أصوات بشرية و موسيقى و كلمات ، و حيل إخراجية .. هي كل الأدوات المتاحة للعمل الإذاعي .. و بتلك الأدوات فقط مطلوب رسم صورة حية في خيال المستمع ، من مكان و زمان و أشخاص و أحداث و مشاعر !
يتشكل معها نور الشمس أو يكسوها ظلام الليل .. و تنتقل من صحاري ممتدة ، إلى غرفة ضيقة ، و من قصر مهيب إلى كوخ متواضع ، و من بحر هائج إلى نهر هادئ ، و من بستان يغني فيه الطير إلى ميدان قتال تصهل فيه الخيل !.. فتقابل السلطان و الوزير .. و الجنايني و الغفير .. العامل و الفلاح .. الطالب و الجندي .. يتحركون في حياة أبدعها خيال مبدع ، و عبّرت عنها الأصوات و النغمات و المؤثرات !
و هنا يمكن سحر الإذاعة في إستثارة الخيال دون فرضه ، عكس الفنون المرئية كالسينما و المسرح ، الصورة فيها تقتل الخيال .. لكن صوت الأثير وحده يخلق عالماً رحباً يشارك المستمع في بنائه !
رمان الجناين حدوتة بسيطة لا تحوي حبكة معقدة و لا تناقش قضية كبرى ، و لكن صياغتها شعراً و موسيقى هو ما يجلعها تحفة فنية رائعة
التأليف للشاعر محمد علي أحمد شاعر الحب ، و الذي يميل أسلوبه إلى البساطة و الرقة ، و يعتمد في أغلب الأحيان على الشطرات القصيرة ، لكن على بساطة الموضوع إلا أنه الأوبريت لا يخلو بين الحين و الآخر من لمحة فلسفية أو رؤية خاصة.
تنوّع الأوبريت بين الأغنية الوصفية و الدينية و العاطفية في مزيج رائع لا يخلو من خفة الظل
الألحان للمبدع محمد الموجي ، و الموجي من أذكى الملحنين على الإطلاق في التعامل مع كافة الأصوات .. فقد أبدع مع كل من تعامل معهم من المطربين .. أبدع مع عبد الحليم حافظ و شارك في صنع طابع خاص له يميّزه وسط عمالقة الطرب ،و في الوقت الذي قدم لأم كلثوم ألحاناً فخمة كـ " اسأل روحك " و " للصبر حدود " ، صنع لعبد الحليم ألحاناً أكثر رشاقة و حداثة كـ " قارئة الفنجان " لكنها جميعاً أعمال تحمل بصمة الموجي و لا أحد غيره !
يصنع في هذا الأوبريت لوحات بديعة بألحانه ، و بالطبع لا يمكن أن نغفل دور التوزيع الموسيقي الذي أخرج العمل منساباً متدفقاً كنهر عذب و خاصة في الانتقال بين لوحة و أخرى ، و هو للموسيقار عطية شرارة .
من عجائب صوت قنديل تلك المرونة التي ينتقل بها بين الحالات ، يطرب في وقت الطرب ، و يؤدي ببساطة في غير وقت الطرب !.. و لا يحمّل الحالة أكثر مما ينبغي ..
و لذلك لا عجب في أنه أكثر المطربين مشاركةً في الصور الغنائية ، التي تعني بالمقام الأول بالأداء التعبيري
و يتضح ذلك في الأوبريت بوضوح ، فتجد صوته باسماً فرحةً بالحصاد في مقطع " طاب و استوى الرمان " و شجياً رقراقاً في " حياتي غنوة " و خاشعاً في " يا صاحب الملك " .. و فرحاً مستبشراً حينما يجد ( رمانة ) مع والده في جملة " رمانة .. رمانة و ابويا وياها .. دي الدنيا فرحانة " .. و غاضباً منذراً في جملة " على روحك إنت الجاني .. ليه تسرق من بستاني " عند مواجهته للص !..
فهو يمثّل بصوته و يعبّر به عما يشاء .
و نقطة في غاية الأهمية أود الإشارة أليها .. أن قنديل بقدر ما وهبه الله في صوته من عجائب ، كان يتمتع بتواضع جم يظهر جلياً في فنه بخلاف حياته الشخصية.
في نهاية الأوبريت يظهر صوته خافتاً بجانب سعاد مكاوي و هما يرددان أغنية " طاب و استوى الرمان " في نهاية الأوبريت .. فظهر و كأنه يفسح لها الطريق .. و يتضح ذلك أكثر بمقارنة طريقته في أداء نفس الأغنية في مطلع الأوبريت وحده ! رحمك الله يا قنديل
سعاد مكاوي .. لا أعرف ماذا أقول عنها سوى أنها كانت في أفضل حالاتها الفنية ، في الأوبريت قدمت أغنية رائعة " صبح الصباح " و التي تبثها الإذاعة أحياناً في الفترات الصباحية .. بالمناسبة أعشق لها أغنية " عجبي على الحساد " من تأليف عبد الفتاح مصطفى و ألحان عبد الرؤوف عيسى
سعاد مكاوي كـ ( حورية حسن ) و أيضاً ( نجاح سلام ) لغنائهن جمال خاص .. يخرج من أصواتهن الغناء الجميل السهل، الذي يصافح الأذن بلا ضجيج ، و بألفة تجعله يتسلل إلى القلب و الروح!.
الثلاثي المرح .. صنعواً جواً من المرح و البهجة داخل العمل.. في الأوبريت يظهرن كفراشات تنتقل بين زهرة و أخرى مثل.. " يلا بينا يلا بينا قبل بابا ما ينادينا "
صلاح عبد الحميد .. الذي يقوم بدور أبو أمين .. حواراته مع ابنه في غاية الروعة و خصوصاً عندما يسأله عن (رمانة) !
- أكبر ما فيهم ؟ رمانة
- و الحلوة فيهم ؟ رمانة
- و القلب يعشق ؟ رمانة
عبد الحليم فاروز .. اللص .. يغني نفس المطقع مرتين " يا جمال الرمان يا جماله .. أنا هاسرق إيه يعني و ماله ..... "
لتكرار السرقة أكثر من مرة ، و تلك الجملة يظل يرددها مع تصاعد الإيقاع في السرعة ، لسرعته في السرقة .. مثل أي لص ( يسرق و يجري )
و الأوبريت به تكرار لنفس الأغنيات في مواضع محددة
مثل مطلع " رب الوجود وموجود " .. الذي تكرره " رمانة " و هي في طريقها لأمين .. و كأنها تتذكر لحظاتها الجميلة التي جمعتها به في لقائهما الأول و غنائهما لتلك الأغنية
و كذلك أغنية " طاب و استوى الرمان " التي أعيدت في النهاية بإيقاع أسرع قليلاً تعبيراً عن فرحتهما بالزواج .
تلك هي انطباعاتي عن الأوبريت و عن عناصره قدر ما استطعت .. أتمنى أن تسعدوا بالاستماع إليه
و شكراً