(16 أفريل 1948 – 7 ديسمبر 2012)
رحيل موسيقار البساطة والشجن الدافئ
سيختلف المشهد الموسيقي بدون عمار الشريعي، انه أحد ضمانات الذائقة الموسيقية العربية. من القلائل الذين هضموا التراث الشرقي واقتاده ليلتقي مع التطورات الغربية محدثا حالة من التجديد في التأليف الموسيقي عبر نغمات سهلة ومبتكرة وجذابة تحمل بصمات رجل يحب أن يمرر رسالة هادفة يتذوقها الناس بجرعة محترمة من الؤوس الآن انهاامالثوري الذي طالما بنا له من خلال أعمالهات الحديثةبد الوهاب وفريد الأاطرش وبليغ حمدي والرجابنة حالته الصحية تمع،متعة والمحبة. لقد كان من بين قلة من الموسيقيين العرب الذين وصلوا إلى لقب "الموسيقار" عن جدارة. هذه قصة كائن موسيقي كان يعيش في عالمنا المادي المتوتر.
لا تبدو الموسيقى مع عمار الشريعي تقنية بأي شكل، إنها موهبة وفيض. حين يعزف على الأورغ أو يدندن على عوده تذوب الموسيقى في الأذن ببساطة وصفاء. في عالم الفن قلة قليلة من يفرضون الاعتراف ولا يصنعون العداوات ولا تفرز نجاحاتهم الغيرة والحسد، وكان اسم عمار الشريعي في هذه القائمة المصغرة.
لا أحد أنكر عليه تفوقه على أبناء جيله من الموسيقيين الذين تخصصوا في التلحين والمقطوعات الصامتة. انه يحمل خصلة أساسية أنه لم يكن أبدا في قطيعة مع ما تحقق من انجاز موسيقي طوال قرون. عمار الشريعي لا يعاني بأية حال من عقد قتل الأب التي تسكن أغلب الفنانين. هذا التعامل الهادئ مع الفن جعل من عمار الشريعي حلقة وصل أساسية في الفنون الموسيقية في مصر. يحترمه من سبقه لأنه الصورة الأبهى لتواصلهم، ويجله من جاء بعده لأنه أطلق الكثير منهم دون أي تقيد بهرمية الأجيال، انه قاسم مشترك لكل الأجيال وكأنه جزء من كل واحد منها على حدة.
وحتى لو نظرنا في تطورات مسيرته سنجد نكهة كل المراحل الفنية، فروح الخمسينات الثورية متواجدة وموظفة للفن وعلى مقاس المتعة الفنية، وروح الستينات هضمها عبر استماع مكثف واجلالي لمدونات محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ورياض السنباطي حين كانوا جميعهم في قمم أمجادهم.
حتى إذا جاءت السبعينات واقتحم عمار الشريعي ميدان الفن كان ممن نجحوا في إيجاد ثغرة نحو أذن المستمع العربي التي تعودت أن يطربها العمالقة، وكان مدخله الذكي عبر الأغنية الاجتماعية الخفيفة ثم عبر تلحين أغاني مقدمات المسلسلات التلفزيونية التي تدخل كل البيوت. في الثمانينات ومع موجة انتشار الموسيقى الشبابية، أسس عمار الشريعي فرقة "الأصدقاء" فكانت قناته لتمرير تصور لموسيقى شعبية راقية ملتقيا بذلك مع جده "الموسيقي" سيد درويش، لقد مزجت أغاني الفرقة بين المواضيع الاجتماعية والموسيقى الخفيفة التي لا تتنازل عن جدية البحث والابتكار.
بنهاية الثمانيات دخل من موقع آخر إلى عالم الشهرة، حين أثث برنامج "غواص في بحر النغم" على أمواج الإذاعة وهو برنامج تحليلي لروائع ألحان الزمن الجميل. لقد مارس عبر هذا البرنامج سلطة ناعمة لذيذة على الذوق العام وتقبل الجميع فهمه للموسيقى وكأنه فهمهم الخاص. في التسعينات كان عمار الشريعي في قمم مجده بعد انتشار موسيقى "رأفت الهجان" وكذلك مسلسل "دموع صاحبة الجلالة" في أشرطة الكاسيت. ومع الألفية الجديدة كان من أبرز الشخصيات التي تستدعى للبرامج الحوارية الهادئة كشخصية مصرية محبوبة رئيسية. ثم منحته قناة "دريم 2" فرصة أن يقدم برنامجه الخاص "سهرة شريعي" بما أنه يمثل الصديق الثابت لكل عناصر الوسط الفني، كما تعاون في تقديم برنامج "المسحراتي" للتلفزيون المصري.
قليلة جدا هي الألحان التي يحفظها الناس من دون أن تكون لحنا لأغنية، ولكن مقدمة مسلسل "رأفت الهجان" تعد حالة نادرة حيث أنها تحمل هذا الشرف الفريد على صدرها. كانت هناك قدرة عجيبة عند عمار الشريعي لدس وعي وطني في لحن بسيط وسهل. إن الموسيقى لديه تنفصل عن التاريخ بما هو أحداث، ولكنها لا تتعالى عليه. وإنما تنغرس في الأحاسيس الشعبية المتفاعلة مع المناخ العام.
الدارسون لنصوص الشريعي الموسيقية يعرفون أنه صاحب ملكة المزج بين عنصري البساطة والشجن، ولذلك وجد في الأعمال الدرامية متنفسا كبيرا لموهبته الموسيقية. إن الجمل التي قدمها تنم عن خيال ثري وموسوعي يلتقي فوق أرضية سريرة صافية. وليست الموسيقى وحدها تعكس هذا الجمال الداخلي بل كذلك وجهه بملامحه الطفولية وضحكته الأزلية البريئة. لم يتعلم عمار الشريعي التحكم في ملامحه ولا توجد لديهم حركات مدروسة تلك التي تدخل في حساباتها ردود أفعال المتقبل. وهنا بالضبط تقع موسيقاه أيضا، فهي لا تهتم بردود الأفعال لأنه يعلم أنه قد وضع فيها النكهة الأصلية للإنسان.
ولد عمار الشريعي كفيفا في 16 أفريل 1948 بمحافظة المنيا بصعيد مصر. منذ صغره أبدت أذنه ميلا للموسيقى في حد ذاتها. وهو يرجع ذلك لتعلقه الشديد بأمه التي كانت دائما تترنم بأغاني أم كلثوم وقد وصفها عمار بأنها "فولكلور متنقل". لم تكن عائلة الشريعي فنية بالمرة، فلا أحد امتهن الحرف الموسيقية أو أبدى تعلقا جنونيا بها مثل عمار، لذلك عندما أخبر أهله بأنه يحب دراسة الموسيقى استغربوا ذلك ولكنهم لم يقفوا عائقا أما الطفل الكفيف، لقد ذكرهم بما حصل لطه حسين في سنوات طفولته.
التحق ببرنامج مكثف أعدته وزارة التربية المصرية خصيصا للطلبة المكفوفين الراغبين في دراسة الموسيقى، وفاجأ الشريعي من حوله عندما اتخذ البيانو آلته لما تقتضيه من ذاكرة بصرية، ثم بمجهود شخصي تعلم العزف على آلة العود والأورغ والأكوديون.
بعد نجاحه في البكالوريوس ألحق بالجامعة متخصصا في الأدب الانجليزي، تعامل مع الأمر بكل بساطة وتحصل في 1970 على ليسانس الآداب في اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس. ولكن كانت الموهبة الموسيقية مثل شمس قد غيبت كواكب المهارات الأخرى التي يملكها.
عمل في فترة العشرينات من عمره كعازف أورغ في ملاهي القاهرة، وبرز كأحد نجوم العزف في جيله، ومن جهة أخرى اعتبر مثالا في تحدى الإعاقة نظراً لصعوبة وتعقيد هذه الآلة واعتمادها بدرجة كبيرة على الإبصار. لم يغتر عمار الشريعي بكل ذلك لأنه كان يعرف أن الشهرة التي بلغها شهرة منحصرة في مجتمع مضيق من الفنانين وهواة الفن، أما هو فيريد أن يطل على كامل المجتمع.
قرر أن يدرس التأليف الموسيقي حسب القواعد العالمية فراسل مدرسة "هادلي سكول" الأمريكية لتعليم المكفوفين ثم في فترة موالية التحق بالأكاديمية الملكية البريطانية للموسيقى. سيلازم حب التحصيل المعرفي عمار الشريعي طوال حياته حتى أنه في المحصلة كان لديه 7 رسائل ماجستير و3 رسائل دكتوراه.
وهكذا حصّل الشروط الأساسية ليتجه إلى التلحين والتأليف الموسيقى بكل ثقة في النفس. كانت أولى ألحانه "امسكوا الخشب" للفنانة مها صبري (1975) وبسرعة حاز على اعتراف الوسط الفني، خاصة أن فترة السبعينات كانت بداية خروج العمالقة من الساحة بوفاة أم كلثوم وعبد الحليم وفريد الأطرش وابتعاد محمد عبد الوهاب عن الساحة الفنية.
إن إضافة الشريعي لم تقتصر على التأليف الموسيقي فقط، بل امتدت إلى تطويع التكنولوجيا للموسيقى، فقد تعاون مع شركة "ياماها" اليابانية في استنباط ثلاثة أرباع التون من الآلات الموسيقية الإلكترونية فأصبح ممكنا عزف المقامات الشرقية على الآلات الغربية لأي كان. كما اشترك أيضا مع مؤسسة "دانسنغ دوتس" Dancing Dots الأميركية في إنتاج برنامج "جود فيل" Good Feel، الذي يقدم نوتة موسيقية بطريقة براي للمكفوفين.
إن التعلق الكبير لعمار الشرعي بموسيقى بلده لم يمنعه من أن ينفتح على الموسيقى الغربية مستمعا دقيقا ومستلهما منها ما يمكنه أن ينضاف إلى جسد الموسيقى الشرقية دون أن يؤذيها. لم يأخذها من موقع العقدة التي تلازم الشرقيين بأنها موسيقى تظهر كم أننا متخلفون في هذا المضمار.
منذ الثمانيات كان أحد معالم الخريطة الموسيقية في مصر، ومثل مع عمر خيرت المدرسة التي تذهب إلى موسيقى على أنها موسيقى في ذاتها، وليست أداة من أدوات الأغنية. ولكنه لم يكن بحدة خيرت الذي يعمل من أجل سد الفجوة مع الغرب، كان الشريعي ينظر للمسألة من موقع ما تحتاجه الأذن العربية لبناء ذوق عام محترم.
طالما اعتبر عمار الشريعي ما حققه الملحنون الكبار جزءا من تراثه الخاص، فالموسيقى بيته العائلي الكبير، لذلك حقق نجاحات كبيرة جدا على مستوى مبيعات الأشرطة بتوزيعه الجديد لروائع محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وبليغ حمدي والرحابنة، كان يجيب من يسأله بأنه ينقل الذوق الرفيع للخمسينات والستينات إلى الذائقة المعاصرة، ويترجم الجمل العذبة التي عزفتها الآلات الشرقية إلى الآلات الحديثة.
بفضل المسلسلات دخل عمار الشريعي بانتظام إلى كل البيوت العربية، بنجاحات أسطورية مثل الموسيقى التصويرية لخماسية "رأفت الهجان" أو مقدمة مسلسل "أم كلثوم" حيث أثبت كفاءة عجيبة في المزج بين موسيقات أغاني أم كلثوم رغم أنها لمؤلفين مختلفين مثل محمد عبد الوهاب، رياض السنباطي، زكريا أحمد وبليغ حمدي ..
حتى أنه يعد اليوم - ومنذ ثلاثة عقود في الحقيقة - بلا منازع سيد هذا الميدان، الذي لا يذهب له الآخرون إلا من باب الدعوات الشخصية. بفهم عميق للتطور الدرامي للمشاهد السينمائية أو التلفزية خاض التجربة، وتحوّل معه هذا النمط الموسيقي المهمش إلى ظاهرة. لقد كتب موسيقى قرابة 300 عمل بين مسرحية وفيلم ومسلسل. نجد في قائمة أعماله مسرحيات "الواد سيد شغال"، "رابعة العدوية". كما كتب موسيقى أفلام "البداية"، "حب في الزنزانة"، "حارة برجوان"، "حليم" ، "البريء" والذي لحن فيه أغنية "يا قبضتي" من كلمات عبد الرحمن الأبنودي والتي ظلت ممنوعة حتى أفرج عليها موقع اليوتويب منذ سنوات قليلة. أما في المسلسلات فقد وضع الموسيقى التصويرية "أبنائي الأعزاء شكرا"، "هارون الرشيد"، "دموع في عيون وقحة"، "أرابيسك"، "أبو العلاء البشري"، "رأفت الهجان"، "أوبرا عايدا"، "دموع صاحبة الجلالة"، "محمود المصري"، "عفاريت السيالة"، "رجل الأقدار: عمرو بن العاص"، "ملحمة المصراوية" (..) هناك شهادة لكل من يحيى العلمي ومحمود عبد العزيز عندما اشتغلوا على مسلسل "رأفت الهجان" بأن موسيقى عمار الشريعي قد طورت من الشخصية التي وضعها السينارسيت صالح مرسي وضاعفت من وهجها وعمقها.
ألف عمار الشريعي أيضا موسيقى للأطفال، وتعاون خصوصا مع عبد المنعم مدبولي والذي قدمه كمؤد كبير للأغاني بموازاة مسيرته التمثيلية الطويلة. كما اشتغل بالخصوص مع نيللي في مجموعة من الأغاني الموجهة للأطفال التي لاقت نجاحا كبيرا. وفي السنوات الأخيرة حين كبر ابنه مراد، أصبح يكتب له بعض الأغاني والتي يصر بأنها لا تقل قيمة عن أي عمل من أعماله الموجهة للجمهور العريض.
خلال السنتين الأخيرتين عانى عمار الشريعي من الناحية الصحية، ويرجع الأطباء أن تواجده في ميدان التحرير أيام الثورة المصرية قد عكر كثيرا من حالته الصحية. لقد سقط مغشيا عليه وسط متظاهري الميدان في جمعة الرحيل يوم 4 فبراير 2011 وهو يهتف بسقوط النظام. لم يكن جسده وذهنه قادرا على تحمل الأحداث المؤلمة لتلك الأيام من قتل للمصريين في الشوارع وانتشار الجرعة الكبيرة من الوعي الثوري الذي طالما بنا له من خلال أعماله. ثم تواجد في الفترة الانتقالية بكثرة في البرامج المباشرة بدعوات تغليب مصلحة البلاد، وبكى في مناسبات عديدة على الشاشة قبل أن ينهكه المرض ليستقر في المستشفى مؤجلا الكثير من أعماله والتي اتضح الآن أنها أجلت إلى الأبد.
وفي وسط حالة اضطراب سياسي جديد تعيشه مصر رحل عمار الشريعي، فكان للخبر وقع مأساوي عام على البلاد. غادرنا متخففا أخيرا من الهموم الثقيلة للوطن والموسيقى. لقد كان حالة جميلة واستثنائية وسط التدهور الغنائي الذي فرضته عوامل اجتماعية واقتصادية وإعلامية. لكنه ترك في ألحانه الكثير من الذوق والوعي مذوبين في كؤوس البساطة والدفء لذلك ظل الناس وسيظلون يحبونه من أعماقهم.