عادته حتى أن إخوانه لاحظوا تغير أحواله . أخذوا يداعبونه ظنا منهم أن سعادته بسبب المولود الذى ينتظر قدومه بعد طول انتظار وكان أكثرهم مداعبة له صديقه الأنبارى . كانوا يحبونه لدماثة خلقه وطيبته ويحفظون له قدره ومكانته لمعرفتهم بنسبه الشريف وقرابته لآل بيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] . أخذ يجاريهم فى حديثهم مستسلما لمداعباتهم .. وقد كتم عنهم حكاية الرؤيا التى رأتها امرأته ..
.... خمسة شهور وبضعة أيام مضت بحلوها ومرها مذ رأت أم حبيبه هذا المنام العجيب . وفى ليلة الجمعة الأخيرة من شهر رجب للعام الخمسين بعد المائة الأولى للهجره بدأت تشعر بآلام المخاض التى أخذت تزداد وتتقارب ساعة بعد أخرى وهى تتحامل على نفسها وتكتم آلامها عن زوجها حتى لا تشق عليه أو ترهقه من أمره عسرا .. هى أكثر من يعلم رقة حاله وضعف صحته . كلما سألها عن أحوالها تجيبه كل مرة أنها بخير حال وأنها لا تعانى من أية آلام . إلا أنه أدرك أخيرا من هيئتها والعرق الغزير الذى كان يكسو وجهها ويتساقط تباعا على خديها أنها لا تصدقه القول . وأنها تحتال لكى تكتم عنه آلامها وتخبئ شكواها فى صمت نبيل بين ضلوعها ..
لم يحتمل أن يراها على تلك الحال تعانى آلام المخاض وحدها فى صمت وجلد دون معونة من أحد يشد من أزرها ويخفف عنها ما تعانيه . تسلل فى خفة خارج الدار دون أن تشعر به حتى إذا صار خارجها أخذ يهرول لاهثا فى الطريق والظلام الدامس يلف المكان بأستاره الداكنة السوداء باحثا عن إحدى جاراتهم لتكون معها فى تلك اللحظات العصيبة الحرجه تشد من أزرها وتخفف عنها آلامها . لم يجد أمامه إلا دار صاحبه وزميله أبو عبد الرحمن .
أخذ يطرق الباب على استحياء طرقات خفيفة حتى خرج إليه أخيرا يمسك فى يده مصباح ذو فتيل يخرج منه شعاع ضوء خافت . تفرس صاحبه فى وجهه وهو يفرك عينيه . أدرك من ملامحه أن وراءه أمرا مهما . سأله متلهفا وهو يغالب النعاس عما به . أخبره بالأمر وطلب إليه أن يأذن لام عبد الرحمن أن تأتى معه لتكون إلى جوار أم حبيبه فى تلك الساعات العصيبه ..
إستجاب له صديقه فى الحال . دخل إلى الدار وهو ينادى على امرأته التى كانت تغط فى نوم عميق ..
استيقظت أخيرا من نومها .. طلب إليها وهى تفرك عينيها فى محاولة منها لطرد النوم عنها أن تعد نفسها على عجل للذهاب إلى جارتها أم حبيبه . لم تمض غير لحظات حتى كانت أم عبد الرحمن إلى جوار صاحبتها بعد أن أذن لها صديقه وهو يشد على يديه مهدئا من روعه داعيا الله له أن تقوم امرأته سالمه ..
أخذ الوقت يمضى حثيثا قاسيا عليه كأنما عجلة الزمان توقفت عن سيرها وهو لا يكاد يهدأ فى مكان أو تعى قدماه مكانهما من الأرض . تملكه شعور خفى أن الردهة الضيقة التى يتحرك فيها تضيق من حوله أكثر وأكثر وتزداد ضيقا على ضيقها . وأن حيطان الدار تتقارب وتتقارب حتى تكاد أن تخنقه وتكتم أنفاسه . قادته عيناه إلى النافذة الصغيرة مصدر الهواء الوحيد فى الدار . هرع إليها وهو يتعثر فى خطواته . إرتعشت يداه وهما تقبضان على المزلاج باحثا عن نسمة من الهواء شعر أنه يفتقدها . هبت عليه نسمة من نسمات الليل البارده . أخذ يمسح العرق المتراكم على جبهته رغم برودة الليل . أعاد غلق النافذة مرة ثانية وعاد يروح جيئة وذهابا فى الردهة مرة أخرى إلى أن غلبه التعب وأدركه النوم رغما عنه . إستسلم أخيرا وراح فى سبات عميق مسندا ظهره فى الردهة على باب الغرفة التى ترقد فيها زوجته ..
هب من سباته مرة واحدة وقد تملكه الذعر من صراخ زوجته الذى شق سكون المكان وملأ أذنيه .. ما كادت قدماه تستقران على الأرض وهو يفرك عينيه ذاهلا حتى سادت لحظة صمت عميق تبعها بكاء المولود المتواصل . تسارعت دقات قلبه وتلاحقت أنفاسه وبريق رؤيا زوجته يلمع أمام عينيه والأمانى تتراقص فى نفسه وقد تملكته مشاعر غامرة من الفرح والسرور ..
خر مكانه ساجدا لربه باكيا بكاء الفرح والسرور ولسانه يلهج بالثناء والشكر لمولاه مبتهلا ومتوسلا أن يكون المولود ذكرا يحقق رؤيا زوجته ويكون هو عالم قريش الذى لم يأت بعد والذى تنبأ بمقدمه رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] . يجالس العلماء وهو ينهل من علومهم . يبحث عن الحكمه وينشر معارفه بين الناس حاملا لواء السنة ويخط بريشته علوم الأصول ..
لم يمض غير قليل من الزمن حتى جاءته أم عبد الرحمن مهرولة وعلى شفتيها ابتسامة عريضة والفرحة ملئ وجهها وهى تزف إليه البشرى .....
ــ أبشر أيها الجار الطيب جاءك الولد . سبحان الله كأنه قطعة منك ..
رد عليها بصوت متهدج باك .. خرج متقطعا من بين دموعه التى انثالت على خديه رغما عنه .. وهو لا يكاد يصدق ما تسمعه أذناه ....
ــ الحمد لله الذى عوضنى بعد طول انتظار .. وقرٌ به عينى ..
لم يلبث أن سألها متلهفا ...
ــ كيف حال أم حبيبه ؟!.
إبتسمت قائلة ....
ــ بخير حال إن شاء الله ..
ــ هل لى أن أراها الآن ؟!.
ــ لا ليس بعد .. لا تعجل .. إن هى إلا لحظات وتراها .. وتملأ عينيك من ولدك أيضا ..
وبينما هو يتمتم فى سره كلمات الحمد والثناء فوجئ بأم عبد الرحمن تسأله والبسمة لم تزل ملئ شفتيها ...
ــ هل يا ترى اخترت للمولود إسما ؟!.
سرح بخياله قليلا ثم أجابها ...
ــ نعم يا أم عبد الرحمن إخترت له خير الأسماء ..
ــ محمد .. أليس كذلك ؟!.
ــ أجل أجل .. محمد .. محمد بن إدريس .. الجيل التاسع لجدنا العظيم .. المطلب بن عبد مناف .. عم عبد المطلب جد النبى [صلى الله عليه وسلم ] ..
ثم أخذ يتمتم محدثا نفسه : لعله يكون عالم قريش الذى لم يأت بعد ..
نظرت إليه مستفسرة وهى فى عجب من كلامه ثم سألته وهى تهم بالخروج ....
ــ هل من خدمة أخرى أؤديها لكما قبل أن أعود إلى دارى يا أبا محمد ؟!.
ــ شكرا لك أيتها الجارة الطيبه .. بارك الله فيك وفى زوجك وولدك ..
ردت وهى فى طريقها إلى الباب ....
ــ بارك الله لكما فى ولدكما محمد وتصبحون على خير إن شاء الله ..
بضعة شهور مضت على مولد الشافعى والأمور تسير على ذات المنوال . يذهب الرجل إلى عمله فى الثغر وبعد أن تنتهى نوبته يعود إلى داره يمارس أعماله اليدوية الأخرى . وفى أيام راحته من وردية العمل يتوجه إلى السوق حاملا على ظهره ما صنعته يداه ليقوم ببيعه . لم يكن ذلك النتاج إلا قليلا من الحبال وأربطة الكتان مما يحتاجه الصيادون فى الثغر والتى كان يجدلها مستعملا أصابع قدميه ويديه ..
عاش الزوجان فى سعادة ورضا لا شئ يعكر صفو حياتهما بعد أن آنس وحدتهما وغربتهما ذلك المولود الذى ملأ حياتهما بهجة ومرحا وأيامهما فرحة وسعاده . لكن كما يقولون .. بعد صفو الليالى يحدث الكدر . بدأت معاناة إدريس تزداد مع آلام المرض شيئا فشيئا وأخذت ألامه المبرحة تتصاعد وتتقارب يوما عن يوم . لكنه أخذ يتحامل على نفسه وجاهد كثيرا ليكتم آلآمه مجدا فى السعى على الرزق لإطعام الأم ووليدها . والأيام تمضى تترى ومقاومته تضعف وصحته تخور يوما بعد يوم أمام قسوة المرض وضراوته .. حتى صار بعد بضعة أشهر من ميلاد ولده محمد جسدا نحيلا هزيلا أسير الفراش بلا حول ولا قوه ..
وفى ليلة قاتمة شعر أنه صار من الموت قاب قوسين أو أدنى وأن ساعة الرحيل قد قربت . أخذت أنفاسه تضطرب وتتلاحق وهو ينادى بصوت خافت واهن على أم ولده بينما هى راقدة فى سكون إلى جواره ..............
ــ أم حبيبه . أم حبيبه . يا أزديه ؟!.
فتحت فى الحال عينيها وردت فى وجل وإشفاق .........
ــ خيرا أبا محمد . كيف حالك الآن !. هل بك شكوى ؟!.
ــ الحمد لله على كل حال ..
ــ أتريد شيئا . هل أعد لك بعضا من تلك الأعشاب التى تريحك ؟!.
ــ شكرا لك يا أم حبيبه .. لا أريد شيئا من هذا . لكنى ....
توقفت الكلمات على لسانه فاستحثته قائلة ....
ــ إيه يا عمرى .. ماذا بك يا أبا محمد .. تكلم ؟!.
ــ أم حبيبه .. أشعر أن ساعة الرحيل قد دنت .. لألقى وجه ربى إنها النهايه .. أجل النهاية المحتومة التى لا فرار لأحد منها . ليتك تعيرينى سمعك .. ولا تقاطعينى بالله عليك ..
أجابته فزعة وهى تحاول أن تقاوم البكاء ....
ــ النهايه ؟!. ما هذا الذى تقوله يا إدريس .. إنك بخير حال .. سلمك الله من كل سوء وأبقاك لى ولولدك عمرا مديدا .. يا زوجى الحبيب ..
ــ يا أم ولدى ورفيقة عمرى .. إن الموت حق علينا جميعا .. إنه الحق الذى لا مفر منه " وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير " صدق الله العظيم . منذ أيام وأنا أشعر أنى أقترب من النهاية يقينا .. وأن خطى الموت تدنو منى يوما بعد يوم .. وساعة بعد أخرى .. فاسمعى منى وصيتى أيتها الزوجة الوفيه .. وانتبهى جيدا لما أقول .. قبل أن ألقى وجه ربى .. أشعر أنها لحظات قليلة أرحل بعدها عن دار الفناء إلى دار الخلود والبقاء ..
نظرت إليه متسائلة وقد انهمرت من عينيها عبرات غزار احتبس لها صوتها فلم تقدر على الكلام . أكمل إدريس قائلا وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه اللاهثة .. بعد أن شرب قليلا من الماء من قدح إلى جواره ....
ــ أم حبيبه .. بعد أن تودعونى مقرى الأخير .. إذهبى على الفور إلى أسواق غزة وترقبى وصول القوافل القادمة من أرض مكه . فاذا وصلت إحداها .. أطلبى من شيخ القافلة أن يحمل رسالة إلى أبيك عبيد الله الأزدى .. أعلميه فيها بكل شئ .. واطلبى إليه أن يأتى إلى هنا .. كى يعود بكما مرة أخرى إلى مكه .. لا تدخرى جهدا يا أم حبيبه فى إتمام هذا الأمر ..
أخذ فى صعوبة وعناء يلتقط أنفاسه المتسارعة المضطربه .. بينما كفيها تحيط كفيه فى حنان وإشفاق .. ودموعها تتردد بين مآقيها وشفتاها ترتعدان خوفا وإشفاقا وهى ترد باكية واجفه ....
ــ مهلا مهلا .. على رسلك أبا محمد .. إنك بخير .. وستقوم سالما بإذن الله .. صبيحة الغد إن شاء الله أحضر لك الطبيب ..
أسكتها بإشارة من يده قائلا لها مصطنعا نبرة من الحزم معها ....
ــ إسمعى لى ولا تقاطعينى بالله عليك .. فلم يعد هناك وقت .. إجتهدى فى الرحيل إلى مكه كما طلبت منك .. حتى لا يضيع نسب ولدنا .. أفهمت يا أم حبيبه نسب ولدنا .. وكذلك حقه الذى فرضه رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] لآل البيت فى خمس الغنائم .. الخليفة أبو العباس السفاح .. حاول أن يخرجنا نحن بنوا المطلب منه .. إلا أن جدنا عثمان بن شافع تصدى له .. وأعاده إلينا مرة أخرى .. كما سبق وأخبرتك من قبل ..
ــ لكنه نزر يسير يا أبا محمد .. لا يكفى قوت أيام ولا يستحق أن نكابد أو نعانى من أجله !.
ــ أجل . أجل أعلم ذلك جيدا .. لكنه سهم قرره النبى [صلى الله عليه وسلم ] لبنى هاشم وبنى المطلب من خيبر .. وقال فى ذلك : " إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد " .. ولهذا الشرف وحده نتمسك بهذا السهم .. إن الله قد حرم علينا الصدقة وعوضنا به بدلا منها .. إياك أن تفرطى فى حقنا هذا .. أو تتخلى عنه مهما يكن زهيدا ..
ردت والبكاء يخنق صوتها ....
ــ كما ترى يا أبا محمد .. سأنفذ كل ما أوصيتنى به .. والله شهيد على ..
ما أتمت أم حبيبة كلامها حتى علت شفتى إدريس إبتسامة باهتة .. ثم قال لها وقد بدت أساريره وكأنه ألقى حملا ثقيلا عن كاهله .....
ــ بارك الله فيك يا أزديه .. لى وصية أخيره .. أوصيك بولدنا محمدا .. علميه القرآن مبكرا .. إدفعى به إلى كتاب الشيخ إسماعيل بن قسطنطين الكائن فى ساحة الحرم بمكه .. إن أباك الأزدى يعرفه جيدا .. وهو خير من يحفظه القرآن تلاوة وإملاء ..
ــ سأفعل يا إدريس . سأفعل إن شاء الله ..
إبتسم ابتسامة الرضى وهو يربت على يدها بيمناه ثم قال لها ....
ــ إحرصى على ولدنا يا أم حبيبه .. ضعيه دوما بين عينيك فلسوف يكون له شأن كبير إن شاء الله .. كما أخبرتك من قبل .. وسترين بعينيك عالم قريش وهو يملأ أقطار الدنيا علما . إنه عالم قريش .. أجل عالم قريش ..
راح إدريس فى غيبوبة طويلة .. وهو يردد فى صوت خافت : إن الأئمة من قريش . ظل يرددها مرات ومرات إلى أن أسلم الروح إلى بارئها راضيا مرضيا .. ثم رقد ساكنا تعلو وجهه مسحة من بهاء الايمان وجلاله .. والصمت يخيم أرجاء المكان بينما ولده يرقد فى مهده ساكنا .. لا يدرى عن شيئ مما يجرى حوله ..
أخذت دموع اللوعة والأسى تتحدر على خدى أم حبيبه .. متتابعات كحبات لؤلؤ نقى فى صمت وكبرياء وشموخ .. وبدا المكان فى جلاله وهيبته وكأن ملائكة السماء تبكى معها .. وهى تحاول أن تملأ عينيها الباكيتين منه قبل أن يفارقها إلى مثواه الأخير .. وبعد أن انتهت من تجهيز زوجها الراحل ووارت جسده تراب غزه إلى جوار جده هاشم .. رجعت إلى دارها برفقتها نفر من أهلها الأزديين الذين يسكنون أرض فلسطين وبعض المعارف والجيران من أهل غزه الذين أخذوا فى مواساتها والتخفيف عنها ..
يتبع إن شاء الله ........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 10h13
|

04/11/2008, 15h32
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
144 هجريه .. بلاط المنصور بالهاشميه
@ داخل قصر كبير شيده أبو العباس السفاح أول خلفاء بنى العباس , ليكون مقرا للخلافة والحكم بمدينة الهاشميه التى تقع فى العراق بين الكوفة والأنبار . وفى صدر قاعة الحكم أو ما يعرف بالإيوان , جلس رجل نحيف يميل إلى الطول والسمره فى منتصف العقد الخامس من العمر , يتميز بجبهة عريضة وأنف أقنى ولحية خفيفه وفى عينيه دهاء وخبث . إلا أنه تغلب عليه أمارات الحلم والكياسه وتعلوه المهابة والوقار وله قبول عند كل من يراه . إنه الخليفة العباسى الثانى أبو جعفر المنصور , المؤسس الحقيقى لدعائم دولة العباسيين . وعن يمينه جلس ولده محمد , ولى العهد والخليفة المنتظر من بعده , له من العمر ستة عشر عاما ويماثل أباه فى الطول والسمره , كما توحى ملامحه بالسماحة والطيبة التى لا تخلو من قوة وبأس . وعلى مقربة منهما وقف الربيع بن يونس , كبير الحجاب والساعد الأيمن لأمير المؤمنين وصاحب الرأى والمشوره . وإلى جواره أبو أيوب الموريانى كاتب الديوان الأكبر . كان المنصور يتبادل بعض الكلمات همسا مع ولده محمد المهدى بعدها التفت إلى الربيع بن يونس قائلا وعلى شفتيه ابتسامة عريضه ...
ــ بلغنى أيها الحاجب أنك أصبحت أبا .. صحيح هذا ؟!.
تنحنح الربيع قبل أن يرد قائلا ...
ــ أجل يا مولاى .. أنعم الله على بعد طول انتظار .. بولد .. فى عهدكم الميمون ..
ــ أهو ولد إذن ؟!.
ــ أجل يا أمير المؤمنين, رزقنى الله بولد أسميته الفضل , أدام الله فضلكم وأعز البلاد بكم يا أمير المؤمنين ..
ــ حسن . حسن . الفضل بن الربيع إسم طيب . أمرنا له بألفى درهم من بيت المال وجارية لرعايته ..
رد قائلا وهو يبالغ فى إظهار السرور والرضا ...
ــ كثيرا ما تغمرنا بعطاياك وإنعامك علينا يا مولاى ..
قالها , ثم أدار رأسه وراح يحدث نفسه , وهو يضغط على أسنانه فى غيظ وحنق .....
ــ ألفى درهم فحسب أيها البخيل , حسبتك ستأمر لى بألفى دينار , أهذه عطية تعطيها لرجلك الأول وكاتم أسرارك !. صدق والله من لقبك لبخلك , بأبى الدوانيق ..
أفاق من حديث النفس على صوت المنصور يسأل فى حده ....
ــ هل بالباب أحد ينتظر الإذن بالدخول علينا ؟!.
أجابه حارس الباب ....
ــ نعم يا مولاى هناك رجل من الزهاد تبدو عليه أمارات الورع والتقوى ..
ــ من يكون هذا الرجل ؟!.
ــ لا أعرفه يا مولاى .. إنها أول مرة أراه هنا ..
ــ ماذا يريد ؟!.
ــ يدعى أنك لقيته فى الهاشمية بالأمس وطلبت إليه الحضور اليوم إلى هنا !.
ــ آه .. آه , تذكرته إنه أبا عثمان عمرو بن عبيد , أدخله فى الحال !.
وفى خطوات بطيئة متثاقلة تقدم شيخ طاعن فى السن مقوس الظهر له لحية طويلة بيضاء ويرتدى زيا خشنا . دخل وهو يتوكأ على عصاه , ثم توقف فى منتصف القاعة وألقى السلام . تلقاه المنصور مكبرا له حفيا به قائلا ....
ــ عليك السلام يا أبا عثمان , تقدم واقترب منا فما أحوجنا لمجالسة أمثالك من أهل العلم والورع والزهد والإستماع إلى نصحهم وموعظتهم . إن من حولنا يذكروننا بالدنيا الفانيه , وأنت وأمثالك تذكروننا بالآخرة الباقيه ..
ــ بارك اله فيك يا أمير المؤمنين ..
ــ كيف حالك وحال أهلك يا أبا عثمان ؟!.
ــ بخير حال يا أمير المؤمنين ..
ــ عظنى يا أبا عثمان , فإنى مشوق والله لسماع مواعظك وحكمك ..
إتجهت إليه أنظار جميع من بالمجلس .. وهو يقول فى صوت هادئ رخيم ....
ــ بسم الله الرحمن الرحيم .. ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد التى لم يخلق مثلها فى البلاد . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون ذى الأوتاد الذين طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد . فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد ..
رد المنصور فى صوت متهدج باك وقد أخذه الحزن والدهش .....
ــ صدق الله العظيم . ما أحكم تلاوتك للقرآن يا أبا عثمان , كأنى والله لم أستمع لهذه الآيات المباركات إلا الآن . آآآآآآه زدنى أيها الزاهـد زدنى ..
ــ إعلم يا أبا جعفر أن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها .. فاشتر نفسك ببعضها .. وأن هذا الأمر كان لمن قبلك .. ثم صار إليك .. ثم هو صائر لمن بعدك .. واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامه ..
صمت برهة واستأنف قائلا ...........
يا أيهذا الذى قد غره الأمل ؛ ودون ما يأمــل التنغيص والأجل .. ألا ترى أنما الدنيا وزينتها ؛ كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا .. نظر الربيع تجاه أمير المؤمنين فرآه وقد أطرق رأسه باكيا , حتى أن دموعه سالت على لحيته وبللتها . إلتفت للشيخ الزاهد قائلا فى صوت هامس يحاول إسكاته ....
ــ رفقا .. رفقا .. على رسلك أيها الشيخ .. لقد غممت أمير المؤمنين .. وأبكيته ..
سمعه المنصور فأشار إليه براحة يده طالبا منه أن يكف لسانه . أبى الشيخ أن يدعه دون أن يؤنبه على مقاطعته , فهؤلاء الناس كانت لهم منزلة ومكانة تجعل الواحد منهم لا يقيم وزنا لأى أحد من حاشية أمير المؤمنين ولا يخشون لهم بأسا .. نظر إليه قائلا ....
ــ وماذا على أمير المؤمنين أن يبكى من خشية الله عز وجل ..
ثم استدار ناحية المنصور وهو يشير على الربيع مستأنفا كلامه ....
ــ إن هذا صحبك عشرين سنة .. لم ير لك عليه أن ينصحك يوما واحدا .. وما عمل وراء بابك بشئ من كتاب الله عز وجل أو سنة نبيه [صلى الله عليه وسلم ] ..
نظر المنصور إلى الربيع فرآه ممتعضا يحاول أن يكتم غضبه رغما عنه .. أمره أن يعطى الشيخ عشرة آلاف درهم , لكن الأخير قاطعه قائلا وهو يشيح بيده ....
ــ أمسك عليك دراهمك .. فلا حاجة لى بها ..
رد المنصور فى لهجة قاطعة ....
ــ والله لتأخذنها ..
أجابه الشيخ محتدا ....
ــ والله لن آخذها ..
إنتفض ولى العهد .. هب واقفا يصيح فى وجه الشيخ وقد أثاره رغم حلمه وطيبته أن يرد أحدا أيا كانت منزلته على أبيه بهذه الحدة والجفاء ....
ــ ويحك أيها الشيخ !. ماذا بك .. أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت !. كيــف تجـرؤ ؟!.
حدجه الشيخ بنظرة غاضبة كأنها سهم .. ثم التفت للمنصور قائلا ....
ــ من يكون الفتى ؟!.
ــ إنه إبنى محمد المهدى وولى العهد من بعدى !.
ــ لقد أسميته إسما لا يستحقه ..
ثم أشار إلى زيه الأسود وهو شعار بنى العباس وأردف قائلا ....
ــ وألبسته لبوسا ما هو له .. ومهدت له أمرا أمنع ما يكون به .. أشغل ما يكون عنه ..
أطرق ولى العهد ساكتا , وقد أدركه الخجل وهو يرى نظرة عتاب فى عينى أبيه الذى قال للشيخ .....
ــ أبا عثمان هل من حاجة أقضيها لك ؟!.
ــ نعم لى مطلب واحد !.
ــ قل يا أبا عثمان , أطلب ما تشاء , أقضيه لك فى الحال كان ما كان ..
ــ لا تبعث إلى حتى آتيك .. ولا تعطينى حتى أسألك !.
ــ إذن والله لا نلتقى .. ولن يصلك منى شئ !.
ــ عن حاجتى سألتنى وأجبتك ..
ثم استدار خارجا وهو يردد ........
ــ والمرء يسعى بما يسعى لوارثه ؛ والقبر وارث ما يسعى له الرجل
ما كاد يبلغ عتبة الباب حتى رفع المنصور رأسه وأشار إليه قائلا ....
ــ كلكم يمشى رويد . كلكم طالب صيد . غير عمرو بن عبيد ..
وبينما الشيخ فى طريقه إلى الباب , دخل عثمان بن نهيك قائد الحراس على عجل ميمما صوب أمير المؤمنين وهو يقول فى لهفة وجزع .....
ــ مولاى أمير المؤمنين ؟!.
ــ ماذا وراءك يا قائد الحراس ؟!.
ــ عفوا يا مولاى , أمر هام حدث منذ قليل ..
ــ تكلم يا قائد الحراس , ما الذى دهاك يا رجل ؟!.
ــ جماعة الراونديه يا مولاى !.
ــ الراونديه !. ما لنا ولهم هؤلاء الكفرة , وما خطبهم ؟!.
ــ كنا نتصور يا مولاى أنه لن تقوم لهم قائمة , وأنهم استكانوا وخمدت حركتهم بعد محاولاتهم الفاشلة من قبل إشعال نيران الفتن والدسائس , عقيب مقتل الخائن أبى مسلم الخرسانى !.
ــ أتقصد أنه قد خرج بعضهم من خراسان ؟!.
ــ نعم يا مولاى , رصدتهم عيوننا وهم يتحركون من خراسان حتى وصلوا إلى الأنبار !.
ــ أى طريق سلكوا ؟!.
ــ سلكوا طريق الهاشميه ..
ــ معنى ذلك أنهم يقصدون القصر ؟!.
ــ تماما يا أمير المؤمنين ..
ــ كم يبلغ عددهم ؟!.
ــ حوالى ألف رجل بالخيل والعتاد , أو ربما أقل قليلا ..
ــ هل يرددون شيئا ؟!.
ــ أجل يا مولاى .. إستمع إليهم رجالنا وهم يرددون كلاما غريبا من أباطيلهم التى يرددونها دوما !.
ــ ماذا يقولون .. تكلم يا قائد الحراس ؟!.
ــ يقولون إنهم ذاهبون إلى قصر ربهم الذى يطعمهم ويسقيهم !.
ــ تبا لهؤلاء الزنادقه .. إنهم يقصدوننى بهذه الترهات .. وما أرادوا من وراء ذلك إلا إشعال نيران الفتنه .. هيه وماذا أيضا ؟!.
ــ يقولون إن جبريل الأمين قد حل فى أمير مكه الهيثم بن معاويه الخرسانى .. وأن روح آدم قد حلت فى جسدى أنا .. إلى آخر تلك الخرافات !.
ــ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .. قبحهم الله ولعنهم .. والله لقد صبرت عليهم كثيرا .. لأجعلنهم عبرة لغيرهم ولتكن نهايتهم على يدى هاتين إن شاء الله !.
ــ مرنا يا مولاى نقضى عليهم جميعا فى التو .. ونستأصل شأفتهم ؟!.
ــ لا ليس بعد .. دعنا ننتظر .. لكن راقبوهم جيدا وارصدوا تحركاتهم .. وإذا جد فى الأمر شئ أبلغونى على الفور ..
ــ السمع والطاعة يا مولاى ………………
@ استمر عبيد الله الأزدى يحكى لابنته .....
ــ لم تمض غير ساعات قليلة حتى سمعت جلبة شديدة خارج أسوار القصر , وصلت أسماع الخليفة والجالسين من حوله .. أصوات آتية من بعيد إختلطت فيها هتافات الرجال بدبيب حوافر الخيل وصهيلها .. وعلى عجل دخل قائد الشرطة قائلا .......
ــ مولاى أمير المؤمنين ؟!.
ــ ما وراءك يا قائد الشرطه ؟!.
ــ جماعة الراوندية يا مولاى .. وصلوا للأبواب الخارجية للقصر ..
ــ هذه الأصوات والجلبة إذن صادرة عنهم ؟!.
ــ أجل يا أمير المؤمنين ..
ــ ما الذى يفعلونه !. هل حاولوا أن يتحرشوا برجالنا ؟!.
ــ لا يا مولاى .. إنهم يطوفون حول القصر فحسب .. ويقولون للناس هذا بيت ربنا , ونحن نطوف من حوله ..
ــ تبا لهم .. إذهب أيها القائد إلى هؤلاء الأبالسه وخذ معك بعضا من الجند واطلب إلى قادتهم أن يأخذوا عتادهم ويرحلوا عنا إلى ديارهم فى الحال ..
ــ عفوا يا أمير المؤمنين .. إن هؤلاء القوم لا يفيد معهم نصح ولن يجدى حوارا معهم ..
قاطعه المنصور فى حزم وقد بدا نافد الصبر .....
ــ إفعل ما آمرك به أيها القائد ..
ــ أمر مولاى أمير المؤمنين .... فإن أبوا أن يستجيبوا لنا .. هــل نقاتلهم يا مولاى ؟!.
ــ لا .. ليس الآن .. إن امتنعوا .. خذوا قادتهم من بينهم بالحيلة .. وألقوا بهم فى السجون .. ثم انتظروا ما آمركم به ………………
إستطرد الشيخ يحكى لابنته ....
ــ وفى الحال توجه موسى بن كعب قائد الشرطه ومعه عددا من رجاله إليهم .. سأل عن قادتهم حتى تعرف عليهم .. ثم بدأ يتفاوض معهم متذرعا بالصبر رغما عنه كما أمره المنصور , محاولا إقناعهم بالعودة إلى ديارهم , وأن يكفوا عن ترديد أباطيلهم ..
ــ لم يا أبى !. أقصد لم تذرع بالصبر ؟!.
ــ إنه يا ابنتى رجل حرب .. لا يعرف إلا لغة السيوف المكتوبة بالدماء ..
ــ وهل تمكن من إقناعهم بذلك ؟!.
ــ هيهات يا ابنتى هيهات .. إنهم قوم شديدوا المراس .. متطرفون فى معتقداتهم وسلوكهم !.
ــ ما الذى فعله قائد الشرطة إذن يا أبى ؟!.
ــ لم يجد أمامه بعد أن فشل فى إقناعهم .. إلا أن ينتقل إلى الخطوة التالية كما أمره المنصور .. ألقى القبض على قادتهم وقيدهم بالأغلال ثم ساقهم إلى سجون الهاشميه .. غير عابئ بغضب أتباعهم !.
ــ والباقون ماذا فعلوا .. هل انصرفوا أم قاوموهم ؟!.
ــ لا هذا ولا ذاك .. لم ينصرفوا ولم يقاوموهم ..
ــ ما الذى فعلوه إذن ؟!.
ــ أخذهم العجب وتملكتهم الدهشة مما فعله قائد الشرطه معهم .. وغضبوا منه غضبا شديدا !.
ــ أمر طبيعى أن يفعلوا ذلك .. فهم كما أخبرتنى كانوا يتصورون أنهم يرضون أمير المؤمنين بكلامهم هذا .. وهم يرفعونه لمرتبة الألوهيه !.
ــ تماما .. كما قلت يا ابنتى .. ذلك ظنهم الذى أرداهم موارد الهلاك !.
ــ هيــــــه .. وماذا بعد يا أبت ؟!.
ــ حسنا .. سأخبرك يا ابنتى . لا زالت لتلك الأحداث بقيه .. ويالها من بقيه !!..
@ إنتظرت جماعة الراوندية مكانها دون جدوى بعد أن خاب ظنهم وطال انتظارهم حتى أخذ منهم الضيق كل مأخذ .. لم يعد قادتهم من مفاوضاتهم التى كانت تجرى بينهم وبين قائد الحراس .. وأخيرا أرسلوا واحدا منهم يتبين حقيقة الأمر ويأتيهم بالنبأ يقين .. عاد وأخبرهم أن رجال المنصور احتجزوا قادتهم وأودعوهم سجون الهاشميه ..
تملكهم غضب شديد بعد أن نزل الخبر عليهم كالصاعقة وأخذوا يتراطنون بأصوات عالية متداخلة .. كلاما غريبا غير مفهوم وهم يتداولون أمرهم فيما بينهم .. شعروا بالإهانة التى لحقت بهم وأنهم أخذوا على حين غرة منهم .. وأخيرا قرروا بعد نقاش حاد وأخذ ورد وضع خطة يردوا الإعتبار بها لقادتهم .. ويدفعوا عنهم تلك الإهانة ويستردوا كرامتهم التى أهدرت ..
إتفقوا على أن يقسموا أنفسهم مجموعتين بعضا منهم وهم الأقل عددا ينتظرون مكانهم للمراقبه ومتابعة الموقف .. والآخرون وهم الأكثر عددا تحركوا وهم يحملون نعشا فارغا على أكتافهم وكأنهم يشيعون جنازة .. بدا مسلكهم الطائش وحركاتهم العصبية أمرا مثيرا للسخرية والضحك أكثر منه للرثاء والشفقه ..
أخذوا يجوبون طرقات المدينة وأزقتها وهم يدقون الأرض بأقدامهم ويرددون فى عصبية كلمات فارسية غير مفهومة .. بينما أهل الهاشمية ينظرون إليهم وهم فى عجب من أمرهم .. البعض يضحك فى سخرية والبعض الآخر لما عقدت الدهشة ألسنتهم أخذوا يضربون كفا بكف وهم يرددون لا حول ولا قوة إلا بالله .. إنهم يعرفونهم منذ زمن ويعرفون أساليبهم وأنهم دعاة باطل وبهتان .. لكنهم لا يستطيعون إيذاءهم أو التحرش بهم إلا إن أمر الخليفة بذلك وأذن لهم به ..
توجه حملة النعش فى نهاية المطاف إلى أبواب السجن الكبير الذى يقع قريبا من قصر الحكم .. وهناك إشتبكوا مع الحراس القائمين عليه . كانوا كثرة والحراس قلة .. فأداروا معركة غير متكافئة أمكنهم بعدها من إخراج قادتهم بالقوة من داخله .. ثم أخذوا طريقهم إلى أبواب القصر ليثأروا لأنفسهم ولقادتهم أولئك من المنصور ورجاله ..
علم بذلك فنادى على كبير الحجاب الربيع بن يونس وأمره أن يرسل مناديا ينادى فى المدينة ليعلم الناس بأوامره .. ويستنفرهم لقتال هؤلاء الكفره وفى نهاية كلامه أكد عليه قائلا فى حده ....
ــ تول بنفسك الإشراف على إغلاق أبواب المدينة كلها .. وعلى الأخص باب خراسان .. وقم بالمرور عليها لتتأكد بنفسك من وجود حراسة مشددة على جميعها ..
بعد أن خرج الربيع على عجل لتنفيذ أوامر المنصور .. إلتفت إلى قائد حراسه الذى وقف على مقربة منه متأهبا فى انتظار أوامره .. وخاطبه فى لهجة حادة قاطعه ....
ــ خذ معك بعض الجند والزم باب القصر الشرقى لا تغادره أبدا .. إياك أن تدع أحدا من هؤلاء الزنادقة يفلت من قبضتكم أو يخرج سالما .. إقتلوهم جميعا حيث وجدتموهم واستأصلوا شأفتهم .. لا تبقوا على حياة أحد منهم فإنى لا أريد أن أسمع لهم ذكر بعد اليوم ..
إنتهى المنصور من إصدار أوامره .. ووضع كل واحد من القواد مكانه واطمأن على توزيع رجاله فى أماكنهم .. وأعد الساحة للقتال ثم نزل وحده قاصدا أبواب القصر ..وقد تكبدت الشمس السماء .. أخذ يرقب فى قلق ساحة المعركة الممتدة أمام القصر .. لكن سرعان ما تبدل همه فرحا وتهلل وجهه سرورا لما رأى قومه يؤازرونه ويناصرونه .. رأى أهل البلاد وقد وفدوا من كل حدب وصوب .. يحمل كل واحد منهم سلاحه فى يده وكلهم حماس للقتال والنزال والشهادة فى سبيل الله ..
وفى تلك الأثناء وقد تزاحمت الأقدام فى الساحه .. والناس يتدفقون من هنا وهناك كالسيل المنهمر .. جاء الربيع بن يونس بعد أن انتهى من مهمته فى تأمين مداخل المدينة وإغلاق أبوابها. . تقدم إلى المنصور قائلا وهو يسوق أمامه إحدى الأفراس المطهمه مشيرا إلى ظهرها ...
ــ تفضل يا مولاى ..
قالها وهو يمسك بخطامها ثم وقف إلى جواره قائما على حراسته .. وبينما المنصور يرقب ساحة القتال من مكانه .. إذا به يرى من بعيد فارسا ملثما لا أحد يعرفه .. يقاتل فى بسالة وفدائية وهو ينقض كالأسد الهصور من كل ناحية هو وأعوانه الذين أتوا معه على الراوندية فيحصدونهم حصدا .. رأى الناس ذلك فزاد من حماسهم وإقدامهم على القتال فى بسالة وعزيمه ..
أخذ المنصور ينظر فى إعجاب إلى صاحب اللثام هذا .. وهو فى شوق لمعرفة هويته محدثا نفسه ....
ــ من يكون يا ترى هذا الفارس الجسور الذى انشقت عنه الأرض .. إننى لم أر مثله شجاعة وبسالة قبل اليوم ..
ظل يدقق النظر إليه متفرسا فيه وهو يتابعه بعينيه دون جدوى .. وإذا بالملثم بعد حين من الزمن يتقدم ناحيته آخذا بلجام دابته قائلا ....
ــ ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن ترجع عن ساحة القتال فإنك اليوم تكفى .. نحن كلنا جميعا جندك وحراسك .. وأرواحنا فداؤك يا مولاى ..
أبى المنصور أن يترك ساحة القتال وأصر على البقاء بين الناس يشاركهم معركتهم قائلا له .....
ــ لست أنا أيها الفارس من يترك رجاله فى تلك الوغى ويجلس وحده .. سأكون بإذن الله آخر من يغادر هذه الساحه .. إنها معركة الشرف ولا أحب إلى من قتال أعداء الله والإسلام ..
رأى الملثم ثبات المنصور وإصراره على البقاء بين رجاله .. وهو مشفق عليه خائف أن يناله سهم طائش أو رمح صائب .. أدار رأسه ناحية الربيع قائلا له بلهجة قاطعة ....
ــ ما دام أمير المؤمنين يصر على البقاء فى أرض المعركه .. دع إذن هذا اللجام عنك يا أبا الفضل .. فأنا أولى منك بالذود عن مولاى ..
قاومه الربيع محاولا دون جدوى أن يسترد اللجام منه .. كانت قبضة الفارس أشد تمسكا به وهو يقول له ....
ــ دعك من هذا أيها الحاجب الأكبر .. إن هذا اليوم ليس من أيامك ..
عقب المنصور قائلا بفخر وإعجاب وقد أشرق وجهه وتهلل فرحا ....
ــ صدقت أيها الفارس المقدام .. دع اللجام يا أبا الفضل ..
أطاع على مضض منه وهو ينظر إلى غريمه الملثم فى غيظ وحنق .. فى الوقت الذى استأنف فيه معركته وهو يدفع عن المنصور ويحميه من أعدائه .. إلى أن قضى على أكثرهم قضاء مبرما ..
بقيت شرذمة قليلة منهم لم يلقوا حتفهم .. حاولوا الفرار بعيدا عن ساحة القتال على أمل أن يهربوا بجلدهم سالمين .. وجدوا الأبواب جميعا مغلقة أمامهم كلما تركوا بابا ذهبوا لغيره ليجدوه موصدا والحراس يسدونه بأجسادهم .. وأخيرا تأكدوا أنهم قد أحيط بهم فتصدى لهم أهل المدينة ولم يتركوهم حتى أبادوهم عن آخرهم .. وقبل أن يؤذن لصلاة العصر كانت المعركة قد انتهت وانقشع غبارها ..وعندئذ أمر المنصور أن تقام الصلاة وصلى إماما بالناس فى ساحة القصر ..
يتبع إن شاء الله ........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 10h37
|

11/11/2008, 11h36
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
@ أربعون يوما مضت والقافلة لا تزال ماضية فى رحلتها .. إلى أن ظهرت أخيرا جبال مكة الشامخة بألوانها السوداء والبيضاء والحمراء .. وهى تنحدر بشدة ناحية الساحل ...
إستأنف عبيد الله الأزدى قائلا .......
ــ لم تمض غير شهور قليله على أبى حنيفه بعد هذه الواقعه .. إلا وتملكه الضعف واشتد عليه المرض وغدا طريح الفراش .. غير قادر على الحركه .. ظل على تلك الحال إلى أن لقى ربه راضيا مرضيا .. كان ذلك فى آخر ليلة من شهر رجب .. من العام قبل الماضى يا ابنتى ...
شرع ببصره إلى السماء وأردف فى نبرات تنبض بالأسى والمراره .......
ــ كان يوما مشهودا من أيام بغداد .. كنت هناك .. أقوم بشراء بعض البضائع لدكان العطارة .. وشهدت جنازته .. كان الناس يتدافعون ويأتون من كل حدب وصوب .. للصلاة على جثمانه الطاهر .. بلغ من شدة زحامهم وإصرارهم جميعا على الصلاة عليه .. أن صلوا عليه ست مرات .. جماعة بعد أخرى يتقدمهم الخليفة المنصور بنفسه والأسى يغمره .. إيــــه رحمه الله رحمة واسعه ...
كانت أم حبيبه تعطيه سمعها .. غير أنها بدت شاردة الفكر وكأنها تتذكر أمرا .. ثم فاجأت أباها متسائلة فى دهشة واستغراب .......
ــ قلت يا أبت إنه مات .. فى الليلة الأخيرة من شهر رجب .. فى العام قبل الماضى ؟!..
ــ أجل يا ابنتى أجل .. لكن فيم السؤال ؟!..
لم تجبه على سؤاله كأنها لم تسمعه .. وأخذت تحدث نفسها قائلة فى صوت هامس .......
ــ يموت عالم ويولد عالم .. تماما .. كما قال إدريس .. عندما عبر لى الرؤيــا !..
ــ لم تجيبى على سؤالى يا ابنتى .. وأسمعك تقولين كلاما .. لا أفهم منه شيئا ...
ــ آه يا أبى .. آه .. الآن .. أجل الآن .. سأقص عليك كل شئ ...
أخذت تقص عليه رؤياها التى رأتها قبل عامين .. وكيف عبرها زوجها الراحل .. ظلوا يتداولون فى أمرها .. إلى أن دخلت القافلة أرض مكه .. توجه الأب وابنته من فورهما إلى دارهم بشعب الخيف .. كان الأهل جميعا فى انتظارهم .. والتقى الأحباب بالعناق والدموع .. وانتظم الشمل مرة ثانيه ...
@ حول من الزمان مضى على الأم وولدها .. كأنه يوما أو بعض يوم .. منذ وصولهما من ديار غزة إلى دار العائلة بشعب الخيف فى بطن مكه .. عاشت بين أهلها .. تبذل قصارى جهدها وتهب عصارة أيام عمرها .. لوحيدها وثمرة أحشائها .. وهى ترى فى ملامحه صورة زوجها الراحل .. وتنتشق منه عبير ذكرياتها معه .. لقد أخذ الإبن كثيرا من سمات أبيه الوادعة الحانية .. ومن ملامحه أمارات الطيبة الصافية الرائقه .. مرات كثيرة كان يحلو لها أن تنفرد بنفسها .. ترخى لجواد خيالها العنان .. فاتحة خزانة ذكريات الزمن الماضى القريب وأياما خواليا.. مستحضرة فى مخيلتها صورة زوجها إدريس .. تتذكر وتسترجع أيامها ولياليها التى عاشتها معه .. تظهر صورته الوادعة فى بؤرة حدقة عين خيالها .. فتندفع بعض الزفرات الحرى من صدرها .. وتنهمر بعض العبرات رغما عنها .. تمسحها براحة يدها فى صمت .. قبل أن تعود سيرتها الأولى وهى ترهف أسماعها لرجع صدى أحاديثه فيما مضى من سنوات .. وترى طيف خياله كأنه حاضر معها بشحمه ولحمه ...
تذكرت لحظة أن وقعت عينيها عليه أول مرة رأته فيها .. حدث ذلك عندما جاء إلى دار أبيها الأزدى .. برفقة والده العباس طالبا الزواج منها .. سمحت لنفسها فى ذلك اليوم .. أن تتسلل فى خفة لتختلس نظرة سريعة إليه من وراء ستار .. لم تكن لها سابقة معرفة به من قبل .. منذ اللحظة الأولى التى وقعت عيناها عليه .. ملك عليها فؤادها .. ووجد طريقه ممهدا إلى شغاف قلبها .. بهرتها واستولت على مشاعرها .. شعاعات الطيبة والوداعة التى كانت تنبعث من شمس ذاته الدافئة وروحه الصافية البريئه .. شعرت لحظتها أن صاحب هذا الجسد النحيل الضامر .. وهذا الوجه العربى الأصيل الذى زاده الإسمرار حسنا وبهاء .. ينطوى باطنه مع تواضع ظاهره على جوهرة نفيسة ودرة يتيمة غاليه .. وإنسانا يحمل فى داخله أصالة أجداده العظام .. وشرفهم الرفيع ومنزلتهم السامقه ...
لم تر منه طوال حياتها معه .. إلا صورة وحقيقة الإنسان الطيب السمح .. الذى لا يثور ولا يغضب إلا لماما .. عرفت معه معنى الرضى بروح النعم التى أنعم الله بها عليهما .. وليس مقدارها أو قيمتها إذا قيست فى عالم المادة الفانى .. ومع تتابع المرائى والذكريات على مخيلتها .. لم تستطع مقاومة ابتسامة طفت رغما عنها .. فوق ساحل بحر الذكريات والأحزان وهى تتذكر المرة الوحيدة التى رأته غاضبا عليها .. واحتد فيها وعنفها قبل أن يفئ سريعا إلى وداعته وسماحته .. حدث ذلك أثناء إقامتهما فى غزه .. عندما كانت فى شهر حملها الأخير .. إعتادت ألا تجعله يراها تمارس الأعمال الشاقة .. حتى لا تثير غضبه .. دخل عليها ذات مره على حين غفلة منها .. فوجدها تكابد الرحى وهى تطحن عليها حفنة من الشعير لإعداد الخبز .. متناسية أنه نبه عليها مرارا ألا تجلس إلى الرحى أبدا .. أو تكابد أى مشقة حرصا على صحتها وضعفها .. وعلى الجنين الذى تحمله فى أحشائها .. كانت تلك هى المرة الوحيدة التى ثار فيها غاضبا .. ولم يسكت عنه الغضب إلا بعد أن وعدته .. مؤكدة أنها لن تعد مرة ثانيه ...
تذكرت أيام عمرها التى عاشتها معه فى ربوع غزة .. مع أهلها وبين جيرانهم الطيبين .. تضمهما معا تلك الدار الصغيرة التى كانت رغم ضيقها .. رحبة واسعة من فيض المودة والرحمة التى ملأت كل شبر فيها .. تماما .. كما أخبر فتية الكهف عن كهفهم الضيق المعتم .. أن ربهم سينشر لهم فيه من رحمته .. ويهيئ لهم من أمرهم مرفقا .. كم كانت تحبه وتتمنى أن يبقى معها حتى آخر العمر .. يشاركها رحلة الحياة بحلوها ومرها .. ويرى بعيني رأسهتحقيق رؤياها التى عبرها لها وبشرها فيها بأعظم بشرى .. ويشاهد أمنيته الغالية وهى تتحقق يوما .. تغدو حقيقة مشرقة أمام عينيه تدب على أرض الحقيقة والواقع .. بعد أن كانت صورة شاحبة فى عالم الخيال ...
ولدها محمد .. أين هو !.. أخذت تتلفت حولها باحثة عنه .. ها هو ذا يحاول أن يخطو على قدميه الصغيريتين .. مرتكنا على حائط الدار وهو يتعثر خطواته الأولى .. يقع على أرض الدار فتندفع إليه واجفة .. تضمه فى حنان إلى صدرها .. تملأ عينيها الدامعتين منه بعد أن تطبع قبلة على جبينه .. ثم تعود إلى متابعة شريط ذكرياتها مرة أخرى ..
لن تنسى أبدا تلك المرات الكثيرة التى كان فيها إدريس .. يتسلل حثيثا من فراشه فى جوف الليل مجتهدا ألا تراه أو تشعر به .. ثم يقوم إلى الردهة الخارجية فى الدار .. يظل جالسا وحده طرفا من الليل .. على ضوء مصباح خافت وأمامه كومة كبيرة من الليف وقطع التيل .. يجدلها فى مهارة مستخدما أصابع كلتا يديه ورجليه .. ليصنع بضعة أذرع من الحبال والخيوط والأربطه .. ولا يكف يداه عنها إلا عند سماعه صوت المؤذن وهو يشق سكون الليل مناديا ....... حى على الصلاه حى على الفلاح .. الصلاة خير من النوم .. وفى اليوم التالى يتوجه بما صنعت يداه إلى السوق سعيا على رزقه .. قبل أن يذهب إلى مكان عمله ليبيعها للتجار والصيادين بثمن بخس دراهم معدودة .. حتى يتمكن من توفير القوت الضرورى لهما .. وعلى هذا المنوال استمرت حياته .. لم يكن يطعم فى ليله من النوم إلا أقله .. وكذلك فى النهار لا يجلس خاملا دون عمل أبدا ...
كانت تشعر به فى كل مرة يفعل ذلك .. رغم حرصه دائما على ألا يزعجها أثناء قيامه من فراشه .. أو فى رجوعه إليه مرة أخرى .. متظاهرة والألم يعتصرها أنها مستغرقة فى النوم .. لما تعلمه من ضعف صحته وشحوب وجهه .. حتى لا تزيد من آلامه وأشجانه ومواجيده .. فى يوم رأته وهو يعمل فى النهار بكلتا يديه وقدميه .. تماما كفعل الليل .. وقد بان عليه الإرهاق والتعب .. وغارت عيناه وازداد وجهه شحوبا وذبولا .. أخذت تعاتبه وهى مشفقة عليه وعلى جسده النحيل الذى لا يحتمل كل هذا العناء .. واشتد عتبها عليه ولومها له طالبة منه أن يرفق بنفسه .. إلا أنه رد عليها قائلا والبسمة الحانية لم تغادر شفتيه مواصلا عمله .......
ــ صدقينى يا أزديه .. لذتى وراحتى ونعيمى .. فى هذا الذى تعتقدين أنه تعب وكدح ومشقه .. أما عذابى الحقيقى وشقائى وتعاستى .. فى الفراغ والراحة والخمول ...
ذكريات كثيرة تستهلك أحداثها من عمر الزمان .. ليالى وأيام طويلة طويله .. إلا أنها ترد على باحة الخيال كلمعة بارق خاطف فى جنح الليل البهيم ...
@ فى تلك السنة ذاتها انتقل الخليفة المنصور إلى مقره الجديد .. فى قصر آخر شيده فى مدينة بغداد سماه قصر الذهب .. إعتنى بمبانيه وملحقاته اعتناء كبيرا .. حتى أنه كان يعد فى زمانه تحفة فنية رائعة من تحف فنون العمارة وزخارفها ورونقها .. كان المنصور حريصا وهو يضع تصميمات مبانيه بنفسه .. أن يأمر ببناء مسجد خاص فى واجهته الأماميه .. وفى الناحية القبلية خلف أسواره أقام بيتا كبيرا لصاحب الشرطه وآخر لصاحب الحرس .. وإلى جوارهما دور صغيرة لإقامة الحراس والخدم .. كى يكونوا على مقربة منه عند الحاجة لهم ...
وفى الناحية الشرقية من القصر .. شيد المنصور قصور الأمراء وكبار رجال الدوله وكذلك دواوين الحكم .. وجعل من حولها خندقا عميقا مليئا بالماء يحيط بها من كل ناحية .. حتى يكون آمنا من أى هجوم مفاجئ يقوم به أعداؤه المتربصون له .. وزيادة فى الحرص والأمان بنى من فوق الخندق .. مائة وثلاثا وستون برجا فى كل برج حراسه المناوبون للمراقبة عن بعد ...
وذات يوم شوهد المنصور واقفا فى شرفة هذا القصر .. عاقدا يديه خلف ظهره .. بدا مهموما يكسو وجهه شلال جارف من حزن عميق .. يختفى من تحته بركان غضب عارم ..
أخذ يروح جيئة وذهابا .. بينما عيناه تتطلعان فى ضيق ولهفة والشرر يتطاير منهما إلى ساحة القصر الفسيحة التى تنتهى إلى البوابة الرئيسية للقصر .. منتظرا على أحر من الجمر وصول حاجبه الأول ووزيره الربيع بن يونس .. صاحب الرأى والمشوره وكاتم أسراره ...
كان قد أرسل إليه مع أحد الجلاوزة رسالة عاجلة يطلب إليه الحضور فى الحال .. وأخيرا رآه قادما من بعيد يمشى على عجل فى خطوات متقاربة حتى أنه كاد يتعثر فى عباءته .. صاح به فى صوت غاضب وهو لا يزال واقفا فى مكانه من الشرفه .......
ــ ما الذى أخرك عنى يا أبا الفضل .. ألم يخبرك خادمى أنى أريدك فى التو والحين !.. هيا أسرع وتعال إلى هنا يا رجل !..
لم تمض عليه غير ثوان حتى ولج الباب الكبير فى خطوات سريعه .. ارتقى الدرج وثبا وفى لمح البصر كان قد عبر الردهة إلى الشرفه .. وصوته اللاهث يسبق خطواته .. وقد زاد خوفه تحسبا لما سيقوله له أمير المؤمنين .. فلا علم له حتى هذه اللحظة لسبب استدعائه العاجل .......
ــ خيرا يا أمير المؤمنين .. جئتك من فورى عندما أخبرنى كبير الخدم أنك تريدنى على عجل !..
ــ أى خير .. من أين يا كبير الحجاب !.. ومن حولى كل هذا الغدر وتلك الخسة والخيانه ...
ــ ما هذا الذى تقول يا أمير المؤمنين .. غدر وخسة وخيانه ؟!.. قتل الله عدوك يا مولاى ...
ــ أجل غدر وخسة وخيانه .. إسمع أيها الحاجب ...
ــ أمر مولاى ...
ــ عليك فى التو والحين تنفيذ كل ما آمرك به ...
ــ طوع أمرك ورهن إشارتك يا مولاى ...
ــ إذهب فى الحال إلى ديوان الإنشاء .. خذ معك قائد الشرطة وبعضا من الحراس ...
تملكه خوف شديد وهو يرد متسائلا .......
ــ ديوان الإنشاء !.. لم يا مولاى ؟!..
ــ كى تأتوا بأبى أيوب إلى هنا ...
ــ من ؟. أبو أيوب الموريانى !.. كاتب الديوان ؟!..
ــ ما الذى جرى لك يا كبير الحجاب ؟!.. أجل أبو أيوب كاتب الديوان .. ألم تسمع ؟!..
تساءل الربيع غير مصدق .......
ــ أقبض عليه يا مولاى ؟!..
ــ أجل .. ضعه فى السلاسل والأغلال .. وبعد أن تفرغوا منه .. اقبضوا على أهله وأولاده وألقوهم جميعا فى سجن القتلة والخونه أسفل فناء القصر .. هيا انصرف لتنفيذ ما أمرنا به فى التو والحين ..
إصفر وجه الربيع وسرت فى جسده قشعريرة .. جعلت حروف الكلمات تخرج من فمه واجفة مرتعدة متعثرة .. وقد اصطكت أسنانه وارتعشت ركبتاه حتى أنه كاد يفقد توازنه فرقا وهلعا .......
ــ أبو أيوب .. ولم يا مولاى .. ما الذى فعله هذا الأحمق ؟!..
لم يتمالك نفسه فصرخ فى وجهه قائلا .......
ــ ما خطبك اليوم أيها الحاجب !.. ماذا دهاك ؟!.. أهذا وقت السؤال يا رجل .. قم لما أمرناك به .. وإياك أن تنتظر لحظة واحده ...
لم يجد أمامه إلا أن يغلق فمه .. وقبل أن يستدير خارجا أشار إليه المنصور قائلا فى حدة وحزم .......
ــ إسمع أيها الحاجب الأكبر .. إياك أن تسمح لأحد منهم بالماء أو الطعام قبل أن يقر هذا الخائن بالأماكن التى يخبئ فيها أمواله وثرواته .. بعدها أقتله شر قتله .. إجعل كل طرف من أطرافه فى أحد الخيول الجامحه ثم أطلقها كى تمزقه إربا .. أما أهله وأولاده فاقطعوا أيديهم وأرجلهم قبل أن تقطعوا رقابهم .. وبعد أن تفرغ منهم .. عد إلى هنا مرة أخرى .. لأعرف ما انتهيت إليه ...
شعر بالدنيا تسود أمام عينيه .. وكادت أن تفر من عينيه دمعة حرى .. وهو يحاول يائسا محاولة أخيرة أن يستعطف المنصور .. لمكانة صاحبه أبى أيوب عنده وصداقته له .. إلا أنه صرخ فى وجهه كالأسد الجريح .......
ــ لا شأن لك أنت ولا لغيرك فى هذا .. ليس هذا أوان الشفاعة والرجاء بعد أن حل الغضب وقضى الأمر .. أنت لا تعلم شيئا عما فعله هذا الخائن اللعين .. وعن فداحة ما ارتكبه من جرم فى حقى ...
أردف قائلا بصوت متهدج حزين وهو يغالب البكاء .......
ــ لقد .. لقد قتل ولدى جعفر .. هذا النذل الحقير .. قتل ولدى وفلذة كبدى ...
خرج مسرعا يتكفأ فى ثيابه لا يكاد يرى أمامه .. وقد أخذ الخوف منه مأخذا عظيما .. وهو يتمتم فى نفسه .......
ــ قتل ولده ؟. أى ولد ؟. ما هذه الألغاز والأحاجى التى أستمع إليها .. ما الذى يعنيه أمير المؤمنين بكلامه هذا .. ما هى الحكاية يا ترى ؟!.. ومن يكون جعفر هذا .. أنا لا أعلم أن له ولدا بهذا الإسم .. إننى لم أعد قادرا على فهم أى شئ .. لكن لا مناص من تنفيذ أوامره فى الحال .. وإلا قطع رقبتى أنا الآخر !..
على الفور أخذ وجهته إلى أبى أيوب فى ديوانه .. برفقته قائد الشرطة وعددا من الحراس المسلحين .. لم يكد يراه وسط هذا الجمع حتى اصفر وجهه .. وكاد يسقط مغشيا عليه .. علم أن أمره قد انكشف فأسلم نفسه طواعية إلى الحراس الذين قاموا بالقبض عليه فى غلظة ومهانة .. لا يليقان بمثله من كبار رجال الدولة .. لم يجرؤ الربيع أن يتبادل معه كلمة واحدة .. رغم آصرة الصداقة التى كانت تربطهما .. كان خائفا أن يشى به أحد إلى أمير المؤمنين أو يضعف أمامه ...
إقتاده بعد ذلك إلى ساحة السجن وألقاه هناك فى زنزانة وحده .. أما باقى أهله وأولاده فأودعهم زنازين أخرى .. فعل كل هذا وهو لا يزال فى حيرة من أمره .. وأخيرا يمم شطر داره وقد خارت قواه تماما .. وأخذ منه التعب كل مأخذ .. حتى لم تعد قدماه تقوى على حمله ...
رأته زوجته أم الفضل داخلا عليها وقد تبدلت سحنته وتجهمت أساريره .. نظرت إليه نظرة فاحصة وهى تعقد ما بين حاجبيها فى دهشة .. لاحظت خلالها تغير أحواله وأدركت أن وراءه أمرا خطيرا .. سألته فى إشفاق ولهفة .......
ــ إيه يا أبا الفضل .. ماذا دهاك ؟!.. إنك تبدو متعبا .. الإرهاق ظاهر على قسمات وجهك ...
رد فى نبرة يائسة .......
ــ أجل أجل يا أم الفضل ...
ــ ليس هذا فحسب .. بل وتبدو مهموما أيضا .. ما الأمر يا ترى ؟!..
أشار إليها براحة يده أن تكف عنه لسانها وهو يرد قائلا .......
ــ دعينى ألتقط أنفاسى أولا .. و .. ليتك تأتينى الآن بأى شراب بارد ...
خرجت فى الحال تلبى أمره .. بينما ألقى جسده المنهك على الفراش .. يقلب فى رأسه ما مر به فى يومه هذا من أمور غريبة لا يجد لها تفسيرا .. أسرعت إليه بكوب الشراب .. بعد أن تناوله منها ازدرده فى جوفه على عجل .. ثم أخذ يحدثها بما كان من أمره مع الخليفة المنصور وصديقه كاتب الديوان الأكبر .. وما مر به من أحداث كلها أحاجى فى هذا اليوم العصيب .. أخذت تستمع إليه ذاهلة لا تكاد تصدق ما يقول .. بعد أن انتهى من حديثه .. سألها عن ولده الفضل الذى صار له من العمر سبع سنوات فقالت .......
ــ خرج إلى درس القرآن منذ الضحى وعاد منه منذ قليل .. لكنى ألاحظ عليه أمرا ترددت أن أفاتحك فيه .. لكثرة مشاغلك ومسؤلياتك الملقاة على عاتقك ...
سكتت فاستحثها متسائلا .......
ــ أى أمر هذا يا أم الفضل ؟!..
ــ لاحظت أنه لا يجيد الحفظ كما ينبغى لأمثاله .. يبدو أن شيخه الذى يذهب إليه فى مسجد بغداد لا يتقن تعليمه !..
ــ صدقت يا أم الفضل .. لاحظت أنا أيضا ذلك .. إنه حتى اليوم لم يحفظ إلا جزءا واحدا من القرآن .. مع أنه كاد أن يكمل نصف العام مع شيخه هذا .. على أية حال بعد أن أنتهى من مشاغلى هذه .. سأضع حلا قاطعا لهذه المسأله ...
ــ هل قررت أمرا معينا بشأنه ؟!..
ــ أجل .. قد أرسله إلى أمير مكة ليدفع به إلى شيخها الكبير ومقرئها الأول إسماعيل بن قسطنطين .. إنه خير من يعلمه ويحفظه القرآن .. ذرينى الآن يا أم الفضل آخذ قسطا من النوم .. لا يزال أمامى اليوم أشغالا كثيره لم أفرغ منها بعد ...
تركها ودخل غرفته .. ألقى جسده المتعب المكدود على سريره وسحب الغطاء عليه .. لم تمض غير لحظات حتى راح يغط فى نوم عميق .. قام بعده أكثر نشاطا وقد زال عنه بعض التعب .. صلى العشاء وارتدى ملابسه وخرج قاصدا قصر الذهب .. حيث يقع السجن أسفل مبانيه ...
@ عبر البوابة الخارجية لقصر الذهب .. سار بضع خطوات أوصلته إلى باب جانبى يفضى إلى درج أسفل القصر .. أخذ يهبطه على مهل إلى أن وصل إلى بوابة السجن الرئيسية .. يتقدمه أحد الحراس حاملا فى يمناه مشعلا ...
ظل يسير متحسسا خطواته فى فناء طويل .. على جانبيه بعض المشاعل التى ينبعث منها ضوء خافت .. أفضى به الفناء فى نهايته إلى درج ضيق .. أخذ يهبطه متأنيا ومن ورائه حامل المشعل .. حتى وصل إلى طرقة طويلة إنتهت به إلى زنزانة شبه مظلمة .. يقف على بابها اثنان من الحراس الأشداء ...
أشار إلى أحدهم بيده فانحنى فى التو ليفتح له الباب .. ما إن تخطاه وتقدم بضع خطوات .. حتى وقعت عيناه على أبى أيوب جالسا القرفصاء فى أحد أركانها .. واضعا رأسه بين كفيه فى مذلة والسلاسل والأغلال فى يديه وقدميه .. لم يتبين ملامح وجهه فى أول الأمر .. وأخيرا رفع السجين رأسه متوجسا على صوت صرير الباب ووقع الأقدام .. كان وجهه يعتصر حزنا وندما .. نظر أمامه فرأى الربيع واقفا يحدجه بنظرات حادة جامده .. وإن لم تخل من بعض الإشفاق والأسى ...
لم يتمالك مشاعره .. أخذته نوبة من البكاء والعويل .. وهو يخفى رأسه بين راحتيه .. بينما جسده يهتز اهتزازا شديدا .. كأنما مسه طائف من الشيطان .. بعد أن هدأ قليلا سأله الربيع .......
ــ ما الذى فعلته أيها البائس .. إننى لم أر أمير المؤمنين حزينا غاضبا كما رأيته صبيحة هذا اليوم الأسود ؟!..
رد قائلا وقد عاوده البكاء والنحيب .......
ــ إنها مصيبة فادحه ...
قاطعه منزعجا .......
ــ مصيبة فادحه ؟!.. أية مصيبة تلك .. تكلم يا رجل ؟!..
ــ أجل مصيبة كبرى .. لكنى لم أكن أعرف .. وأنى لى أن أعرف ذلك السر .. يالى من أحمق غافل !..
عاود سؤاله وقد زادت حيرته وأخذته الشفقة عليه .......
ــ تكلم أيها المسكين .. أخبرنى يا رجل .. أية فعلة شنعاء تلك التى فعلتها .. إننى حتى هذه اللحظة لا أفهم شيئا .. كل ما سمعته هو قول الخليفة أنك قتلت ولده جعفر .. من يكون جعفر هذا ؟!..
رد قائلا وهو يغالب البكاء .......
ــ إنها حكاية طويله .. سأقصها عليك من بدايتها ...
جلس الربيع على حاشية إلى جواره .. وأخذ ينصت إليه وهو يقول .....
ــ منذ خمسة أعوام .. بعد أن أسست ديوان الإنشاء ببغداد .. أعلنت عن حاجة الديوان إلى مساعدين وكتبه .. يكون لديهم دراية وخبرة بمثل هذه الأمور .. أيامها تقدم كثيرون .. إلا أننى اخترت من بينهم خمسه .. كان فيهم شاب من الموصل .. لاحظت فيه الذكاء وتوسمت لديه النبوغ والتفوق .. سألته عن حاله فعلمت منه أنه نال قسطا وافرا من العلوم .. قربته منى وقدمته على إخوانه .. وأصبحت أعتمد عليه كثيرا فى أعمالى .. إلى أن صار مع الأيام ساعدى الأيمن وكاتم أسرار الديوان .. كان يستحق ذلك فعلا ...
قاطعه الربيع قائلا .......
ــ لعلك تقصد ذلك الشاب الذى أراه برفقتك دائما .. أذكر أن اسمه .....
قال ذلك ثم خبط براحة يده على جبهته قائلا كمن تذكر أمرا .......
ــ آه فهمت إنه هو إذن .. هيــــــه .. أكمل أيها البائس المسكين !..
ــ أجل إنه هو تماما .. وذات يوم .. بينما كنت فى ديوان الإنشاء .. إغتنمت فرصة خلو الديوان من الكتبة والخدم .. لم يكن فيه أحد من العاملين إلا أنا وذلك الشاب .. فقلت له ………………
ــ جعفر .. هل انتهيت من نسخ الرسائل التى تبقت من بريد اليوم ؟!..
ــ لم يتبق منها إلا ثلاث رسائل .. معذرة على تأخرى فى نسخها يا سيدى .. البريد كان مزدحما هذا الصباح على غير العاده ...
ــ أعلم يا ولدى .. وماذا عن بريد الأمس .. هل فرغت منه ؟!..
ــ أجل يا سيدى .. إنتهيت من كتابته ومراجعته .. لم يبق إلا وضع الأختام عليه ...
ــ حسن .. حسن ...
ثم أردفت قائلا وأنا أتحسس كلماتى .. بعد أن مرت لحظات من الصمت .. كنت خلالها أرتب أفكارى .. وأتدبر فى روية ما سأقوله .. كان فتى لماحا ذكيا .......
ــ جعفر .. هناك مسألة . أود أن أنبهك إليها .. أنت تعلم كم أحبك .. أجل كم أحبك كإبن من أبنائى .. وتعلم أيضا أننى قدمتك على إخوانك كلهم .. وقربتك منى لنباهتك وفطنتك .. أجل .. أنت تستحق ذلك .. بل أكثر منه و ……
قاطعنى فى حياء .......
ــ شكرا لك يا سيدى على تلك الثقة الغاليه .. أنا لا أؤدى إلا ما هو واجب على مثلى عمله ...
ــ ليتك لا تقاطعنى قبل أن أنتهى من كلامى .. لقد مضى عليك معنا حوالى خمسة أعوام .. منذ أسسنا ديوان الإنشاء ببغداد .. كانت وقتا كافيا أتاح لك أن تطلع على كثير من الأسرار .. وأن تقف على أمور لا علم لأحد بها .. إلا ......
أردفت قائلا وأنا أضغط على كل حرف .......
ــ إلا .. أنت .. وأنا .. حتى أمير المؤمنين المنصور نفسه .. لا يعلم عنها شيئا .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا سيدى .. أعلم ذلك تماما .. وأحسب حسابه جيدا .. لكن .. لكن ما مناسبة هذا الحديث الآن ؟!.. هل أخطأت فى شئ .. أو بدر منى أمرا أغضبك ؟!..
ــ إنتظر .. لا تعجل على .. أنا لا أقصد شيئا مما قد يكون قد جال فى خاطرك .. بل أردت أن أذكرك بأهمية هذه الأسرار .. وضرورة كتمانها وحذرتك بالخصوص من ديوان أمير المؤمنين .. أفهمت يا ولدى ؟!..
ــ نعم يا سيدى أعلم هذا جيدا .. لكن عفوا .. إنى حتى الآن لا أدرى ما الذى ترمى إليه .. من وراء هذا ؟!..
ــ إسمع يا جعفر .. سأكون صريحا معك .. لقد لاحظت أمرا حيرنى كثيرا .. ولم أستطع فهمه .. ولا وجدت له تفسيرا عندى !..
ــ أى أمر هذا يا سيدى .. لقد أثرت مخاوفى والله ؟!..
ــ لاحظت أن أمير المؤمنين .. يختلس النظر إليك .. فى المرات التى كنت أصطحبك فيها عنده .. كان آخرها اليوم .. عندما كنت أعرض عليه البريد .. لاحظت أنه كان يرنو ببصره تجاهك كثيرا .. يبدو أنه مهتم بك لشئ لا أعلم كنهه حتى الآن .. هذا الأمر أثار شكوكى وحرك من مخاوفى !..
ــ من أى شئ يا سيدى .. ليتك تزيدنى إيضاحا ؟!..
ــ خشيت أن يكون فى نيته إستدراجك .. ومحاولة الإيقاع بك لمعرفة شئ من أسرار الديوان .. التى إئتمنتك عليها كل هذه السنين .. هذا كل ما فــى الأمر يا فتى !..
ــ فى الحقيقة يا سيدى .. إنها المرة الأولى التى أعرف فيها أمرا كهذا .. لم يقع فى خاطرى أبدا .. أن يهتم أمير المؤمنين بمثلى أو يشغل نفسه بالنظر إلى .. وما لاحظت ذلك أبدا فى أى يوم من الأيام .. فمن أكون ؟!.. ما أنا إلا واحدا من المستخدمين الكثيرين .. فى ديوان من دواوينه العديده .. لكن على أية حال .. كن مطمئنا يا سيدى من هذا الجانب .. أنا أعرف جيدا كيف أحافظ على أسرار الديوان ...
ــ عظيم .. عظيم .. هذا عهدى بك أيها الفتى الموصلى .. أتركك الآن كى تتمكن من إكمال البريد .. وفى صباح الغد نلتقى بإذن الله ……………
@ سأله الربيع .......
ــ هيه وما الذى حدث بعد ذلك ؟!..
ــ بعد أن تركته وحده .. وبينما أنا فى طريقى إلى الباب الخارجى .. وسكون الليل يعم أرجاء المكان .. إلتقطت أذناى صوت وقع أقدام من الناحية الأخرى لقاعة الكتبة والمساعدين .. كان صاحبها يحاول جاهدا ألا يشعر به أحد .. ساورتنى الشكوك والهواجس .. وتوقفت مكانى برهة أتدبر الأمر .. ثم عدت أدراجى فى خفة .. إلى أن وصلت إلى باب جانبى كان مفتوحا .. نظرت بركن عينى من خلال فرجة فيه .. فرأيت أحد الجلاوزه العاملين بديوان المنصور يدخل خلسة على جعفر .. وهو يتلفت وجلا من حوله مخافة أن يراه أحد .. كان يبدو من حركاته أنه حريص جدا على ذلك ...
قاطعه الربيع فى لهفة .......
ــ هل سمعت ما دار بينهما من حديث ؟!..
ــ أجل .. سمعته يطلب منه فى صوت هامس .. أن يذهب فى الحال للقاء أمير المؤمنين فى قصر الذهب .. وزاد من ريبتى أنى سمعته يؤكد عليه .. أن يكتم خبر هذه المقابلة ولا يخبر بها أحدا ...
ــ هيه أكمل .. ماذا فعلت أنت ؟!..
ــ تواريت مكانى وأنا أحبس أنفاسى .. حتى غادر القاعة ثم تسللت من ممر جانبى .. أعرف أنه ينتهى إلى إيوان المنصور .. ومن ركن خفى فى مكان لا يرانى فيه أحد .. وقفت أرقب ما يجرى هناك فى الإيوان ...
ــ ماذا رأيت ؟!..
ــ رأيت أمير المؤمنين وهو يدنيه منه .. ويتجاذب معه أطراف حديث كله حب ومودة .. كأنه يعرفه منذ زمن بعيد .. بدا ذلك من قسمات وجهه ...
ــ هل تمكنت من سماع شئ ؟!..
ــ حاولت جاهدا أن أسترق السمع .. لعلى أسمع شيئا أو حتى ألتقط كلمة واحدة دون جدوى .. ذهبت محاولاتى كلها أدراج الرياح ...
ــ لعلك كنت تقف بعيدا عنهما ؟!..
ــ أجل كانا بعيدان عن مجال سمعى .. كما أن حديثهما كان يدور همسا .. غير أنى رأيت شيئا أثار حفيظتى !..
ــ ماذا رأيت .. أيها البائس المسكين ؟!..
ــ رأيت أمير المؤمنين وهو يدس فى يده رسالة معها بعض الأشياء .. تبين لى فيما بعد أنها عقد من الزمرد الخالص وكيس متخم بالدنانير ...
ــ هيه .. وماذا بعد ؟..
ــ فى اليوم التالى توجهت إلى ديوان الإنشاء .. كأنى لم أر شيئا بالأمس ...
ــ وهل تلاقيتما .. أنت .. والفتى جعفر ؟!..
ــ نعم دخلت عليه .. فوجدته يجلس وحده شاردا .. حتى أنه لم يشعر بى وأنا أقف أمامه .. قلت لنفسى أتصنع له وأحتال عليه .. ربما يخبرنى من تلقاء نفسه عن تلك المقابلة وما تم فيها بينه وبين الخليفة المنصور .. بادرته على الفور .. كأنى لم أر أو أسمع شيئا بالأمس ………………
ــ كيف حالك أيها الفتى جعفر ؟!..
ــ من ؟!.. سيدى أبا أيوب ؟!..
ــ أجل أبو أيوب أيها الفتى الشارد .. مالى أراك مهموما هكذا .. وفيم كل هذا الشرود .. هل تعانى من أية متاعب فى صحتك ؟!..
ــ لا .. الحمد لله أنا بخير ...
ــ إذن .. شغلتك إحدى بنات حواء ؟!..
ــ أبدا يا سيدى والله .. لا هذه ولا تلك .. إننى بخير حال .. غير أنى لم أنم ليلة أمس إلا سويعات قليلة .. نلتها فى وقت متأخر من الليل ...
ــ ورسائل الأمس .. هل فرغت منها ؟!..
ــ أجل يا سيدى لم أبرح الديوان ليلة أمس .. إلا بعد أن انتهيت من نسخها وطيها وغلقها ...
ــ رائع .. رائع ...
ثم أردفت بغير اكتراث .. وكأنى أسأل سؤالا عابرا .......
ــ هل يا ترى خرجت من الديوان عائدا إلى دارك فى التو ؟!..
ــ ماذا تعنى يا سيدى ؟!..
ــ لا شئ .. لكن !..
ــ لكن ماذا يا سيدى ؟!..
ــ ألم تذهب إلى أى مكان آخر .. أو .. تلتق بأحد مثلا .. وأنت فى طريقك إلى الدار ؟!..
ظهر عليه الإرتباك والحيره .. وهو يرد على سؤالى بصوت مرتعش مستنكرا قولى .......
ــ أحد .. مثل من !.. لا .. لم ألتق بأحد .. ولم أذهب إلى أى مكان ...
ــ لم الغضب يا بنى .. أنا لا أقصد أحدا بعينه .. لكن تذكر جيدا يا جعفر .. فلربما تكون ناسيا .. مثلا ؟!..
ــ لا .. لم ألتق بأحد ...
ــ تقسم على ذلك ؟!………………
سأله الربيع .......
ــ هل أقر بالحقيقة أم ظل على إنكاره ؟!..
ــ إرتج عليه القول .. وتلجلج لسانه .. ولم يستطع مواصلة الكذب .. إلى أن فاجأته قائلا بنبرة حادة ولهجة قاطعه ………………
ــ لأول مرة تكذب على أيها الفتى .. لا أدرى كيف طوعت لك نفسك أن تنكر عنى أمرا .. أنا الذى وثقت فيك كل هذه السنوات .. وأنزلتك منزلة يغبطك عليها الكثيرون .. ألم تذهب بالأمس إلى ديوان الخليفة المنصور ؟!.. كنت أحسب أنك ستخبرنى بذلك الأمر من تلقاء نفسك .. أم ظننت أنى غافل عما يجرى ها هنا .. إياك أن تظن ذلك ؟!.. أنسيت ما قلته لك بالأمس ؟!.. هيا أخبرنى بكل كلمة دارت بينكما .. وإياك والكذب أو المراوغه ؟!………
عاود الربيع سؤاله .......
ــ وماذا فعل الفتى ؟!..
ــ لم ينطق لسانه بكلمة واحده .. بهت وانعقد لسانه من هول المفاجئه .. وبدا عليه الإرتباك الشديد .. لم يدر بخلده أنى على علم بتلك المقابله .. غادر الغرفة مسرعا .. وتركنى وحدى أضرب كفا بكف .. بعد أن تملكنى غضب شديد وثورة عارمه ...
ــ وماذا فعلت أنت ؟!..
ــ إستدعيت واحدا من رجالى المخلصين .. أمرته أن يتعقبه فى كل مكان يذهب إليه .. لم أنس أن أؤكد عليه ألا يغيب عن عينيه لحظة واحده .. وألا يدعه يغادر بغداد بأية حال .. وإن فعل يأتنى به سالما دون أن يمسه بأذى .. وأيضا دون أن يراه أحد ...
ــ ما الذى دفعك إلى هذا ؟!..
ــ خشيت أن يكون قد أسر بشئ للخليفة المنصور .. وزاد من مخاوفى إنكاره لتلك المقابلة وما دار فيها بينهما ...
ــ كيف إذن لقى حتفه ؟!..
ــ ذلك الغبى الذى أرسلته وراءه .. مع أنى أكدت عليه مشددا إن تمكن منه أن يأتينى به سالما وألا يمسه بسوء .. غير أنه لما رجع من مهمته .. قال لى …..................
ــ ظللت أتعقبه يا سيدى فى كل مكان يذهب إليه .. حتى رأيته يغادر بغداد سالكا طريق الموصل .. سرت وراءه إلى أن وصلنا إلى مكان مهجور لا يرانا فيه أحد .. باغته من الخلف محاولا الإمساك به وتقييد حركته .. غير أنه تمكن من الإفلات من قبضتى .. ولما حاولت مجددا أن أعيد الكرة .. فوجئت به يقاومنى بشدة .. حتى أنه كاد أن ينال منى .. واشتبكنا فى صراع عنيف كاد أن يفلت فيه منى .. فلم أشعر إلا ويداى تلتفان حول عنقه .. إلى أن توقفت أنفاسه وفارق الحياه ...
إختنق أبو أيوب بالبكاء .. حتى لم يعد قادرا على مواصلة حكايته والربيع ينظر إليه فى وجوم .. إلى أن هدأ بعض الشئ ثم قال .......
ــ بعد أن فارق الحياه .. أخذ يفتش فى جيوبه حتى عثر على الرسالة التى أعطاها له المنصور .. ولما قرأت ما فيها مادت الأرض من تحت أقدامى .. ولم أعد أرى شيئا أمامى من هول ما قرأت .. أتدرى ماذا كانت تحوى ؟!..
هز الربيع رأسه يمينا وشمالا .. ناظرا إليه فى ذهول وهو يقول .......
ــ إنها رساله كتبها أمير المؤمنين لامرأة أزدية من الموصل .. فهمت من فحواها أنها أم هذا الفتى .. كان المنصور قد تزوجها سرا أيام شبابه .. فى عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك .. ثم فارقها وهى لا تزال حاملا فى جعفر .. لأنه كان مطاردا من الأمويين .. وترك لها مكتوبا تحضر به إليه عندما تسمع به أميرا للمؤمنين .. غير أنها لم تعر هذا الأمر اهتماما .. وبعد أن أنجبت ولدها أسمته جعفرا كما أوصاها .. ثم ربته فى حجرها ودفعت به إلى مجالس العلم إلى أن صار كاتبا .. لقد عمل عندنا وبقى معنا كل هذه السنوات .. وأنا لا أعلم صلته بأمير المؤمنين .. ولا هو نفسه كان يعلم بذلك ...
قال الربيع معقبا كأنه تذكر أمرا .......
ــ آه .. إنها إذن تلك المرأة التى حضرت إلى هنا منذ أيام .. والتقى بها أمير المؤمنين وحده .. ولما سألته عن شأنها سكت ولم يجبنى .. آه حكاية عجيبة حقا ...
ثم قال يحدث نفسه .......
ــ والأعجب منها .. كيف تعرف هذا الثعلب الماكر على ولده !..
قال ذلك وهو يستدير خارجا .. تاركا أبا أيوب وحده فى هذا المكان الكئيب الموحش .. يندب سوء حظه ويواجه مصيره المحتوم الذى ينتظره ………
يتبع إن شاء الله ........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 10h48
|

12/11/2008, 18h45
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
صديقى الحبيب الأستاذ رائد عبد السلام
لا أدرى ما أقوله لك على حسن ظنك بمثلى وتوصيفك لهذه الأوراق .. إلا أن أدعو لك بكل خير أعطاه الله عباده الصالحين ..
أما عن تقديم هذه السيره كعمل درامى .. فهذا بالنسبة لى حلم أظنه بعيد المنال .. والأسباب معلومة لنا جميعا .. وانا عن نفسى لا أهدف لأى مغنم مادى من ورائه وإن كنت مثلك أتمنى أن يرى النور
أما عن الجلاوزه فهو إسم كانوا يطلقونه على خدم الملوك فى ذلك الزمان
وأتركك مع بقية ما سبق من أحداث
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 10h51
|

17/12/2008, 10h03
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
أشكرك من قلبى أخى محمد حمدان على كلماتك المشجعه الطيبه للضعفاء من أمثالى وحمد الله على سلامتك ........ شكرا من القلب يا أخت ياسمين ومرحبا بك ...
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 11h27
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
|
|
تعليمات المشاركة
|
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts
كود HTML معطلة
|
|
|
جميع الأوقات بتوقيت GMT. الساعة الآن 05h39.
|
|