أنا لا أقرأ قرآنا ....
أخي الأستاذ عبد القادر :
أشكرك على رقة ذوقك وعظيم لطفك ..
واسمح لي بهذا التعقيب على ما جاء في ردك حول التوشيح ...
1- موشح فتنا مطرب الحان هو كما ذكرت من تلحين محمد عثمان وقد أعلن الموسيقيون أجمع بما فيهم كامل أفندي الخلعي , أنه من مقام الحجاز كار
والحقيقة العلمية أنه ليس كذلك , إذ أني أراه من فصيلة الحجاز وليس الحجاز كار , لإبتدائه من قرارات المقام لا من صوت الجواب , ولم أسمع مدة عمري أو أطلع على عمل شرقي تراثي من مقام الحجاز كار أنه ابتدأ اللحن من القرار , بل يشترط في الحجاز كار الإبتداء من المنطقة الجوابية وهو شرط إلزامي كما هو الحال مع بعض المقامات ( كالمحير والعجم عشيران والحجاز كار كردي والأوج .... ) ولا يصح غير هذا
ولا عبرة بتلك العفقة اللحنية فيه , فهي مما وردت كثيرا في تواشيح الحجاز ( خانة بدري أدر كأس الطلا –
خانة موشح املالي يا دري –خانة موشح ما احتيالي , موشح ليالي الوصل ...)
وأقول أيضا لا عبرة بكون خانة موشح فتنا مطرب الحان التي لحنها محمد عثمان تبتدئ بالجواب مما يجعل الموشح من فصيلة الحجاز كار ..
لأني سأقول حينها أن أي موشح حينما يبوب ويصنف أو ينسب إلى فصيلته فالعبرة بلحن أدواره وما جبلا عليه , وعلى ذلك يقاس ويصنف وأما الخانة فهي بمثابة الزركشة والتنوع اللحني وليست سببا في تسمية الموشح على مقامه الفلاني وإنما الدور الأساسي للحن الأدوار وما صبغا منه
و مصداقا لما أو ضحته , هاك مثالا عمليا يؤكد صحة ما أشرت إليه ..
إذ لو أننا غنينا ثلة من موشحات الحجازكار مثا ( نبه الندمان صاح _ مر التجني – يا عيونا راميات – زارني المحبوب ... والتي تدور دوائر غنائها وبلا استثناء في المناطق الجوابية وقد يمضي من الوقت في غنائها الثلاثين دقيقة من السلطنة على المقام والإحساس مرتق في الأعلى .. وفجأة سيهبط مؤشر الإحساس إلى الأسفل ولمدة دقائق بسبب غنائنا وإدخالنا لموشح فتنا مطرب الحان وحينها سنشعر بمن قتل لنا حرارة الإحساس وهوى بنا من العالي للأسفل وستختل موازين التلذذ حينها
وما ذاك إلا لأننا تبعنا الوصلة بموشح ليس من مقامها ولا من دائرة عملها ولذلك حصل هذا الفساد والخلل
ويمكن أن يتجاوز الفنان هذا الأمر .. بغنائه بعد وصلة الحجاز كار تلك لموشح فتنا مطرب الحان , ولكن بغناء دور واحد منه فقط ومن ثم يتبعه بالخانة وسيكون مقبولا حينها
لأن مدة الغناء في القرار ات حين غناء دورا واحدا من موشح فتنا مطرب الحان لن تطول وتهبط بالإحساس من العالي المتوهج إلى المنخفض البارد ولن يلحق إحساس المستمع الشعور بالبرودة لأن الخانة والتي ستأتي سريعا وراء الدور الأول والواحد فقط ناهضة بالإحساس والأخذ به للأعلى من جديد
وطبعا خانتي أليق بهذا الأمر من خانة محمد عثمان لأن عملي فيها ضمن الجوابات بنسبة أكبر مما سيغطي على حالة الإحساس بالهبوط في الدور .
2-بالنسبة لملاحظتك أخي عبد القادر حول خانتي , فلم يك ليخفى علي ما ظننت أنت غيابه عني ولكني فعلت الأصوب ووفقت للأوفق , وإليك نظريتي :
* هناك خلاف كبير وطويل بين المدرسة التلحينية القديمة والمدرسة الحديثة , وبالطبع أنا مع الأسلوب القديم لأنه أطرب ولبسط المزاج أقرب
المدرسة الحديثة تطلب من المغني أو الملحن أن يمد اللحن حال الغناء والتلحين ضمن الحروف المدية ولا يستسيغون في التلحين والغناء مد ما لا يمد زاعمين بأنه يجب على الملحن أن يفصح في الفناء ويقسم اللحن ويوزعه على مقتضى مد الكلام وترتيبه وكأنه يقرأ الكلام قراءة شعرية أو يقول بما يظهر معناه ويفهم لفظه
وأنا لا أوافقهم في هذا الرأي وذلك لعدة أسباب :
** الأصل في حال المغني أن يعود للإنفتاح والبساطة والسذاجة وعدم التقيد , وبما يدعو لإظهار الألحان واسترسالها
** لا يجب على الملحن والمغني أن يجود الغناء واللحن , لأنه لا يقرأ قرآنا
** إذا اتبعنا فريضة المدرسة الحديثة وركبنا اللحن مع الكلام قدا بقد فسنقتل بذلك كثيرا من الإيقاعات ونميتها لأنه يستحيل أن تتفق مع النظم حرفا بحرف دون أن يكون هناك مدودا طويلة وفي غير محلها
وأذكر أني كنت قد تحدثت عن شيئ من ذلك حول موشح رب ليل ظفرت , من مقام النو أثر ولحن الأستاذ بهجت حسان و بما نصه :
كان بهجت حسان رحمه الله يعلم ويحفظ هذا الموشح عند كلمة (رب )بهذا اللفظ في الغناء رب – ب ...ليل أي يحصر الصوت اللحني في الحرف المشدد في كلمة رب وليس كما أديناه نحن بمد الراء ووضع واو أمامها فتصبح رووووب .
وتصور أنت كيف ستدغم الصوت في الحرف المشدد رب , لا شك أن الصوت سيخرج مخنوقا ومتكلفا فيه وكل ذلك بحجة أن لا نمد في الغناء إلاالأحرف المدية وأن يكون المد في محل الغناء فقط والذي يأتي متوافقا مع لفظ الكلام والنظم وأن يكون المد في الغناء في محله حتى يفهم اللفظ والكلام وكأننا نجود ونرتل قرآنا
وانا لست مع هذه النظرية مطلقا والتي ابتدعتها المدارس الموسيقية الحديثة وأما وجهة نظري فأنا أرى أن الغناء هو عبارة عن انفتاح وبساطة ودون الإرتباط بأي روابط سوى القواعد الفنية اللازمة وإلا خرج الغناء من أفواهنا مقيدا ومقولبا وبعيد عن الروح والبساطة والطرب والتي هي أصل الغناء الفطري والإنساني
ومن ثم لأمتنا كثيرا من الأوزان والإيقاعات الفنية البديعة والتي يستحيل أن تتفق بمسافاتها مع قدر الكلام أو النظم ولنأخذ مثالا على ذلك تأكيدا لنظريتي :
إيقاع المدور هندي والمرقم 7/8 إذا أردنا التلحين عليه فإننا نرى أنه يأتي وبالسجية منسجما ومتناغما حرفيا على نظم بحر الرمل والمؤلفة تفعيلاته العروضية من : فاعلاتن . فاعلاتن . فاعلات
بينما نجد مجزوء بحرالرجز والمؤلف من : مستفعلن. مستفعلن . يوافق إيقاع السماعي دارج 6/8وحرفيا ,وأما ما كان كان على إيقاع الأقصاق تركي 5/8 نجد أنه يتأتى على عروض بحر المتدارك والذي أجزاء تفعلاته هي : فعولن , فعولن ,فعولن , فعول , وهكذا إلخ......
ولكن قولوا لي بربكم كيف سيأتي نظم أو كلام يتوافق حرفيا مع إيقاع مثلا الشنبر تركي 24/4 أو إيقاع المخمس تركي 32/4 أو إيقاع الأوفر مصري 19/4 ؟
إذا لا بد لنا من المد في الغناء والذي دعت إليه الضرورة الذوقية والفنية والإيقاعية والأريحية النفسية في الغناء
وقل لي يا أستاذ عبد القادر لماذا يرفض ذوقك الموشحات الملحنة مؤخرا والتي جاءت من حيث اللفظ واللحن قدا بقد ومعنى بمبنى وكلها ملحنة إما على ( دور هندي أو اليوروك أو الفالص أو بالكثير السماعي ثقيل والذي يختارون له من الشعر ما كانت تفعيلاته مستغعلن فعلن والذي لا يحتاج إلى عناء في التماشي معه على أصول السماعي ثقيل
2- لو أخذنا بنظريتك في وجوب عدم المد والتقيد باللحن على حسب اللفظ ... إذا فلا حاجة لنا .. بلا يصح غناء أمهات الموشحات مثل
- موشح أي بارق العلم _ موشح يا من رمى القلب وسار .. موشح برزت شمس الكمال .. موشح لما بان حبي الغضبان _ موشح زالت الأتراح عنا _ اشفعوا لي يآل ودي ..- موشح ليت شعري يا ترى البياتي القديم ... موشح زارني باهي المحيا الهزام المصدر الخ
3- لو نظرنا في ترتيب كلام الموشح وتصورنا تسلسل معانيه فلن يضيرنا ذلك القلب الذي أحدثته أنا
وسواء قلت في الدور الثاني وكان البد في تم والثالث وبتنا في صفا راح أو الثاني وبتنا في صفا راح والثالث وكان البدر في تم وسيبقى المعنى قريب من بعضه وواحد من حيث تصوير اللوحة الشعرية والمعنى الذي أراده الشاعر , فقلب الأبيات هنا لا يحدث أي إفساد للمعنى
4- نأتي إلى شرح ما اعترضت به علي , إذ أنك لم تفكر إلا بأريحة النطق في لفظة أول البيت وهي (( وكان البدر في )) من حيث السهولة في استعمالها للمد والتلحين ولم تنظر فيما بعدها , ولو فعلت لوجدت باقي الألفاظ والكلمات هي مما عسر نطقه وخلي من أي مد يمكن للملحن أن يتكئ عليه , وتعالى لنقابل الحروف مع بعضها البعض :
وكان _ البد ر _ في _ تم **** وليل _ الشعر _ سكران
وهو البيت الذي كنت أنت تفضل أن أجري عليه التلحين , وانظر إلى ما استعملته أنا :
وبتنا _ في _ صفا _ راح *** وصفو _ بين _ ندمان
وبالمقارنة أخي عبد القادر ستجد المدود في البيت الأول ب ( أربعة مدود وهم كان – في – ليل –
سكران )
بنما نجد في البيت الثاني ستة مدود وهي ( بتنا – في – صفا – راح – بين – ندمان )
فأيهما برأيك أريح للإمتطاء ؟؟؟
ثم لنأتي للمقارنة بجرس الحروف وتفخيمها وترقيقها وما هو سلس ومتقارب في استعماله للتلحين وستجد الآتي :
( لفظة تم هي مما يصعب التماشي معها باللحن حال التركيب والنطق فهي سك
ومثلها لفظة البدر فلا مد فيها أو أو سهولة في جريان مد اللحن عليها وإن كانت حروفها لينة ورقيقة ولكنها لا تمد
لفظة – الشعر – هي أيضا مما يقبح الوقوف عندها والتغني بها أو الإستطالة والإسهاب
في مدها )
وأما في ألفاظ البيت الذي استعملته في تلحين الخانة فهو ما رق لفظه وراق نظمه وسهل امتطاؤه وعذب الجريان به ( بتنا ... وانظر الى المد الطبيعي فيه وحروفه الهينة اللينة
في ... يمد الغناء عليه بكل سهولة
صفا .. تمد بكل سهولة ولفظها لذيذ في الغناء
راح .. وفيها مد طبيعي أيضا وتصلح لإستعمال المد والغناء فيها ولو كانت (( راحي بدل راح )) لطابت أكثر لإحتوائها على مدين
وصفو : أيضا لا يقبح المد فيها لليونة الواو والفاء
بين : وفيها مد وليونة أيضا , ومثلها ندمان
وجرب معي أخي عبد القادر هذا التمرين ..
إلفظ جميع كلمات ( وبتنا في صفا راح وصفو بين ندمان .) وستجد أن فمك مفتوحا في أغلب نطقك في استعمال مفردات هذا البيت .. وخير الغناء والتلحين على الحروف ما ناسب الفتح
وانطق البيت الثاني ( وكان البد في تم وليل الشعر سكران ) وستجد فتح الفم فيه قليل جدا والكثرة لباقي الحركات وهو مما لا يستعذب التلحين عليه
وكلما كانت الألفاظ مفتوحة .. والفم يبقى مفتوحا لنطقه بها جاء الصوت الخارج من الحنجرة والفم أقوى وأفصح وأوضح وأسهل وألذ للسمع
بخلاف التلحين على مان من الحروف المكسورة والمضمومة والمشددة أو الخالية من المد مثل
( تم – الشعر ) فسيأتي اللحن فيها والصوت عليها حينها مخنوقا ومضطربا )
جرب هذه الملاحظة الدقيقة وستعرف حينها أني كنت مصيبا حين اخترت ما اخترت وإنه لم يأت هذا الإختيار عن عبث بل جاء عن دراية ودراسة وتدقيق وتمحيص ,
وكا ما أشرت إليه في ردك السابق فإنه والله كان مما خطر على بالي وورد على ذهني وأدرته فيما بيني وبين نفسي إلى أن قررت ما قررت ولم يكن ليخفى علي مثل هذا )
وأشكرك كثيرا .. وبانتظار رأيك في خانة موشح الجهاركاه (( مشرقات الوجوه )) والتي لا تقل أهمية عن لحن أدوار الخلعي ولا يعيبها طولها اللحني
تحياتي وتقديري لك
__________________
الموسيقى رسالة سماوية مقدسة تخرج من أفواه الملائكة لا من أفواه الشياطين
|