* : وردة الجزائرية- 22 يوليو 1939 - 17 مايو 2012 (الكاتـب : سماعي - آخر مشاركة : shokri - - الوقت: 09h54 - التاريخ: 10/09/2025)           »          45 عاما في كواليس ماسبيرو (الكاتـب : الكرملي - آخر مشاركة : توفيق العقابي - - الوقت: 09h01 - التاريخ: 10/09/2025)           »          سعاد محمد- 2 فبراير 1926 - 4 يوليو 2011 (الكاتـب : سماعي - آخر مشاركة : غريب محمد - - الوقت: 07h46 - التاريخ: 10/09/2025)           »          مليكة مداح (الكاتـب : عطية لزهر - آخر مشاركة : علي دياب - - الوقت: 21h53 - التاريخ: 09/09/2025)           »          الشيخ العفريت ( 1897 - 26 جويلية 1939 ) (الكاتـب : صالح الحرباوي - آخر مشاركة : غريب محمد - - الوقت: 15h40 - التاريخ: 09/09/2025)           »          ألحان زمان (الكاتـب : سماعي - آخر مشاركة : حازم فودة - - الوقت: 14h37 - التاريخ: 09/09/2025)           »          فى انتظار حفل اذاعة الاغانى الخميس الاول من شهر بتمبر 2025 (الكاتـب : EgyLoveR1980 - آخر مشاركة : د.حسن - - الوقت: 12h35 - التاريخ: 09/09/2025)           »          يوسف التميمي- 20 سبتمبر 1921 - 2 اوت 1983 (الكاتـب : ramzy - آخر مشاركة : سماعي - - الوقت: 10h10 - التاريخ: 09/09/2025)           »          عبد الحليم حافظ- 21 يونيه 1929 - 30 مارس 1977 (الكاتـب : سماعي - آخر مشاركة : خليـل زيـدان - - الوقت: 07h52 - التاريخ: 09/09/2025)           »          اقتباسات فريد الأطرش الموسيقية مسموعةً (الكاتـب : أبوإلياس - - الوقت: 23h04 - التاريخ: 08/09/2025)


العودة   منتدى سماعي للطرب العربي الأصيل > صالون سماعي > ملتقى الشعر و الأدب > نتاج الأعضاء .. القصص والروايات

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #1  
قديم 17/12/2008, 10h03
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

@ لم ينتظر الشافعى , قام يسابق الزمن قاصدا دار أمير مكه , وكان يمت له بصلة قرابة من جهة أبيه .. قص عليه حكايته ثم قال فى ختام كلامه ....
ــ وأخيرا فرغت فى الأيام الماضية من قراءة موطأ الإمام مالك ..
ــ عظيم .. وماذا أنت فاعل بعدما فرغت منه ؟..
ــ عقدت العزم إن شاء الله على السفر إلى المدينه , وألتقى بإمامها لأتزود من علومه وعلوم أهلها ..
ــ لكن !. رحلة كهذه يا ابن أخى فيها مشقة كبيرة عليك .. وأنت كما أراك لا زلت فى مقتبل العمر ..
ــ سيدى الأمير .. من فاته التعليم وقت شبابه .. فكبر عليه أربعا لوفاته ..
تبسم قائلا .....
ــ أصبت الرميه .. على كل حال .. هل بوسعى أن أقدم لك أى معونه ؟. مالا مثلا .. لا تستحى منى .. أطلب ما يكفيك .. إن لك حق القرابه والرحم .. وأنت طالب علم .. أحق الناس بالعون والتأييد ..
ــ أشكرك يا سيدى على هذا الكرم والفضل الكبير .. أنا لم آت إليك طالبا للمال .. ما أفلح فى العلم إلا من طلبه بالقله .. كنت أبحث عن القرطاس فيعز على امتلاكه . إنما سعيت إليك لأمر آخر ..
ــ مجاب إن شاء الله ..
ــ أريد منك كتابا لشيخ المدينه .. مالك بن أنس .. أتقوى به على لقائه ..
هز رأسه أسى وأسفا وقال .......
ــ إيه .. طلبت منى ما لا أستطيع فعله .. إنى أتهيب من الكتابة له ..
نظر إليه الشافعى متعجبا فعاجله بقوله .....
ــ يا ولدى أنت لم تر الشيخ .. لكنى سأفعل شيئا آخر .. سأعطيك كتابا لأمير المدينه .. إسحق بن سليمان الهاشمى .. أشرح له المسئله وأوصيه أن يصحبك بنفسه للقاء الشيخ ..
ــ ولم أشق عليه .. يكفى أن آخذ كتابا منه ..
ــ قلت لك يا ابن إدريس إنك لم تر إمام المدينه .. وعندما تراه بإذن الله .. ستفهم كل شئ وتعرف صدق كلامى ..
قال العبارة الأخيره وهو بمسك بريشته ويضعها فى المحبره مسطرا فى عناية كتابا لأمير المدينه .. طواه ووضع الخاتم عليه ثم أعطاه للشافعى قائلا له وهو يودعه .....
ــ فى سلام الله يا ابن أخى .. رحلة مباره ومقاما طيبا فى مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم " .. ليهنك العلم يا ولدى ..
@ خرج من دار الإمارة والرسالة لا تزال بيده .. راح يدب فى طرقات مكة لا يلوى على شئ .. بعد أن عاودته الهموم وألقت به فى دوامات الفكر .. ظل يحدث نفسه ... ما العمل وأنا لست صاحب حرفة أتكسب من ورائها أو أوفر المال .. ماذا عن رحلة المدينة وما يلزمها من نفقات لشراء دابتين وما أتزود به من قوت وملبس .. وما سوف أحتاجه فى المدينة لكراء دار أقيم فيها مع أمى ..
كانت نهمته وحرفته طلب العلم وتحصيله .. وهى مهنة لا تجلب درهما ولا دينارا .. ويدرك أكثر من غيره ما تعانيه أمه من عسر الحال وضيق المعيشة وإن تظاهرت بخلاف ذلك .. لم يشأ لأن يرهقها من أمرها عسرا أو يشق عليها أو يحملها ما لا تطيق .. لكنه لا يجد حيلة فى مقابل سلطان العلم الذى ملك عليه أمره واستولى على جماع فكره .. ولما انتهى فى المساء إلى داره .. دخل على أمه ومرآة وجهه انطبع عليها بغير حول منه ما كان يكابده فى باطنه من هموم ..
رمقته بعينها لحظة ولوجه من الباب وفى الحال أدركت بفراستها وقرأت مكنون فؤاده وما أهمه وفهمت سر معاناته , قبل أن يسارع بإخفائها وراء ابتسامة باهتة حاول أن يرسمها على شفتيه .. تشاغلت عنه متظاهرة أنها لم تره .. حتى إذا جلس والتقط أنفاسه عاقدا يديه من خلف رأسه .. نظرت إليه متسائلة .....
ــ إيه يا ولدى .. أين كنت .. لم تأخرت هكذا على غير عادتك ؟.
لم تنتظر إجابته وأشارت إلى يده قائلة ....
ــ آه .. يبدو أنك ظفرت ببغيتك ..
ــ تلك الرساله ؟.. إنها توصية من الأمير إلى أمير المدينه ..
ــ الحمد لله .. كل الأمور إذن تجرى وفق مرادك ..
وقبل أن يرد معفبا , إقتربت منه وعلى شفتيها بسمة حانية ودوده بينما تخرج من طيات ردائها صرة , ناولتها له قائلة ...
ــ أمسك هذه يا ولدى ..
تناولها متعجبا .....
ــ ماذا يا أماه , نقود ؟!..
ــ أجل يا ولدى .. عشرون دينارا كامله ..
ــ أجل يا أمى .. لكن كيف .. من أين ؟. أنا أكثر من يعلم أنه لا يتوفر لك درهم واحد تدخرينه ؟!..
حاولت تجاهل سؤاله وهى تبحث عن إجابات مبهمة دون جدوى .. لم يتمكن لها أن تمضى فى مراوغته .. وجدت منه إصرارا على معرفة الحقيقة ....
ــ إسمع يا ولدى .. سأخبرك بكل شئ ..
أرسل إليها نظرة استفسار ملؤها الشفقة , قالت على إثرها ....
ــ يا ولدى .. رحلة المدينه يعوزها دابتين وزادا للسفر .. لهذا رهنت الدار مقابل ستة عشر دينارا , وكان معى أربعه أتممت بها العشرين ..
هم بأن يعقب مستنكرا وفد تغير وجهه .. غير أنها أسكتته بإشارة قاطعة بيدها وهى تقول .....
ــ أصلحك الله يا ابن إدريس .. هذه الدار لا يقيم بها أحد سوانا .. ما الداعى لتركها مغلقة مدة غيابنا .. وفى المدينة سوف نحل فى دار عمك يعقوب , أنت لا تعرفه , آخر مرة زارنا كنت صغيرا فى المهد ..
ــ يا أم .. وبعد رجوعنا من المدينة عن شاء الله , كيف يكون الحال ونحن بلا دار نأوى إليها ..
ــ لا عليك أنت من ذلك .. دع هذا لحينه .. لعل الله يعوضنا دارا خيرا منها .. هيا يا ولدى خذ المال ودبر شئونك .. هيا .. لا تكن عنيدا صلب الرأس مثل أبيك ..
أكب على يد أمه يقبلها وعيناه ترتعشان بالدمع , بينما اخذت تمسح على رأسه بحنان الأم الطيبة الصامده , وهى تضمه باكية إلى صدرها .......

@ فى نفس العام الذى كان الشافعى يعد العدة للرحيل إلى المدينه , إعتلى هارون الرشيد كرسى الخلافة بعد وفاة أخيه موسى الهادى وهو فى ريعان الشباب , فى ظروف غامضة تضاربت فيها الأقاويل واختلفت الآراء وتباينت الروايات .. كان الخليفة الراحل على وشك خلع أخيه هارون من ولاية العهد وأخذ البيعة لولده جعفر وليا للعهد وهو دون السابعه .. بينما كانت أمه الخيزران تتمنى تقديم أخيه هارون عليه فى الخلافة فى حياة أبيهما المهدى كما أسلفنا .. لكن جرت المقادير على غير ما أرادا , لتكون بداية الجفوة والخلاف بين الأم وولدها , والتى كانت تزداد يوما عن يوم , حتى انتهت إلى القطيعة الكامله بعدما وصل الجفاء إلى ذروته , وحدث ما كان متوقعا حدوثه بين يوم وآخر , وكانت المواجهه والصدام الأكبر بين الأم وولدها الخليفة موسى الهادى فى لقاء عاصف , حيث بلغ به الغضب مداه من تدخلها فى شئون الحكم , وجاءته الفرصة يوما ليصب عليها جام غضبه , وما كان يضمره من كراهية لها , لما جاءته لتكلمه فى حاجة ضمنتها لأحد أتباعها , إنفجر بركان عضبه وهو يقول لها .....
ــ ألم يأن لك أن تكفى عن هذه الأمور .. لقد صبرت عليك كثيرا .. إنتظرت أن تغيرى من مسلكك هذا .. لن أسمح لك بعد اليوم بالتدخل فى شئون الحكم .. وأن تفعلى ما كنت تفعلينه فى الماضى أيام أبى .. مالك أنت وأمور البلاد .. سبق وأرسلت لك رسالة أحذرك فيها .. أن تخرجى من خفر الكفاية إلى بذاءة التبذل .. ليس من قدر النساء الإعتراض فى أمور الملك ...
أخذ صوته يعلو ويزداد حدة وهو يصرخ فيها ....
ــ ما هذه المواكب التى أراها تغدو وتروح إلى بابك !. أليس لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك .. أحذرك من فتح بابك بعد اليوم لمسلم أو ذمى .. والله لئن بلغنى أنه وقف ببابك أحدا من قوادى أو خاصة رجالى لأضربن عنقه ولأقبضن ماله .. متى أفلح خليفة له أم !!..
كان لقاء عنيفا فاصلا إستمعت فيه الخيزران الأم إلى ما لم يطرق سمعها من قبل .. وانتشر أمر هذا اللقاء بين الناس وكان قرينة كبرى ومدعاة لأن تشير أصابع الشك والإتهام إلى الأم لما مات ولدها الخليفة فجأة وهو فى السادسة والعشرين من عمره , قيل أنها دست له السم فى طعامه عن طريق واحدة من جواريه , لكن الحقيقة التى لم يكن على علم بها إلا القليل من خاصته لقلة شكايته , أنه كان يعانى قرحة فى معدته ..
وفى نفس الليلة التى مات فيها , تمت البيعة لأخيه هارون أميرا للمؤمنين .. ومن عجائب الأقدار أنه قبل وفاته بيت النية وعقد العزم على قتل أخيه الرشيد ويحي البرمكى الأب الروحى له وأقرب المقربين إليه .. لم ينس له أنه سافر إلى حيث يقيم فى جرجان ليخلعه من ولاية العهد , وألقاه فى السجن أسفل القصر ينتظر مصيره , لكن يد القدر سبقت إليه ..
لذلك لما تولى الرشيد وجلس على كرسى الخلافة , كان أول قرار له شفاهة إلى حاجبه الفضل بن الربيع .........
ــ إذهب فى التو إلى السجن أسفل القصر , وأخرج منه "أبى" يحي , وأحضره إلى هنا , لا تتأخر ..
إستدار الفضل خارجا على مضض منه , لما كان يحمله فى قلبه ميراثا أبويا من كراهية دفينة للبرامكة جميعا , ونفوذهم يزداد يوما عن يوم ..
وفى طريقه أخذ يحدث نفسه وعلامات الغضب والكراهية على وجهه .... تبا لهم أولئك الدخلاء الغرباء الذين أتوا ديارنا قادمين من بلخ , إن كان هذا حالهم ونفوذهم أيام الخليفة الراحل , فماذا هم صانعون بعد تولى الرشيد أمور الخلافه , وهو الذى شرب لبانهم وتربى فى أحضانهم وتعلم منهم أكثر من عشرين عاما , إنه لا يحاطب يحى إلا بيا "أبت" ..
أخيرا وصل إلى باب السجن وأخرج منه يحى متظاهرا بالفرحة مقدما له التهانى وظل يلاطفه حتى وصلا ديوان الرشيد .. ما إن لمحه قادما حتى نزل من على كرسيه مقبلا عليه مسلما مهنئا ثم قال له ....
ــ لا تحزن يا أبت على ما أصابك .. قلدتك منذ الساعة أمر الرعيه , تحكم فيهم بما ترى من صواب , إعزل من شئت واستعمل من تراه صالحا , وهذا خاتمى معك ..
قال ذلك وهو يلبسه خاتمه بنفسه , ثم نظر إلى يساره نظرة ذات مغزى حيث كان إبراهيم الموصلى جالسا وقال له مبتسما .....
ــ إيه يا موصلى .. ألن تطرب أسماعنا .. إنه يوم بهجة وسرور ..
إنحنى إبراهيم ممتثلا وهو يحتضن عوده الذى لا يفارقه واعتدل فى جلسته , وبدأت نغمات عوده الشجية تملأ أرجاء المكان على صوته الرخيم العذب وهو يقول ...
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة .. فلما تولى هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذى الندى .. فهارون واليها ويحي وزيرها

يتبع
إن شاء الله ................................



@ إتخذ الشافعى وأمه طريقهما قاصدين المدينه .. وعلى راحلتيهما مضيا يسلكان طريق الهجرة الذى مشى على حبات رماله قبل مائة وسبعين عاما , جده رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ومعه صاحبه الصديق الأكبر فى رحلة المجد والخلود .. أشار لشافعى لأمه وهو يحدثها على غار ثور الذى اختبأ فيه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وصاحبه عن عيون طالبيه من مشركى مكه .. أخذت تمر على خاطره فى تتابع سريع أحداث التاريخ القريب وذكرياته العطره التى رواها له الأجداد بلسان المقال وتحكيها فى صمت جليل بلسان الحال جبال مكة ووديانها , وسهولها وحبات الرمال المترامية أمام عينيه , التى ارتوت وتعطرت بدماء الشهداء الأبرار .. رأى من خلالها الفرسان الأوائل من جيل الصحابة العظام وهم قادمون صوب مكة يقودهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لنصر الله المبين وللفتح الأكبر .. رأى الناس وهم يدخلون فى دين الله أفواجا مرددا معهم ... لا إله إلا الله وحده .. صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده .. سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
أفاق من من ذكريات رحلة عطرة بقيت آثارها تروى أحداثها وإن طواها الزمن .. إلتفت إلى أمه قائلا .....
ــ إذا أذنت لى يا أم ؟.
ــ نعم يا ولدى ..
ــ أن أمضى وقت السفر فى قراءة القرآن , كنت قد عقدت العزم على ذلك قبل أن نتهيأ للرحيل , أريد أن يكون زادنا فيها آيات الذكر الحكيم , وأن أتقوى بها على لقاء شيخ المدينة وإمامها الأعظم ..
ــ أنت وما عزمت يا أبا عبد الله ..
مرت أيام ثمان , ختم القرآن خلالها ست عشرة مره .. ختمة فى الليل ومثلها فى النهار .. إلى أن بدأت تلوح فى الأفق من بعيد شيئا فشيئا أشجار المدينة الوارفة الظلال وباسقات النخيل .. أخذت تداعب وجوههما نسماتها الرقيقة التى تعطرت بأنفاس رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأصحابه الأعلام .. لبثا ساعة فى ضيافة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فى روضته الشريفة .. مفتتحين بها قبل أن يتوجها إلى دار عمه يعقوب بن العباس الشقيق الأكبر لأبيه إدريس والذى استقر فى المدينة بعد زواجه من إحدى بناتها وله منها ولد وحيد اسمه يوسف , يقارب عمره ابن عمه الشافعى .. شاب عاقل رصين متدين .. تلقى هو الآخر نصيبا من العلم ويعمل مع أبيه فى تجارته ..

يتبع إن شاء الله ............

لامست نسمات الصباح الباردة فى رفق وجه الفتى المكى من نافذة إلى جواره .. نهض على إثرها من فراشه سعيدا متفائلا تنطق أساريره بالبشر والبهجة .. شاعرا بنشاط وحيوية تسرى فى جسده الضامر .. وأنه أصبح أكثر قوة مما كان عليه قبل أن يلقى جسده المنهك من طول الرحلة على الفراش .. لم يشعر إلا وفراشه يبتلع جسده المكدود مستغرقا ليلته فى نوم عميق .. كما يقول العرب فى أمثالهم ... "طعام الجائع هنئ وفراش المتعب وطئ" ..
أمضى طرفا من الليل قبل أن يروح فى سباته العميق , فى حديث هامس مع إبن عمه يوسف , شريكه فى الفراش .. كانت تلك أول مرة يلتقى فيها أبناء العم ويرى كل منهما الآخر .. سأله عن رحلته الشاقة المضنيه , وما لقيه خلالها عبر ممرات الصحراء الوعرة ودروبها الشائكه , ظل يحكى له
عما لقيه أثناءها من متاعب وعذابات , زاد منها أنه لم يضع جنبيه على فراش لين خلالها , لم يهنأ بدنه ولم تقر عينه برقدة تريحه من مشاق السفر ومعاناته .. روى لابن عمه كيف كان يختلس لحظات من الزمن اختلاسا كأنه يستعيرها , يغفو خلالها كالمغشى عليه لا يلبث بعدها حتى يهب مستيقظا , راجعا لما كان عليه من مواصلة الرحلة وقراءة القرآن .. حكى له عن سبب قدومه وأمه إلى المدينه , وأنه عزم على مواصلة رحلة العلم التى بدأها فى مكه , مرورا برحلته الى الباديه ثم جلوسه بعد ذلك إلى شيوخ الحرم .. أفصح له عن وجهته فى المدينه وعزمه على لقاء إمامها أولا واخذ العلم عنه قبل أن يختلف إلى علماء المدينة الآخرين والأخذ عنهم , والتعرف على أحوال أهلها وكيف علمهم وعملهم بالكتاب والسنه .. وأثناء حديثه الممتد الهامس لم يشعر بنفسه إلا وهو بتثائب رغما عنه وراح يغط فى نوم عميق , وابن عمه يرقبه بنظرة ملؤها الشفقة والإعجاب بأحوال هذا الفتى المثابر الدؤوب ..*

يتبع إن شاء الله ............
*
@ فرغ من صلاته وأخذ يرتدى ملابسه على عجل وعيناه على باب الدار لا تبرحان كأنه يتعجل الخروج إلى ما هو قادم إليه , بدا وكأنه عاشق متيم يتلهف لقاء الحبيبة بعد طول غياب ونوى .. أجل , ها هو يتقدم خطوة أخرى فى سبيل تحقيق حلمه وهدفه الأسمى , بعد أن أخذ على نفسه العهد ألا يذيقها طعم الراحة حتى تتحقق رغبة أمه وأمنية أبيه الراحل , كان ذلك بعد لقائه الروحى البرزخى فى مكه مع الشيخ العارف الفضيل بن عياض ..
إنتهى من ارتداء ملابسه وسوى هندامه وتطيب , بينما عينى أم حبيبه تتابعه فى صمت وهو يتحرك جيئة وذهابا فى الغرفه , وهى فى عجب من أمر هذا الفتى الذى يحاول أن يسابق الزمان ويطوى الأيام .. أخذت تضرب كفا بكف محدثة نفسها ....... ما بال الفتى فى عجلة من أمره هكذا , إنه لم ينفض عن جسده غبار السفر بعد , لم تمض عليه فى المدينة إلا ساعات معدودات , وها هو يستعد للخروج ومواصلة الجهد والعمل , أى فتى هذا ..
تركت حديث النفس جانبا وارتفع صوتها بالسؤال مبدية عجبها ودهشتها , بينما يداها مشغولتان فى إعداد طعام الإفطار وهى تساعد زوجة عمه التى جلست قبالتها ......
ــ إيه .. أراك وقد تهيأت للخروج ؟..
ــ أجل يا أماه ..
ــ هكذا مبكرا . إلى أين ؟..
إلتفت إليها باسما بينما يداه تبحثان فى طيات ثيابه عن المكان الذى دس فيه كتاب التوصيه .......
ــ أنسيت يا أم الشافعى , أخرج لما جئنا من أجله ..
ــ ماذا تقول يا ولدى . تخرج الآن . فى هذه الساعة المبكرة تذهب لشيخ المدينة مالك ؟..
ــ لا يا أم , لم يحن بعد ميعاد اللقاء ..
عاودت سؤالها وقد توقفت يدها عن تقليب العصيدة على النار ....
ــ مادام الأمر هكذا, فيم العجلة إذن يا ولدى؟..
ــ أماه , على أولا أن أتوجه إلى دار أمير المدينه محمد بن إسحق الهاشمى ..
ــ أمير المدينه . لم ؟..
ــ كى أسلمه هذا الكتاب , كتاب التوصية الذى تحصلت عليه من أمير مكه ..
ــ آه , وبعد أن تسلمه كتاب التوصيه , ماذا أنت فاعل ؟..
ــ والله لا أدرى يا أماه , هذا يتوقف على ما يقرره الأمير , قد أذهب وحدى للقاء الشيخ , وقد نذهب سويا , لا أدرى .. إيه , كم انا فى شوق للقاء شيخ المدينة ونجمها الثاقب مالك بن أنس ..
ردت وهى تعاود تقليب العصيدة على النار فى حركات متتابعه ....
ـــ هكذا أنت يا ولدى , تستبق الزمان ..
رد فى الحال مرتجلا ......
ومن رام العلا من غير كد .. أضاع العمر فى طلب المحال
أروم العز ثم أنام ليلا .. يغوص البحر من طلب اللآلى .....
ــ أعلم مدى لهفتك وحرصك يا ولدى على لقاء الشيخ , لكن لن يضيرك أن تنتظر قليلا , نحن لا نزال فى أول النهار , اليوم كله بطوله أمامك تفعل فيه ما تشاء على راحتك ..
قاطعها فى الحال قائلا .....
ــ لم أنتظر يا أعظم الأمهات ؟..
ــ كى تتناول طعام إفطارك , او بعضا منه , إنك لم تذق للزاد طعما منذ البارحه , وأعلم أنك بت الليل على الطوى , تمهل يا ولدى , لحظات قليله وأرفع العصيدة من على النار , ألست تحبها وتشتهيها ؟..
رفع رأسه ناظرا لأمه وقد فرغ من تسوية هندامه , ثم انطلق قائلا بعد لحظات صمت وتأمل ....
العلم يا أماه ليس يناله .. من همه فى مطعم أو ملبس
إلا أخو العلم الذى يعنى به .. فى حالتيه .. عاريا أو مكتسى
فلعل يوما إن حضرت بمجلس .. كنت الرئيس وفخر ذاك المجلس
إلتفت إليها عمه يعقوب قائلا وهو فى مكانه حيث كان ينتقى وغلامه بعض أثواب القماش والعباءات ويرتبها ويحصى عددها قبل نقلها لمتجره .....
ــ أم حبيبه , أريحى نفسك , الولد سر أبيه , دعى الفتى وما يهوى , يبدو عنيدا صلب الرأس مثل أخى إدريس , كان رحمه الله إذا عقد العزم على أمر , لا يهدأ ولا يستريح حتى ينتهى منه .. تلك كانت خصلة فيه , ويبدو أن ولدك ورثها عنه ..
شاركته ابتسامته قائلة ......
صدقت والله يا أبا يوسف , كان أبو كما قلت , لكن ما حيلتى أمام فتى كهذا , لسان ينطق بالحكمة وعزيمة أمضى من الحسام المهند , على كل حال أنت وشأنك يا ولدى , على بركة الله , أنار الله لك طريقك ..
إستدار ناحية باب الدار وقبل أن يبلغه إستوقفه صوت ابن عمه يوسف من داخل غرقته مناديا عليه بصوت عال .......
ــ مهلا يا ابن العم , مهلا , إنتظر لحظة واحده , بالله عليك لا تخرج حتى أفرغ من ملابسى أنا الآخر , كى آتى معك , لأدلك على دار الأمير قبل أن أذهب للسوق ..

يتبع إن شاء الله ............
*
@ مكثا يقطعان الطريق إلى دار الإمارة فى حديث متواصل , وفى منتصف الطريق ساد الصمت بينهما , بدا الشافعى ساهما شاردا كعادته عندما يكون مقدما على أمر مهم , أخذ يرتب أفكاره ويهئ نفسه لهذا اللقاء المرتقب مع الأمير وهو لم يره من قبل , أخيرا وصلا دار الإماره وأمكنه بعد جهد جهيد أن يدخل عليه مجلسه رغم كثرة مشاغله .. لم يبد حارس الباب فى البداية أى استجابة لتوسلات ابن عمه أن يسمح لهما بمقابلة الأمير , كان الحارس فظا متعنتا معهما بحجة انشغال الأمير , ولم يسمح لهما إلا بعد أن لوح له الشافعى غاضبا برسالة أمير مكة وعليها خاتمه قائلا له .......
ــ إسمع أيها الحارس , كف عن الجدال , لابد لى من لقاء الأمير اليوم , إن معى رسالة مهمة له من أمير مكة واليمن ..
تراجع الحارس عن عناده وتغيرت لهجته فبدا أكثر تأدبا وهو يرد قائلا ....
ــ لم تخبرنى أن معك رسالة من مولاى أمير مكه .. حسنا .. على أية حال , إنتظر هنا ريثما يفرغ الأمير من لقائه مع رجال الدواوين وشيوخ القبائل ..
ثم استدرك قائلا وهو يراه يستعد للجلوس مكانه .....
ــ لكن اعلم أنه ربما يطول انتظارك ..
ــ لا بأس .. سأنتظر ..
إقترح عليه ابن عمه أن يذهب معه حيث دكان تجارته فى السوق يتبادلان أطراف الحديث , حتى لا يتسرب الملل إليه من طول الإنتظار وحيدا , لكنه شكره قائلا ........
ــ أفضل انتظاره هنا , حتى لا تفوتنى فرصة لقائه اليوم .. إذهب أنت على بركة الله إلى تجارتك ودعنى , وعندما أنتهى من المقابلة سأمر عليك فى السوق ..
شد على يديه مودعا وهو يقول له .....
ــ كما تحب .. سأذهب الآن إلى أبى فى سوق الثياب .. إنه قريب من هنا , سل أى إنسان على دكان يعقوب وسيدلك على مكانه فى التو ..
@ فرغ الأمير من قراءة الرسالة على مهل وهو يمر بعينيه على سطورها , طواها والتفت ناحية الشافعى قائلا وهو يحدق فيه بعين فاحصة مدققة يحاول سبر أغواره ومعرفة دخيلة نفسه .....
ــ نعم .. تريد إذن مقابلة الشيخ فى لقاء خاص ؟..
ــ أجل سيدى الأمير ..
ــ لكى تقرأ عليه الموطأ وتتعلم منه ؟..
ــ أجل .. ما رحلت من مكة إلى هنا إلا من أجل تحقيق تلك الغايه ..
ــ لكن .. لكن يا ولدى هذا كثير على فتى غض مثلك .. ألا تعلم أنه لا يختلف إلى إمام دار الهجره ولا يجالسه إلا من هم أكبر منك كثيرا ..
سكت برهة ثم واصل تساؤلاته .....
ــ وتريد منى أن أصحبك إلى داره ؟..
ــ تفضلا وتكرما منك ..
ــ إسمع إلى أيها الفتى المكى وافهم ما أقول .. هذا الأمر ليس هينا كما تظن .. إنه لأمر عسير بلوغه حتى على أمثالنا من رجال الحكم والأمر والنهى .. إيه يا ولدى ماذا أقول لك .. هل لك مطلب آخر ؟.
فغر فاه دهشة وقد تبدل حاله وبدا مهموما وهو يجيب ....
ــ أبدا يا سيدى .. لآ أبغى إلا ما جئت من أجله .. تلك هى أمنيتى الوحيده التى قدمت لأجلها ..
ــ هون عليك يا ولدى .. هل لك دار بالمدينه ؟..
ــ أقيم فى دار عمى يعقوب بن العباس الشافعى ..
رجع برأسه إلى الوراء , وأخذ يردد إسمه هامسا كمن يحاول أن يتذكره ثم قال ......
ــ آه تذكرته .. أليس هو تاجر الثياب والأردية الموشاه ؟..
ــ بلى هو يا سيدى ..
ــ أجل أجل .. وهل تحترف حرفة أو تجيد صنعة تتكسب منها ؟.
ــ حرفتى وصنعتى ونهمتى يا سيدى هى طلب العلم والتفقه فى الدين .. لقد تعلمت على يدى شيوخ مكه ونهلت الكثير من علومهم .. وكل ما أتمناه أن آخذ العلم على يدى شيوخ المدينه وأهلها ما استطعت إلى ذلك سبيلا ..
ــ تريد إذن جمع علوم أهل الحجاز جميعا .. لا بأس ..
أطرق برهة , ثم رفع رأسه لتلمع فى عينيه نظرة إعجاب بالفتى وهو يقول له ......
ــ يا لك من فتى مثابر دؤوب , أدركت من فحوى كلامك مدى قوة إرادتك وعزيمتك , وشدة ولعك بالمعرفة وتحصيل العلوم , لكن يا ولد شافع , أهون على أن أمشى على قدمى حافيا من جوف المدينة إلى جوف مكه , من المشى إلى باب شيخنا مالك .. ليتنا إذا رحنا إليه وأصابنا تراب العقيق ثم وقفنا على بابه يفتح لنا , لا تعجب , يا بنى أنت لم تره ولم تقف على بابه من قبل ..
صمت بهة ثم قال فى نبرة أسى .....
ــ هيهات هيهات , أتعلم أنه لم يغادر داره مذ أعوام طويله بعد أن اجترأ عليه أحد ولاة الخليفة المنصور بالضرب الموجع , ثم أمر رجاله أن يدوروا به فى الأسواق , لما أحل القوم من بيعتهم له قاشلا حديثه المعروف ..... ليس على مستكره يمين وليس على مستكره بيعه , فما وهنت عزيمته ولا لانت له قناه , بل أخذ ينادى بأعلى صوته وهم يدورون به فى الأسواق ..............
.... ألا من عرفنى فقد عرفنى ومن لم يعرفنى فأنا مالك بن أنس الأصبحى , أول لكم طلاق المكره ليس بشئ وليس على مستكره يمين ولا بيعه .....
ــ فلما علم المنصور بما جرى له صرخ فى رجاله ............. أدركوه وعودوا به إلى داره , وبعد سنوات جاءه فى موسم الحج وألح فى الإعتذار له بعد أن شعر بالذنب تجاهه من جراء تلك الفعلة الشنعاء .. إيه كانت أياما عصيبة قاسيه ..
ــ أجل يا سيدى .. أمير مكة قال لى شيئا كهذا , حتى أنه تهيب أن يخط رسالة توصية إليه , ولما سألته فى ذلك قال لى مثلما قلت ..
ــ على أية حال يا بنى لن أخذلك , إذهب الآن لشئونك وارجع إلى بعد صلاة العصر , سوف أكون بانتظارك هنا إن شاء الله , لكى نذهب سويا إلى دار الشيخ ..

راح الشافعى يقطع الساعات الطويلة فى جولة تعرف خلالها على معالم مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وآثارها الطيبه .. بدأ بزيارة البقيع الذى يضم ثراه الطيب رفات آل البيت والصحابة والتابعين الأبرار , ومن بينهم رفات أجداده القرشيين العظام , قرأ الفاتحة على أرواحهم ودعا لهم , ثم يمم وجهه شطر المسجد النبوى , لبث ساعات فى العبادة والصلاة وقراءة القرآن فى الروضة الشريفه .. إبتهل إلى الله فى تلك البقعة المباركة من الأرض أن يوفق فى لقاء مالك وأن يكتب له القبول عنده .. بعد ذلك اتخذ طريقه إلى دكان عمه يعقوب فى سوق الثياب بالقرب من الحرم , ظل فى حديث مع عمه وابن عمه يوسف إلى أن رفع المؤذن النداء لصلاة العصر , وبعد أن ختم صلاته توجه إلى دار الأمير الذى كان ينتظره , إنطلقا وحدهما بعد أن أشار الأمير إلى حراسه ان يلزموا أماكنهم وألا يتبعه أحد ..................
*
يتبع إن شاء الله ............

@ على مهل وفى خطوات متأنية أخذا يشقان طرقات المدينة وأزقتها الضيقة يلفهما صمت عميق , إلى أن توقفا أمام إحدى الدور القديمه .. كانت رغم قدمها دارا رحبة أمام بابها فناء واسع تتناثر على جانبيه أشجار الصفصاف العتيقة العاليه وهى تظلل بأغصانها الوارفة فناء الدار.. وفى الركن الأيمن كانت ثلاث نخلات متوسطات الطول تخرج من أصل واحد فى منظر بديع فريد , لم تقع عينى الفتى على مثله من قبل .. مال الأمير على الفتى هامسا ......
ــ وصلنا أخيرا .. هذه دار إمامنا وشيخنا مالك ..
ــ ما أجملها من دار وما أطيب ريحها ..
ــ هل تعلم لمن كانت قبل أن تؤول لشيخنا ؟. كانت للصحابى الجليل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ..
قرع الباب برفق والفتى من خلفه ينتظر مترقبا أن يفتح الباب ويطل الشيخ منه عليهما .. إبتسم متفائلا وهو يقرأ عبارة منقوشة على باب الدار "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" وكأنها إشارة إلى باب الجنه ..
لم يطل انتظارهما , خرجت إليهما فى الحال الجارية السوداء التى تقوم على خدمة سيدهامنذ عشرات السنين لم تفارقه يوما .. نظرت إليهما صامتة نظرة تساؤل , بادرها الأمير وكانت تعرفه .......
ــ أخبرى مولاك أنى بالباب ..
إستدارت دون أن تجيبهما أو تسمح لهما بتخطى عتبة الدار , عادت بعد لحظات انتظار مرت كأنها دهر ......
ــ يقول الشيخ إن كانت لك مسألة أو فتوى فارفعها فى رقعة وسيأتيك جوابها , وإن كان شأنا آخر فيوم المجلس معلوم , فانصرف يرحمك الله ..
ــ أيتها الجاريه , إنى أريده لشأن آخر ..
ــ ماذا تعنى ؟..
ــ قولى له إن معى كتابا من امير مكة فى أمر مهم ..
إنطلقت منه زفرة حرى مع آخر كلمة قالها وهو ينظر للشافعى نظرة يقول له من خلالها بعين الحال ..... أرأيت يا فتى ؟. ألم أقل لك ؟..
عادت الجارية بعد برهة وفى يدها كرسى لسيدها الذى خرج أخيرا كأنه ملك متوج تعلوه المهابة والوقار .. كان رجلا طوالا جسيما أشقر , أزرق العينين , يرتدى عباءة خضراء من فوق ثياب تبدو بيضاء ناصعة البياض , وعلى رأسه عمامة ينسدل طرفيها على كتفيه , وله لحية كثيفة وشارب مفتول لا يحفه .. ناوله الأمير وهو لا يزال لدى الباب , الرسالة بعد أن حياه وسلم عليه , ثم ظل مكانه واقفا ريثما يفرغ الشيخ منها ..
أخذ يردد النظر إليهما فى دهشة وهو يقرأ الرساله , يقرأ بضع كلمات ثم ينظر للأمير تارة وللفتى أخرى , وعلامات الغضب والحنق ترتسم على وجهه شيئا فشيئا , حتى بلغ منه الضيق مداه , فانطلق صائحا فى وجه الأمير محتدا ..........
ــ ما هذا .. ماذا تعنى كلمات تلك الرساله .. كيف طوعت لأمير مكة نفسه أن يخط كلاما كهذا ؟.. سبحان الله .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. منذ متى وعلم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يطلب بالوسائل والوسائط ..
*
إستمر الشيخ فى إطلاق سهامه الغاضبة والأمير منكمش مكانه مطرقا فى حياء لاينبس ببنت شفه .. أدرك الشافعى أن المقابلة ستنتهى إلى طريق مسدود , وأنه عائد من هذا اللقاء صفر اليدين لا محاله , ماذا يفعل والأمير واقف إلى جواره ساكنا لا يقدر على النطق بكلمة واحده .. قرر فى لحظة فاصلة أن يفعل شيئا , إستخار الله تعالى , وتمتم فى سره كلمات ثم تنحنح قائلا ........
ــ أكرمك الله وعافاك سيدى الشيخ ..
ــ نعم أيها الفتى المكى ..
ــ إنى فتى مطلبى من بنى المطلب جد شافع بن السائب , حفظت القرآن مبكرا وأنا فى الرابعه على يد شيخ مكة وقارئها الأكبر إسماعيل بن قسطنطين , ثم خرجت إلى الباديه , مكثت مع أهلها بضعة أعوام , ثم بعد ذلك تلمذت على يد محدث مكه سفيان بن عيينه , ومفتيها مسلم بن خالد الزنجى , وختمت رحلتى بكتابكم الموطأ , قرأته بل وحفظته عن ظهر قلب قبل أن آتى إلى هنا , واليوم يا سيدى أنا هنا جئتك من مكة لأتعلم وأتفقه من علومكم وأتعرف على فقه أهل المدينة منكم .. ليتك تأذن لى ..
كان الشيخ شديد الذكاء ذو فراسه , لم يضع عينيه من على وجه الفتى , ظل يحدجه أثناء حديثه بنظرات فاحصة ثاقبة متأنيه , إلى أن انتهى من بيانه سأله وقد سكت عنه الغضب وسكنت نفسه ......
ــ ما اسمك أيها الفتى القرشى ؟..
ــ محمد بن إدريس الشافعى ..
ــ قلت أنك من ولد شافع بن السائب .. أليس كذلك ؟..
ــ بلى يا سيدى ..
ــ يا محمد إتق الله , واجتنب المعاصى , فسيكون لك يوما شأن ومكانة .. إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا , فلا تطفئه بالمعصيه ..
ــ نعم وكرامة يا سيدى ..
ــ إسمع يا ولدى .. فى الغد تمضى إلى دار حبيب الكاتبى ..
ــ لم يا سيدى ؟..
ــ هو الذى يتولى أمر القراءة لى .. أبلغه أن يأتى كى يقرأ علينا الموطأ ..
ــ عفوا سيدى الشيخ , إن شئت تسمع عنى صفحا منه , فإن استحسنت منى أكملت وإلا تركت .. إنى أقرأه من الحفظ ..
ــ على بركة الله .. فى الغد تأتينى فى نفس الموعد ..

يتبع إن شاء الله ............

@ جلس بمفرده ينتظر الشيخ فى قاعة رحبة واسع , خصها للقراءة والدرس .. أخذ يجول ببصره يتأمل أرجاء المكان , وقد أخذته الدهشة من روعته وفخامته وحسن تنسيقه , أول مرة تقع عيناه على مكان كهذا .. شاهد أعواد البخور الهندى والغلام يضعها فى مجمرة من النحاس ,وخيوط دخانها الأبيض تلتف حول نفسها وهى ترتفع لأعلى , ناشرة عرفها , تملأ المكان سحرا وغموضا وروعه .. لاحظ الوسائد المريحة والنمارق المتناثرة يمنة ويسه , فى كافة زوايا المجلس , وقد أعدت لراحلة تلاميذ الشيخ ورواده وهم جلوس بين يديه ..
وبينما هو على تلك الحال من الدهشة سابحا بعينيه فى جنبات القاعة الفسيحة مأخوذا من روعتها وبهائها , إذ خرج عليه الشيخ كهيئة الملوك , مرتديا ثوبه الأبيض النقى ومن فوقه طيلسان أخضر , وعلى رأسه قلنسوة متركة , ورائحة الطيب تسبقه وقد بان عليه أنه اغتسل وتطيب ومشط لحيته , هكذا دأبه وحاله كلما يكون فى لقاء مع أحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
لم ينتبه الشافعى لوجوده وهو واقف مكانه يرقبه وهو مأخوذ من روعة المكان مستغرق فى دهشته , ألقى عليه التحية واتخذ مجلسه قائلا ....
ــ أعجبتك القاعه ؟..
ــ لم أر يا سيدى فى مثل أبهة وروعة هذا المكان , وحسن تنسيقه وطيب ريحه ..
ــ إعلم يا ولدى أن الله ما أنعم على أحد إلا أحب أن يرى أثر نعمته عليه , وبالخصوص أهل العلم , ينبغى لهم أن يظهروا مرؤاتهم فى ثيابهم , إجلالا للعلم ومنزلته الكبرى .. لقد بلغنى يا بنى أن العلماء يسألون يوم القيامة عما يسأل عنه الأتبياء .. التواضع يا بنى فى التقى لا فى الثياب , وعلى هذا كان السلف الصالح .....
صمت برهة أردف بعدها ......
ــ لكم عانيت فى سنوات عمرى الأولى من ضيق الحال وشظف العيش .. حتى أنى بعت سقف دارى لأتعلم .. مرات كنت لا أجد ثمن الطعام , فأبيع من متاع دارى لأطعم أبنائى ..
كان الشافعى يستمع لحديث شيخه وعلامات الدهشة على وجهه .. نظر الشيخ إليه قائلا .....
ــ لا تعجب يا فتى من قولى .. سأحكى لك واقعة حدثت معى أيام الخليفة المنصور , منذ أعوام طويله .. جاءنى ذات يوم أبو جعفر المنصور أمير البلاد وقتئذ , وجلسنا نتحدث ونتحاور ساعات .. وفى نهاية حديثنا قلت له أذكره وأوصيه .....................
ــ يا أمير المؤمنين تفقد أحوال الرعية , ولتكن لك أسوة فى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ..
ــ أتظن يا شيخ المدينة أنى لا أفعل . ألست إذا بكت طفلتك من الجوع , أمرت أهلك أن يحركوا حجر الرحى لئلا يسمع الجيران بكاءها ؟.
ــ والله لا يعلم بهذا الأمر أحد إلا الله عز وجل .. كيف علمت به يا أمير المؤمنين ؟.
ــ قد علمته يا أبا يحى .. قد علمته .. أفمن يعلم هذا , لا يعلم أحوال رعيته .................
لم يشأ أن يقاطع الشيخ فى حديثه وهو ينصت متعجبا .. ثم بدأ يعتدل فى جلسته إستعدادا لقراءة أول صفحات الموطأ , بعد أن أذن له الشيخ مشيرا بيده .. وفى صوت رخيم خفيض بدأ يقرأ .......
ـــ بسم الله الرحمن الرحيم .. حدثنى العلاء بن عبد الرحمن , أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهره يقول , سمعت أبا هريره يقول , سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهى خداج غير تمام " .. قال قلت يا أبا هريره إنى أحيانا أكون وراء الإمام , قال فغمز ذراعى وقال : يا فارسى إقرأ بها فى نفسك , إنى سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول "قال الله عز وجل .. قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فنصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل " ...........
إستمر الشافعى فى قراءته , بينما نظرات الشيخ تتابعه وهو يهز رأسه إعجابا بلسانه الفصيح ونطقه الصحيح وصوته الرخيم الخفيض .. كان الإمام يكره الصوت العالى فى القراءه وكذلك الشافعى .. حانت منه التفاتة إلى أصابعه وهو يقلب الصفحات بعد أن ينتهى من قراءة ما فيها .. لاحظ حرصه على أن يتصفحها صفحا رقيقا بين أصابعه , حتى لا يؤذيه أو يجرح خاطره سماع حفيفها .. إبتسم الشيخ ونادرا ما يفعل , وهز رأسه إعجابا وسرورا من فطنة الفتى وأدبه ..
رفع رأسه من فوق الكتاب ناظرا إلى الشيخ ليرى إن كان قد مل السماع او أصابه التعب من طول زمن القراءة , إلا أنه أشار إليه قائلا ......
ــ زدنا يا فتى قريش , ما أجمل قراءتك وما أعذب وقعها على الآذان .. أكمل فلا يزال أمامنا فسحة من الوقت ..
قال ذلك ثم نادى على غلامه ليحضر الطعام .. ما لبث غير بعيد حتى أقبل حاملا فى يمناه طبقا عليه صفحتان , فى إحداهما لبن وفى الأخرى تمر , وفى يده اليسرى إبريق ماء .. قال له الشيخ آمرا .....
ــ هيا اغسل علينا يا غلام .. ولا تنسى ما أمرتك به من قبل , فى أول الطعام لرب البيت , وفى آخره للضيف ..
لمح فى عينى الشافعى نظرة استفسار فقال له .....
ــ رب البيت يدعو الناس إلى طعامه , فحكمه أن يبتدئ بالغسل , وأن يتأخر فى آخر الطعام ترقبا لمن يدخل , ليأكل معه ........

يتبع إن شاء الله ............

@ مكث الشافعى أياما , مواظبا على مواعيده التى خصه بها الشيخ , خلافا للأوقات التى يلتقى فيها تلاميذه ومريدوه وطلاب علمه , كان يقرأ كل يوم صفحات من الموطأ والشيخ يسمع له , شارحا بعض الأحكام مبينا له مقاصد الشرع فيها .. ويوما بعد يوم كان يزداد إعجاب الشيخ به , طالبا منه أن يقرأ المزيد , وهو يقلب صفحات الكتاب الضخم واحدة بعد الأخرى .. وذات مرة بينما الشافعى مسترسلا فى قراءة أحد الأحاديث , إستوقفه الشيخ قبل أن ينتقل إلى الحديث الذى يليه .......
ــ مهلا أبا محمد , إنتظر ..
ــ نعم يا سيدى ..
ــ أعد قراءة هذا الحديث مرة أخرى ..
ــ لم يا سيدى .. هل أخطأت فى شئ ؟..
ــ لا .. لا .. لكنى أود أن تسمعنيه مرة ثانيه ..
ــ سمعا وطاعه ..
فوجئ الشيخ به يطوى الكتاب ويعيد نص الحديث من ذاكرته كما قرأه .......
ــ حدثنا عبد الله بن أبى بكر عن عمرو بن سليم قال , أخبرنى أبو حميد الساعدى قال , قالوا يا رسول الله كيف نصلى عليك ؟.. قال "قولوا اللهم صلى على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم , وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم , إنك حميد مجيد" ..

ما كاد يفرغ من تلاوة الحديث حتى بادره الشيخ متعجبا .....
ــ أخبرنى يا ولدى , كيف اتفق لك أن تقرأ الحديث بنصه من الحفظ ؟.
أطرق حياء وهو يجيبه ............
ــ من نعم الله على يا سيدى , أنى أسمع الشئ أو أقرأه مرة واحده , فأحفظه فى الحال , ولا أنساه بعد ذلك ..
ــ منذ متى ؟..
ــ منذ صباى وأنا فى كتاب الشيخ إسماعيل .. كنت أستمع إليه وهو يلقن أحدهم الآية فأحفظها , وأنصت إلى ما يمليه عليهم , فأعيد كل ما سمعته نصا بعد أن يفرغ الشيخ ..
هز رأسه سرورا متمتما فى نفسه .... ما أعجب ما أراه منك أيها الفتى القرشى .. لقد صدق ظنى فيك مذ وقعت عينى عليك أول مره .......
*
يتبع إن شاء الله ............

@ إلى أن كان يوم , ومع آخر صفحات السفر الضخم .......
ــ عن الوليد بن عبد الله أن المطلب المخزومى أخبره أن رجلا سأل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ما الغيبه ؟. فقال "صلى الله عليه وسلم" "أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع" قال يا رسول الله , وإن كان حقا ؟. فقال "صلى الله عليه وسلم" "إذا قلت باطلا فذلك البهتان" …
طوى الكتاب ثم نظر للشيخ …..
ــ إيه يا ولدى .. كتاب جمعته فى أربعين سنه .. قرأته على فى بضع أيام ..
ــ أربعين سنه ؟.
ــ أجل يا ولدى .. أربعين سنه وأنا عاكف عليه .. تريد ان تقول شيئا .. لديك سؤال ألمحه فى عينيك ..
أجاب متلعثما …..
ــ أجل .. غير أنى ……..
ــ آه .. فهمت .. تود معرفة حكاية الموطأ معى , متى بدأت فيه , وكيف جمعت أحاديثه .. أليس كذلك ؟..
تعجب من شدة فراسة الشيخ وحدة بصيرته , كأنه كتاب مفتوح أمامه …
ــ بلى .. هذا ما أردت معرفته ..
ــ قبل أن أجيبك أود أن تجيبنى أنت .. كم حديثا قرأت فيه ؟..
ــ نيفا وألف حديث ..
ــ الذى لا تعلمه أنى كتبت بيمنى تلك , ومن هذه المحبره أكثر من مائة ألف حديث .. وأننى أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .. وأدركت أقواما لو استسقى بهم الناس لسقوا ببركتهم وقد سمعوا من العلم والحديث شيئا كثيرا .. ومع كل هذا , لم آخذ عن واحد منهم كلمة واحده ..
ــ عفوا يا سيدى .. كيف تدع أقوالهم وتترك رواياتهم وما يحدثون به , ولماذا قلت أنهم ليسوا من أهل هذا الشأن , وهم على ما هم عليه من التقى والورع ؟..
ــ ما أخبرتك بهذا إلا لكى أعطيك قاعدة تضعها دوما أمام عينيك , وإياك أن تنساها .. إحفظها فى خزانة ذاكرتك .. لا تأخذ العلم من أربعه .. أتسمعنى ؟.
ــ أجل .. زدنى بيانا ..
ــ لا تأخذه من سفيه ولا من صاحب هوى يدعو إلى بدعه , ولا من كذاب يكذب فى أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , وأخيرا وهو الأهم .. لا تأخذه من شيخ له فضل وصلاح وعبادة , إن كان لا يعرف ما يحمل ولا ما يحدث به .. أفهمت ؟..
ــ أجل أجل .. فهمت قصدك يا سيدى الشيخ ..
ــ نعود لحكاية الموطأ .. أخذت أنتقى من هذه الأحاديث , أنقص منها وأراجع مرة بعد أخرى , ولا أعتمد إلا المجمع عليه , والذى يتوافق مع عمل أهل المدينه , حتى وصلت إلى عشرة آلاف حديث من مائة ألف .. ومرت أيام بعدها أتانى أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور ..
ــ متى كان ذلك ؟..
ــ منذ حوالى ثلاثين سنه .. فى موسم الحج .. يومها زارنى فى دارى القديم .. كانت دارا متواضعة الحال .. ليست ميسورة رحبة كهذه الدار ..
المهم , أخذ يحدثنى فيمن مضى من السلف والعلماء .. فوجدته أعلم الناس بالناس .. ثم تكلمنا فى الفقه كذلك , فوجدته أعلم الناس كذلك بما اجتمعوا عليه وأعرفهم بما اختلفوا فيه .. حافظا لما روى , واعيا لما سمع .. وفى زيارة ثانية له , عرضت عليه الموطأ , وبعد أن قرأ ما دونته فيه قراءة متأنية قال لى .............
ــ يا أبا يحى .. ليتك تعيد كتابته , واجتنب شواذ ابن مسعود , وشدائد ابن عمر , ورخص ابن عباس , واقصد أوسط الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمه .......
ــ وماذا وجدت فى كلامه ؟..
ــ علمت أنه قد أصدقنى النصيحه .. فعكفت عليه مرة أخرى بضع سنين .. وظللت أنتقى منه .. ثم بوبته أبوابا حتى صار كما تراه ..
ــ وهل عاود أمير المؤمنين قراءته ؟..
ــ أجل .. فى العام الثامن والأربعين بعد المائه , أتفق أن جاء للحج أيضا , بعد أن اطلع على الموطأ فى صورته الأخيره , قام بزيارتى وقتها ليعتذر عما فعله معى أمير المدينه أيامها .. لقد ضربت حتى انخلع كتفى , حتى أنى لم أعد أستطيع تحريك يدى اليسرى ولا زلت .. لا زلت أذكر ما دار من حديث بينى وبين الخليفة المنصور .. قال لى معتقدا أنه يرضينى ويرد الإعتبار لى .............
ــ قرأت كتابك قراءة متأنية .. وعزمت على أمر , ليتك توافقتنى عليه ..
ــ أصلح الله الخليفه .. ما هو ؟..
ــ عزمت إن شاء الله تعالى على أن آمر بكتابك , فينسخه الكتبة نسخا كثيرة , أبعث بها إلى أمصار المسلمين , نسخة لكل مصر , فما قولك يا إمام ؟..
ــ أجبنى أولا عن سبب ذلك , لم تريد أن ترسل به إلى الأمصار ؟..
ــ قصدت من وراء ذلك أن آمرهم بالعمل بما فيه .. وألا يتعدونه إلى غيره .. وأن يتركوا ما سواه من العلم المحدث ..
أطرق برهة مستغرقا فى تفكير عميق ثم قال ........
ــ لا تفعل يا أمير المؤمنين .. لا تفعل ..
ــ ما الذى يمنعنى ؟..
ــ الناس قد سبقت إليهم أقاويل .. وسمعوا احاديث .. وسردوا روايات .. وأخذوا بما سبق إليهم .. فعملوا به ودانوا له ..
ــ وماذا عليهم أن يعملوا بما فى كتابك من أحكام .. إن فيه العلم الصحيح الناسخ لكل ما لديهم ؟..
ــ يا أمير المؤمنين .. إن ردهم عما اعتقدوه لشديد .. وأشد منه أن تفرض عليهم رأيا يخالف ما عندهم .. دع الناس وما هم عليه .. وما اختاره أهل كل بلد منهم لأنفسهم .. إن ذلك أصلح لهم ..
ــ إذن أجلسك فى البيت الحرام بمكه .. وأحمل الناس على علمك .. وأعهد إلى الأمصار يوفدون إليك وفدهم .. ويرسلون إليك رسلهم فى أيام الحج .. تعلمهم علم أهل المدينه .. وتحملهم على الصواب فى أمور دينهم ..
ــ يا أمير المؤمنين .. لا تنس أن لكل قوم سلفا وأئمه .. فإن رأيت إقرارهم على حالتهم , فدعهم وشأنهم .. إن هذا هو الأصوب لهم ..
ــ ليتك توافقنى يا إمام ؟..
ــ إعفنى يعف الله عنا وعنك .. ويغفر لنا ولك ..
ــ لعمرى لو طاوعتنى على ذلك .. لأمرت به من اليوم ..
*
يتبع إن شاء الله ............*
@ تعلق سمعه بالشيخ وهو يواصل سرد حكاية الموطأ قائلا ......
ــ إيه .. يرحم الله الخليفة المنصور ويغفر له ما سلف من أمره ..
ــ معذرة شيخى .. يتلجلج فى صدرى سؤال غير أنى أجد حرجا منه .. فهل تأذن لى ؟.
ــ سل ما بدا لك يا ولدى .. ولا حرج إن شاء الله
ــ قلت يا سيدى أنك رفضت طلب المنصور إلزام أهل الأمصار بالعمل بما جاء من أحكام فى الموطأ وألا يتعدونه إلى سواه ؟..
ــ أجل أجل .. هذا ما قلته ..
ــ كيف يتفق هذا وأنت تقدم عمل أهل المدينة .. بل تقول إن الناس تبع لهم باعتبار دارهم دار الهجره وبها نزل القرآن ..
ــ وأزيدك أكثر من ذلك أنى جعلت بعض عمل أهل المدينة مقدم على الحديث الصحيح .. وبعضه مقدم على خبر الآحاد .. وبعضه مقدم على الرأى .. ومع ذلك لم أقل أبدا أن عملهم حجة لازمة لجميع الأمه .. وإنما هو منى على الإختيار لما رأيت العمل عليه .. ولم أدع قط أنه لا يجوز العمل بغيره .. بل هو مجرد إخبار منى بعمل أهل بلدى .. ولم يجمع أهلها إلا على نيف وأربعين مسئله ..
ــ أطمع أن تعلمنيها ..
ــ فى عجالة أقول لك أنى قسمت تلك المسائل إلى ثلاثة أقسام .. كل قسم منها له حكمه .. فيما بعد سوف أفصلها لك .. أفهمت يا ولدى ..
ــ بارك الله فيك يا شيخى .. نعود إلى حكاياة الموطأ ..
ــ أين توقفنا ؟.
ــ عند آخر لقاء لك مع الخليفة أبى جعفر المنصور ..
ــ تذكرت .. مرت سنوات ورحل المنصور إلى جوار ربه .. وتولى الأمر من بعده ولده محمد المهدى .. جاءنى هو الآخر فى هذه الدار وفى نفس هذا المكان .. كان ذلك فى موسم الحج منذ عشرة أعوام .. قال لى ....................................
ــ أبا عبد الله .. إن القضاة فى سائر الأمصار يرفعون إلى أقضياتهم فأجد فيها اختلافا كثيرا وتباينا فى الأحكام .. ورأيت أن تعرض عليك بحججها , لتمضى فى كل قضية منها برأى أو بحكم قاطع , يمنع بعده العمل بخلافه ..
ــ أطال الله عمر أمير المؤمنين .. أما هذا الصقع من بلاد المغرب (وأشار بيده ) قد كفيتك إياه , فإن أهله يمضون أحكامى .. وأهل الشام فيهم الرجل الذى تعرفه
ــ الأوزاعى .. أجل أعرفه جيدا ..
ــ أما عن أهل العراق , فإنهم أهل ناحية , قالوا قولا تعدوا فيه طورهم , فاتركهم على حالهم ..
ــ لم أقصد من وراء ذلك يا أبا عبد الله إلا أجعل حتى آخر الدهر حكما واحدا صوابا فى كل قضيه , بدلا من تلك الأحكام الكثيرة المتناقضة التى اختلط الصواب فيها بالخطأ .. ليتك توافقنى وأنا آمر به من الغد .........
واستمر الشيخ يحكى ................
ــ وانتقل المهدى إلى جوار ربه العام قبل الماضى .. وتولى من بعده ولده موسى الهادى , غير أنى لم أره مذ كان يأتينى مع أخيه هارون وهما صبيان صغيران , يجلسان فى حلقة العلم .. يرحمه الله لم تدم خلافته أكثر من عام وبعض عام , إلى أن تولى أمر المسلمين من بعده منذ بضعة أشهر هارون الرشيد ..
ــ أظنه كان يحج بالناس هذا العام ؟.
ــ أجل , وزارنى هنا بعد أن أتم مناسك الحج وقبل أن تأتينى أنت هنا بأيام .. ليتك كنت حاضرا هذا اللقاء .. سأحكى لك جانبا مما دار بيننا من حديث .. كان الرشيد ودودا متلطفا معى وهو يقول ..................
ــ يا إمام دار الهجرة وشيخها , حاجبنا الربيع بن يونس حكى لى أخبار المحنة التى عرضت لك أيام جدى المنصور , ومن قبل أخبرنى أبى أن ما فعله معك بكار الزبيرى أمير المدينة وقتئذ , وما ألحقه بك من إهانة وتعذيب وأذى كان بغير علم الخليفه , إعتقد هذا الأبله بحماقته أنه يرضى بذلك الخليفة ويزيده بتلك الفعلة الشنعاء قربا منه ..
ــ لتعلم يا أمير المؤمنين أنى أخرجت من ذاكرتى كل هذه الأحداث وإن كانت آثارها لا تزال باقية على جسدى .. أما جدكم الخليفة المنصور فإنى قد نزهته عن الأمر بذلك أو الرضا به ..
ــ الحمد لله .. أرحت قلبى يا إمام ..
ــ ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان .. ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين آمنوا .. ربنا إنك رؤوف رحيم ..
ــ صدق الله العظيم .. إسمع يا إمام .. أود منك الرأى والمشورة فى أربعة أمور ..
ــ تفضل يا أمير المؤمنين ..
ــ الأولى أن تأذن لى فى تعليق الموطأ بالكعبه .. والثانيه أن أحمل الناس على العمل بما فيه من أحكام ..
ــ أما عن هاتين المسئلتين تعليق الموطأ بالكعبه وحمل الناس على أحكامه .. فإن هذا كله لا يجوز فعله , لأن أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وإن لم يختلقوا فى الأصول , إلا أنهم اختلفوا فى الفروع وتفرقوا فى البلدان , وكل واحد منهم مصيب عند نفسه ..
ــ لندع هاتين المسألتين جانبا .. ما تقول فى إعادة بناء منبر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وجعله من الذهب الخالص والفضه ؟.
ــ دعه على حاله يا أمير المؤنين .. إنه أثر من آثار رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , أرى ألا تحرم الناس منه ..
ــ لم تبق إلا المسئلة الرابعه , ليتك توافقنى عليها يا أبا يحى .. ما قولك أن يقوم نافع بن نعيم إماما يصلى بالناس فى مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ؟.
ــ أصلح الله الخليفه .. إن نافع إمام فى القراءه , ولا يؤمن أن تبدر منه فى المحراب بادرة فتحفظ عليه .. إتركه فى مقامه وعلى مكانته ..
ــ أنت وما تشاء يا إمام .. هل من وصية قبل أن أغادر إلى بغداد ؟.
ــ بلغنى يا أمير المؤمنين أن الخليفة عمر بن الخطاب كان على فضله وتقدمه , ينفخ للناس عام الرمادة تحت القدور حتى يخرج الدخان من بين لحيته .. والله تعالى رضى منكم بأقل من ذلك .. فاتق الله فى رعيتك ............
إمتد حديث الإمام مع الشافعى حتى دخل الليل وفى نهايته قال له ..........
ــ تلك هى قصة الموطأ مع الخلفاء الثلاثه المنصور والمهدى والرشيد .. ليتنى أكون بهذا قد أجبت سؤالك ؟.
وقبل أن يهم بالنهوض من مجلسه ليستريح إلتفت إليه قائلا ......
ــ نصيحتى لك يا ولدى ألا تسكن الريف فيضيع علمك , واكتسب الدراهم من عملك ولا تكن عالة على أحد , واتخذ لك ذا جاه ظهرا لئلا تستخف بك العامه , ولا تدخل على ذى السلطنة إلا وعنده من يعرفك , وإذا جلست عند كبير فليكن بينك وبينه فسحة , لئلا يأتى إليه من هو أقرب منك فيدنيه ويبعدك , فيحصل فى نفسك شئ .. داوم يا ولدى على حضور حلق العلم والدرس بالمدينه فما أكثرها , وزاحم بمنكبيك ولا تدخر فى هذا أى جهد .. أخيرا أذكرك ألا تبرح المدينة عائدا إلى مكه حتى آذن لك أو يدركنى الموت .. أنت ولدى الذى رزقت به فى أخريات أيامى ..

يتبع إن شاء الله ............

@ بعد أن بات ليلته فى ضيافة شيخه , رجع فى الصباح المبكر إلى دار عمه يعقوب وهو يسحب وراءه ثلاثة أفراس خرسانيه أهداها له مالك .. قص على أهل الدار ما كان من أمره مع الشيخ إلى أن ختم الموطأ , وفى ختام كلامه قال والكل يرهف السمع له فى شوق وفضول ..............
ــ يا عم إنه إمام حجه , ما أعلم إلى الآن شيئا أصح بعد كتاب الله من موطأ مالك ..
ردت أم حبيبه ونبرة عتاب فى صوتها ........
ــ شغلتنا عليك كثيرا بالأمس يا ولدى .. وازدادت مخاوفنا لما أقبل الليل ولم تأت من درس الشيخ كعادتك .. لم تأخرت هكذا ؟.
إبتسم وهو يقول فى حياء ............
ــ لقد امتد الحديث بنا ولم نشعر إلا والليل يزحف علينا , ولما حاولت القيام مستأذنا فى الرجوع إلى الدار , منعنى الشيخ وأصر على أن أبيت معه وألا أخرج فى هذا الوقت المتأخر , وفى الثلث الأخير من الليل وقبل انفجار نور الصباح قرع على الباب قائلا ........
ــ الصلاة يرحمك الله ..
ثم دخل على مرة ثانية وهو يحمل بنفسه إناء الماء لأتوضأ منه ..
قاطعه ابن عمه يوسف وقد بدا كأنه غير مصدق ........
ــ الإمام يحمل لك بنفسه إناء الماء .. عجيب والله ..
ــ هذا ما حدث والله يا ابن العم , لقد راعنى ذلك أيضا وأثار دهشتى مثلك , ولما رأى الشيخ ذلك منى قال ...........
ــ يا ولدى لا يرعك ما ترى , فخدمة الضيف فرض ..
واستمر الشافعى ......
ــ المهم تجهزت للصلاه وصليت الفجر معه فى مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وجلس كل منا فى مصلاه إلى أن طلعت الشمس على رؤوس الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال , ثم رجعنا إلى الدار ثانية ..
سأله عمه .......
ــ وبعد أن ختمت الموطأ , ماذا أنت فاعل يا ابن إدريس ؟.
ــ من الغد إن شاء الله سأتحرى دروس العلم فى المدينه وأداوم عليها .. علمت أن هناك حلقة إبراهيم بن سعد الأنصارى وحلقة عبد العزيز بن محمد الدراوردى وعبد الله بن نافع الصائغ وغيرهم .. ليتنى أتمكن من جمع ما فى حوزتهم من علوم كما فعلت مع شيوخ مكه ..
ــ وما تلك الأفراس الخرسانيه .. لمن تكون ؟. والله ما رأيت كراعا مثلها , لو قدمت المصابيح إلى جلودهن لأوقدت ..
إبتسم الشافعى قائلا ...........
ــ إنها لى يا عماه ..
شهق الجميع وهم يقولون فى نفس واحد.......
ــ ماذا تقول ؟. لك ؟.
رد ضاحكا .........
ــ طبعا لم أشتريها .. إنها هدية الشيخ يا عماه ..
ــ هدية من الشيخ . كل هذه الأفراس ؟.
ــ والله يا عم ما إن رأيتها واقفة لدى الباب وأنا خارج من داره , لم أزد على أن قلت ....................
ــ الله .. ما أحسن تلك الأفراس .. وما أجملها ..
ــ إنها هديتى لك يا أبا عبد الله ..
ــ يا سيدى .. ما يكون لى ذلك .. إنه لكثير ..
ــ قلت هى كلها لك ..
ــ إذن دع لنفسك واحده ..
ــ لم ؟.
ــ كى تركبها .. أتكون لديك كل هذه الكراع من مهارى خراسان , وتسير على قدميك ؟.
ــ يا شافعى إنى لأستحيي من الله تعالى ومن رسوله "صلى الله عليه وسلم" أن أطأ أرضا فيها رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بحافر دابه ..

يتبع إن شاء الله ............
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 03/08/2012 الساعة 14h48
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 21/02/2009, 17h54
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

@ بدا سعيدا وإلى جواره امرأته حميده وهما ينطلقان براحلتيهما جنوبا إلى أرض اليمن , فى الوقت الذى كان فكره منطلق فى رحلة موازية عبر التاريخ لتلك البلاد اصطلح القدماء على تسميتها البلاد العربية السعيده , عرفت تقدما حضاريا كبيرا قبل ألفى عام من ميلاد المسيح عليه السلام , يضعها فى مصاف الحضارات الأولى الضاربة جذورها فى أعماق التاريخ , ساعد على ذلك مناخها المعتدل وكثرة أمطارها وخصوبة وديانها وسهولها , مما دفع الى زيادة الهجرات إليها من الشمال والغرب وازدهار الزراعات في أراضيها .. واليمنيون القدامى كانوا يزرعون السفوح بعد تحويلها إلى مدرجات ويحفرون الآبار والصهاريجفى الصخر ويقيمون السدود على مجارى سيول الأمطار , وحتى اليوم لا تزال بقايا المئات من هذه السدود قائمة أشهرها سد مأرب العظيم .. إلى جانب ذلك كانت تلك البلاد سوقا تجارية كبيره وفيها صناعات كثيره ومنا ما اشتهرت به مثل السيوف اليمانيه والرماح الخطيه وصياغة الحلى مع الأحجار الكريمه والنسيج واستخراج الذهب وغيره من المعادن ..
تتابعت على مخيلته صورة هذه البلاد بما تحويه من معابد قديمه وقصور أثري ذات طوابق وقلاع وحصون وأسوار أقيمت حول المدن , كم سمع كثيرا من جده عبيد الله الأزدى وهو يحكى له تاريخ بلاد آبائه وأجداده الأزد وموطنهم الأول قبل أن يتفرقوا فى البلاد , عرف منه أن اليمنيين رغم عروبتهم إلا أن عاداتهم تختلف كثيرا عن تلك التى تربى الشافعى ونشأ عليها فى مكة والمدينه , ذلك لاختلاف المناخ والبيئة فضلا عن قرب اليمن من أرض الحبشه , لم ينس أبدا وهو فى سياحته الفكريه أحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" عن اليمن ومدحه لأهلها .... لم ينس أنه "صلى الله عليه وسلم" وصفهم بأنهم أرق أفئدة وأضعف قلوبا وأن الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانيه ..
أخيرا إنتبه بعد عودته من رحلة التاريخ التى مرت على خاطره مر السحاب فى لحظات قليلة خاطفه , وهو يتحسس فى جيبه الكتاب الذى أعطاه له صاحبه المصرى من أمير المدينه لنظيره فى اليمن , ها هى الفرصة قد جاءت إليه لللعمل بالقضاء بعد أن جمع ووعى علوما جمه من شيوخ الحرمين تؤهله لتولى مقاليد هذا العمل الجليل , صارت لديه مقدرة على استنباط الأحكام والفتاوى والفصل فى المظالم على قاعدة أصيلة من أحكام الكتاب والسنه , فرصة أخرى جاءته فى تلك الرحلة ليمارس هوايته المحببة إليه ويشبع نهمته فى البحث عن منابع العلم وينابيع المعرفه , ويتعرف على علمائهم وفقهائهم وينهل من علوم أخرى برعوا فيها بخلاف علوم الدين والشريعه , من ذلك علوم الطب والفراسة والفلك ........

يتبع.. إن شاء الله ............................






.. يحي الطالبى ..
@ خرج من داره ميمما صوب قصر الخلد لمقابلة الرشيد , وهو يحلق مسرورا فى آفاق من السعادة وسموات النشوى فخورا بما يحمله فى حافظته من أنباء , أخيرا تمكن الفضل بن الربيع من التقاط الخيط الأول الذى يوصله لهدفه ومراده , كم كان يطمح أن يكون أقرب رجل إلى قلب الرشيد ومجلسه وصاحب الوزارة الأولى , لم يمنعه عن ذلك إلا عقبة كؤود حالت بينه وبين طموحاته وتحقيق آماله , البرامكه القادمين إلى بلاده من فارس وعلى رأسهم الأخوين الكبيرين الفضل وجعفر وهما أقرب المقربين منهم إلى قلب الرشيد وعقله , كان يكرههم كراهية التحريم بل أشد , وكان ثمة صراع خفى يدور بين الفريقين , كل واحد يتربص بالآخر منتظرا أن تواتيه الفرصة التى ينقض فيها بلا رحمة على غريمه انقضاض الصقر على فريسته حتى تخلو له الساحة فى بلاط الرشيد ..
وفى لقائه معه فى رحلة الحج قبل ثلاثة أعوام , روى الفضل لصديقه الشافعى قصته مع البرامكه وهو يبثه همومه ينفث عما يضيق به صدره ولا ينطلق لسانه , لم يكن له أن ينطق بمثل هذا الكلام أو يبث شكواه لأى مخلوق فى العراق مهما تكن ثقته فيه أو قرابته منه , ما أهون قطع الرقاب فى تلك البلاد لأدنى شبهة , وما أكثر الرؤوس التى أطاح بها سيف مسرور الفرغانى سياف الرشيد , قال للشافعى صديق الصبا فى ذلك اللقاء .............
ــ أنت لا تعلم يا صاحبى كم بلغت سيطرتهم على زمام الأمور فى البلاد وعلى رأسهم الفضل وجعفر ولدى يحي , أموال الجباية وخيراتها كلها صارت ملك أيديهم يتحكمون فيها وفق أهوائهم ومشيئتهم , الرشيد نفسه لا يستطيع أن يتوصل إلى اليسير منها إلا بإذنهم , وفى مرات كثيره لا يسمحون له حتى بهذا اليسير ..
تملكه العجب وهو يسأل صاحبه ........
ــ لهذه الدرجة وصل نفوذهم ؟. عجيب والله ..
ــ وأكثر من هذا , نفوذهم السياسى طغى على نفوذ الخليفه , مرات كثيره كنت أتصور وأنا فى حضرة الرشيد أنهم هم الحكام الحقيقيون والرشيد مجرد واجهة فحسب , لكنهم على كل حال يبدو أنهم لم يتعلموا من دروس من سبقوهم ولم يعوا أحداث الماضى القريب , غاب عنهم ما فعله أبو العباس السفاح الخليفة الأول مع الوزير الخلال ومن بعده الخليفة المنصور مع وزيره أبى أيوب الموريانى والمهدى مع يعقوب بن داود , حتما سيأتى دورهم ليذوقوا من كاس الصاب والردى .........................................
حث الخطى نحو قصر الخلد ومعه طرف الخيط الذى يحقق به بغيته , تمكن بفضل دأبه وجهود رجاله أن يتحصل على معلومات لها خطرها وأن يعلم أمورا خفيت على غريمه الفضل بن يحى , فى شأن يحى بن عبد الله الطالبى الذى تحدثنا فى شأنه قبل ذلك وكيف أن الرشيد أمر له بقصر يعيش فيه وأهله معززا مكرما بعد أن وعد بالتخلى عن أطماعه فى الحكم , وأمر الفضل بن يحى البرمكى أن يقوم على شئونه وأن يضعه تحت رقابة دقيقة لا يغفل فيها عنه .. إلا أن غريمه الفضل بن الربيع تمكن دس بعض رجاله فى قصر الطالبى من العاملين فيه ليكونوا عيونا له , أملا فى أن يتحصل على أسرار تحقق له ما يريد .. ولدى دخوله على الرشيد قال بعد أن حيا وسلم .............
ــ مولاى أمير المؤمنين , أحمل معى انباء أعتقد أنها تهمكم ..
ــ تكلم يا أبا العباس , هات ما عندك ..
ــ تعلم يا مولاى أنى عينك الساهره التى لا تغفل ولا تنام و .....
قاطعه الرشيد وقد بدا ضجرا مهموما غير مكترث به أو بما سيقوله , كان يحمل من الهموم ما تنوء به الجبال .........
ــ مالك يا ابن الربيع , تكلم ولا داعى لأن تسترسل فى مقدمات أعرفها ..
ــ علمت يقينا من مصادرى معلومات مهمه عن يحي بن عبد الله الطالبى , وتأكدت بنفسى قبل أيام من صحتها ..
إعتدل فى جلسته وقد تبدلت ملامحه وبدا عليه الإهتمام والفضول وهو يسأل بصوت محتبس, .....
ــ إعتدل فى جلسته وقد تبدلت ملامحه وبدا عليه الإهتمام والفضول وهو يسأل بصوت محتبس .....
ــ تقول من ؟. الطالبى , ألم نفرغ منه ومن خصومته لنا بعد أن أعطيناه الأمان وأعلن ولاءه , ونسى حلم الخلافة والحكم ؟.
ــ ليس بعد يا أمير المؤمنين , ليس بعد , لا زال الحلم يراوده ولا زالت أطماعه فى الخلافة قائمه , إنه ابن آبائه وأجداده بنو طالب ..
ــ وماذا يملك من وسيلة أو حيلة لتحقيق ذلك وهو بين أيدينا وتحت عيوننا , إن رجالنا يرقبونه لا يغفلون عنه ساعة واحده , أليس كذلك ؟.
ــ معذرة يا يا مولاى , إضطررت لأن أكلف بعضا من أخلص رجالى يراقبون داره من الداخل والخارج لما علمت بتراخى أولئك الحراس الذين وضعهم البرمكى , وشددت عليهم أن يرقبوا منافذ داره طوال ساعات الليل والنهار لايغفلون عنها طرفة عين , إستمروا فى عملهم وظلوا على تلك الحال منذ كلفتهم إلى أن جاءونى بالنبأ اليقين ..
ــ ماذا تعنى ؟.
ــ علمت أنه لا يكف عن عقد لقاءات فى داره فى جوف الليل مع كثير من أنصاره وشيعته , بعضهم غريب عن البلاد ..
ــ أواثق مما تقول ؟.
ــ كل الثقة يا أمير المؤمنين ..
ــ هل لديك دليل على ما تدعيه ؟.
إرتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة وهو يقول
ــ أجل يا مولاى , وهل كنت أجرؤ على أن آتيك بدونه , بالأمس فقط وقع فى يدى الدليل على صدق ما أقول , لقد دأب منذ بضعة أشهر على استقبال أشخاص ملثمين , علمت بعد متابعتهم وتعقبهم من عيوننا أنهم من البربر الذين يسكنون بلاد المغرب , يقدمون إليه برسائل من أمير بلادهم ..
ــ آه .. من أخيه إدريس بن عبد الله , الذى تمكن من الفرار منذ سنوات وأسس دولة هناك باسمه , لكن لم تقل لى عن الدليل الذى تزعم أنه معك ..
مد يده فى جيبه وأخرج رسالة مطويه
ــ تفضل يا مولاى ..
ــ ما هذا , إنها رساله ..
ــ أجل , بالأمس قام رجالى بترقب قدوم بعض أولئك الغرباء , وأمسكوا بهم قبل أن يدخلوا دار الطالبى , قاموا بتفتيش ملابسهم حتى عثروا أخيرا على هذه الرساله ..
أخذت عيناه تمر على سطورها وعلامات الغضب والحنق ترسم خطوطها شيئا فشيئا على وجهه , مزجت بقدر غير قليل من الألم والحزن , تأكد له صدق ما جاء به وزيره وأن غريمه ضالع فى التآمر عليه , أكثر حزنه وأسفه كان من وزيره الأول الفضل بن يحي البرمكى أكثر منه من خيانة يحي الطالبى ..
طوى الرسالة وأخذ يحدث نفسه والأسى يكسو وجهه ......... كان الأولى أن يأتينى البرمكى بهذ الرساله , وأن يعلمنى بكل ما يحاك من فتن ودسائس فى مهدها , أجل , هو الذى يتولى أمره ويقوم على خدمته ومراقبته , إنه كان أقرب رجالى المخلصين إليه , كيف سمحت له نفسه أن ينسى ما أمرته به وأكدت عليه , كيف حدثت كل هذه المؤامرات والفتن فى غفلة منه , ماذا كان ينتظر ؟......
أخذ الفضل يرمقه بعينه وملامح وجهه تكاد تفضح مشاعر السعادة والغبطة التى غمرت وجدانه , وقد أدرك بدهائه ما يدور فى رأس الرشيد وما يحدث به نفسه .. أخيرا تمكن من وضع بذرة الكراهيه فى قلبه على أحد أقطاب البرامكه وأن يدق أول مسمار فى نعوشهم , لم يبق إلا أن يقتفى أثر القطب الثانى , الفتى المدلل جعفر بن يحي وأن ينقب فى حياته عله يعثر على بغيته .. لقد تمكن من قلب "العباسه" أخت الرشيد وأحب أهله إليه , لم يجد الرشيد حيلة وهو لا يقدر على مفارقة الإثنين , إلا أن يزوجها له زواجا صوريا ليحل له النظر إلى وجهها فى مجلسه , كان شرفا كبيرا أن يظفر مولى من موالى الفرس مهما تكن منزلته أو مكانته , بالزواج من هاشمية من الأشراف ..
مرت لحظات ثقيلة من الصمت والترقب كان كل واحد منهما يحدث فيها نفسه بما تختلج به من هواجس وظنون , بعدها نظر الرشيد لوزيره فى وجوم متسائلا .....
ــ ماذا فعلت مع أولئك البربر ؟.
ــ تحفظت عليهم فى السجون فى انتظار ما تأمر به , إن شئت أجهزت عليهم فى التو ..
ــ لا , لا , ليس بعد ..
إستدرك متسائلا ..........
ــ هل علم الطالبى بما حدث ؟.
ــ أبدا , لم يعلم بشئ حتى اللحظه , أخفينا عنه خبر القبض عليهم وجعلناه يطمئن إلى أن كل شئ يجرى وفق هواه ..
ــ حسن , نعم ما فعلت , دعوا الأمور تمضى كأن شيئا لم يكن , لكن ضاعف الحراسة على قصره , ولا تسمحوا لأحد أن يقترب من أبوابه , حتى إذا أصبح الغد خذ معك قائد الشرطه واقبض عليه وعلى كل من فى الدار من أهله وأشياعه , ضعوهم جميعا فى السجون , أما الطالبى أحضره بنفسك إلى هنا .........

@ لم تكد تطلع شمس اليوم التالى , إلا وفرقة من الحراس على رأسهم قائد الشرطه , يحضرون يحي الطالبى مقبوضا عليه إلى حيث ديوان هارون الرشيد , وقف أمامه شامخا صلبا رغم القيود والأغلال التى أحاطت بمعصميه وقدميه , خاطبه فى كبرياء وأنفة ............
ــ لم أمرت بحبسى وتعذيبى يا أمير المؤمنين , أنسيت أننا أهل بيت واحد , بيننا قرابة ونسبا ولسنا بترك ولا ديلم , أذكرك الله وقرابتنا من رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
قاطعه شامتا ساخرا أمير المدينه بكار الزبيرى من ولد عبد الله بن الزبير , وهو الذى يكن كراهية شديدة لآل أبى طالب ...............
ــ دعك من هذا التخابث يا هذا ... لا يغرنك يا مولاى كلام هذا المتمرد الدعى بعد أن شق عصا الطاعة والولاء وأفسد علينا مدينتنا بعصيانه وتمرده ..
إحتد وهو يلوح فى وجهه بيمناه مبادلا سخريته بأكثر منها ونبرات صوته ترتفع شيئا فشيئا ..........
ــ يا هذا , تقول أفسدت عليكم مدينتكم !. من أنتم عافاك الله ؟. إنما بآبائى وآبائه (وأشار إلى الرشيد) هاجر جدك عبد الله بن الزبير إلى المدينه , الناس نحن وأنتم يا أمير المؤمنين , والله ما يسعى بنا إليك هذا المنافق نصيحة لك , والله ما أراد إلا مزيدا من الفرقة بيننا ..
كاد الرشيد يرق فلبه وتلين نفسه لكلماته وهو يرقبه صامتا , بينما فى داخله تدور رحى صراع بين معتقداته التى ورثها عن آبائه وأجداده بنو العباس وأنهم الأحق بالخلافه , وبين النخوة القرشية الهاشميه التى استطاع غريمه أن يحركها واحد من أبناء عمومته فى نفسه وقلبه , بكلماته التى كانت رمية رام كادت تصيب هدفها , لكنه سرعان ما ثاب إلى رشيده وحسم الأمر بوجه متجهم جامد القسمات , وعادت النظرة النارية الغاضبة إلى عينيه وهو يشير بيده إلى الفضل بن يحى البرمكى , أن يعيده حراسه إلى محبسه ولسان حاله يقول ..... يا ترى ما أنت فاعل هذه المرة يا ابن برمك , لم يشأ أن يعاتبه أو يلومه على تقصيره مؤجلا ذلك لحاجة أسرها فى نفسه ..
وعلى الجانب الآخر من القاعة وقف الفضل بن الربيع ينظر إليه من طرف خفى , مجاهدا فى إخفاء مشاعر السرور والنشوة التى ملكت جوانحه , كل الأمور تمضى وفق هواه وعلى مراد نفسه , أدرك هذا اللئيم الداهية ابن آبائه ما يرمى إليه الرشيد من تكليفه غريمه البرمكى أمر يحى الطالبى , كأنه يعطيه الطعم الذى سيوقعه فى الفخ الذي يصطاده به .........................

إنتهى الفصل الثانى من السيره
ونبدأ بعد ذلك فى رواية أحداث الفصل الثالث
إن شاء الله
****
****
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 11h55
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 25/02/2009, 11h07
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

الفصـــل
الثالــث
قاضـى نجـران

@ ذاع صيت الشافعى حتى تعدى منطقة نجران وما حولها إلى سائر أقطار اليمن الأخرى
, تعطرت بسيرته الطيبة ومثاليته آفاق الجزيرة العربية طولا وعرضا . والناس فى نجران من أولئك الذين تغلب عليهم الطيبة والوداعه , لم يكن هناك حديثا لهم فى بيوتهم , متاجرهم , أسواقهم أو منتدياتهم وأينما جمع بعضهم مكان إذا ذكر اسمه أو جاءت مناسبته إلا عن عدالته وأحكامه القاطعة التى لا يجامل فيها أحدا . يتناقلون فيما بينهم حكايات كثيرة عن الدعاوى التى حكم فيها قاضيهم الجديد , كيف بهرهم بتوقد ذهنه وحضور بديهته وقدرته على المحاورة ومناقشة الشهود , عن تمكنه من الإحاطة بمصادر التشريع كلها واستخراج الأحكام العادلة النزيهة فى مهارة وحنكة من بطونها ..

لكم قاسى أهل نجران الطيبين البسطاء من عسف وجور القضاة والولاة السابقين وخضوعهم لذوى النفوذ وأصحاب الجاه والسلطان . إلا قاضيهم الشافعى رأوا فيه صورة أخرى من التقوى والورع والعدل والإنصاف , والتفانى فى آداء الواجب وإقامة ميزان العدل ..
كان الشافعى قد تسلم عمله من قاضى القضاه ورئيس جماعة القضاة باليمن مصعب بن عبد الله القرشى الذى اختار له ولاية نجران ليكون قاضيا عليها بعد أن استضافه فى داره التى تقع فى صنعاء بضعة أيام . ولأن غريزة حب العلم كانت مستحكمة فى نفسه تلازمه كظله لا تفارقه أينما حل وارتحل فقد وجدها الشافعى فرصة قبل أن يرحل شمالا إلى هذه الولاية الوادعة أن ينهل فيها ما تيسر له من علوم هذا الشيخ الجليل وهو أحد الفقهاء الأعلام . تعرف من خلاله على فقه أهل اليمن واستمع إليه وهو يوصيه قبل أن يودعه إلى مقر عمله قائلا له وهو يشد على يديه ...................
ــ أذكرك يا أبا عبد الله بكتاب الفاروق عمر بن الخطاب إلى قاضيه أبى موسى الأشعرى حيث قال له : “ إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعه . فافهم إذا أدلى إليك وانفذ إذا تبين لك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له . وسوى بين الناس فى مجلسك ووجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف فى حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك . البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين الناس إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا . ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه رشدك أن تراجع الحق , إن الحق ومراجعته خير من الباطل والتمادى فيه . والفهم الفهم فيما تلجلج فى صدرك مما لا يبلغك فى الكتاب والسنه . وعليك بمعرفة الأمثال والأشكال ثم قس الأمور عند ذلك ثم اعمد لأحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى . إجعل للمدعى حقا غائبا أمدا ينتهى إليه فإن أحضر بينة أخذ بحقه وإلا وجهت عليه القضاء . وإياك والقلق والضجر والتأذى بالخصوم فى مواطن الحق التى يوجب الله بها الأجر ويحسن الذكر . فإنه من صلحت سريرته فيما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس” .. هيا يا ولدى على بركة الله وأظنك ستفعل إن شاء الله , إنى أتوسم فيك التقى والصلاح والفهم ..

@ وفى أول يوم
له فى دار القضاء تعرف على جماعة العاملين معه بعد أن اجتمع بهم . بعدها انتحى جانبا بكاتب القضاء زيد بن عيسى الذى يعمل تحت إمرته ويعاونه فى عمله قائلا له ..............

ــ إسمع يا زيد , أنت أعرف الناس بأهل هذا البلد وأحوالهم ..
ــ أجل يا سيدى القاضى ..
ــ عظيم , أريد منك أن تجمع صفوة رؤوس العائلات وشيوخ القبائل فى نجران , أبلغهم جميعا دعوتى إلى لقاء هنا فى دار القضاء فى الغد .. لدى كلام مهم أود أن أقوله لهم ..
فى اليوم التالى جاءه زيد برفقته جمع من صفوة العائلات وشيوخ القبائل . وفى اجتماعه بهم فى دار القضاء قال لهم................
ــ تعلمون يا سادة نجران أنى حجازى من مكه .. لا أعرف الناس هنا فى بلادكم .. ولا علم عندى بأحوالهم . سيأتينى الشهود فى قضايا الناس ولا علم لى إن كانوا عدولا صادقين أم غير ذلك . المسلمون كلهم عدول إلا من كان مجلودا فى حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا فى ولاء أو قرابه ..
سأله أحدهم ...............
ــ ماذا علينا فعله يا قاضى نجران ؟!.
ــ أريد منكم أن تختاروا سبعة رجال من خيرة أهل هذا البلد , ممن تثقون فيهم ثقة كاملة .. يكونون عونا لى فى مجلس القضاء ..
سأله آخر ................
ــ ليتك تبين لنا كيف يكونون عونا لك فى مجلس القضاء ؟!.
ــ ستقع عليهم مهمة النظر فى أحوال الشهود , يزكونهم أو يشهدون عليهم .. فمن عدلوه منهم يكون عدلا , ومن جرحوه يكون مجروحا , كم من صاحب حق ضاع حقه بسبب شهادة الزور . عندما يستقر اختياركم على هؤلاء الرجال إئتونى بهم ..
@ وفى لقائه بهؤلاء السبعة الأعوان من صفوة الرجال إبتدرهم الشافعى ......
ــ أيها الرجال .. يقول الله جل ثناؤه "وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله" وقال تعالى "ممن ترضون من الشهداء" .... إعلموا أيها الرجال أنكم الآن أهل الصلاح فى الجماعه , كونوا عونا لنا فى إرساء قواعد العدل والإنصاف , ورد الحقوق السليبة إلى أصحابها , ورفع الظلم عن المظلومين ..
سأله واحد منهم .........
ــ نحن رهن إشارتك فى كل ما تأمرنا به , لكنا بين لنا حقيقة عملنا ؟!.
ــ سوف تقع عليكم أيها الرجال مهمة النظر فى أحوال الشهود إن كانوا عدولا أو زورا . إنها ليست مهمة هينة أبدا ..
ــ ليتك تزيدنا إيضاحا وبيانا ؟!.
ــ إعلموا أن الشاهد لا يكون عدلا , إلا إذا كان عاقلا وقت حدوث ما يشهد عليه . بالغا وقت الشهاده لا وقت حدوث ما يشهد عليه . وألا يكون فى شهادته طالبا لمغنم أو دافعا لمغرم . وألا يكون خصما أو ظنينا , وأن يكون مسلما إن كان المشهود عليه مسلما . وألا يكون فاسقا قد سبق حده فى قذف أو خلافه . ولا تجوز شهادة المملوك ولا شهادة الكافر أو الصبى ..
سأله آخر ................
ــ هل هؤلاء فحسب هم الذين ترد شهادتهم ؟!.
ــ الذين ذكرتهم سلفا ترد شهادتهم جميعا بإطلاق لا استثناء فيهم . لكن هناك آخرين يطول الكلام بنا الآن فى تفصيل أحوالهم , مثل الشعراء وأهل اللعب وأهل الأشربة وأهل الأهواء وأهل العصبية , ومتى تجوز شهادة من أقيم عليه الحد وغيرهم ..
ــ معذرة سيدى القاضى , أنت تعلم أن الشعر يجرى على ألسنة الناس هنا كالماء الجارى , وأنت ذكرت الآن ضمن ما ذكرت طائفة الشعراء . ليتك توضح لنا حالهم وهل ترد شهادتهم بإطلاق , أم يؤخذ بشهادة بعضـهم ؟!.
ــ الشعر أيها الإخوان كلام كأى كلام , حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام .. غير أنه كلام باق سائر , فذلك فضله على سائر الكلام . فمن كان من الشعراء لا يعرف بنقص المسلمين وأذاهم , أو إذا مدح أكثر الكذب فمثل هذا لا ترد شهادته . هذا حكم عام ولسوف أشرح لكم أحوالهم تفصيلا فيما بعد..
ــ أكرمك الله أيها القاضى وزادك علما ومعرفة , والله ما أحوجنا لمعرفة مثل هذه الأمور والتفقه فيها ..
ــ لى مطلب أخير ..
ــ لك الأمر وعلينا الطاعة أيها القاضى القرشى ..
ــ عليكم أن تختاروا واحدا من بينكم , يتحدث باسمكم فى مجلس القضاء ………

@ أرسى الشافعى نظاما جديدا فى القضاء لم يعهده الناس من قبل , يجرى مجالس القضاء يومان كل أسبوع , فى موضع بارز علانية على أعين القوم لا يجعل دونه ودونهم حجابا أو ساترا . فى هذا المجلس الذى يتصدره الشافعى يجلس إلى جواره كاتبه زيد , أمامه سجل يدون فيه الدعاوى والأحكام , ويسجل فى صفحاته شهادة الشهود . وعلى بابه يقف قائد شرطة القضاء , الموكل بتنفيذ أحكامه , ومن حوله يتحلقه الرجال السبعه الذين هم أهل الصلاح فى الجماعه , حتى تكون صدق شهادة الشهود مسؤوليتهم وأمانتهم . أما جهة الأمام جعلها لأصحاب المظالم والشكايات , يعرض كل واحد مسألته فى مواجهة خصمه . وبعد أن ينتهى من سماع كل القضايا ويناقش الخصوم والشهود , يصدر أحكامه فى نهاية الجلسة مرة واحده ..
بهذا النظام العادل فى نظر القضايا , الذى ساوى فيه بين الناس جميعهم لا تميز عنده لأحد على أحد , صار للشافعى تلك الشعبية الكبيرة بين أهالى نجران , وتمكن من غرس محبته فى قلوبهم وأفئدتهم , فصار لا يلقى منهم جميعا إلا كل التوقير والإحترام . وضع نصب عينيه مقولة الفاروق عمر رضى الله عنـه : “ إن الضعيف فيكم قوى عندى حتى آخذ الحق له , والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه “ . كان يتذكر دائما ما سبق أن قاله الإمام على كرم الله وجهه فى وصيته لمن يتولى القضاء : “ إن على القاضى ألا يكتفى بأدنى فهم إلى أقصاه . وألا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق إذا عرفه . وأن يكون صارما عند اتضاح الحكم , وألا يزدهيه الإطراء , أو يستميله الإغراء “ ..

@ كان أكثر القوم قربا من الشافعى وأدناهم منه مجلسا هو كاتبه زيد بن عيسى . لذلك كان أكثرهم غبطة وسعادة باعتلائه كرسى القضاء , فهو أعرفهم بأحواله وأكثرهم إدراكا لسعة علمه ودقة فهمه , من كثرة ما يرى ويدون من دعاوى وأحكام , مقارنا فى هذا بين نهجه وأسلوبه فى نظر الدعاوى , وبين من سبقوه من القضاة الذين عمل تحت إمرتهم ..
حدث ذات مرة أثناء تناوله عشاءه مع امرأته سعده , وبينهما ابنتهما بدر التى تبلغ من العمر ستة عشر عاما . إذ لمح امرأته بركن عينه وهى تختلس نظرة غامضة إليه تخفى وراءها تساؤلا . هز رأسه باسما ثم سألها دون أن ينظر إليها وهو يلوك لقمة الطعام فى فمه على مهل .......
ــ مالك اليوم يا سعده , ألمح فى عينيك كلاما , وعلى وجهك تساؤلا كأنك تريدين أن تقولى شيئا ؟!.
ردت قائلة وهى تحاول أن تتشاغل بالطعام كأن الأمر لا يعنيها ......
ــ أبدا يا زيد لا شئ , إنما يتهيأ لك ..
قال باسما فى سخرية .............
ــ يتهيأ لى !. ربما أنت أدرى بحالك !. نبرة صوتك تدل على غير ذلك ؟!.
ــ إيه , أوحى تدعيه , أم فراسه يا رجل ؟!.
ــ لا هذا ولا ذاك , إنما أنا أعرف الناس بأحوالك . من ذا الذى يعرف دخيلة نفسك مثلى يا أم بدر ؟!.
ــ قلت لك لا شئ .. غير أنى ...
قاطعها على عجل مشجعا ..............
ــ هيـه أرأيت !. غير أنك ماذا ؟!.
ــ غير أنى , فى عجب من أمرك أيها الرجل !.
ــ من أمرى أنا !. ألم أقل لك إن فى الأمر شئ !. هيه ما هو هذا الذى أنت فى عجب منه يا أم بدر , هلا أفصحت بالله عليك ؟!.
أجابت مترددة وهى تقدم كلمة وتؤخر أخرى .............
ــ ألاحظ هذه الأيام . يعنى .. تغيرا فى أحوالك .. لا أدرى له سببا ..
ــ ما زلت لا أفهم بعد . كيف ذلك يا امرأه ؟!.
ــ يعنى . أراك تدخل وتخرج علينا هذه الأيام , مبتهجا , مسرورا , سعيدا على غير عادتك ..
ــ هيه ثم ماذا ؟!.
ــهذا كل ما فى الأمر ..
ــ أى أمر تقصدين , لم أفهم بعد ؟!.
ــيعنى !. كنت أود معرفة سر هذه السعادة التى طرأت عليك مرة واحدة وملأت عليك حياتك ..
ثم أردفت فى لهجة ساخرة ........
ــ ليتنانسعد معك نحن كذلك ؟!.
أجابها وهو يضحك مازحا .............
ــ ومن قبل يا امرأه , كيف كنت أبدو لكما !. متجهما عابسا كئيبا مثلا ؟!.
قال ذلك وهو ينظر لابنته متمما ............
ــ أسمعت يا بدر . أسمعت يا ابنتى ما تقول أمك, أم أنك أنت الأخرى ترين مثلها تغيرا فى أحوال أبيك كاتب القضاء ؟!.
ــ معذرة يا أبى , إن أردت الصدق منى , أمى لم تقل إلا الحقيقه . أجل الحقيقة التى لا مراء فيها ..
ــ حتى أنت يا بدر , تأبين إلا أن تكونى فى صف أمك دائما ؟!.
إنبرت امرأته معقبة ..........
ــ لا تظلمها يا رجل , والله ما شهدت إلا بالحق , أجل إنك خالفت ما عودتنا عليها زمنا . كم من مرات كثيرة تدخل علينا عابسا مهموما كأنك تحمل على كتفيك هموم الدنيا بأسرها , أنسيت أم أنك بحاجة كى أذكرك ؟.
عاود سؤال امرأته دون أن يرد عليها وهو لا يزال يغالب الضحك ......
ــ وهل يا ترى أحزنك هذا التغير يا امرأه . أتحبين أن أعود لما كنت عليه عابسا متجهما كماتزعمين أنت وابنتك , أم ماذا تقصدين ؟.
سارعت بالرد معقبة .............
ــ لا والله يا زيد لا أقصد شيئا من هذا , أبدا ليتك تظل هكذا . إنما أردت أن أسأل عن شئ أثار انتباهى فى الآونة الأخيره ..
قال مداعبا ...........
ــ مالك تؤكدين على قولك .. فى الآونة الأخيره . إيه يا امرأه ماذا دهاك , أأكون قد تزوجت بأخرى مثلا ؟.
ــ يا رجل ألا تكف عن مزاحك هذا ؟. هلا أجبتنى حقيقة عن سبب هذا التغير فى أحوالك , وإقبالك على العمل فى همة ودأب هذه الأيام , الأمر الذى لم نعهده فيك من قبل ؟.
إكتسى وجهه ملامح الجد والإهتمام وهو يمسح فمه ويديه من بقايا الطعام قائـلا ...........
ــ أجل صدقت والله يا سعده , أنت وابنتك ما قلتما إلا الحقيقه . إنما كنت أمازحكما , لم لا أكون سعيدا بل أسعد الناس فى نجران , بعد أن هبطت علينا من السماء , وبعد طول صبر , نعمة عظيمة ودرة غاليه ..
تلفتت حواليها قائلة .............
ــ نعمه ؟!. أين هى هذه النعمة التى تزعم إنها هبطت علينا من السماء , إننى لا أرى شيئا ؟!.
ــ إنها النعمة التى بسببها إنزاحت عنى أخيرا هموم جمه . آه كم حملتها سنوات على كتفى هاتين ..
قاطعته امرأته قائلة ...........
ــ عن أية هموم تتحدث يا أبا بدر , أثرت مخاوفنا والله . أنت تتكلم اليوم بألغاز لا أفهمها ..
انبرت ابنته متسائلة فى لهفة هى الأخرى .......
ــنعم يا أبت ,أثرت فضولنا , ماذا تقصد بكلامك هذا ؟.
ــ سأشرح لكما الأمر . إننى أقصد بكلامى قاضى نجران , ذلك الرجل الورع التقى النقى الحليم الذى شرفت به بلادنا ..
ــ من !. محمد بن إدريس الشافعى ؟. حقا إن سيرته الطيبة على كل لسان , لا حديث للناس هذه الأيام إلا عن أحكامه العادله . إنه حقا كما قلت نعمة من نعم السماء على بلادنا كلها ..
ــ يا أم بدر , لقد عملت تحت إمرة قضاة ثلاثة قبله , لم أر من بينهم مثل هذا الرجل المكى فى تقواه وورعه . إنه ليس قاضيا حكيما مقسطا فحسب , بل إنه قوى فى الفضيلة والعفة أيضا ..
قالت بدر فى فضول ............
ــ شوقتنا يا أبت لسماع المزيد عنه ..
ــ أجل يا ابنتى إنه رجل متواضع فى غير ضعف , لا يستكبر عن مشاورة من يجدهم معه من أهل العلم , ولا يتعجل فى إصدار أحكامه بل يتأنى فيها . وغير هذا وذاك , وقور مهيب , لا يخشى فى الله لومة لائم ..
تساءلت سعده ...........
ــ وكيف حاله فى مجلس القضاء يا زيد ؟.
ــ آه .. إنه فى مجلس القضاء مثال الحسم والسكينة والوقار , حسن النطق والصمت . خير من سمعته يتكلم العربيه , كأنها لم تخلق إلا ليجرى بها لسانه . نظره فراسة وتوسم , وإطراقه تدبر وتفهم , حتى ضحكه لا يزيد فيه عن التبسم , أسوة بسيد ولد آدم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
ــ هيه وماذا أيضا يا أبت ؟.
ــ لا يسمع شكاية من أحد إلا فى مواجهة خصمه , متيقظ تماما لحيل الخصوم وألاعيبهم . ومع شدة فراسته وطول باعه فى علوم الفراسه , إلا أنه لا يحكم بفراسته أبدا مع تيقنه من صدقها . لما سألته فى ذلك فى إحدى المرات رد على قائلا ...................................
ــ يا أبا بدر الله تعالى تولى السرائر وعاقب عليها , ولم يجعل لأحد من خلقه الحكم إلا على العلانيه . على هذا فلا يصح لقاض أن يحكم بالفراسة , مهما كان بارعا فيها ومتمكنا من علومها , حتى لا تتعطل الطرق الشرعية فى الإثبات من البينة والإيجاب ..
إستأنف زيد قائلا ..............
ــ إننى أنظر إليه يا أم بدر وهو فى مجلس القضاء , فأراه كأنه يعيد أمام ناظرى إلى بلادنا من جديد , أمجاد الصحابى الجليل معاذ بن جبل عندما تولى قضاء جند اليمن على عهد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ; وكما تناقلها أجدادنا وحدثونا عنها ..
ــ رجل يحمل كل هذه الخصال , يجب أن يتولى قضاء صنعاء . ليس هذا فحسب بل يجب أن يكون قاضى قضاة بغداد ..
ــ صدقت والله يا سعده . هيه ألا زلت تعجبين بعد ذلك من مظاهر السعادة التى غمرتنى . إننى والله ما شعرت بسعادة ولا صفاء ذهن, كتلك التى أشعر بها هذه الأيام . قد تعجبين إذا قلت لك أننى أشعر أحيانا أنى أكثر سعادة من هؤلاء المظلومين , الذين ترد إليهم حقوقهم المسلوبة منهم لحظة سماعهم بحكم القاضى الشافعى . كم دوت من قبل صرخاتهم فى جنبات قاعة القضاء . نفس القاعة التى ردت إليهم حقوقهم فيها ولامن مجيب . لهذا السبب كنت تريننى من قبل كئيبا عابسا , مما أشاهده كل يوم من ظلم وعسف وجور ..
سكت برهة ثم أشار لامرأته قائلا ...........
ــ أتذكرين حكاية أم شريك الثقفيه ؟.

يتبع إن شاء الله .............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 12h11
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 01/03/2009, 18h36
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

الأخت الصديقه عفاف سليمان
أشكرك على كلماتك الرقيقه وإطراؤك لشخصى الضعيف وحسن ظنك بى , والله يعلم أنى لم أكن أتصور يوما أن تلقى تلك الصفحات استحسانا من أحد , أما عن طبعها فأنا فى الحقيقة غير مهئ للتحرك نحو هذه الخطوه لما تحتاجه من مقدمات كثيره وموافقات منها موافقة الأزهر والمصنفات وغير ذلك , ولتعلمى أنى عندما شرعت فيها لم يكن فى ذهنى أن يطلع عليها أحد ولم أسع إلى ذلك أبدا , غير أن وجودى فى هذا البيت العامر بالأحباب.. سماعى , ربما تجرأت على أن أفعل ماظللت مترددا فيه أكثر من عشر سنوات , واهلا بك فى سماعى , ونكمل سيرة الإمام .....

__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 16h08
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 04/03/2009, 18h06
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

@ مضت الأحكام العادلة تتوالى تباعا والحقوق السليبة ترد لأصحابها واحدا بعد الآخر وانحلت عقدة ألسنة الخائفين وتكلم الصامتون . تشجع أصحاب المظالم المقهورين على تجديد دعاواهم بعد طول يأس واستكانة وتسليم بمقتضى الحال . ولأن نصف الرعية تكره الحاكم وتكيد له ذلك إن عدل , أثارت هذه الأحكام العادلة حفيظة وسخط تلك القلة القليلة من المبطلين المرجفين أعداء العدل وخصماء الحق والإنصاف . ومع أنهم شرذمة قليلون إلا أنهم كانوا أصحاب قوة وأولوا بأس شديد وسطوة , ولهم الكلمة النافذة على كل أهل البلدة الذين كانوا على كثرتهم , ضعفاء مغلوبين على أمرهم ..
شعروا أن الأمر قد ضاق عليها وأن دائرة سطوتهم فى طريقها للإنكماش والتصاغر . لم يعد فى مقدورهم أن يستمروا طويلا فى فرض ظلمهم وسطوتهم على عموم الناس , وانزوت تلك الهيبة التى اصطنعوها لأنفسهم زمنا باستعمال أساليب القهر والطغيان وإظهار الشدة والبأس ..
حاولوا مرة بعد مره أن يستميلوا قاضيهم بالمال وإغراءه بأكياس الدنانير الذهبيه أو يقدمون له الهدايا كما تعودوا من قبل مع أسلافه , كانت تلقى قبولا واستحسانا لدى بعضهم . إلا أنهم كانوا يرجعون كل مرة من عنده وخيبتهم تسبق خطواتهم , فالشافعى لم يكن من ذلك النوع الذى ينخدع أبدا لرنين الدنانير أو يبهر عينيه بريق الذهب . كل هذه المغريات ذهبت أدراج الرياح , لم تخضعه كما أخضعت من قبله واستعبدتهم حتى امتلأت جيوبهم وانتفخت بطونهم وأتخمت خزائنهم بالمال الحرام , بعد أن سمحوا لنفوسهم الضعيفة أن تقبله على أشلاء ضحايا القهر والظلم والباطل ..
علم أنها أعراضا زائفة لا قيمة لها مصيرها إلى زوال وفناء , أما قيم الأمانة والعدل والإنصاف فإنها باقية لا تزول , لهذا أحبه أهل نجران خاصة المستضعفين منهم ..
أخيرا قرر أعداء الحق والعدل أن يعقدوا اجتماعا فى دار كبيرهم , الوليد بن جبير صاحب حكاية أرض الثقفية المغصوبه . يتدبرون فيه أمرهم ويبحثون عن مكيدة يبعدون بها الشافعى عن طريقهم , أو وسيلة يخرجونه بها من ديارهم ما دام سلاح المال والذهب لم يجدى معه ..
وفى مجلسهم الماجن من حول قوارير الخمر وكؤوس الشراب , إقترح أحدهم أن يطلقوا من حوله شائعات مغرضه تقدح فى ذمته وأخلاقه . قال آخر بل نسلط عليه من يتربص له بليل ويوسعه ضربا لإرهابه وبث الخوف فى نفسه . واقترح آخر أن يقتلوه فيستريحوا منه إلى الأبد . إلا أن هذه المكائد كلها وغيرها لم تلق قبولا عند غالبيتهم , إلى أن قام صاحب الدار قائلا لهم وهو يبتسم ابتسامة صفراء ملؤها الخبث والدهاء ..............
ــ هل انتهيتم من عرض بضاعتكم أيها السكارى الأوغاد ؟. هذا كل ما فى جعبتكم مـن حيـل ومكائد ؟.
إنبرى أحدهم مستخفا .................
ــ هل لديك رأيا آخر يا سيد بنو عبد المدان ؟.
ــ أجل لدى .. أنا كفيل به .. دعوا أمره لى وانتظروا منى ما أنا فاعل به ..
نظروا إليه متسائلين فى دهشة حتى جاءهم صوته كثعبان يتلوى ...................
ــ أعرف المكيدة التى سوف تقضى عليه تماما وتريحنا منه للأبد ..
ــ هات ما عندك يا سيد بنو عبد المدان ..
ــ ما رأيكم فى سلمى , أم الدراهم ؟.
قالها كلمة كلمة وهو ينظر نظرات ماجنة عابثة إلى كأس الخمر الفارغة فى يمناه بينما كفه اليسرى تقبض على إحدى ثمار الفاكهة . يقذفها لأعلى ثم يتلقفها فى رتابة وملل مرة بعد أخرى . أخذوا ينظرون إليه وهم فى عجب من أمره منكرين عليه قوله ,إستأنف قائلا وابتسامته الصفراء لم تغادر شفتيه ...................
ــ أجل أم الدراهم بائعة الهوى , ألا تعرفونها ؟.
سأله أحدهم ساخرا ..............
ــ ماذا يا ابن جبير . إلى هذه الدرجة أفقدتك صوابك حكاية أرض الثقفيه . ما هذا الهراء الذى تقوله يا رجل , إنك ولابد تهذى , أين ذهب عقلك يا سيد بنو عبد المدان . هلا أخبرتنا بالله عليك ما علاقة امرأة ساقطة كأم الدراهم بالقاضى الشافعى ؟.
عقب آخر ساخرا ..............
ــ لعله علم أنها صاحبته ؟.
وقال آخر ..............
ــ أو ربما تكون رفيقته مثلا ونحن لا ندرى ؟.
وقال آخر ............
ــ إنه لا يخرج من داره إلا إلى المسجد أو قاصدا مجالس الفقهاء وأهل العلم ..
فأمن آخر على كلامه قائلا .................
ــ حقا يا ابن الحارث , إننى لم أر فى حياتى كلها أحدا محبا للمعرفة وعنده نهم للعلم كهذا القاضى المكى . إنه لا يدع أى مجلس من مجالس العلماء إلا ويرتاده ..
قال آخر .............
ــ أجل لا يكاد يفرغ من درس أبو أيوب مطرف بن مازن الصنعانى حتى يتوجه إلى حلقة يحي بن حسان ..
وقال آخر .............
ــ أو فى دار عمرو بن أبى مسلمه يدرس علوم الفراسة والطب إلى جانب علوم الدين ..
قال آخر معقبا .............
ــ لقد سمعته بنفسى وهو يقول ذات مره ... " علم الأديان الفقه وعلم الأبدان الطب " ..
قال ذلك ثم أردف ساخرا .........
ــ ويأتى صاحبنا ابن جبير , ويدعى إن سلمى أم الدراهم هى التى ستريحنا منه ..
رد آخر وهو يضحك عاليا ...........
ــ لعله رآه ذات ليلة خارجا من عندها ..
أخذوا يضحكون بصوت عال ضحكات ماجنة صاخبه وقد لعبت الخمر برؤوسهم واختلطت ضحكاتهم بعبارات السخرية والمجون التى أخذت تنطلق كالعفن من أفواههم ممزوجة برائحة الخمر , وصاحب المكيدة والمكر الكبار يحملق فيهم هازئا دون أن يرد عليهم أو يقاطعهم أو يشاركهم ضحكاتهم . كان يبدو واثقا من نفسه ورأيه حتى إذا فرغوا من تعليقاتهم الساخرة , قال فى ثقة وثبات ................
ــ هل فرغتم , أم لا يزال لديكم ما تقولونه ؟. إحتفظوا بتفاهاتكم هذه لأنفسكم فإنى أدرك ما أقول وأتحمل تبعة كل كلمة قلتها ..
قاطعه أحدهم فى عصبية ..............
ــ أية تبعة يا رجل ؟. تكلم كلاما يدخل العقل يا ابن جبير بدل أن تضيع وقتنا فى هذا الكلام الفارغ . يبدو أن الخمر قد لعبت برأسك . أية بغى تلك التى نعتمد عليها فى أمر مهم كهذا مع رجل عرضنا عليه آلاف الدنانير فأبى ؟. أتظن أنها من الممكن أن تغويه مثلا أو توقعه فى الخطيئه , أليس هذا هو ما ترمى إليه ؟.
نظر إليه مستهزءا وقال ...................
ــ هل انتهيت من كلامك أنت الآخر ؟. أجل هذه البغى التى تسخرون منها هى التى سوف تريحنا من هذا الشافعى . لكن ليس كما تظنون أو تتصورون , دعوا هذا الأمر لى وسترون غدا بأنفسكم ما أنا فاعل فى هذا القاضى المكى العنيد ..
أخذ يقول فى نفسه .......... سأجعله يدفع غاليا ثمن تحديه لى وإجبارى على رد الأرض للثقفيه وهدم ما أقمته عليها من بناء كلفنى الكثير من المال …………

@ وفى المساء تسلل متنكرا إلى دار بائعة الهوى وهو يتلفت حوله مخافة أن يراه أحدا من جيرانها حتى لا تنكشف المؤامره . داخل الدار جلسا وحدهما وأخذ يهمس لها بتفاصيل المؤامرة الدنيئة , ويلقنها الدور الحقير الذى سوف تقوم به فى الغد . لم ينس قبل أن يخرج من عندها وهو يفرك يديه فى سعادة وعلى شفتيه ابتسامة خبيثة , أن يدس فى يدها صرة متخمة بالدنانير الصفراء ..
كانت أم الدراهم تسكن فى دار وحدها لا يعيش معها بين جدرانها إلا ابنتها سميه , فتاة بضة مليحة أكملت عامها العاشر من عمرها . مات أبوها بعد مولدها بعام واحد . كانت هذه المرأة على قدر كبير من الملاحة والحسن , تملك صوتا جميلا , بعد أن مات زوجها لم تجد وسيلة تتعيش منها , فاحترفت الرذيلة والبغاء واتخذت منها وسيلة لجمع المال الحرام إلى جانب بيع الخمور ..
وفى بيتها تعقد مجالس الأنس والشراب أحيانا , تغنى وترقص لروادها وفى آخر الليل تسلم جسدها لراغب اللذة الحرام نظير أجر معلوم . كانت على استعداد لأن تفعل أى شئ فى سبيل الحصول على المزيد من الدنانير والدراهم التى لم تكن تعشق فى الدنيا بعد ابنتها سواها , لذلك لقبها أهل نجران بأم الدراهم ..

@ وفى اليوم التالى وبينما القاضى الشافعى على رأس مجلس القضاء تعلوه سمات المهابة والوقار , والناس من حوله يرقبون فى صمت كل ما يدور داخل القاعة , والمتقاضون كل فى مكانهجالسون أمامه كأن على رؤوسهم الطير , لا يتكلم الواحد منهم إلا إذا بإذن أو إشارة منه . إذ سمعت جلبة شديدة وأصوات متفرقة خارج القاعة اختلط بعضها ببعض وامرأة تصرخ قائلة ...............
ــ دعونى أدخل إليه , دعونى أيها الناس , لم تحولون بينى وبينه . أين هذا القاضى المكى الذى تزعمون أنه قاض عادل أيـن هـو ؟.
كانت سلمى أم الدراهم , التى هجمت على مجلس القضاء فى صفاقة ورعونه وهى تصرخ فى غضب محموم بهذه الكلمات , والحراس يحاولون دفعها خارج القاعة دون جدوى حتى إذا انتهت رغما عنهم إلى حيث يجلس الشافعى قال لها بعد أن أمر الحراس أن يتركوها وشأنها .....................
ــ نعم يا أمة الله , مالك تصرخين هكذا , أنا القاضى ماذا تريدين ؟.
نظرت إليه نظرة غاضبة متحفزة دون أن ترد عليه والشرر يتطاير من عينيها , ثم مدت يدها فى جيبها , أخرجت منه بضعة دنانير صفراء, ألقت بها إليه قائلة بفظاظة مفتعله ....
ــ أعرف أنك القاضى , أنسيتنى , أنسيت أم سلمى , أم الدراهم ؟! خذ ..
سألها متعجبا ................
ــ ما هذا ؟.
ردت فى سخرية وفى عينيها نظرة وقحة تعودت عليها فلم تبد غريبة منها ........
ــ أنظر جيدا دقق النظر , ربما تتذكر , ألا زلت لا تعرف ما هذا ؟.
ــ إنها دنانير ..
ــ ألم تر هذه الدنانير من قبل أيها القاضى ؟.
ــ لم أفهم بعد ماذا تقصدين بسؤالك , هلا أفصحتى أيتها المرأه ؟.
ــ إنها مزيفه .
ــ وما شأنى بها إن كانت مزيفة أم غير ذلك ؟.
نظرت للحاضرين وصرخت قائلة ............
ــ القاضى يقول ما شأنى بها , أهذا كلام يقوله قاض يدعى أنه يحكم بالعدل والإنصاف ؟. يا قاضى نجران المبجل أنسيت ما كان منك بالأمس ؟. الدنانير التى أعطيتها لى بالأمس . أهكذا تنسى ما اشتريته منى , أقول لهؤلاء الناس ما كان من أمرك بالأمس فى دارى , بل كل يوم , أم تذكرت ؟.
إمتقع وجه الشافعى وهو يسألها ............
ــ أى دار تلك التى تتحدثين عنها يا امرأه , وما حكاية هذه الدنانير المزيفه الذى تزعمين أنى أعطيتك إياها ؟.
علا صوتها وزادت وقاحتها قائلة .............
ــ أنظروا أنتم أيها الناس واحكموا بينى وبينه . القاضىجاءنى بالأمس متخفيا كعادته واشترى منى ما يشتريه كل يوم من نبيذ وشراب وأعطانى خمسة دنانير , وبعد أن مضى لحال سبيله إكتشفت زيفها . من يرض منكم بهذا ؟.
ما كادت تنتهى من كلامها حتى ساد القاعة صمت عميق كصمت الموت . حبس القوم أنفاسهم وصوبوا أبصارهم إلى قاضيهم فى انتظار ما سيقوله وقد عقدت الدهشة ألسنتهم من هول وبشاعة ما سمعوا . ويالبشاعة ما سمعوا كبرت كلمة هى قائلتها . قاضيهم الورع التقى النقى تتجرأ عليه امرأة ساقطة فاجرة كهذه وتلقى فى وجهه بتلك التهمة الشنعاء . تلقيها هكذا فى قحة وجرأة , تتهمه أنه تسلل فى جنح الليل إلى دارها المشبوهة واشترى منها ما هو رجس من عمل الشيطان , شرابا حرمه الله فى كتابه العزيز وأمر باجتنابه وهو أعلى وأشد درجات التحريم , لم يحرم شربه فحسب وهو الأساس , لكنه حرم على الإنسان حتى ملامستها أوالجلوس فى مجالس شربها حتى لو لم يشارك فى تعاطيها. أى مصيبة تلك التى ابتلى بها الله أسماعهم . لم يصدقوا أنفسهم فى بداية الأمر وهم يستمعون لهذا الإتهام البشع يقتحم آذانهم ..
كانوا يتوقعون أن يثور الشافعى ويثأر لنفسه ولمكانته ويأمر بحبس هذه المرأة وتعزيرها بعدما أسفرت عن وجهها القبيح , وسمحت لنفسها أن تدنس ساحة القضاء بهذه الجرأة لتلقى جزاء وقاحتها وتطاولها على قاضى البلاد , وافترائها بالباطل عليه وهو يعتلى منصة القضاء المقدسه أو طردها . ذلك أضعف الإيمان بعد أن يستنكر هذه التهمة الشنيعة ويدفع عن نفسه تلك الفريـة الباطلـه . لكنه تمالك نفسه وكظم غيظه وتحلى برداء الحلم , حتى أنه أشار لكاتبه زيد إشارة حازمة أن يلتزم مكانه , لما رآه ينتفض واقفا مكانه متحفزا ليفتك بها والشرر يتطاير من عينيه . جلس زيد رغما عنه وهو يتميز من الغيظ يكاد أن يفترسها بعينيه الغاضبتين , ولم يكد يفعل حتى فوجئبصاعقة تنزل فوق رأسه وهو يسمع الشافعى يسألها فى هدوء وثقة ............
ــ أهى دنانير مزيفة حقيقة ؟.
ردت ساخرة فى الوقت الذى كان يتظاهر فيه أنه يتفحصها فى يده ............
ــ أجل مزيفه , ألم ترها بعينى رأسك ؟.
ــ وتريدين غيرها , أليس كذلك ؟.
قالها وهو يمد يده فى جيبه , لتخرج وفيها بعضا من الدنانير, ناولها لها وهو يردف مبتسما .......
ــ لا تغضبى يا أمة الله , إليك هذه الدنانير الصحيحه , أرضيـت يا امـرأه ؟.
ثم أخذ يتمتم فى سره ..........
ــ وأفوض أمرى إلى الله ..
لم يكن ذهول المرأة بأقل من ذهول القوم . إرتج عليها ولم تدر ما تقول , بعد أن سكب الشافعى على جذوة نيران غضبها المتأججة بكلماته الهادئة الواثقة المتأنية ,سيلا من الماء البارد ..................
لقد أعدت نفسها لردود فعل خلاف ذلك ولم تكن تتوقع هذه الإجابة الصماء التى أغلقت عليها باب الجدل والنقاش وهو ما كانت تريده وتتمناه . كانت تتوقع مثلا أن ينتفض ثائرا أو يقوم بطردها أو يحاول دفع هذه التهمة الشنعاء عن نفسه . أن يفعل أى شئ يعطيها الفرصة أن تحاوره وتجادله وتسخر منه أمام القوم وهو ما اتفقت عليه مع صاحبها بالأمس . وكان الشافعى من جهته قد أدرك أن وراء هذه المرأة مؤامرة دبرت بليل وأنه يختار بين أمور أحلاها مر . إن حاول طردها أو حاول دفع هذه التهمة عن نفسه ستنال منه لا محالة وهى امرأة ساقطة مأجوره . والصمت أيضا من جانبه لن يزيدها إلا عنادا وافتراء ..
وفى لحظة خاطفة مرت عليه كأنها دهر إختار الشافعى أن يقطع عليها باب الحوار والجدل وفى الوقت نفسه يكل أمرها إلى الله تعالى وهو يعلم يقينا أنه معه وأنه لن يضيعه أبدا . لقد حفظ ووعى فى طفولته عندما كان يتردد على كتاب الشيخ إسماعيل , قوله تعالى فى سورة الحج [ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ] ..
خرس لسانها ولم تجد ما تقوله أو تعقب به , بعد أن أعطاها ما ادعت أنه حقها . وضعت الدينار فى جيبها وهى تنظر إليه فى غيظ وحنق , ثم استدارت خارج القاعة والشرر يتطاير من عينيها . نظر القوم لقاضيهم والدهشة لا زالت تعقد ألسنتهم متوسلين إليه بعيونهم أن يفعل شيئا أو يقول كلمة لهم , يريح بها قلوبهم ويطفئ بها تلك النيران التى أججتها فى صدورهم كلمات هذه البغى الحمقاء . لكنه لم يفعل بل التزم الصمت وأسلم وجهه لله . أمام هذا الصمت الذى خيم على قاضيهم والذى لم يدركوا مغزاه لم يجد القوم أمامهم إلا أن يغادروا قاعة القضاء واحدا إثر الآخر , وهم يضربون كفا بكف أن خاب ظنهم فى هذا القاضى الذى كان قدوتهم . لقد تحقق العدل على يديه فذاقوا حلاوته بعد أن تجرعوا كؤوس الظلم والهوان سنين عددا ..
إلا زيد أكثر القوم إيمانا بالشافعى وثقة فى تقواه وطهارته , جلس مكانه مطرقا ذاهلا وهو يضع كفيه على مقدم رأسه , غير قادر على استيعاب ما يدور من حوله . بينما المتآمرون من مكانهم يرقبون فى فرحة تتابع الأحداث وهم مندسون بين الناس وعلامات التشفى والشماتة على وجوههم . لكن فرحتهم وشماتتهم لم تدم إلا لحظات معدودات . أجل إن هى إلا لحظات قليلة حتى فرج الله كربة القوم جاءت الإجابة التى كان القوم ينتظرونها من قاضيهم وهم على أحر من الجمر . لكنها لم تأت منه ولكن أتى الجواب من الله تعالى ولقد خاب من افترى . فبينما المتآمرون على باب الدار يهنئون أنفسهم على نجاح خطة كبيرهم فى تلويث سمعة قاضيهم المبجل وإظهاره أمام الناس فى صورة زئر النساء وشارب الخمر . إذا بهم يرون على البعد شابا يعدو وهو يصرخ بصوت متقطع من الفزع والتعب والغبار يثور من حوله متجها ناحية المرأة لاهثا .............
ــ يا أم الدراهم , يا أم الدراهم , أين أنت يا امرأه . لقد شبت النار فى دارك منذ قليل وأتت على كل ما فيها ومن فيها ..
الله أكبر ما أسرع انتقام السماء حدثت المعجزه وأجاب الله تعالى بدلا من عبده . ها هى المرأة تصرخ مولولة وهى تلطم خديها وسط هذا الجمع الذى كانت تتشدق أمامه منذ لحظات قليلة بالباطل وحديـث الإفك ..
ــ رحماك يارب النار شبت فى دارى . إبنتى إبنتى تركتها نائمة فى الدار . هلكت ابنتى يا ويلى , ذنب القاضى , أنا ظلمته , ظلمت القاضى ...................
ظلت هذه الواقعة الغريبة حديث اليمن كلها لأيام طويله زاد حب الناس خلالها للشافعى وزاد تقديرهم له , بعد أن أظهر الله تعالى براءة ساحته من هذه الفرية الدنيئه أمام الناس جميعا وطهارة ذيله ونقاء سريرته , وتعدت شهرته من نجران إلى سائر بلاد اليمن الأخرى . وكانت أم الدراهم قد أعلنت توبتها من ممارسة الرذيلة بعد هذه الفاجعه التى فقدت فيها ابنتها وفقدت دارها وما تدخره فيها من متاع ومال حرام . رجعت إلى الله نادمة على ما فعلت من آثام راجية منه تعالى أن يغفر لها ما تقدم من ذنوبها بعد أن حكت تفاصيل المؤامرة لأهل نجران وفضحت هؤلاء المتآمرين على الملأ وهى تخطو خطوتها الأولى فى طريق التكفير عن ذنوبها ..
لكن أبت الليالى أن تدع الشافعى ينعم براحة البال بين كتبه وعلومه التى كان يجد فيها سلوته وسعادته . كان ريب المنون له بالمرصاد وكانت المحنة الكبرى التى غيرت مسار حياته ووضعته رغما عنه فى بؤرة الأحداث ومركز دائرة الضوء ..

يتبع.. إن شاء الله ............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 16h24
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 30/03/2009, 08h31
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

وراء القضـبان

@ هب الشافعى فزعا من رقدته الخاطفة وهو يفرك عينيه . إستطاعت عيناه أخيرا أن تغفل قليلا فى هذا المكان الكئيب . أخذ ينظر حواليه فى تكاسل لمعرفة ما مر عليه من زمن وهو نائم هكذا . كان لا يزال هناك خيط ضعيف خافت من ضوء النهار ينبئ أن شمس هذا اليوم فى طريقها للمغيب . رنا إليـه شعاعه وهو يتسلل على استحياء من كوة ضيقة فى تلك الزنزانة الرطبة اللعينة التى أودعوه فيها وحده . فى ذات الوقت كان حارسه صلاح الدين جالسا بالقرب من الباب يتابع بعينيه مجمرة أمامه فيها قطع من الفحم المتأجج وفى يده كوب من شراب الزنجبيل الدافئ يحتسيه فى ملل وفتور . بينما أصابع يده الأخرى تعبث فى حركة رتيبة بشعرات لحيته الخفيفه ..
بدا الشافعى منكمشا على نفسه من برودة المكان وسكونه وهو يشعر بالقشعريرة تدب فى أوصاله محاولا أن يمسح آثار النوم عن عينيه . إلتفت إلى سجانه من بين قضبان السجن وقد صار بينهما نوعا من الصداقة وشيئا من الألفة والموده فى تلك الأيام القلائل التى مضت عليه وهو فى هذا المكان لا يرى فيها سواه وزميله المناوب معه القائم على حراسته منذ أن ساقوه من اليمن إلى العراق ..
فلم يكد حماد البربرى يعود إلى أرض اليمن بعد لقائه بأمير المؤمنين وأخذ الإذن منه بإحضار السجناء إليه فى العراق , حتى أصدر أوامره بترحيلهم جميعا إلى هناك يتقدمهم الشافعى فى موكب مهين على أقتاب الإبل وأيديهم مغلولة فى الأثقال إلى أعناقهم تسبقهم تهم التشيع لآل البيت ورفض كل من تولى الخلافة قبل سيدنا على وبعده , والخروج والتمرد على أمير المؤمنين وعدم الإعتراف بخلافته ..
دل هذا الرجل وهو يسعى للبحث عن أفراد هذه الفئة الضالة على أنه شديد الخبث والدهاء لما وضع خطته وقرر أن يزج باسم الشافعى ضمن أسمائهم , ليس هذا فحسب بل ويجعله كبيرهم وزعيمهم . وفى بغداد مدينة السلام أودعوه هذه الزنزانة وحده باعتباره المتهم الأول وكبير المتمردين فى نظرهم . أما بقية السجناء أفردوا لهم حبسا جماعيا فى مكان قريب فى انتظار محاكمتهم بعد عودة أمير المؤمنين هارون الرشيد من مدينة الرقه . وهى المكان الذى كان يحلو للرشيد أحيانا أن يمضى بعض الوقت فى دار للملك أعدها فى تلك المدينة الصغيرة الوادعه التى تقع فى مكان هادئ على الضفة الشرقية للفرات شمال غربى الجزيره . إتخذ الرشيد هذه المدينة خصيصا لتكون قاعدة لهجومه على الفرنجه حيث ينطلق من أرضها ليغزوهم عبر البحر الأسود وبحر الروم ..
كان مسلك الشافعى فى زنزانته هو الذى أوجد تلك الألفة والمودة بينه وبين حارسيه حيث يقضى جل وقته ما بين الصلاة والدعاء أو قراءة القرآن بصوته الرخيم العذب . وأحيانا أخرى يدون فى أوراق معه على ضوء فتيل ضعيف بعض المسائل والأحكام التى يتوصل إليها مخافة الضياع أو النسيان . وفى بعض الأوقات يجلس إلى حراسه معلما ومفتيا إن تصادف وسأله أحدهم عن مسألة تتعلق بأمور الشرع أو تفسير آية من القرآن أو حديث للنبى "صلى الله عليه وسلم" ..
كل هذا جعل حراس السجن جميعا بما فيهم حارسى زنزانته اللذان كانا يتبادلان الحراسة عليه يوقرونه ويحفظون له قدره ومنزلته . لم يخاطبوه مدة إقامته معهم إلا ولقب الشيخ يسبق إسمه . ومن ناحيته هو كان لا يخاطب حارسه صلاح الدين إلا باللقب المحبب لديه "أبا الصلح" والذى كان إخوانه يخاطبونه به أيضا . إلتفت إليه وناداه .............
ــ أبا الصلح , هل أذن لصلاة المغرب ؟.
إنفرجت عن شفتيه ابتسامة مقتضبة باردة برودة هذا المكان الكئيب وهو يلتفت ناحيته قائلا .............
ــ من ؟. شيخنا التقى الصابر . صح النوم أيها الشيخ , إيه ... كأنك لم تنم منذ أيام , ما خطبك اليوم ؟.
ــ الحمد لله أخيرا حصلت بعض النوم . صدق الإمام على بن أبى طالب لا يقهر ابن آدم حقا إلا النوم ولا يقهر النوم إلا الهم . لم أشعر بنفسى يا أبا الصلح إلا والفراش يبتلعنى كغريق فى بحر الظلمات بعد أن مرت على ثلاث ليال لم يغمض لى فيها جفن أو تقر عين ..
ــ صدقت أيها الشيخ فلا أشق على نفس الإنسان من مكابدة الهموم . إيـه , يبدو أنك تحمل الكثير منها فى نفسك . ما علينا , ليهنك النوم يا شيخنا الطيب ..
رد قائلا وهو يتنهد فى أسى ................
ــ إيه يا أبا الصلح كيف تنام لى عين أو يقر لى جفن وقد تركت المرأة وصغارها وحدهم فى ديار الغربه . حتى الغلام الذى يقوم على خدمتى , كان مصرا على مرافقتى , لم يكف أبدا عن البكاء والصراخ وهو متعلق بأذيال ردائى يناشد العسكر ويرجوهم أن يأخذوه معى . لم يتمكنوا من انتزاعه بعيدا عنى إلا بعد أن لطمه أحدهم بيده لطمة قوية أفقدته الوعى ..
ــ لا تيأس أيها الشيخ ولا تحزن . إن الله تعالى معهم لن يضيعهم أبدا ..
ــ أعلم أن الله تعالى لن يضيعهم ولن يتخلى عنهم , لكنها الشفقة والخوف الغريزى المودعان فى قلب ابن آدم . كيف أدفعهما عنى أو أمنع عنهما نفسى . نحن فى النهاية بشر ضعفاء أيها الحارس ..
ــ هل يعيشون وحدهم . أليس معهم أحد قط ؟.
ــ إنهم الآن فى طريقهم إلى مكه ..
ــ كيف علمت ؟.
ــ لقد أوصيتها فى عجالة والجند ينتزعوننى انتزاعا من بينهم أن تأخذ الولد والبنية وكذلك الغلام وأن ترحل بهم إلى ذى طوى بمكه حيث يقيم أخوالى الأزد لتكون بينهم وفى كنفهم فى انتظار ما تقضى بـه المقاديـر ..
مرت لحظات صمت كئيب قبل أن يفاجئ صلاح الدين سجينه قائلا ................
ــ إسمع يا أبا عبد الله , لقد طرأت على خاطرى الآن فكرة سأعرضها عليك أظن أنها سترضيك وتريح فؤادك وخاطرك ..
نظر إليه الشافعى متسائلا فأردف قائلا ................
ــ ما قولك فى أن تخط الآن رسالة لأهلك تطمئنهم فيها عليك ؟.
أطرق الشافعى برهة يتدبر الأمر , ثم رفع وجهه قائلا وقد انفرجت أساريره .....
ــ رأى سديد لا بأس به , لكن من ذا الذى سيقوم بتوصيلها إليهم ؟.
ــ لا تهتم لهذا , عندى من سوف يوصلها لهم فى أمان وفى ذات الوقت يأتيك بأخبارهم كى يطمئن قلبك وتقر عينك . هيه ما قولك ؟.
ــ من ذا الذى يرفض أمرا كهذا سأفعل إن شاء الله , لكنك لم تجبنى بعد , من هذا المغامر الذى يقوم بتلك المهمة الخطره معرضا نفسه للخطر الجسيم ؟.
ــ أى خطر هذا الذى تتحدث عنه أيها الشيخ الطيب ؟.
ــ كيف تسأل سؤالا كهذا يا أبا الصلح ؟. هل غاب عنك أن حامل رسالة كهذه يضع نفسه موضع الإتهام . أنسيت ما الذى يمكن أن يحدث له لا قدر الله إن أمسك به واحد من جنود الخليفه وفى جيبه رسالة كتبها من لا يزال حتى الآن فى نظرهم متمردا عاصيا ؟.
ــ دع عنك هذه الظنون أيها الشيخ إنما هى مهمة يسيرة بإذن الله وليست كما تظن بهذه الصعوبه . لقد اخترت لها واحدا أثق فيه وفى مقدرته على المراوغه كما أنه لن يشك أحد فيه ..
ــ من يكون ؟.
ــ سالم , شقيقى الأصغر , شاب فتى لبيب يشتغل بصناعة الخزف وله معمل لصناعة المواد الخزفية فى بغداد . إنه كثير الترحال دائم السفر لتوزيع بضاعته وبالطبع لن يشك فيه أحد . هيا يا شيخ لا تضيع الوقت أمامك المحبرة والريشه ما عليك إلا أن تكتب الرسالة الآن ودع الباقى على أخيك صلاح الدين . يعلم الله كم أحببتك أيها الشيخ الحجازى هيا لا تشغل بالك أنت ..
ــ حسن حسن سأخطها إن شاء الله . أخذنا الكلام بعيدا وشرد بنا الحديث ولم ترد على سؤالى بعد يا أبا الصلح ..
ــ عن أى شئ كنت تسألنى ؟. آه تذكرت كنت تسأل عن صلاة المغرب . لا لم يحن وقتها بعد . أظنك صليت صلاة العصر قبل أن ترقد تلك الرقده ؟.
ــ أجل صليتها فى وقتها لئلا تفوتنى ..
صمت برهة وأردف قائلا .............
ــ يا أبا الصلح كيف تفوتنى صلاة العصر فى وقتها وقد حدثنى إمام دار الهجره مالك بن أنس عن نافع عن عبد الله بن عمر عن النبى "صلى الله عليه وسلم" أنه قال : [ الذى تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ] ..
ــ زادك الله علما وتقى أيها الشيخ ..
ثم أردف قائلا وهو يشير على قربة الماء فى ركن الزنزانه .............
ــ أرى الماء قد فرغ من عندك هات قربة الماء أملأها لك كى تتوضأ ..
ناوله القربة الفارغة وهو يدعو له شاكرا ثم جلس فى انتظاره مسندا ظهره على باب الزنزانة وراح فى تفكير عميق أخذه عما حوله حتى أنه لم يشعر به وهو يمد له يده بقربة الماء ضاحكا ..............
ــ إيـه أيها الشيخ المكى الطيب رجعنا للشرود مرة أخرى فيم كل هذا الشرود يا ترى ؟.
ثم أردف قائلا ...............
ــ بعد الضيق يأتى الفرج إن فرج الله قريب ألست أنت الذى علمتنا ذلك . إن لك بيتان من الشعر سمعتهما منك منذ أيام كنت تتكلم فيهما بكلام عن الضيق والفرج لكنى نسيتهما ليتك تعيدهما ؟.
ــ ولرب نازلة يضيق لها الفتى .. ذرعا وعند الله منها المخرج ..
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها .. فرجت وكنت أظنها لا تفرج ..
ــ الله الله كلام مليح طيب . والله إنك لتنطق بالحكمة ومأثور القول . فيم الضيق إذن أيها الشيخ ؟.
ــ لا لا إنها مسألة أخرى لا علاقة لها بفراق الأهل ..
ــ هلا أخبرتنى عنها ؟.
ــ سأخبرك عنها بعد أن أتوضأ وأناجى ربى ..
ثم تمتم فى سره ............ أجل إن ما رأيته فى منامى قبل قليل لأمر عجيب ..
إنهمك الشافعى فى وضوئه ثم جلس فى مواجهة القبلة يدعو ربه , بينما أبو الصلح رابض فى مكانه ينتظر بفارغ الصبر أن يفرغ السجين من دعائه ومناجاته لربه كى يحدثه بما عنده بعد ان أثار فضوله . إنها فرصة كى يبدد هذا الملل اللعين فالوقت يمضى حثيثا متثاقلا فى تلك الأماكن المغلقة الكئيبه . فرغ الشافعى من مناجاته لربه فاتجه إليه أبا الصلح مسرعا فى لهفة وفضول بعد أن صب له قدحا من الإبريق الساخن ثم أعاده مكانه بين قطع الفحم المتأججة فى المجمرة أمامه قائلا ..............
ــ تقبل الله دعاءك أيها الشيخ , خذ إليك هذا الشراب الدافئ إنه شراب الزنجبيل الحار سيشيع الدفئ والحرارة فى جسدك . هيه أخبرنى الآن ما خطبك اليوم أيها الشيخ الصابر . وما هى تلك المسألة التى أهمتك كل هذا الهم التى وعدت قبل قليل أن تخبرنى عنها ؟.
تناول منه القدح شاكرا ثم رشف منه رشفة وقال ...............
ــ إسمع يا أبا الصلح سأحكى لك أمرا عجيبا رأيته فى منامى قبل قليل ..
ــ وأنا كلى آذان صاغيه خيرا إن شاء الله ..
ــ رأيت فيما يرى النائم كأنى قاعد وحدى فى سوق الطواف عند البيت الحرام فإذا أنا بعلى بن أبى طالب كرم الله وجهه أقبل تجاه البيت . قمت إليه فعانقته وعانقنى وصافحته وصافحنى . ثم رأيته يخلع خاتمه من إصبعه ويجعله فى إصبعى وبعد ذلك رأيت شيئا عجيبا ..
سكت الشافعى برهة احتسى خلالها رشفة من الشراب فاستحثه الحارس فى لهفة وقد استولى عليه الدهش والذهول .................
ــ هيه وماذا بعد ما الذى رأيته ؟.
ــ رأيت بعد ذلك يا أبا الصلح ما هالنى وأفزعنى . رأيتنى وكأنى مصلوب على قناة وإلى جوارى على بن أبى طالب . نظرت إليه نظرة خاطفة ثم صحوت فزعا من نومى . ترى هل هذه هى النهاية يا أبا الصلح ؟. إنى لأظنها كذلك .
رد الحارس قائلا , بعد أن أطرق برهة يفكر باهتمام فيما سمعه فى التو .....
ـ خيرا إن شاء الله خيرا لا توجل يا صاحبى . أعرف رجلا فى بغداد إسمه أبو جعد الزهراوى يعبر المنامات والرؤى إنه حاذق فى هذا العلم متمكن فيه ..
ــ متى تلتقى به ؟.
ــ بعد أن أنتهى من ورديتى هذه الليلة قبل أن أرجع إلى دارى سأعرج عليه فى خلوته وأقص عليه رؤياك وفى الغد إن شاء الله سآتيك منه بتأويلها . هه دعنى الآن لأحضر لك طعامك ريثما تصلى أنت صلاة المغرب لقد حان وقتها الآن ..
أثناء تناوله طعامه إلتفت إلى حارسه متسائلا ............
ــ أبا الصلح هل تعرف رجلا من الكوفه إسمه محمد بن الحسن ؟.
ــ تقصد محمد بن الحسن الشيبانى ؟.
ــ أجل إنه هو هل تعرفه ؟.
ــ ومن ذا الذى لا يعرفه .
ــ كيف ذلك ؟.
ــ إنه فقيه البلاد وقاضى قضاة بغداد والكوفه ..
ــ منذ متى ؟.
ــ لقد تولى القضاء منذ عامين بعد وفاة قاضى البلاد أبى يوسف الأنصارى تلميذ أبى حنيفه . إن للقاضى محمد بن الحسن منزلة كبيرة عند أمير المؤمنين هارون الرشيد حتى إنه لا يفارقه أبدا فى أى مكان يذهب إليه . لكن ما الذى دعاك للسؤال عنه هل تعرفه ؟.
ــ أجل لقد تزاملنا زهاء تسع سنين بالمدينه فى حلقة إمام دار الهجره مالك بن أنس بعدها سافرت إلى اليمن للعمل بالقضاء ورجع محمد بن الحسن إلى العراق ومن أيامها إنقطعت عنى أخباره ولم أعد أعلم عنه شيئا . عموما هذه أخبار طيبة لا بأس بها . الحمد لله إنتهيت من طعامى هيا ارفع هذه الأوعيه ..
نظر إلى أطباق الطعام التى لم ينقص منها إلا القليل من الإدام والدهشة بادية على وجهه قائلا ..........
ــ معذرة أيها الشيخ أتسمح لى أن أسألك سؤالا ؟.
إبتسم الشافعى قائلا بعد أن فطن إلى سؤاله .............
ــ إسأل يا أبا الصلح ..
ــ ألاحظ أنك مقل فى طعامك راغب عنه هل هذا دأبك دائما أم أن طعامنا لا يروق لك . ما السبب يا ترى ؟.
إبتسم قائلا ..............
ــ يا أبا الصلح ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة واحدة طرحتها على الفور من جوفى ..
عقب على قوله باستغراب كأنه غير مصدق .................
ــ لم تشبع منذ ست عشرة سنة إلا شبعة واحدة . ولم تسمح لها بأن تبقى فى بطنك . لم أيها الشيخ ؟.
ــ الشبع يا صاحبى فيه خمس مضار ..
ــ الشبع فيه خمس مضار . ما هى عافاك الله ؟.
ــ يثقل البدن ويقسى القلب , ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العباده , أفهمت ؟.
أجابه مازحا ................
ــ فهمت , لكنى مع ذلك لن أعمل بما تقول. أمجنون أنا حتى أدع الأطعمة الشهية من أجل خمسة مضار كهذه ………………

يتبع.. إن شاء الله ............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 16h45
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 01/04/2009, 21h22
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

@ فى اليوم التالى جاءه صلاح الدين مصطحبا معه شيخا طاعنا فى السن , تمتد لحيته البيضاء الكثيفة إلى مقدمة صدره وخصلات من شعر رأسه الأبيض الناعم تنسدل خارج عمامته فوق ظهره ساترة أذنيه . تقدم من الشافعى بعد أن فتح باب الزنزانة قائلا فى لهجة مرحة بعد أن ألقى عليه السلام .........
ــ أبشر أيها الشيخ المكى , هذا هو الشيخ أبا جعد نجم الدين الزهراوى , أتاك بنفسه ..
مد الشيخ يده مسلما على الشافعى قائلا له وهو يملأ عيناه منه مدققا فى ملامحه .........
ــ أهلا بك يا ولدى , كنت أود أن ألقاك فى مكان آخر غير هذا المكان الكئيب الموحش . لكن الحمد لله الذى أطال فى عمرى حتى أتى يوم ألقى فيه مثلك ..
ــ شكرا لك يا سيدى الشيخ على حسن ظنك ..
ثم أردف معاتبا حارسه صلاح الدين .......
ــ لقد شققت على الشيخ يا أبا الصلح وأتعبته . كان يكفى أن تبلغنى بما قاله لك دون أن تكلفه مشقة الحضور إلى هذا المكان ..
ــ والله لا ذنب لى فى ذلك , سله أنت بنفسك . حاولت أن أثنيه عن الحضور والله يا شيخ لكنه هو الذى أصر . ما إن قصصت عليه رؤياك بالأمس حتى تهلل وجهه وأصر رغم مرضه واعتلال بدنه على أن يأتى معى ليراك ويبشرك بنفسه بتأويلها ..
رد الشيخ قائلا ..........
ــ إسمع يا ولدى تأويل رؤياك , وهى كلها خير وبركة إن شاء الله ..
ــ تفضل أيها الشيخ ..
ــ معانقتك لعلى بن أبى طالب تعنى النجاة من النار فى الدار الآخرة بإذن الله , أما مصافحته لك فهى الأمان يوم الحساب ..
ــ والخاتم الذى جعله فى إصبعى ؟.
ــ آه ... الخاتم الذى جعله فى إصبعك وكذلك رؤيتك لنفسك مصلوبا على قناة مع على كرم الله وجهه , هما بمعنى واحد وإن اختلفت المشاهد ..
سأله الشافعى فى وجل متلهفا ..........
ــ ماذا تعنى سيـدى الشيـخ يرحمك الله ؟.
ــ لا تخف يا ولدى لا تخف , إن صحت رؤياك فسيبلغ إسمك كل موضع بلغ إسم على بن أبى طالب . لن تبقى كورة من الكور ولا مدينة من المدن ولا مصر من أمصار الإسلام إلا علا فيها اسمك ودخل فيه ذكرك وانتشر بين أهله أمرك ..
عقب الحارس مبتهجا ...........
ــ الله الله , ألم أقل لك يا ابن إدريس إنها رؤيا خير وبركه إن شاء الله ..
@ مرت أيام قلائل وبينما الشافعى متربع فى محبسه يقرأ آيات من القرآن بعد أن انتهى من صلاة ركعتى الفجر , إذا به يسمع على البعد جلبة شديدة وأصوات أقدام تدب فى قوة على الأرض . إلتفت بصره بين القضبان وهو لا يزال فى مكانه يتلمس الخبر فإذا هو بحارسه صلاح الدين يقترب من باب الزنزانة وعلى مسافة قريبة منه وقف بعض الحراس ورجال الشرطه ..
كان يبدو حزينا على غير عادته وكيف لا يحزن وقد حانت لحظة الفراق . لم يدر إن كان سيراه مرة أخرى أم أنه الوداع الأخير , الجناية المتهم فيها صاحبه لا جزاء لها إلا سيف الجلاد ..
حاول أن يخفى مشاعره فلم يجد إلى ذلك سبيلا , سبقته دموعه رغما عنه حتى أنه تمنى بينه وبين نفسه لو لم يره أو يتعرف عليه قبل اليوم . أيام قلائل قضاها معه الشافعى وراء أسوار السجن . إلا أنها كانت فرصة فريدة له تعرف خلالها على شخصية فذة مثله , تعلم منه خلالها كثيرا من أمور دينه لم يكن يعلم شيئا عنها..
كان ينصت إليه باكيا وهو يقرأ القرآن بصوته الرخيم فينتظر حتى ينتهى من قراءته ليسأله عن معانى بعض الكلمات والآيات التى كان يستمع إليها منه . من ذلك أنه سأله ذات مرة عن معنى الشطر فى قوله تعالى : [ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ] أجابه الشافعى ............
ــ شطره أى جهته فى كلام العرب , فإذا قلت أقصد شطر كذا معناه أقصد عين كذا . قال خفاف إبن عم الخنساء ... ألا من مبلغ عمرا رسولا .. وما تغنى الرسالة شطر عمرو ..... أى قصد جهته ..
وكم من مرة صحح له الشافعى كثيرا من مفاهيمه الخاطئه حول بعض أحكام الشرع وأفتاه الفتوى الصحيحه . سأله مرة وهو يرقبه بعد فراغه من صلاة العشاء ...........
ــ هل تسمح لى أن أسألك أيها الشيخ عن شئ لاحظته فى صلاتك الآن ؟.
إبتسم الشافعى ............
ــ سل ما بدا لك يا أبا الصلح ..
ــ لاحظت أنك كنت تدعو فى صلاتك بأدعية كتلك التى يدعو بها المرء فى غير الصلاه ..
ــ آه , تقصد أنى كنت أدعو بغير ما فى القرآن , أليس كذلك ؟.
ــ بلى أيها الشيخ . على قدر ما أعلم فإن الأمر بخلاف ذلك ؟.
ــ كيف ؟.
ــ سمعت القاضى محمد بن الحسن يقول فى مسجد بغداد ذات مرة ........ من دعا فى الصلاة بغير ما فى القرآن تفسد صلاته وإن دعا بما فى القرآن لا تفسد ..
ــ الأمر ليس كذلك يا أبا الصلح , أرأيت إن دعا المصلى ربه قائلا ..... أطعمنا بقلا وقثاء وفوما وعدسا وبصلا ؟.
ــ من دعا بذلك تفسد صلاته ..
ــ ما قولك فى أن هذا الذى دعا به جاء فى القرآن أتفسد صلاته أيـضا ؟.
ــ فما هو الحكم الصحيح إذن ؟.
ــ الحكم هو أن ما يجوز أن يدعو به المرء فى غير الصلاه جاز أن يدعو به فى الصلاه لأن المخاطبة فى ذلك ليست إلى الآدميين . وقد دعا النبى "صلى الله عليه وسلم" لقوم وسماهم بأسمائهم ونسبهم إلى قبائلهم . ولا أعلم أحدا من أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" اختلف فيه ..
ــ هل هناك دليل آخر من السنة على ذلك ؟.
ــ قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : [ وإنى نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا الرب فيه وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء فإنه قمن أن يستجاب لكم ] فالنبى "صلى الله عليه وسلم" لم يخص فى هذا الحديث دعاء من دعـاء ..
ــ فما هو المحرم من الكلام فى الصلاه ؟.
ــ المحرم من الكلام إنما هو كلام الناس بعضهم بعضا فى حوائجهم . فى هذا يقول الصحابى معاويه بن الحكم السلمى ............. بينا أنا أصلى مع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرمانى القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمى ما شأنكم تنظرون إلى ؟. فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتوننى سكت . فلما صلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال : [ إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ] ..
وذات مرة سأله .............
ــ يا شيخ , ما تقول فى من أفتى بأنه من أفطر يوما فى رمضان , قضى عنه إثنا عشر يوما ؟.
إبتسم الشافعى قائلا ..........
ــ ما دليله على قوله هذا يا أبا الصلح ؟.
ــ يقول إن الله عز وجل اختار شهرا للصيام من اثنى عشر شهرا ..
ضحك قائلا ...........
ــ فمن ترك الصلاة ليلة القدر وجب عليه أن يصلى ألف شهر على قياسه , فإن الله تعالى يقول “ ليلة القدر خير من ألف شهر “ ……………
مرت ذكرياته مع الشافعى سريعا على خاطره . حاول أن يكتم بكاءه ويحبس دموعه وعيناه تنظران إليه فى شفقة وخوف وقد طوفت على خاطره كلمحة بارق أحاديثه وذكرياته معه فى تلك الأيام القلائل . قبل أن تمتد يده بالمفتاح فى باب الزنزانة الحديدى ويدلف داخلها وحده سلم عليه وحياه قائلا لـه ..........
ــ هيا يا صديقى ..
ــ إلى أين أنت ذاهب بى يا أبا الصلح ؟.
ــ سترحل فى الحال مع باقى المقبوض عليهم للقاء الرشيد فى مدينة الرقه . ورد البريد من عنده اليوم آمرا أن يحمل السجناء كلهم إليه هناك ..
لم ينس صلاح الدين وهو يعانق الشافعى قبل أن يتركه لجند الخليفة أن يهمس فى أذنه قائلا ........... أخى سالم شد الرحال إلى مكة فجر اليوم كما سبق ووعدتك ليطمئن على وصول أهلك سالمين وهو يحمل معه كتابك الذى ائتمنته عليه , ووعدنى أن يوصله إلى خالك على فى دكان العطارة القريب من الحرم , هل تريد منى شيئا آخر ؟.
ــ بارك الله فيك يا أبا الصلح وأعاننى على رد جميلك هذا . أعدك إن كتبت لى النجاة فلسوف أزورك إن شاء الله فى دارك فى بغداد ..
فى هذا الكتاب أودع الشافعى وصيته لأهله إن أصابه مكروه وأعلم فيه خاله على بما هو عليه من حال , والظلم الذى وقع عليه على يد حماد البربرى وأنه برئ من تلك الفرية الدنيئه والوشاية الكاذبه . كان الشافعى غير واثق من نجاته من سيف الجلاد فخط هذه الرسالة على عجل إلى أهله , وكانت فرصة فريدة أن يجد فى هذا المكان الموحش من يغامر بنفسه ويقوم بهذه المهمة الشاقة العسيرة التى ربما تكلفه حياته لو وقع فى أيدى الشرطه , سيعد فى تلك الحالة شريكا متعاونا مع واحد من الخارجين المغضوب عليهم من قبل أمير المؤمنين ..

يتبع.. إن شاء الله...........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 16h55
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 04/03/2009, 18h06
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

الأخت الصديقه عفاف سليمان
أشكرك على هديتك الغاليه النفيسه , نسأل الله تعالى أن ينفعنا والحاضرين بما فيها من طيب الدعاء وحلو الكلام , وأهلا بك مرة أخرى فى سماعى , ونكمل سيرة الإمام .....
::::::::::::::

__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 16h19
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 09/04/2009, 10h18
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن

شكرا من القلب لكل من السيده عفاف سليمان
ولبلدياتى الأستاذ حامد عيطه على متابعتهما للسيره ,,
سائلا الله تعالى أن يعيننا على إكمال أحداثها على الوجه الذى يرضى ربنا ثم يرضى كل من يقرأها

__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 17h11
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 16/04/2009, 18h57
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

ــ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ..
رد الرشيد ..............
ــ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته , بدأت بسنة لم تؤمر بإقامتها , وزدنا فريضة قامت بذاتها , ومن أعجب العجب أنك تكلمت فى مجلسى بغير أمرى ..
ــ يا أمير المؤمنين , إن الله عز وجل وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا . وهو سبحانه وتعالى إذا وعد وفى , وهو الذى مكننى فى أرضه وأمننى بعد خوفى يا أمير المؤمنين ..
ــ قد أمنك الله إذ أمنتك أنا !.
ــ وأنا علمت أنك لا تقتل قومك صبرا ولا تزدريهم بغدرتك هجرا ولا تكذبهم إذا أقاموا لديك عذرا ..
ــ أجل هو ذلك , فما عذرك يا قاضى نجران مع ما أرى من حالك وتسييرك من حجازك إلى عراقنا التى فتحها الله علينا بعد أن بغى صاحبك الطالبى ثم اتبعه الأرذلون وأنت رئيسهم . فما ينفع لك القول مع إقامة الحجه , ألست أنت الداعى والمحرض إلى الفتنة والعصيان ؟!.
ــ مولاى أمير المؤمنين . بسم الله الرحمن الرحيم .....يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ..
ــ صدق الله العظيم . أوليس الأمر كما قيل فيك ؟!.
ــ يا أمير المؤمنين , إن رأيت فاسمع كلامى أولا واجعل عقوبتك من وراء لسانى , فلسنا نتكلم إلا على العدل والنصفه . ثم ضمنى بعد ذلك إلى ما يليق لى من الشدة أو الرخاء ..
ــ إذن تكلم قل الحقيقه !.
ــ والله يا أمير المؤمنين لو اتسع لى الكلام على ما بى لما شكوت لكن لى مطلب واحد قبل أن أسوق دفاعى ؟!.
ــ ما هو ؟!.
ــ إن الكلام مع ثقل الحديد يعور فإن جدت على بفكه تركت كسره إياى وأفصحت عن نفسى وإن كانت الأخرى فيدك العليا ويدى السفلى والله غنى حميد ..
نظر الرشيد لغلامه سراج وقال له آمرا .............
ــ يا سراج حل عنه هذه السلاسل والأغلال من قدميه ويديه ..
إمتثل الغلام ثم بادره الرشيد بعد فك قيده قائلا .............
ــ بلغنى أنك تقول إنك للخلافة أهل ؟!.
ــ حاشا لله أفك المبلغ وفسق إن لى يا أمير المؤمنين حرمة الإسلام وذمة النسب وكفى بهما وسيلة وأحق من أخذ بآداب الله تعالى نحن أبناء عمومة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
ــ فما قولك عما بلغنى عن زعمك أنى لا أصلح للخلافه وأنك شققت عصا الطاعة وخرجت مع العلوية علينا ؟!.
ــ يا أمير المؤمنين لست بطالبى ولا علوى وإنما أدخلت فى هؤلاء القوم بغيا على وافتراء ..
ــ ألست من أولئك الرافضه ؟!.
ــ قالوا ترفضـت قلت كلا .. ما الرفض دينى ولا اعتقادى ..
لكن توليت غيـر شـك .. خيـر إمـام وخيـر هـادى ..
إن كان حب الولى رفضا .. فـإن رفضى إلـى العبـاد ..
ــ فمن تكون ؟!.
ــ أنا رجل من بنى المطلب بن عبد مناف بن قصى ..
ــ ما اسمك يا رجل ؟!.
ــ إسمى محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف . ولى مع ذلك النسب حظ من العلم ..
ثم التفت إلى محمد بن الحسن الشيبانى واستطرد قائلا وهو يشير إليه ..............
ــ والقاضى بن الحسن يعرف ذلك ..
كان الشافعى فى تلك اللحظة وقبل أن تشير يده على القاضى , قد وردت على مخيلته كالبرق العارض حكاية حكاها له الأصمعى عالم اللغة العربية وراويتها الأكبر قبل حوالى عشرين عاما , عندما التقى به فى ساحة الكعبة وهو يقرأ عليه أشعار هذيل ..
كان الأصمعى يحكى له محنة كهذه تعرض لها فى العام الذى لقيه فيه وحوكم فيها أمام الخليفة المهدى والد الرشيد , بتهمة الدعوه لبنى أمية والميل لهم وكان حاضرا هذه المحاكمه إلى جوار المهدى شيخ المحدثين سفيان بن عيينه أستاذه وأستاذ الشافعى ..
حكى له كيف أن الأقدار على غير تقدير منه فى ذلك اليوم ساقت إلى مجلس الخليفة المهدى أستاذهما سفيان بن عيينه ليكون شفيعا له وشاهدا معه فى هذا الموقف العصيب . هذه الواقعة التى اختزنها الشافعى فى أعماق ذاكرته ووردت علي خاطره فى لحظة خاطفة فتحت له بابا من أبواب الأمل والرجاء فى النجاه عندما وقعت عيناه على محمد بن الحسن وهو متربع إلى جوار الرشيد , وإن كانت تهمته أشنع من تهمة الأصمعى وأدعى للفزع ..
إلتفت الرشيد عن يمينه إلى القاضى كأنه يسأله فأجاب قائلا ...........
ــ أجل يا أمير المؤمنين أعرفه وله من العلم محل كبير . لقد تزاملنا سنوات فى حلقة إمام دار الهجره , والأمر الذى رفع عليه ليس من شأنه ولا يجوز أن يكون مثله ضمن هؤلاء أبدا ..
أطرق الرشيد قليلا ثم نظر إلى الشافعى كأنه يطلب مزيدا من البيان . فهم الشافعى مراده فقال على الفور .............
ــ يا أمير المؤمنين كأنك اتهمتنى بالميل عنك والإنحراف إلى هؤلاء . أأدع من يقول أنى إبن عمه إلى من يقول أنى عبده !. كيف أغدر بسادات بنى عبد مناف وأنا منهم وهم منى ؟!.
هكذا قلب الشافعى الموقف لصالحه بعد أن كان مسؤولا صار سائلا . كأنما قد دار حوار صامت بينهما بعد هذه الرمية الصائبة التى سددها بإحكام , وهو الذى يجيد فن الرماية ودقة التصويب على الهدف بالرمح وبالكلمة على حد سواء ..
تغيرت مجريات الأمور وسكت الغضب عن الخليفة الذى ظل صامتا برهة من الزمن كان يستعيد خلالها تاريخ الأجداد . ذلك التاريخ الذى لخصه الشافعى فى كلمات قلائل والرشيد يقلب عبارته فى رأسه ....... “ أأدع من يقول أنى إبن عمه إلى من يقول أنى عبده “ ؟!………………
أخيرا رفع رأسه قائلا .............
ــ أجل أجل الأمر كما تقول يا رجل . ما فى الأرض علوى إلا وهو يظن أن الناس كلهم وبالأخص قريشا عبيدا له ..
كان الشافعى رابط الجأش لم يفقد اتزانه فرقا أو يأسا حتى وهو يرى رؤوس القوم تتهاوى أمامه . موقنا أن العبرة لن تتم إلا بأن تلحق رأسه برؤوسهم . وكان من نعم الله عليه ذلك اللسان الذلق والبلاغة النادره , وقدرته على التصويب على الهدف فى ثبات وسرعة بديهة وهدوء نفس غير هياب ولا مرتاع ولا متردد .. وكأنما هيأه الله له لهذا اليوم العصيب .
فى دفاعه ارتكن على حقائق تاريخية يعلمها الرشيد تماما , وهى أن المطلب جد الشافعى وهاشم جد الرشيد كانا أخوين متناصرين قبل الإسلام كما كان أخواهما الآخران أخوين متناصرين قبل الإسلام وهما نوفل وعبد شمس جد بنى أميه أعداء بنى العباس . وتكفل المطلب بابن أخيه عبد المطلب بعد موت أبيه هاشم ..
والرشيد يعلم تماما أن جدود الشافعى وهم بنو المطلب كانوا دوما أنصار جدوده بنو هاشم وأنهم كانوا معهم حزبا واحدا على جدود بنى أميه . كان يعلم أيضا أنه لما كتبت الصحيفة بينهم وبين بنى هاشم دخل بنو المطلب مع بنى هاشم ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل . وكان يقال للمطلب وهاشم البدران بينما يقال لنوفل وعبد شمس الأبهـران ..
وهكذا تكلم الشافعى لغة التاريخ التى يعلمها الرشيد جيدا ولجأ إلى صفحاته واستطاع بعلمه وفطنته أن يدفع عن نفسه تلك التهمة الشنيعة التى لا جزاء عليها إلا الموت ..

@ إستمر الشافعى يحكى لأهله قصة محنته الكبرى كانوا يستمعون إليه وهم متحلقون من حوله وقد أخذهم الدهش والرهب من هول ما يسمعون وهو يقول لهم مستأنفا حديثه .............
ــ إستمع أمير المؤمنين إلى دفاعى وبدا عليه وكأنه فى سبيله إلى أن يقنع بما سقته إليه من حجج وأسانيد , إلا أنه لم يشأ أن يعلن عن عفوه عنى بعد .. ذلك ما بدا لى منه .....
سألت أم حبيبه .............
ــ وما الذى فعله إذن ياقرة العين ومهجة الفؤاد ؟!.
ــ ردد النظر بين قائد الشرطة وبين حراسه ثم قال آمرا ............
ــ إحبسوه فى دار العامه وبعد الغد يأتى إلينا ..
ــ وماذا بعد يا ولدى ؟!.
ــ أخذونى إلى هذه الدار وهو مكان نظيف رحب وفيها من كل شئ ولى أن أفعل فى داخلها ما أشاء , لكنه غير مسموح لى بمغادرتها أو التحرك خارج جدرانها . وفى المساء جاءنى القاضى أبو عبد الله محمد بن الحسن يتحدث معى ويستعيد ما كان بيننا من حكايات وذكريات ونوادر فى المدينه قبل سنوات . كنت فى حقيقة الأمر أميل إلى هذا الرجل لسعة علمه وفقهه رغم اختلافنا كثيرا فى الرأى لتباين منابع الفكر عند كل واحد منا . كنت آمل فى ذات الوقت أن يشفع لى عند الرشيد , لكنى فوجئت به يهجو أهل المدينة ويخفض من قدرهم ويضع من علومهم ..
سأله عبد العزيز مستنكرا ..............
ــ يهجو أهل المدينه ؟!. كيف يفعل ذلك من هو مثله من أهل العلم ؟!.
ــ ليس هذا فحسب بل إنه فى المقابل يذكر أصحابه العراقيين ويرفع من أقدارهم . ثم قال لى وهو يخرج كتابا ضخما من بين طيات ردائه , أمسك به فى يده قائلا ...
ــ لقد وضعت على أهل المدينة هذا الكتاب أفند فيه أقوالهم وأفعالهم . إعلم أنى لو وجدت أحدا ينقض منه حرفا لضربت إليه أكباد الإبل لأسمع منه ..
ــ ليتك تدع لى هذا الكتاب سأعكف عليه هذه الليله وفى الغد نلتقى إن شاء الله ..
ــ وأنا ما جئتك إلا من أجل هذا , وأعلم أنك ستكون صادقا معى ..
ــ فى الغد إن شاء الله أخبرك برأيى فى مسائله كلها ..
تعجب القاضى أبو عبد الله محمد بن الحسن قائلا .............
ــ تنتهى وأنت على هذه الحال من قراءة سفر كبير كهذا فى ليلة واحده , وترد أيضا على جميع مسائله , غير معقول والله ؟!………………
@ إستطرد الشافعى قائلا .............
ــ مضى القاضى لحاله وتركنى وحدى ..
سأله سليم ............
ــ وماذا فعلت , أظنك لم تنم تلك الليله ؟!.
ــ تماما هذا هو ما حدث يا خال , لم أنم ليلتى هذه رغم ما كنت أعانيه من جهد . ظللت عاكفا على صفحات الكتاب طوال الليل إلى أن طرق سمعى صوت المؤذن مناديا .... الصلاة خير من النوم . لم أتركه من يدى إلا وقد انتهيت من قراءة آخر سطر فيه وفى عشية اليوم التالى جاءنى ابن الحسن كما وعدنى , لكنه لم يأت وحده . كان بصحبته القائد الكبير هرثمه بن أعين ..
ــ بالطبع سألك عن رأيك فيما أورده فى كتابه ؟!.
ــ قبل أن أفاتحه برأيى فيما جاء فى كتابه هذا من أقوال وآراء تمثلت بين أمرين . أن أرجئ مصارحته بالحقيقة إلى حين , حتى لا أغضبه فى ذلك الوقت العصيب رجاء أن يشفع لى عند الرشيد . أو أصارحه برأيى الذى قد يغضبه لكنه يرضى ربى ويبيض وجـوه المهاجريـن والأنصار ..
سألته أم حبيبه فى وجل وترقب ...........
ــ وأيهما اخترت يا ولدى ؟!.
ــ أفى ذلك شك يا أماه , إخترت رضا الله عز وجل وتوكلت عليه وقلت له

يتبع.. إن شاء الله............................

__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 17h32
رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
طرق مشاهدة الموضوع

تعليمات المشاركة
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى


جميع الأوقات بتوقيت GMT. الساعة الآن 13h10.


 
Powered by vBulletin - Copyright © 2000 - 2010, Jelsoft Enterprises Ltd