رد: الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان/المنهج الحداثى فى الشعر العربى
ورد في الأمثال ,, من ألـّف فقد استهدف ،، أي إن كل من كتب صار دريئة لكلام المنتقدين .و الإنتقاد إما نافع أو ضار . فإن كان الحامل َ عليه كره ٌ أو تربـّح حصل معه التحامل و الضرر . و لكن إن كان بروح تلبية أسلافنا إذ قالوا ,, جئناك للنصاحة ، لم نأ ْت للرقاحة،، أي إذا كان الحاملَ عليه حبّ ُ الأدب و الرغبة في الدرس و استزادة المعرفة، فإن نفعه مضمون . ولا يعترض عليه إلا من كان يرى نفسه فوق الخلائق .
أماغايتنا فمن المقرر المكفول أنها ليست للإضرار و لا للتشفي . و من الممكن أن تكون للنفع .
أما كلامك عن نظرية التلقي فإن هذا يـُحتاج إليه إذا كان الخطاب تواصليا . نعم ، لما كان الشاعر لسان قبيلته ، يعبر عن مواقفها ، و ينشر أمجادها كان المتلقي نصب عينيه في نظمه . و لكن إذا كان الشاعر يصدر عن ذاته و يعبر عن مشاعره هو ، فإن شعره من باب الأولى أن يكون وفق ثقافته و وعيه . و البحتري رد على مقولة التلقي بقوله
علي ّ نحت القوافي من معادنها
. . . . . . . و ما علي ّ إذا لم تفهم البقر ُ
و ليس هذا المنهج ابتداعاً منا ، فقد انتهجه أبو تمام .فالآمدي، الذكي الذي عرف في العديد من المواقف كيف يغلب آراءه المغرضة ليحسم بها بعض المواقف لصالح القديم، نجده في تتبعه الدقيق لمساوئ أبي تمام، حسب مفهومه، يلفت انتباهنا الى مواطن التجديد الحقة في شعر أبي تمام، والتي كثيرا ما تجاهل صلبها آخرون، وظنوا أن الأمر هو اسراف من طرف أبي تمام في طلب الجناس والطباق والاستعارات واسرافه في التماس هذه الأبواب، وتوشية شعره بها حتى صار كثير مما أتى به من المعاني لا يعرف، ولا يعلم غرضه فيها إلا مع الكد وطول التأمل, ومنه ما لا يعرف معناه الا بالظن والحدس ولو كان أخذ عفو هذه الأشياء، ولم يوغل، ولم يجاذب الألفاظ والمعاني مجاذبة ويقتسرها مكارهة، وتناول ما يسمح به خاطره وهو بجمامه غير متعب ولا مكدود, وأورد من الاستعارات ماقرب وحسن ولم يفحش واقتصر على القول على ما كان محذوا حذو الشعراء المحسنين، لسلم من هذه الأشياء التي تهجن الشعر وتذهب ماءه ورونقه ، وانه بذكره لهذه العيوب، التي يعتبرها مساسا بجودة الشعر الذي يفهمه، يقر ضمنيا بما يمكن اعتباره حجر الأساس في لوازم الحداثة والمعاصرة للقصيدة العمودية. وخاصة لما نجده يكشف لنا ذلك من خلال تطبيقاته على شعر أبي تمام حين يأخذ عليه على سبيل المثال هذه الصور الفنية التي يقول فيها الشاعر واصفا أحد ممدوحيه بالحلم:
رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه
.................... بكفيك ما ماريت في انه برد
فبمثل هذه الصورة الفنية الرائعة المستحدثة خاطب الشاعر ممدوحه فكسر بها عمود الشعر بأن صدم الذوق المتعارف عليه وذلك بتشبيهه الحلم بالرقة كاسرا بذلك القرينة المنطقية المتعارف عليها مما جعل الآمدي يعلق قائلا: ,, هذا هو الذي أضحك الناس منذ سمعوه والى هذا الوقت- والخطأ في هذا البيت ظاهر، لأني ما علمت أحدا من شعراء الجاهلية والاسلام وصف الحلم بالرقة! وإنما يوصف الحلم بالعظم والرجحان، والثقل والرزانة ونحو ذلك،، فذنب ابي تمام هنا كونه لم يسلك طريق السلفويين الذين أجمع ذوقهم الفني على مقارنة الحلم بالرزانة، فجاءت أحلام ممدوحيهم تزن الجبال رزانة، وقد شذ أبوتمام وعد من منتهكي حرم العرف الشعري المتعارف عليه المتوارث بالتواتر الروائي كابرا عن كابر. إن مثل هذا المقياس النقدي جدير به أن يطرح لانه بني على أسس غير سليمة، لا من حيث المبدأ الزمني والمكاني لدائرة الشعر، ولا من حيث الذوق المجرد الذي هو نسبي بالنسبة للمتلقي، فاذا كان الجمهور الجاهلي والاسلامي أو حتى الأموي ممن كان يستجيب بحكم التعاطف القبلي القوي والشديد المفعول لمثل هذه الاستعارات، فان مستجدات الحياة أبت إلا أن تكسر حتى الأعراف البلاغية فما بالك بالاعراف القبلية، وإلا كيف يمكن تصور استعارة باردة تظل تكرس القرينة الثابتة بين الحلم والرزانة ولا تسمح بتجاوزها ؟ فمن اين سيتنفس الشعر؟ وكيف ستسحب اللاحق َ فضيلة الاضافة المولدة من صورة مكتملة منذ ولادتها الأولى. إن ما يسعى اليه حراس الاتباع هو ابراز أفضلية القديم وجعل مزية السبق دائما من نصيب أصحابه ; وإذا تطاول لاحق ببعض التصورات الجديدة اتهم في شخصه وشكك في مقوماته الفنية.
أعطي هنا مثالا من شعري لأوضح ما أعنيه من أن على الشاعر أن يصدر عن ثقافته و وعيه في التعبير . و من حسن الحظ أن المنتدى هذا منتدى موسيقي لأن الصورة الشعرية في المثال مبنية على الموسيقى و لا أظن كثيرين سيخالفونني الرأي إذا قلت أن المتلقي العادي ستكون له هذه الصورة الشعرية كالطلاسم . أقول ,,
سايكسَ بيكو بالتقاسيمِ فَرَتـْنا
ثٌمَّ وُزِّعنا
هَرْمَناتٌ لسْنَ منّا ،،
,,منذ نحو مائة عام اصطدم الموسيقيون الأوربيون الذين وجهوا اهتمامهم إلى الألحان الشرقية الغربية بواقع صاعق . فمما لا شك فيه إن هذه الألحان المذكورة لم تكن في غنى عن المصاحبة الهارمونية وحسب بل وإنها تقاوم هذه الهارمونيا وقد باءت بالفشل الذريع كل المحاولات لجعل هذه الألحان مقبولة للأذن الأوربية أو الباسها هارمونيا جميلة أو سكبها في القوالب الهارمونية المستعملة
وقد ظهرت استحالة تقنية لذلك بدون تغيير أصوات هذه الألحان أو بدون تغيير الجملة اللحنية وكان أي تغيير يشوه طبيعة اللحن نازعا عنه جماله وعطره الخاص ،، - من مقال للموسيقار سليم سحاب ـ و الصورة الشعرية في ما قلت تقوم على أن بلادنا بطبيعتها تقاوم تقسيمهم لها كما تقاوم موسيقانا هرمنتهم .
بالمناسبة إسمي البـُجـَيـْر َمـِي ّ
|