|
 |

04/11/2008, 22h42
|
 |
مواطن من سماعي
رقم العضوية:102176
|
|
تاريخ التسجيل: November 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: كندا - تورونتو
المشاركات: 1,212
|
|
|
حفل تعارف على شرف"قاضي الشريعة الإمام"
اقتباس:
شاعر الغلابه سيد أبو زهده
|
فزتُ اليوم و رب الكعبة
فما "نوبل" إلى جوار هذه
ماكذبوا من أخبروا عن كرمك يا دكتور أنس ، أنه حاتمي
|

12/11/2008, 18h45
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
@ صبيحة اليوم التالى ذهب الربيع للقاء المنصور .. بعد أن نفذ أوامره وأجهز على حياة أبى أيوب .. بعد أن اعترف له بكل شئ وأقر بأماكن ثرواته كلها .. عندما دخل عليه مجلسه .. وجده يجلس وحيدا شاردا شاخصا بعينيه إلى أعلى .. وعلى أساريره إنطبعت أمارات الأسى والحزن الشديد .. وفى خطى وئيدة تقدم ناحيته .. وقال مواسيا وهو يبالغ فى إظهار الحزن والأسى على صفحة وجهه .......
ــ عظم الله أجرك فى ولدك يا أمير المؤمنين .. وأسكنه جنة الفردوس .. وألهمك جميل الصبر ...
أمن المنصور على كلامه .. وأشار إليه براحة يده ليجلس .. ثم قال بصوت يقطر أسى ولوعه .......
ــ إنها لكارثه فادحة والله .. مصيبة عظمى .. ولدى فى دارى على مقربة خطوات منى .. ويعمل فى ديوان من دواوينى .. وأنا لا أعلم ...
استطرد قائلا .......
ــ أظنك علمت بالحقيقة من هذا الخائن ؟!..
ــ أجل يا مولاى .. إعترف لى بكل شئ .. قبل أن آمر بقتله فجر اليوم كما أمــرت ...
ــ أتدرى يا أبا الفضل .. أننى لما رأيته أول مرة .. أحسست بشعور غريب ناحيته .. شعرت للوهلة الأولى .. أن شيئا ما يربطنى به .. ورأيت فيه شيئا منى .. منذ شهر مضى أرسلت فى طلبه سرا .. وظللت أسأله عن إسمه وإسم أبيه وأمه .. إرتبك ولم يجد ما يقوله لى .. فقلت له ألست من الموصل وأمك فلانة الأزديه !.. بوغت وتعجب من معرفتى بهذه الحقائق .. التى أخفاها عن كل من حوله ثم قص على قصته .. وفى هذا اللقاء عرفته أنى أبوه .. وحكيت له حكايتى مع أمه .. إلا أننى طلبت إليه أن يكتم هذا الأمر .. وألا يخبر به أحدا حتى أعلن ذلك بنفسى على الملأ .. ثم أعطيته رسالة لأمه بالموصل .. أطلب منها أن تعود معه .. مرت أيام كنت خلالها أنتظر وصولهما معا على أحر من الجمر .. لكنه لم يرجع ثانية أو يأتنى منه شئ .. ولما طالت غيبته تشككت فى الأمر .. وانتابتنى الظنون والهواجس .. أرسلت أحد رجالى إلى أمه .. وكنت عرفت منه مكانها .. ولما جاءتنى هنا وكان ذلك منذ أيام .. سألتها عن جعفر .. فاجئتنى بقولها أنها لم تره منذ سنوات .. جن جنونى وأرسلت رجالى على الفور يستطلعون الأمر ويقتفون الأثر .. حتى عثروا عليه أخيرا جثة هامدة .. عند حائط مهجور فى طريق الموصل .. تحريت المسئلة.. فعرفت من عيونى أن وراء هذه الفعلة الشنعاء .. واحدا من رجالى وخاصتى .. الخائن الحقير أبو أيوب الموريانى ...
ــ هون عليك يا مولاى هون عليك .. إن الله إذا أحب عبدا إبتلاه .. نسأل الله أن يعظم لك الأجر………………
@ مضت الأيام تترى .. وأم حبيبة ترقب ولدها يوما بعد يوم .. وهو يحاول أن يحبو على يديه ورجليه .. ثم محاولا الوقوف على قدميه .. فيتكفأ أحيانا ويثبت واقفا أخرى .. وتمر الأيام تتاليا .. فيحاول أن يمشى الهوينا خطواته الأولى على أرض الدار .. شيئا فشيئا وخطوة خطوه .. كان يسير خطوات ويتعثر أخرى .. حتى أكمل أخيرا عامه الرابع ...
كان يحلو للصغير أحيانا أن يتسلل إلى القاعة التى يستقبل فيها جده الأزدى زواره .. يجلس فى ركن منها مرهفا سمعه لأحاديثهم ومناقشاتهم .. التى كانت تدور بين الحين والحين فى أمور تتعلق بالدين وقضاياه وأحكامه .. ذلك أن الأزدى شأنه شأن الكثيرين من أهل زمانه رجالا كانوا أم نساء .. لديه دراية بكثير من أحكام القرآن والسنه .. ومعرفة بأقوال السلف وأخبارهم .. فهم لا يزالون حديثوا عهد بزمن النبوة وعصر الصحابة والتابعين ...
ومما يدل على معرفة الناس فى تلك الآونة .. بدقائق أحكام الشرع أن أم الشافعى "أم حبيبه" نبهت قاضى مكة ذات مرة لحكم شرعى غاب عنه .. لما أراد أن يفرق بينها وبين إحدى النسوة فى موقف الشهاده .. أراد أن يستمع لكل منهن على حدة فنبهته قائلة .......
ــ كيف تفرق بينى وبينها !.. ما يكون لك ذلك ...
سألها القاضى مدهوشا .......
ــ لم ؟!..
ــ الله تعالى يقول فى شهادة النساء ....... أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ………………
@ وفى الدار الواسعة التى يقيمون فيها بمكه .. رقد جده عبيد الله الأزدى طريح الفراش .. لا يفارقه إلا مرات قليله .. بعد أن بدأ الوهن يدب فى أوصاله .. وأخذت أمراض الشيخوخة تتسابق إلى جسده الضعيف .. حتى زادته وهنا على وهن وصارت قواه تخور وتضعف .. يوما عن يوم ...
وذات مساء بينما هو راقد فى فراشه .. وإلى جواره ابنته تناوله قدحا فيه خلاصة بعض الأعشاب الطبية .. بعد أن طحنتها ووضعتها فى الماء على النار لتغلى .. كان قد أحضرها من دكانه لتخفف عنه بعض آلام المرض .. إذا بها تلتفت إليه متسائلة .. وهو يحاول شرب الدواء على مهل .. ويداه ترتعشان .......
ــ أبى ؟!..
ــ نعم يا ابنتى ...
ــ ولدى محمد أكمل عامه الرابع ...
ــ إيه يا ابنتى .. ما أسرع الليالى والأيام .. من يصدق أنه قد مر عليك عامان هنا فى مكه .. مذ قدمنا من غزه .. تريدين أن تقولى شيئا ؟!..
ــ أجل .. أريد أن أدفع به إلى الكتاب ليحفظ القرآن ويتعلم علومه .. إنها وصية أبيه كما سبق وأخبرتك ...
ــ نعم الرأى يا ابنتى .. والله لو كنت قادرا على المشى .. لأخذته بنفسى لأحد القراء فى ساحة الحرم .. إنى أعرفهم جميعا .. كلهم أصدقاء لى ...
ــ لا عليك أنت من هذا يا أبى .. سآخذه بنفسى .. إلى كتاب واحد منــهم بعينه ...
ــ من يكون ؟!..
ــ كتاب الشيخ إسماعيل بن قسطنطين ...
ــ لم هذا الكتاب بالذات ؟!..
ــ إنها وصية إدريس .. لقد كلمنى عنه قائلا لى قبل أن يرحل إلى جوار ربــه "إن بقى هذا الشيخ على قيد الحياه فلا تذهبى لأحد غيره فإنه خير من يعلم ولدنا القرآن قراءة وحفظا" … لن أنس ما قاله لى ما حييت .. تلك وصيته بنصها يا أبى .. لا زلت أتذكرها وأسمع رجع صداها حتى اليوم ...
تنهد الأب بارتياح قائلا .......
ــ إيــــه يا ابنتى .. يرحمك الله يا إدريس .. حتى معلم القرآن .. لم ينس أن يذكره فى وصيته !.. حقا إنه أكبر معلم للقرآن .. إنه شيخ القراء فى مكة كما أخبرك ...
ــ أكبر معلم للقرآن !.. كيف ذلك يا أبى ؟!..
ــ أجل يا أم حبيبه .. لقد قرأ الشيخ إسماعيل على شبل بن عباد .. الذى قرأ على عبد الله بن كثير .. الذى قرأ على مجاهد .. تلميذ الصحابى الجليل عبد الله بن عباس .. لقد أخذ القرآن علما وقراءة من أصوله ومنابعه الصحيحه .. كابرا عن كابر ...
سكت قليلا واستدرك قائلا .......
ــ هنالك أمر .. لا أظنه قد غاب عنك يا ابنتى !..
ــ أى أمر ذلك يا أبت ؟!..
ــ تعلمين يا ابنتى .. أنه ليس لدينا ما يكفى لنعطيه أجرا لشيخ جليل مثله .. إنه أكبر القراء فى مكة وأعلاهم أجرا !..
ردت قائلة فى عزم وتصميم .......
ــ مهما يكن أجره .. لن أدفع بولدى لأحد سواه .. مهما كلفنى ذلك من مال أو جهد ...
ــ كيف يا ابنتى .. ماذا أنت فاعله ؟!..
ــ سأطلب من الشيخ أن يسمح له بالجلوس مع الصبية .. ولو مستمعا فى بادئ الأمر .. إلى أن تتيسر لى بعض الدراهم أو الدوانيق .. إنى لعلى ثقة أنه سيستجيب .. ولن يرفض رجائى ...
فرت من عينيها دمعة رغما عنها .. وهى تردف قائلة .......
ــ إنها وصية الراحل الغالى .. لن أضيعها أبدا مهما كلفتنى ………
@ صبيحة اليوم التالى إصطحبت الأم ولدها .. خرجت قاصدة ساحة المسجد الحرام .. كانت تبدو سعيدة وهى تمسك يده فى حنان .. بينما صورة إدريس لا تفارق خيالها .. وهما يسيران معا على قدر خطواته القصيرة المتقاربة .. حتى وصلا أخيرا إلى ساحة البيت الحرام ...
فى تلك البقعة المباركة من الأرض .. لا تتوقف الحركة ليلا أو نهارا .. حيث يرى الوافد إلى هناك صنوفا شتى من البشر .. جاءوا من كل فج عميق .. من شتى بقاع الأرض .. قاصدين زيارة البيت العتيق .. منهم من يطوف بالبيت .. منهم من يصلى فى خشوع عند مقام إبراهيم أو فى حجر إسماعيل .. وآخرون يقرأون القرآن .. وفى زوايا الساحة تنتشر حلق العلم والدرس .. وكتاتيب تحفيظ القرآن ...
ورغم تباين هذه التجمعات واختلاف ألوانها وأجناسها .. إلا أنه يجمعها ذكر الله تبارك وتعالى .. وفى ساحة البيت العتيق ترتفع أصوات الذاكرين إلى عنان السماء .. تدعوا ربا واحدا أحدا .. وبالقرب من هؤلاء وأولئك .. ينتشر نفر من الباعة من الرجال والنساء .. يفترشون الأرض فى أماكن متفرقه حيث يبيعون العطور والثياب القطنية والحريرية الموشاه .. والأردية والمساويك والبخور .. وأعواد المجامر والحلى وأدوات الزينه ...
أخذت تسأل وسط هذا الزحام الصاخب عن كتاب الشيخ إسماعيل .. بينما الولد يرقب ما يدور من حوله .. محملقا بعينيه الصغيرتين باهتمام ودهشه .. وفى طريقهما للكتاب .. وقعت عيناه على حلقة سفيان بن عيينه .. أكبر حلق العلم .. وعلى مقربة منها حلقة سعد بن سالم .. ثم حلقة مسلم بن خالد الزنجى .. أخذ الصبى الصغير ينظر فى إعجاب برئ إلى هذه التجمعات المتباينه .. وكأن لسان حاله يقول .......
ــ ليتنى أتمكن يوما ما من الجلوس مع هؤلاء القوم ...
وأخيرا وصلت أم حبيبه إلى زاوية الشيخ إسماعيل .. أكبر زاوية لتحفيظ القرآن الكريم .. لدى اقترابها منها وقعت عيناها على شيخ مهيب وقور .. فى حوالى الستين من عمره متخذا مجلسه فى صدر الحلقه .. على درج يشرف من فوقه على الصبية الجالسين من حوله .. وهم يكتبون ما يمليه عليهم .. وقفت فى طرف الحلقة إلى أن لمحها الشيخ فأدرك أن وراءها أمرا .. أشار إليها برأسه أن تقترب منه .. إمتثلت وسلمت عليه .. ثم قالت وهى تقدم ولدها .......
ــ سيدى الشيخ .. هذا ولدى محمد .. إنه يتيم .. مات أبوه بعد مولده بقليل .. وقبل وفاته أوصانى وأكد على أن آتى به إليك ليحفظ القرآن .. عندما يكمل الرابعة من عمره ...
سألها عن ولدها وقبيلته التى ينتمى إليها فأجابت قائلة .......
ــ أبوه إدريس بن العباس .. من ولد شافع وجده المطلب بن عبد مناف ...
هز رأسه قائلا وهو يحاول أن يتذكر .......
ــ إدريس .. إدريس .. آه تذكرته .. إنه حفظ القرآن فى صباه على يدى هنا حقا .. كان فى عمر ولده تقريبا وكان يزورنى من حين لآخر .. إلا أنه انقطع عنى زمنا .. ثم علمت أنه سافر منذ سنوات طوال .. للعمل فى بلاد الشام .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا سيدى الشيخ .. عشنا هناك بضع سنوات .. إلى أن مات ودفن هناك إلى جوار جده هاشم .. وقبل أن تصعد روحه إلى بارئها أوصانى ضمن ما أوصى .. ألا أدفع بولدى لأحد غيرك ...
ــ على بركة الله .. إذهبى أنت لشأنك ودعى هذا الولد الشافعى هنا .. وقبل الغروب أرسلى من يأخذه من هذا المكان .. على أن يأتينى هنا كل يوم قبل الضحى .. أفهمت يا امرأه ؟!..
ردت فى حياء وكأنما تبحث عما تقوله .. كانت تقدم كلمة وتؤخر أخرى .......
ــ أجل يا سيدى .. لكن .. لكن أريد أن أقول لك إنى ……
قاطعها الشيخ وهو يبتسم ابتسامة حانية .. فهم بفراسته مرادها .. وقرأ بعينيه الذكيتين ما يختلج فى رأسها .......
ــ إنك ماذا يا ابنتى .. هيه تكلمى .. لا عليك !..
ــ فى الحقيقة يا سيدى الشيخ .. أنا .. أنا لا أملك الآن من الدراهم ما أعطيها لك .. مقابل ما ستبذله من جهد مع الصبى ...
ــ فهمت .. لا عليك من هذا الآن .. ولا يشغلنك هذا الأمر أبدا .. إن ولدك يا ابنتى ذو نسب شريف .. وينتمى لأصول طيبة طاهره ...
شكرته بامتنان وانصرفت إلى دارها والسعادة تغمرها .. تاركة ولدها بين يدى الشيخ بينما صوته الأجش يتناهى إلى سمعها .. والصبية يرددون من ورائه بأصوات متباينة
::........ نون والقلم وما يسطرون .. ما أنت بنعمة ربك بمجنون .. وإن لك لأجرا غير ممنون .. وإنك لعلى خلق عظيم ........
ظلت أصواتهم تخفت شيئا فشيئا .. كلما ابتعدت خطواتها عن ساحة البيت العتيق .. وهى عائدة أدراجها إلى شعب الخيف ………………
@ مضت الأيام وتعاقبت الليالى .. والولد مواظب تماما على دروس القرآن .. يذهب إلى الكتاب كل يوم فى الضحى تارة بصحبة أمه .. وأخرى بصحبة جده أو خاله على .. يسلمه للشيخ ثم يتوجه إلى دكان العطارة القريب من ساحة الحرم .. وقبل الغروب يأخذه إلى دكانه لا يفارقه .. بل يظل معه إلى ما بعد صلاة العشاء .. ثم يعود به مرة أخرى إلى الدار .. ومع الأيام إعتاد الصبى أن يذهب بنفسه إلى دكان جده .. دون معونة من أحد بعد أن عرفت قدماه طريقهما إليه .. ومرات كثيرة كان يرجع وحده إلى الدار فى شعب الخيف ...
إعتاد الصبى أن يجلس فى حلقة شيخه فى مكان ثابت .. لا يغيره إلا إن اضطر .. ومن هذا المكان فى الركن الأيسر من الحلقه .. كان يعطى سمعه كله للشيخ .. منصتا إلى تلاوته لآى القرآن .. وعلى مر الأيام تفتحت ملكات الصبى .. وظهرت مواهبه وقدراته الفذة التى أودعها الله تعالى فيه ووهبها له .. فما إن يستمع للشيخ وهو يقرأ الآية مرة واحده .. حتى يحفظها على الفور ولا ينساها أبدا .. وكأنها طبعت فى ذاكرته .. لم يكن فى حاجة لأن يحفظه الشيخ وحده .. ويعيد عليه مرات كسائر أقرانه ...
حدث فى إحدى المرات .. بينما كان الشيخ جالسا فى مكانه المعهود وأمامه صبى .. يبدو من ثيابه وهيئته أنه من بيت ترف ويسار .. كما تشى ملامحه أنه ليس من أهل مكه .. بل من الوافدين إليها لتعلم القرآن .. وبقية الصبية متحلقين حول شيخهم .. كل واحد منهم يهمهم فى سره بصوت هامس .. مراجعا ما هو مدون أمامه فى اللوح الخشبى .. بينما الشافعى قابع فى ركنه وحده .. يتابع بأذنيه وعينيه حوارا يدور بين الشيخ وذلك الصبى المترف .. الذى جلس فى أدب أمامه متربعا .. وهو يضم ذراعيه على صدره .. بدا الشيخ نافذ الصبر ضيق الصدر وهو يقول له .......
ــ يا بنى .. إنك أتعبتنى كثيرا .. وأوجعت قلبى .. لقد بذلت معك قصارى جهدى مذ جئتنى مع أمير مكه الذى أوصانى عليك .. واستنفذت كل حيلة معك كى تحفظ ما ألقنه لك وما أتلوه عليك .. إننى لا أدرى سببا لنسيانك الدائم هذا .. ألك هوى فى شئ آخر .. إن لم تكن لك رغبة فى تعلم القرآن وحفظه صارحنى أيها الغلام .. ولا توجع قلبى أكثر مما أوجعته ...
رد الصبى قائلا فى أدب وحياء .. وهو ينظر من خلال عينين شبه دامعتين إلى موقع قدميه .......
ــ لا يا سيدى الشيخ .. لا رغبة لى فى شئ .. إلا حفظ القرآن وتعلمه ...
ــ إذن ما سبب نسيانك الدئم هذا .. إسمع يا ابن كبير الحجاب .. سأعطيك فرصة أخيرة .. فإن لم تستجب .. فلسوف أرسل إلى أمير مكة لكى يردك إلى والدك الربيع بن يونس فى بغداد ...
ــ سمعا وطاعة يا سيدى الشيخ ...
ــ عليك الآن أن تحفظ ما أمليته عليك صبيحة هذا اليوم .. وغدا بإذن الله تعيد على ما حفظته .. إتفقنا ؟!..
ــ أجل يا سيدى الشيخ ...
ــ إذن قم واجلس هناك بعيدا .. فى آخر الحلقه ...
قام الصبى مطرقا رأسه حياء وعيناه مغرورقتان بالدموع .. جلس وحده حزينا فى أحد الأركان البعيده .. لم تمض إلا لحظات حتى تقدم الشافعى منه .. جلس إلى جواره .. أخذ يربت على كتفيه فى براءة وود .. وهو يقول له .......
ــ أنا إسمى محمد بن إدريس .. وأنت .. ما اسمك ؟!..
رد عليه بصوت حزين .......
ــ إسمى الفضل بن الربيع ...
سأله الشافعى عن بلده .. فأجاب قائلا .......
ــ أنا عراقى من بغداد .. وأبى هو الربيع بن يونس كبير الحجاب فى قصر أمير المؤمنين .. وأنت من تكون ؟!..
ــ أنا من ولد شافع .. جدنا المطلب بن عبد مناف .. جد رسول الله[صلى الله عليه وسلم ] ...
صمت برهة ثم قال .......
ــ سمعت كلام الشيخ معك .. لكن لا تيأس يا أخى الفضل .. سأجلس معك وأعيد عليك الآيات .. التى أملاها عليك سيدنا ...
أدار الفضل رأسه ناحيته .. نظر إليه متعجبا ثم سأله فى دهشة وهو يمسح دموعه .......
ــ هل حفظتها أنت ؟!..
إبتسم الشافعى قائلا .......
ــ أجل حفظتها .. ما وجه الغرابة فى ذلك ؟!..
قال الفضل وقد زادت دهشته .......
ــ كيف لا أعجب .. وأنا أعلم أن الشيخ لم يلقنك هذه الآيات .. ولم أسمعك تقرأها عليه من قبل !..
أجابه الشافعى والإبتسامة لم تغادر شفتيه .......
ــ سوف أخبرك بكل شئ .. وأشرح لك الأمر لكن عليك الآن أن تفتح آذانك لى جيدا .. ردد من ورائى ما أقول .. وستحفظ هذه الآيات بإذن الله ولن تنساها بعد ذلك أبدا………………
@ وفى اليوم التالى .. بينما الصبية جالسون فى الحلقة .. وكل منهم يهمهم فى صوت خفيض ما حفظه من آيات .. إذ دخل عليهم الشيخ إسماعيل .. فى خطواته الوئيدة متكأ على عصاه .. إتخذ مجلسه فوق الدرج .. وضع عصاه إلى جانبه .. ثم أخذ يدور بعينيه الفاحصتين يتفقد الصبية .. إلى أن وقعت عيناه على الفضل بن الربيع .. نادى عليه .......
ــ تعال إلى هنا يا ابن الربيع ...
قام الولد من مكانه وهو يبدو أكثر ثقة بنفسه من البارحه .. لم لا يكون كذلك وهو لم يغادر الكتاب بالأمس برفقة الشافعى .. إلا بعد أن حفظ الآيات تماما .. تقدم حتى صار قبالة الشيخ الذى قال له .......
ــ هيه كيف حالك اليوم ؟!..
ــ بخير حال يا سيدى ...
ــ هل حفظت ما أمليته عليك بالأمس .. أم لا زلت على عهدك ؟!..
فوجئ به يرد عليه بالإيجاب .. وبدأ يقرأ فى ثبات وثقة .......
ــ ا ل ر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير .. ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه بشير ونذير .. وأن استغفروا ربكم .....
قاطعه الشيخ .......
ــ صدق الله العظيم .. فتح الله عليك يا ولدى .. أخيرا بدأت تجيد الحفظ وتتقن التلاوه .. أخبرنى كيف تمكنت من حفظ هذه الآيات .. ما الذى جد عليك يا ابن الربيع ؟!..
أخبره بما كان من أمر الشافعى معه بالأمس .. وكيف قرأ عليه هذه الآيات من الحفظ .. تعجب الشيخ والتفت من حوله متسائلا .......
ــ أين الولد الشافعى ؟!..
رآه فأشار إليه مناديا .......
ــ تعال يا ولدى .. أدن منى ها هنا .. أنا لم ألقنك هذه الآيات .. ولم أقرأها عليك .. كيف حفظتها ؟!..
رد قائلا فى حياء .......
ــ إننى يا سيدى أعى كل آية أستمع إليها منك .. وأظل أرددها إلى أن أحفظها تماما .. ثم لا أنساها أبدا بعد ذلك ...
نظر إليه بإعجاب وانفرجت عن شفتيه ابتسامة عريضة .. ثم خبط على كتفيه مشجعا .. وقال له بصوت متهدج .. بعد أن أدناه منه وأجلسه إلى جواره .......
ــ مثلك يا ولدى لا يليق به إلا أن يكون كذلك .. وكيف لا .. وأنت ابن عم رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. إسمع يا ابن شافع .. لقد قررت أمرا .. من الغد إن شاء الله .. إذا أنا خرجت للصلاه أو لأى أمر آخر .. فأنت هنا مكانى .. تملى على إخوانك ما تسمعه أو تحفظه حتى أعود .. إننى أرى فيك رجل علم .. لن يجود الزمان بمثله ...
@ إستطاعت أم حبيبه بعد جهد وعناء .. أن تدخر رغم ضيق الحال .. بعض الدريهمات .. تعطيها للشيخ إسماعيل كما وعدته من قبل فى أول لقاء معه .. لم يكن ولدها قد أخبرها بما جرى له مع الشيخ .. وما قاله له منذ أيام .. فى واقعة الفضل بن الربيع ...
وبينما هى فى طريقها إلى الكتاب .. ظلت تفكر فيما ستقوله له .. وأى حجج تتعلل بها .. أخذت تبحث عن عذر تعتذر به عن تأخرها عليه .. وهى تشعر بالحرج الشديد من لقاء الشيخ بعد طول غياب .. وعندما وصلت إلى الزاويه .. فوجئت به يرحب بها .. ويلقاها فى حفاوة بالغه .. لم تدر لها سببا فى بادئ الأمر .. إلا أنها شكرته فى حياء بعد أن تنفست الصعداء .. كانت تتوقع لقاء جافا باردا ...
مدت يدها فى جيبها وهى تقول فى خجل .......
ــ لا تؤاخذنى يا سيدى .. تأخرت عليك كثيرا .. ها هى عشرين درهما .. أعلم أنها دريهمات قليلة .. لا تكافئ ما تبذله من جهد مع الصبى .. غير أنى فى القريب العاجل إن شاء الله .. سوف أسعى جهدى لإحضار مثلها .. وربما أكثر منها ...
تركها الشيخ حتى تفرغ من كلامها .. دون أن يقاطعها وهو ينظر إليها باسما .. ثم رد فى نبرات هادئة قائلا .......
ــ أمسكى عليك دراهمك أيتها الأزديه ...
ــ كيف يا سيدى الشيخ .. لم ترد على دراهمى .. إنها بعض حقك ؟!..
ــ ليس لى بها حاجه .. وأرجو ألا تعيدى ذلك مرة أخرى ...
إنزعجت قائلة فى وجل وخوف .......
ــ لم يا سيدى الشيخ ؟!.. هل فعلت الآن ما أغضبك .. آه أنه ولدى .. هل أغضبك ولدى .. لذلك لن تكمل معه دروس القرآن .. هل ……
قاطعها ضاحكا .......
ــ على رسلك يا امرأه على رسلك .. هونى عليك .. إنك لم تغضبينى .. وكذلك هذا الولد الشافعى .. كل ما فى الأمر .. أنه لا حق لى فى تلك الدراهم ...
ــ ما هذا الذى تقوله يا سيدنا ؟!..
ــ أجل .. لا حق لى فيها .. إن ولدك صار يساعدنى فى عملى .. ويجلس أحيانا مكانى هنا .. على رأس الحلقه ...
نظرت إليه فاغرة فاها .. لا تفهم ما يعنيه بكلامه .. ما معنى أن ولدها .. الذى لم يكمل عامه الخامس .. يساعده ويجلس أحيانا مكانه !.. معقول هذا ؟!..
أخذ يشرح لها ما كان من ولدها منذ أيام .. وأعلمها بتلك الموهبة التى أنعم الله بها عليه وحباه بها .. إزدادت دهشتها .. لمعت الفرحة فى عينيها وهى تخبر للشيخ .. إن ابنها لم يخبرها بتلك الحكايه .. وأن هذه أول مرة تعلم بهذا الأمر .. استأذنت تاركة ولدها بين يديه .. وهى ترمقه بعينين ملؤهما الإعجاب والزهو والحنان ...
الله الله .. ها هى بشائر صدق رؤياها تهل عليها .. تذكرت إدريس وهو يعبر لها رؤياها .. تذكرت تأكيده لها وهو على فراش الموت .. أن ولدها سيكون عالم قريش المنتظر .. ولما رجعت إلى الدار .. قصت على أبيها وأمها .. ما كان من أمرها اليوم مع الشيخ .. وما قاله لها عن ولدها ...
يتبع إن شاء الله ........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 10h54
|

17/11/2008, 16h16
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
@ أربع سنوات مضت على تلك الواقعه .. والشافعى لا يزال فى كتاب الشيخ .. مواظبا على دروس القرآن تجويدا وحفظا .. وفى يوم .. نادى عليه جده عبيد الله الأزدى .. سأله وهو راقد فى فراشه .......
ــ لك الآن من العمر ثمانية أعوام يا ابن إدريس .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا جدى ...
ــ وهل يا ترى ختمت القرآن ؟..
ــ لم يبق لى إلا جزء واحد .. لكن !..
أمسك الصبى لسانه حياء .. إستحثه متسائلا وهو ينظر إليه فى إعجاب .......
ــ لكن ماذا يا ولد إدريس .. تكلم .. قل ما عندك ؟!..
ــ أنت تقول القرآن بالهمزه ...
ــ ماذا فى ذلك يا ولدى ؟!..
ــ لقد علمنا الشيخ إسماعيل أن ننطق القرآن .. هكذا بدون الهمزه ...
إبتسم الجد متسائلا .......
ــ وهل ذكر لكم سبب ذلك ؟!..
ــ أجل يا جدى .. قال لنا إن القرآن ليس مشتقا من قرأ .. وإلا كان كل ما قرئ قرآنا .. وإنما هو إسم مثل التوراه والإنجيل ...
ــ الله الله .. فتح الله عليك يا ولد إدريس .. أتدرى أنك علمتنى اليوم مسألة لم أكن أعلمها من قبل .. ما شاء الله .. والآن هيا أسمعنى بعض آيات من القرآن ( بدون همزه ) ...
تربع مكانه وبدأ يتلو فى خشوع .......
ــ بسم الله الرحمن الرحيم "الرحمن .. علم القرآن .. خلق الإنسان علمه البيان .. الشمس والقمر بحسبان .. والنجم والشجر يسجدان .. والسماء رفعها ووضع الميزان .. ألا تطغوا فى الميــزان" …………………
@ فى دار رحبة تقع على مقربة من ساحة المسجد الحرام .. خصصت لتكون مقرا للإماره .. جلس أمير مكة واليمن فى صدر قاعة الحكم .. وبينما يتجاذب أطراف الحديث مع كاتب ديوانه بعد أن فرغ من أعماله .. إذ دخل عليه أحد الحراس قائلا .......
ــسيدى الأمير .. صاحب البريد بالباب ...
ــ من أين أتى .. وما شأنه ؟!..
ــ يقول إنه يحمل رسالة عاجلة من قبل أمير المؤمنين .. أبــى جعفــر المنصور ...
أشار إليه أن يدخله فى الحال وهو يتساءل فى نفسه متوجسا.. يا ترى ما يكون وراء رسول الخليفه القادم من بغداد .. لم يقطع عليه هواجسه إلا دخول الرجل عليه .. تناول منه الرسالة .. عاين الختم عليها فإذا هو ختم أمير المؤمنين .. قبله وهب واقفا وكل من معه تعظيما وإجلالا لخليفة المسلمين .. كان هذا دأبهم عندما ترد عليهم رسائله ...
بدأ يقرأ ما فيها ....... " بسم الله الرحمن الرحيم " من أمير المؤمنين أبى جعفر المنصور إلى أمير مكة والطائف أما بعد ....... قررنا مستعينين بالله ومتوكلين عليه الحج بالناس هذا العام .. سيكون بصحبتنا إبن أخينا أمير المدينه إبراهيم بن يحى .. وعددا من الأمراء وكبار رجال الدوله .. فإذا وصلك كتابى هذا .. أعلم من معك .. وابعث مناديا ينادى فى أهل مكه .. وزد لهم فى العطايا والهبات .. وأقم الولائم للناس كل ليلة .. ووسع عليهم طوال الموسم والسلام ...
طوى الرسالة فى عناية وهو يكتم دهشته .. ثم أخذ يملى على كاتبه ردا عليها .. تناولها رسول المنصور وانصرف .. وعقب انصرافه أخذ الأمير يتمتم فى سره قائلا .. وقد أخذه الدهش والعجب .......
ــأمير المؤمنين ؟.. ما الذى دهاه يا ترى ؟!.. لقد أدى فريضة الحج آخر مرة منذ ست سنوات .. ويأمرنى بأن أجزل العطايا والهبات لأهل مكه .. وأقيم الولائم لهم كل ليله !!.. ما سبب هذا الجود والسخاء الذى اعتراه .. وهو البخيل الملقب بأبى الدوانيق .. إنه لا ينفق الدراهم إلا بالكاد ..من المؤكد أن فى الأمر شيئا.. هذا الأمر العجيب لا تفسير له إلا شيئا واحدا .. أن تكون النهايه .. أجل لابد أنه يشعر بدنو أجله وقرب رحيله عن الدنيا .. ولم لا .. إن صحته فى تأخر مستمر منذ حادثة مقتل ولده جعفر ……
@ فى اليوم التالى وفى شعب الخيف .. خرجت أم حبيبه ومعها وحيدها الشافعى .. وخرج أبوها وأمها وإخوتها وجيرانهم من دورهم يستطلعون الأمر .. كان المنادى يجوب الطرقات والأزقة راكبا بغلته .. ومن حوله جمع من الصبية والرجال والنساء .. مرددا بصوته الأجش العالى .......
ــإلى أهل مكة والطائف .. يعلن أمير المؤمنين .. أبى جعفر المنصور .. أطال الله بقاءه .. وأمد فى عمره .. وأعلى فى العالمين ذكره .. أنه عزم على الحج بالناس هذا العام .. وبهذه المناسبة السعيده .. فإنه أصدر أوامره العالية السامية .. أن تمد الولائم .. لجميع الناس كل ليلة .. بدءا من اليوم .. وحتى نهاية موسم الحج .. أمام ساحة دار الإماره.. كما أمر حفظه الله .. أن يمنح كل واحد من أهل مكه .. عشرون درهما من بيت مال المسلمين .. وعلى من حضر أو سمع هذا النداء .. أن يعلم الغائب ...
@ ذهب الشافعى إلى الكتاب نشيطا كعادته كل يوم .. وكان قد انتهى قبل أيام من حفظ القرآن وتجويده كله .. وفى طريقه إلتقى برفيق الحلقة وصاحبه الفضل بن الربيع .. وقد صارا صديقين حميمين .. لم ينس الفضل أن الشافعى هو الذى اجتهد معه .. وساعده فى حفظ أجزاء القرآن التى كان ينساها .. وأنه أعاد إليه ثقته بنفسه .. ولم ينس له الشافعى بدوره .. أنه بسببه أعطاه فرصة فريدة لم يعمل لها ولم يتكلفها .. ليكتشف الشيخ مواهبه ويعرف قدراته الفذه .. وسرعة حفظه لكل ما يسمعه .. حتى أنه أبى أن يأخذ من أمه درهما واحدا كما تقدم ...
وفى الطريق كان الصديقان يتحاوران .. تارة فى مودة تسبقها براءة الطفولة ونقاؤها .. وتارة أخرى يتسابقان فى العدو .. وهى الهواية المحببة للشافعى إلى جانب شغفه بالرمايه .. كانا يتباريان فى إصابة الهدف بالنبال وهما سعداء .. وأخيرا وصلا إلى الكتاب يلهثان من شدة التعب .. جلسا يلتقطان أنفاسهما وهما يتضاحكان فى براءة وصفاء .. بعد أن أعطيا لبدنهما حقه .. أثناء ذلك حضر الشيخ إسماعيل وهو يتوكأ على عصاه .. وبدأ يتخذ مجلسه فــوق الدرج ...
أخذ الشيخ يتفقد الصبية فى إمعان وهو يدور عليهم بعينيه بعد أن سكنت أصواتهم وجوارحهم عندما رأوا الشيخ داخلا عليهم .. أخيرا وقعت عيناه على الشافعى والفضل وهما يجلسان متجاوران .. إبتسم ابتسامة ذات مغزى وأشار للشافعى الذى كانت عيناه معلقة به أن يدنو منه ثم سأله .......
ــ ختمت القرآن منذ أيام يا شافعى .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا سيدى الشيخ ...
ــ إقرأ علينا إذن .. إقرأ .. آخر آيات سورة التوبه ...
ــ بسم الله الرحمن الرحيم ....... "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم .. فإن تولوا فقل حسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم" ...
ــ صدق الله العظيم .. ما اسم السورة التى تليها ؟!..
ــ سورة يونس ...
ــ أين نزلت ؟!..
ــ نزلت كلها فى مكه .. إلا أربع آيات منها نزلت فى المدينه ...
ــ إقرأ آية منها ؟!..
ــ هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا .. وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب .. ما خلق الله ذلك إلا بالحق .. يفصل الآيات لقوم يعلمون ...
ــ عظيم .. عظيم .. إقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ....... ط ــ س ــ م ...
ــ ط .. س .. م .. تنزيل من الرحمن الرحيم .. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعملون .. بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ...
ــ صدق الله العظيم .. يكفى منك هذا يا ولدى .. كنت أريد أن أطمئن على حفظك للقرآن قبل أن تفارقنا بإذن الله ...
صمت برهة وأردف .......
ــ لكنى أود أن أوصيك بأمرين ...
ــ وما هما .. يا سيدى ؟!..
ــ أولاهما .. أن تقوم لسانك بأن تعرف قواعد اللغة العربيه .. وأصول النطق الصحيح لها .. وهذا أمر لن يتيسر لك تحصيله إلا فى الباديه ...
ــ معذرة سيدى .. فإنى لا أفهم ما تقصده ...
ــ عندما تعود إلى الدار فى المساء .. سل جدك الأزدى .. ولسوف يشرح لك المسألة برمتها ...
ــ سمعا وطاعة يا سيدى .. والوصية الثانيه ؟!..
ــ أوصيك يا ابن أخى بعد أن تتعلم أصول اللغة العربية وفنونها .. أن تعكف على طلب علوم الحديث والفتوى ...
مرت لحظات صمت والشيخ يحيط كتفى الشافعى بيمناه .. قبل أن يقول له فى حنان أبوى ضاف ومحبة خالصه .......
ــ وأظنك ستفعل يا ابن أخى .. إنك ما خلقت إلا لتكون مثل هؤلاء .. ( وأشار بيمناه على حلق العلماء من حوله فى ساحة الحرم ) .. سر على بركة الله وفى كنف رعايته وفضله ...
@ لبث الشافعى طيلة النهار يقلب فى رأسه الصغير .. ما سمعه من شيخ الكتاب .. وهو فى عجب من كلامه .. ما الذى يعنيه يا ترى من ورائه ؟!.. ما معنى أن يقوم لسانه .. وأن يتعلم اللغة العربية الصحيحه ؟!.. ولماذا طلب إليه الخروج إلى الباديه .. أى شئ سيجده فيها ؟!.. هل هناك قوما يتكلمون لغة أخرى .. أفكارا كثيرة .. أسئلة لا جواب لها .. عند من هم فى مثل عمره .. أحاطت به .. تزاحمت فى رأسه الصغير .. وجعلته فى حيرة من أمره ...
لم يصبر أن يأتى المساء حتى يعود إلى الدار ليسأل عنها جده .. قرر أن يتوجه إليه من فوره فى دكان العطارة عقيب مغادرته ساحة الحرم .. كان الشيخ منهمكا فى ترتيب بعض البضائع المكدسة أمامه .. ورصها على الأرفف فى نسق بديع .. ألقى عليه السلام وأخبره بما كان من أمر الشيخ إسماعيل معه .. إبتسم جده قائلا .. وهو ينفض يديه من الغبار العالق بهما .......
ــ أجل يا ابن إدريس .. أخلص لك الشيخ النصيحه وأصدقك القول .. إن أمامك رحلة طويلة لا مناص لك من القيام بها .. إن كنت راغبا فى أن تستأنف طريق العلم .. وتمضى فيه ...
ــ لم أفهم بعد يا جدى .. ما الذى تقصده ؟!..
ــ سأشرح لك الأمر .. العرب عامة بما فيهم نحن القرشيون .. خالطوا أبناء الأمم الأخرى بحكم السفر الدائم والترحال وشغلهم بالتجاره .. وأيضا لوجود كثير من العجم بينهم .. كان من نتيجة كل ذلك أن هجنت لغتهم العجمه .. فلم تسلم ألسنتهم من بعض اللحن وغريب القول .. وفقدت لغتهم شيئا غير قليل من نقائها ...
إزداد عجبا وقال مقاطعا .......
ــ رغم فصاحتنا .. وبلاغتنا المعروفة عنا .. نحن أهل الحجاز ؟!..
ــ أجل .. رغم فصاحتنا وبلاغتنا .. لكن رغم ذلك .. وهذا من لطف الله بنا .. بقيت جماعة من العرب .. هم أهل الباديه .. لم يخالطوا أى جنس .. ولم يتعاملوا فى شؤونهم مع غير العرب .. لذلك سلمت لغتــهم من أى لهجات دخيلة .. وبقى لسانهم العربى الأصيل على حاله .. لم تشبه شائبه ...
صمت برهة وأردف قائلا .......
ــ هل سمعت الحديث المروى عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. والذى قال فيه ....... إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف ...
ــ أجل .. سمعته غير مرة من الشيخ إسماعيل ...
ــ عظيم .. هذه الأحرف يا ولدى لها تأويلات كثيره .. من ذلك مثلا أنها تشير إلى سبع لغات من قبائل العرب .. ورغم أنهم اختلفوا فى تعيين هذه القبائل السبعه .. إلا أن قريشا وهذيل لم يختلف عليهما أحد .. فهذيل إحدى جماعات ست لا تؤخذ اللغة الصحيحة إلا عنها .. وهم من أفصح العرب لسانا .. وأعذبهم لغة وأحسنهم بيانا ...
ــ آه .. لهذا السبب نصحنى الشيخ إسماعيل .. أن أذهب من فورى إلى الباديه ؟!..
ــ أجل يا ولد إدريس .. أجل .. عليك بعد أن تنتهى مناسك الحج .. أن تعد نفسك إن شاء الله للرحيل إلى الهذليين .. هناك .. فى الباديه .. تخالطهم وتعيش بينهم .. وتحيا حياتهم وتعرف كلامهم .. وأيضا تحفظ أشعارهم وحكمهم ...
ــ سمعا وطاعة يا جدى ..
قالها الفتى سعيدا .. إلا أنه ارتسم على وجهه تساؤل .. هم أن يتكلم غير أن حياءه منعه .. فاستحثه جده قائلا .......
ــ ألمح فى عينيك تساؤلا .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا جدى .. لكنى لا أريد أن أشق عليك بكثرة السؤال ...
ــ سل ما بدا لك .. لا يزال أمامنا متسع من الوقت .. قبل أن نغلق الحانوت ...
ــ كنت أود أن تسمعنى شيئا من أشعارهم ؟!..
ضحك فى حنان قائلا .......
ــ إيه يا ولد إدريس .. ما أكثر ما قالوا .. إن لهم من القصائد ما يوقر مائة بعير وزياده .. إسمع مثلا قول شاعرهم أبى ذؤيب الهذلى .. فى الحكم والوصايا .......
أمن المنون وريبه تتوجــع ؛ والدهر ليس بمعتب من يجزع ...
وتجلدى للشامتين أريهموا ؛ أنى لريب الدهر لا أتضعضع ...
والنفس راغبة إذا رغبتها ؛ وإذا تــرد إلى قليــل تقنــع ...
ــ الله الله .. شعر بديع حقا .. ليتك تسمعنى مزيدا من شعرهم هــذا يا جــدى ؟!..
ــ إسمع يا ولدى قول شاعرهم .......
مالى أحن إذا جمــالك قربت ؛ وأصــد عنك وأنت منى أقرب ...
وأرى البلاد إذا سكنت بغيرها ؛ جدبا وإن كانت تطل وتخصب ...
ــ شوقتنى بكلامك هذا إلى الرحيل إليهم .. أعدك أنى لن أغادر ديارهم بإذن الله تعالى .. حتى أحفظ عن ظهر قلب كل ما قالوه ...
رد معقبا وهو يربت على كتفيه .......
ــ أنا على ثقة من ذلك يا ولدى ...
ثم أردف قائلا وهو يبتسم ابتسامة ذات مغزى .......
ــ أذكرك أيضا أن براعتهم .. ليست فى اللغة والشعر فحسب .. بل هم أيضا بارعون فى فنون الرماية والقتال .. أليست تلك هواياتك .. أيها الولد القرشى ؟!..
أطرق الصبى رأسه حياء .. دون أن يتكلم أو يعقب .. واستأذن تاركا جده يواصل عمله فى الدكان ...
@ ظل الخليفة المنصور يعانى فى الشهور الأخيرة آلاما مبرحه .. فى النهار يكابد الآلام ويجاهد فى إخفائها .. وفى الليل لا يهنأ بفراش أو يلتذ بمنام .. بل تظل عيناه ساهرتان .. كأن بينهما وبين النوم خصومة ثأر أو قطيعة رحم .. لكنه كان يتحامل على نفسه .. متظاهرا بالقوة وشدة البأس .. أمام المحيطين به من أهله أو أعوانه .. فإذا ما صار فى خلوة وحده .. أعطى لمشاعره العنان ولنفسه الحق .. أن تتحرك شفتاه بالآهات والأنات .. بينما يبث ربه شكواه ...
ومع توالى الأيام ضعفت مقاومته وخارت قواه تماما .. حتى أنه لم يطق صبرا على قسوة الآلام .. أسلم الأسد العباسى نفسه لليأس واستسلم للفراش أخيرا .. بعد أن نال منه المرض وأنهك قواه .. وفى إحدى الليالى بينما هو فى فراشه وقت الظهيره .. والشمس قد تكبدت السماء .. جلست زوجته أروى بالقرب منه .. لا ترفع عنه عينان مليئتان حنانا وإشفاقا .. وهو يردد فى صوت هامس كأنما يناجى نفسه .......
المرء يأمل أن يعيش ؛ وطول عمر قد يضره ...
تبلى بشاشته ويبقى ؛ بعد حلو العيش مره ...
وتخونه الأيــام حتى ؛ لا يرى شيئــا يسره ...
كم شامــت بى إن ؛ هلكت وقائل لله دره ...
قالت وهى تجاهد أن تحبس دموعها .. مظهرة أمامه الثبات ورباطة الجأش .. مستنكرة عليه تشاؤمه ويأسه .. بينما تشاغلت بمسح جبينه براحة يدها .......
ــ ما هذا الذى تنشده يا أبا عبد الله !.. ولم كل ذلك التشاؤم واليأس ؟!..
سكتت برهة ثم أردفت قائلة .. بعد أن رسمت شبح ابتسامة على شفتيها .......
ــ إنها وعكة عارضه .. سرعان ما تزول كسابقتها .. ستقوم بعدها معافى سليم البدن بإذن الله .. إن الله تعالى لم يخلق داء إلا خلق له دواء .. أليس كذلك يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ صدق رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. لكن أكملى بقية الحديث .. إلا الموت .. أجل إلا الموت يا أروى .. لقد ولدت فى شهر ذى الحجه .. ووليت فى شهر ذى الحجه ...
قال ذلك ثم تنهد قائلا .......
ــ وهجس فى نفسى أنى أموت هذا العام .. فى نفس هذا الشهر .. إنى أشعر بدبيب الوهن فى جسدى .. وأن صحتى فى تأخر يوما عن يوم ...
ردت وهى تغالب البكاء .......
ــ لقد أرسلنا منذ أيام فى طلب طبيب من الهند .. معروف ببراعته وحذقه .. فى مداواة علل البطن والمعدة التى تعانى منها ...
رد قائلا وهو يشيح بيده بعيدا فى ضجر ويأس .......
ــ طبيب !. ماذا يفيد طبيب الهند أو غيره .. صدقينى يا أم موسى .. لا جدوى من وراء ذلك كله .. لقد تمكنت العلة منى واستحكم الداء ...
تحولت عن مجلسها واقتربت منه .. وهى تطوق عنقه بيدها قائلة .......
ــ حفظك الله من كل سوء .. إذا اعتل أمير المؤمنين .. إعتل الناس جميعا ..
ــ إسمعى يا أم موسى .. سأحكى لك حكاية عن واقعة حدثت لى فى صباى .. لم أروها لأحد قبل اليوم إلا لواحد من الحكماء .. رويتها له فى الكوفه بعد أن توليت الخلافه .. ولم يسمعها منى بعد ذلك أحد .. إلا أنت الآن يا أروى ...
ــ حكايه !.. أية حكاية تلك يا أبا عبد الله ؟!..
ــ إنه منام غريب .. رأيته فى صباى .. لا زلت أذكره كأنى أراه الآن ...
أخذ يلتقط أنفاسه لحظات .. ثم استأنف قائلا وهى تنصت له .......
ــ رأيت كأنى فى المسجد الحرام بمكه .. ورسول الله [صلى الله عليه وسلم ] داخل الكعبه .. ونفر كثير من الناس ملتفون من حولها .. وإذا بمناد يخرج قائلا .......
ــ أين عبد الله .. فأسرع أخى أبا العباس السفاح ودخل الكعبه .. ثم خرج وبيده لواء أسود .. ثم نودى مرة ثانيه ....... أين عبد الله .. فقمت أنا وعمى عبد الله بن على نستبق .. فسبقته حتى أتيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. فعقد لى لواء وأوصانى بأمته .. ثم عممنى بعمامة كورها ثلاثا وعشرين كورا .. بعدها إستيقظت من نومى .. وأنا فى حيرة من أمرى .. أخذت وقتها أسأل نفسى .. ما تأويل هذه الرؤيا يا ترى .. هل أدركت تأويلها يا أم موسى ؟!..
ــ ما وجه الغرابة والعجب فيها .. أقسم أنها رؤيا واضحة وضوح النهار .. ليست فى حاجة لمن يتأولها أو يعبرها.. إنها تنبئ بما صرت إليه .. أنك ستكون ذات يوم خليفة على المسلمين .. وأنه سيكون لك شأن كبير .. وهذا ما حدث تماما ...
ــ ألم تدركى منها .. أمرا آخر ؟!..
ــ ماذا تعنى يا أبا عبد الله .. هلا أفصحت ؟!..
ــ بعد أن توليت أمور الخلافه .. تذكرت هذه الرؤيا .. أرسلت فى التو رسولا يأتينى بأحد الحكماء المعبرين من الكوفه .. قال لى ………………
ـ رؤياك هذه يا أمير المؤمنين .. والعمامة التى كورها رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] على رأسك ثلاثا وعشرين مره .. تشير إلى زمن ولايتك ومدة خلافتك .. وأيضا إلى ما يتبقى من عمرك .. ثلاثا وعشرين سنه ..
ــ أفهمت يا أم موسى ؟!.. فى شهر ذى الحجة القادم .. ونحن على أبوابه .. تكتمل هذه السنوات ...
ردت قائلة دون أن تعقب على كلامه .. محاولة أن تغير مجرى كلامه .....
ــ دع عنك هذه الهواجس .. أظنك أرسلت فى استدعاء ولى العهد ؟!.
أجابها متثائبا وهو يميل على جانبه الأيسر .......
ــ ولدى محمد المهدى .. أجل .. ليته يعجل بالقدوم من الرى ...
ــ لم يا أمير المؤمنين ؟!..
رد باقتضاب وهو يميل برأسه على الوساده .......
ــ لدى الكثير .. مما أود أن أقوله له ...
لاحظت أنه يريد أن يستريح على فراشه .. قامت ناحية الباب .. وأمرت خادمه ألا يسمح لأحد بالدخول عليه .. إلا بإذن منها .. خرجت تاركة زوجها وهو فى حالة بين النوم واليقظه ..
وإذا به بعد أن صار وحده .. يرى شعاعا من الضوء فى ركن الغرفه .. حاول أن يتبين مصدره .. فإذا به يلمح وهو يدقق النظر مستجمعا قواه .. شبحا يقف ساكنا فى آخر الغرفة .. كأنما انشقت عنه الأرض .. أخذ يحدق النظر فيه .. محاولا أن يستبين ملامحه .. غير مصدق عينيه .. فإذا الواقف بعيدا عنه شيخ نحيل .. تحيط به هالة من ضوء خافت .. يرتدى ثيابا بيضاء .. له وجه مضئ تزينه لحية طويله .. وأسفل عينه اليمنى شامة سوداء ...
رآه المنصور وهو يقترب منه على مهل .. نظر إلى قدميه .. فإذا هما لا تلمسان سطح الأرض .. كانتا ترتفعان عنها قليلا .. كأنه يمشى على الهواء .. إنتابه الفزع .. كاد قلبه ينخلع من هول المفاجأه .. ظل يفرك عينيه .. يتأكد أنه لا يزال يقظا لم ينم بعد .. وأن الذى يراه حقيقة ليس مناما أو تخيلا .. وهو يتمتم بشفتيه بعض الأدعيه .. أخيرا سأل بصوت مرتعش متحشرج .......
ــ من أنت بالله عليك .. كيف دخلت غرفتى .. الأبواب كلها موصده ؟!..
ــ السلام عليك أولا .. لا تخف يا أبا جعفر ...
ــ وعليك السلام .. من أنت .. بشر أم ...؟!..
ــ لا يهم هذا .. إنما أتيت لأبلغك رسالة أيها الخليفة الراحل .. ثم أمضى بعدها لحالى ...
ــ رساله !.. أية رسالة تلك ؟!..
ــ أبا جعفر إسمعنى جيدا .. إنك ملكت ما ملكته ؛ والأمر فيه إلى سواكا ...
سأله المنصور وقد جف حلقه وزاد خوفه .......
ــ زدنى فهما أهى النهايه ؟!..
ــ أبا جعفر ....... قد حانت وفاتك وانقضت ؛ سنوك وأمر الله لابد واقع ...
فهل يا ترى من كاهن أو منجم ؛ لك اليوم من أمر المنايا مانع ...
ــ قد علمت .. لكنى عزمت على حج البيت هذا العام .. إنها آخر أمنية لى فى هذه الدنيا .. فهل لى إليها من سبيل ؟!..
ــ إمض لما أنت عازم عليه أيها الراحل .. لكنه أمر مبرم وقضاء فصل ...
إنتهى الشيخ الشبح من كلامه .. ثم استدار واختفى .. فجأة كما جاء .. كأنما انشقت عنه الأرض .. بينما راح المنصور فى سبات عميق .. بعد أن شعر بالسكينة كأنما نزلت على قلبه وغمرت جوانحه ...
@ مضت ساعات .. وبينما الشمس فى طريقها للغروب .. والظلال تتكاثف فوق سطح القصر .. صحا المنصور من نومه .. فتح عينيه ليرى امرأته واقفة إلى جواره .. تجفف بمنشفة فى يدها .. ما تراكم على جبينه من عرق غزير .. وهى تقول له بعد أن زينت فمها ابتسامة حانيه .......
ــ نوم العافية إن شاء الله يا أمير المؤمنين .. إنك تبدو الآن أحسن حالا ...
أجابها قائلا وهو يأخذ نفسا عميقا .......
ــ أجل أجل الحمد لله .. أشعر الآن ببعض الراحة والسكينه ...
صمت برهة ثم سألها .......
ــ هل بالباب أحد ؟!..
ــ أجل يا أمير المؤمنين .. الطبيب ...
ــ طبيب !.. أى طبيب هذا ؟!..
ــ أنسيت يا مولاى .. الطبيب الذى أرسلنا فى طلبه من الهند .. وصل منذ ساعة .. إلا أنه آثر الإنتظار .. إلى أن تصحو من نومتك ...
رد المنصور وعلى شفتيه ابتسامة ساخره .......
ــ الطبيب !.. ما جدوى الطبيب .. بعد الذى رأيت ...
ــ ماذا تقول يا أبا عبد الله ؟!..
ــ لا شئ لا شئ أدخلوه ما دامت تلك رغبتكم ...
فيما كان الطبيب منهمكا فى فحصه .. دخل ولى العهد يلهث على عجل .. وقد بدت عليه آثار رحلة طويلة شاقه .. وقف مكانه يستمع إلى الطبيب .. وهو يحاور المنصور ويسأله عن شكواه .. وفى نهاية الحوار بينهما .. قال الطبيب موجها كلامه له .......
ــ هذا الذى تشكو منه يا أمير المؤمنين .. من غلبة المرة الحمراء .. سأعد لك دواء من السفوف اليابسه .. مع بعض المركبات الحاره .. على أن تقل من الطعام ...
إستدار الطبيب خارجا .. فى اللحظة التى نظر المنصور فيها لولده المهدى .. نظرة فهم منها أنه يريد أن يختلى به .. فلما صارا وحدهما .. قال له فى صوت واهن .. وهو يمد يده إليه ليدنيه منه .......
ــ إنى عزمت يا ولدى .. على الخروج إلى الحج .. غدا إن شاء الله .. على أن تبقى أنت هنا مكانى .. تدير أمور البلاد .. لقد أرسلت رسالة بذلك منذ أيام .. إلى أمير مكه .. أعرفه فيها بما عزمت عليه ...
قاطعه متوسلا .......
ــ معذرة يا أبى .. ما هذا الذى عزمت عليه !.. أعتقد أنك لا تحتمل فى مثل هذه الحال .. رحلة طويلة شاقة كرحلة الحج .. إننا فى أيام شديدة الحراره .. والطريق غير ممهد من بغداد إلى مكه ...
رفع المنصور راحته طالبا منه ألا يسترسل فى توسلاته .. ثم قال له .......
ــ يا ولدى لا تجزع .. إنها النهايه .. نهاية رحلة الحياة التى لابد منها .. لا جدوى من كلامك هذا .. ليت أجلى يأتينى وأنا بمكه ...
ثم تنهد قائلا .......
ــ ليتنى أدفن فى ترابها الغالى ...
رد وهو يغالب دموعه .......
ــ أنت وما عزمت عليه يا أمير المؤمنين ...
قال المنصور .......
ــ أدن منى يا ولدى .. أعطنى كل سمعك .. فإنى أوصيك بخصال .. ليتك تعمل بها ...
ــ السمع والطاعة يا أبت ...
ــ إعلم أن السلطان لا يصلح إلا بالتقوى .. ولا تصلح رعيته إلا بالطاعه .. ولا تعمر البلاد بمثل العدل .. واعلم أن أقدر الناس على العفو .. أقدرهم على العقوبه .. وأعجز الناس من ظلم من هو دونه .. إتق الله يا ولدى .. فيما أعهد إليك من أمور المسلمين من بعدى .. والزم الحلال .. فإن ثوابك فى الآجل .. وصلاحك فى العاجل .. إياك وتبذير أموال الرعيه .. وعليك بشحن الثغور .. وضبط الأطراف وتأمين السبل .. وباشر أمورك بنفسك .. وكن حسن الظن بربك .. سئ الظن بمن حولك .. من عمالك وكتابك .. تفقد من يبيت على بابك .. وسهل إذنك للناس .. ولا تنم .. فإن أباك لم ينم .. منذ ولى الخلافه .. وما غمضت عينى إلا وقلبى يقظان .. هذه وصيتى إليك .. والله خليفتى عليك ...
سكت برهة وسأله .......
ــ أين ولديك .. موسى وهارون ؟!..
ــ بالباب يا أبت مع أمهما الخيزران .. ينتظرون أن تأذن لهم ...
إفتر فمه عن ابتسامة باهتة وهو يقول .......
ــ يا لها من امرأة محظوظة .. وكيف لا تكون .. وهى امرأة أمير المؤمنين من بعدى .. وأم لأميرين للمؤمنين .. إيــــه .. من يدرى .. قد تكون جدة لأمير المؤمنين .. إحرص على هذا الأمر يا ولدى .. لا تدع الخلافة تخرج من ولدنا أبدا .. مهما كلفك هذا ..
ثم أخذ يقول لنفسه .. بعد أن دخل أحفاده عليه وقبلوا يديه .......
ــ اللهم بارك لى فى لقائك يا رب العالمين .. اللهم إن كنت عصيتك فى أمور كثيرة .. فقد أطعتك فى أحب الأشياء إليك .. شهادة ألا إله إلا الله مخلصا ...
@ بعد أيام .. بينما أهل مكة يستعدون للخروج إلى جبل عرفات .. إذا بصوت المنادى يقرع آذانهم .. وهو يجوب الطرقات .. ناعيا إليهم أمير المؤمنين .. الذى وافته المنية قبل أن يدخل مكه بمرحلة واحده .. هرع الناس فزعين خارج منازلهم .. يستطلعون الأمر ويتناقلون النبأ .. بينما صوت المنادى من بعيد يردد قائلا .......
ــ أمير المؤمنين .. دعى فأجاب .. ولبى نداء ربه محرما .. سبحان الحى الذى لا يموت .. سبحان الباقى بعد فناء خلقه ...
وفى دار عبيد الله الأزدى التف كل من فى البيت حوله فى فضول وانتباه وهو يحكى لهم .......
ــ مات المنصور .. وهو فى طريقه إلى مكه .. بعد أن أحرم من الرصافة .. وساق البدن أمامه .. وبعد أن جاوز الكوفة بمراحل .. إشتد عليه المرض عند بئر ميمون .. القريبة من مكه ...
سأله على .......
ــ هل يدفن هنا .. أم سيعودون به إلى بغداد ؟!..
ــ قيل إنه سيدفن هنا بمكه .. عند ثنية المعلاه بالحجون .. كما أوصى ...
ــ وهل تمت البيعة لولى العهد .. محمد المهدى ؟!..
ــ قيل أن الربيع بن يونس .. ذلك الوزير الداهيه .. أعمل الحيله وأخبر من معه .. أن المنصور يطلب منهم أن يبايعوا لولده المهدى .. كان ذلك بعد أن فارق الحياه .. لكن الربيع لم يشأ أن يعلمهم بذلك .. إلا بعد أن تمم البيعة للمهدى ………………
@ قبل وفاته بأيام قليلة .. كان المنصور قد انتهى من إقامة قصر جديد .. أطلق عليه قصر الخلد .. خارج مدينة بغداد فى مكان طيب الهواء بعيدا عن الزحام .. دفعه لإقامته أن هذه المدينة سرعان ما ازدحمت بالتجار والصناع .. وطالبى العلم الذين رغبوا فى المقام بها .. الوافدين إليها من كل حدب وصوب .. وشاءت إرادة الله تعالى .. أن يموت المنصور بعد فراغه من إقامة هذا القصر .. لم يكتب له أن يقيم فيه ولو يوما واحدا .. وأول من دخله ولده أبو عبد الله المهدى .. بعد أن أصبح أميرا للمؤمنين .. وفى أول لقاء له بالأمراء والقاده ورجال الدوله .. فى قاعة الحكم بقصر الخلد .. إتخذ المهدى مجلسه فى الصدارة .. شابا طويلا فارعا .. أسمر اللون جعد الشعر .. له من العمر ثلاثة وثلاثين عاما .. نظر إلى الربيع .. خاطبه فى تؤدة ونبرة حزن فى صوته .......
ــ إقرأ على الحاضرين .. الرسالة التى أملاها عليك أمير المؤمنين .. قبل أن يرحل إلى جوار ربه ...
ــ السمع والطاعة يا أمير المؤمنين .. بسم الله الرحمن الرحيم ....... من عبد الله المنصور أمير المؤمنين .. إلى من خلف بعده .. من بنى هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين ...
سكت الربيع وقد خنقه البكاء وأبكى الحاضرون معه .. إغتنمها أحد الشعراء فرصة فقام منشدا .......
عجبــا للذى نعى الناعيان ؛ كيــف فاهــت بموته الشفتان ..
ضم أطراف ملكه ثم أضحى ؛ خلــف أقصاهم ودون الدانى ..
ذو أناة ينســى لها الخائف ؛ الخوف وعزم يلوى بكل جنان ...
ذهبت دونه النفوس حذارا ؛ غيــر أن الأرواح فى الأبدان ...
قال أمير المؤمنين مستنكرا بكاءهم وانتحابهم .......
ــ قد أمكنكم البكاء وغلبكم .. أنصتوا أصلحكم الله ...
ثم أشار للربيع بيمناه الذى واصل قراءة الرساله .......
ــ أما بعد .. فإنى كتبت كتابى هذا إليكم فى آخر أيامى فى الدنيا .. وأنا على عتبات الآخره .. أسأل الله ألا يفتنكم بعدى .. وألا يلبسكم شيعا وألا يذيق بعضكم بأس بعض .. وأذكركم بالبيعة لولدى محمد المهدى .. أميرا للمؤمنين من بعدى .. ومن بعده لولده موسى والسلام ...
طواها الربيع والتفت للحاضرين قائلا فى ثبات وحزم .......
ــ وبالأمس أيها الأمراء والقاده .. بايعنا أبا عبد الله المهدى .. أميرا للمؤمنين ...
قبل أن ينهضوا من أماكنهم لتجديد البيعه .. أشار لهم المهدى أن يلتزموا أماكنهم .. ثم قال بصوت جهورى .. بعد أن خيم الصمت أرجاء المكان .......
ــ بسم الله الرحمن الرحيم ....... إن الأرض يورثها من يشاء من عباده .. والعاقبة للمتقين أما بعد .. فإنا أمرنا بأخذ البيعة الآن .. لولدنا موسى وليا للعهد ولقبناه بالهادى .. ومن بعده لأخيه هارون ولقبناه بالرشيد .. تلكم وصية الخليفة الراحل .. كما أمرنا بإطلاق سراح كل المحبوسين .. إلا من كان محبوسا على دم .. أو سعى فى الأرض فسادا .. كما أصدرنا بيانا بأسماء أمرائنا وعمالنا على البلاد والثغور .. وأوصينا بتقصير المنابر فى كل المساجد .. إلى مقدار منبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. وتغيير كساء الكعبة وطلائها بالخلوف .. وأن يبدأ العمال والصناع والفعلة من الغد .. فى حفر الركايا وبناء المصانع والدور والقصور .. على طول الطريق من العراق إلى الحجاز .. كى يكون آمنا طيبا للمسافرين والحمد لله ...
@ دخل العام الهجرى الجديد .. أخذت أم حبيبه تعد العدة وتجهز ولدها للرحيل إلى الباديه .. أعدت له شيئا من الزاد وبعض الملابس والأغطيه .. ونفحته بما تيسر لديها من دراهم .. وقبل أن يغادرا مكه استأذنها فى الذهاب إلى شيخه إسماعيل بن قسطنطين ليسلم عليه .. إلتقى فى الكتاب بصديقه الفضل بن الربيع .. الذى لم ينته بعد من دروس القرآن .. وقبل أن يفترقا شد الشافعى على يديه مودعا .. وهو يقول له .......
ــ وداعا يا صديقى الحبيب .. ليت الأيام تجمعنا ونلتقى يوما مرة أخرى .. حتما سنلتقى بإذن الله .. قلبى يحدثنى بذلك يا أخى الفضل ...
رد قائلا وهو يغالب دموعه .......
ــ ليت الأيام تجمعنا .. لأرد لك معروفا طوقت به عنقى .. وجميلا لن أنساه لك طيلة عمرى .. لولا أن من الله على بصحبتك يا أخى .. لما تمكنت من مواصلة دروس القرآن .. إنك أعدت إلى ثقتى بنفسى ………………
@ إنطلق الشافعى بصحبة أمه إلى الباديه .. فى البقاع الجبلية القريبة من مكه .. حيث تعيش قبائل بنو هذيل .. كان الطريق وعرا والرحلة شاقة مضنيه .. وفى الطريق أثناء سيرهما .. فوجئت أم حبيبه بولدها يسألها .......
ــ أماه ...
ــ نعم يا قرة عينى ...
ــ ليتك تحدثينى عن أبى ...
تعجبت من سؤاله .. تلك أول مرة يتوجه لها بسؤال كهذا .. لم تدر له سببا .. إلا أنها ردت قائلة .. بعد أن مسحت دمعة فرت من عينيها رغما عنها ....... أبوك يرحمه الله .. لم أر مثله فى الرجال .. فى سماحة خلقه وطيبته .. كان قليل الكلام كثير التفكر .. لم يقل لى يوما لشئ لم أفعله لم لم تفعليه .. لم أره أبدا غاضبا أو حانقا .. كان راضيا على الدوام .. قانعا بما قسمه الله لنا .. وقبل أن يفارق الحياه .....
إختنق صوتها بالبكاء .. لم تستطع مواصلة الكلام .. سكت الصغير إجلالا لصمتها .. لم يطلب منها أن تواصل الحديث .. غير أنها بعد لحظات أردفت قائلة .......
ــ قبل أن يفارق الحياة يا ولدى .. أوصانى عليك ...
ــ ماذا قال يا أمى ؟!..
ــ كانت آخر كلماته قبل أن يفارق الحياه ....... إحرصى على ولدنا .. ضعيه دوما بين عينيك .. فلسوف يكون له شأن كبير .. إنه عالم قريش .. عالم قريش .. بعدها أسلم الروح إلى بارئها ...
سألها الغلام فى براءة .......
ــ وأين هو الآن يا أمى ؟!..
ردت قائلة .. وهى تنظر إلى الأفق البعيد .......
ــ إنه فى عالم الخلود .. فى جوار ربه ...
أخيرا وصلا إلى الباديه .. لم تتركه إلا بعد أن اطمأنت عليه .. وسلمته بنفسها لشيوخ هذيل .. أوصتهم به .. بعد أن عرفتهم بنسبه وشرفه ………
@ عاش الشافعى معهم سنوات .. يحيا حياتهم .. يتكلم كلامهم .. يردد أشعارهم .. ينتقل بانتقالهم من مكان لآخر .. لم يغادرهم أكثر من سبعة أعوام .. هبط بعدها إلى مكه وهو دون الخامسة عشره بقليل .. فتى أسمر .. نحيفا ضامرا كأنه عود من خيزران .. بحرا فى اللغة والأدب والشعر .. يحمل فى صدره أكثر من عشرة آلاف بيت .. من أشعار بنى هذيل بإعرابها ومعانيها .. ويحمل شعر الشنفرى كله .. صار بتلك الثروة الهائلة .. واحدا ممن يؤخذ عنهم النطق الصحيح للغة العربيه .. وحجة بلسانه العربى الفصيح .. تعلم عندهم أيضا فنون الرماية التى كان يهواها .. حتى صار بارعا فيها .. ولما عاد إلى داره .. وجدها وقد خلت من ساكنيها .. إلا أمه التى أصبحت تعيش بمفردها .. علم منها أن جدته ماتت منذ عامين .. ومن بعدها جده الأزدى بعد معاناة طويلة مع المرض .. وأن دكان العطارة آل إلى خاله على .. الذى تزوج وانتقل إلى دار أخرى .. عاشت أم حبيبه مع ولدها .. واهبة حياتها كلها له .. تنتقل معه حيث رحل .. حاملة على كاهلها مهمة إعداده وتنشئته .. عملا بوصية زوجها .. لم تنس أبدا كلماته التى قالها لها .. قبل أن يفارق الحياه .. ولا يزال رجع صداها يرن فى أذنيها .. وهو يقول لها .......
ــ إحرصى على ولدنا يا أم حبيبه .. ضعيه دوما بين عينيك .. فلسوف يكون له شأن كبير .. إنه عالم قريش .. عالم قريش .. الذى لم يأت بعد ...
*******
تم بعون الله الفصل الأول
من السيره الشافعيه
ونبدأ بعد استراحة فى سرد أحداث
الفصل الثانى
يتبع إن شاء الله الفصل الثانى ........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
|

24/11/2008, 04h42
|
 |
مواطن من سماعي
رقم العضوية:102176
|
|
تاريخ التسجيل: November 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: كندا - تورونتو
المشاركات: 1,212
|
|
|
رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن
__________________
أستغفِرُ الله العظيم وهو التوّاب الرحيم
|

24/11/2008, 18h55
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن
شاعرنا الكبير سيد ابو زهده
ساكن القلوب
كلماتك هذه وسام على صدرى وتاج على رأسى
لقد أراحتنى كثيرا , لأنك لا تعلم كم ترددت فى نشر تلك الأوراق لتصورى أنها مجرد نزوه من مدع لا يحق له ولوج عالم المبدعين , وأنى يكون مثلى منهم
بوركت بكل حرف كتبته بما لا يحصى عددا
أنس
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
|

24/11/2008, 19h46
|
 |
مواطن من سماعي
رقم العضوية:79058
|
|
تاريخ التسجيل: September 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 737
|
|
|
رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن
آمين
وبوركت أيضا يا حكيمنا وطبيبنا
د: أنس
علي هذه الواحة الفواحة الروّاحة
التي نتطهر فيها من أدران عصرنا الذي نحياه
دعواتنا لك بالصحة ...والثوابُ باقٍ
بحول وقوة
من ألهمك هذه الصفحات المباركة
سبحانه وتعالي
هامش : أأخبرك سراً ....سيدي؟؟
أحيانا أعود من العمل مرهقا...فأجد صفحات جديدة من (عالم قريش) ..فيعزّ علي ما تبذله من جهد جهيد ..فأقرأ جزءاً بلا اتفاق..لأترك تعليقاً
وياللعجب ...أجد نفسي قد استُدرجت ...ونسيت إرهاقي ..وأكملت قراءة الصفحات كلها ...قد يكون صدق الجهد وصدق التعبير هو الذي يجذب القاريء في تلك الصفحات الرائعة
__________________
.
" اللهمَ إنكَ عَفُوٌّ كريمٌ تحبُ العفوَ فاعفُ عنَّا "
|

29/11/2008, 19h23
|
 |
مواطن من سماعي
رقم العضوية:315958
|
|
تاريخ التسجيل: October 2008
الجنسية: بدون
الإقامة: بدون
المشاركات: 123
|
|
|
رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د أنس البن
شاعرنا الكبير سيد ابو زهده
ساكن القلوب
كلماتك هذه وسام على صدرى وتاج على رأسى
لقد أراحتنى كثيرا , لأنك لا تعلم كم ترددت فى نشر تلك الأوراق لتصورى أنها مجرد نزوه من مدع لا يحق له ولوج عالم المبدعين , وأنى أكون مثلى منهم
بوركت بكل حرف كتبته بما لا يحصى عددا
أنس
|
يا د. أنس
لا يحق لك تواضعاً أن تصف جهداً كالذي يظهر في هذا العمل بأنه " نزوة من مدع".
حاشاك سيدي.
وها نحن معك حتى يستوي هذا الجهد الطيب على عوده نقرأ ونتابع.
وأعذرني فإنني لست ناقداً ولا من اهل الحرفة كالشاعر والقاص صاحب القلم الثرِّ " أبي زهده"
ولكني أقرأ واتأمل..
بوركت سيدي.
محب الاصيل.
|

01/12/2008, 12h09
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن
فتح عينيه ليبصر خاله "على" جالسا على ركبتيه إلى جواره ينظر إليه باسما .. أخذ يحرك عينيه ويهز رأسه حتى يفيق من نعاسه متسائلا فى دهشه .....
ــ من .. خالى على ؟. معذرة . لم أدر ما حدث لى .. شعرت بدوار شديد والأرض تميد بى أسفل منى .. بعدها أخذتنى سنة من النوم .. لكن الحمد لله .. أنا الآن أحسن حالا ..
رد خاله ضاحكا .....
ــ ماذا تقول يا ابن إدريس !. سنة من النوم !. تقول سنة من النوم .. إنك كنت مستغرقا فى سبات عميق .. كأن فراش النوم خاصمك زمنا ..
أجاب وهو يجذب نفسا عميقا .....
ــ آه يا خال .. لعلك على حق .. لكنى رأيت فى تلك النومة ما شرح صدرى .. وأزال عنى هما كان جاثما على صدرى ..
ــ هم ؟!. أية هموم تلك التى تتحدث عنها .. أين أنت منها يا فتى ؟!.
حكى له الشافعى ما كان من أمر الأصمعى معه قبل أن يغلبه النعاس .. ثم أردف قائلا .....
فلما نمت .. رأيت فيما يرى النائم أنى أصلى صلاة الجماعة فى ساحة الحرم .. هناك إلى جوار المقام ......
وأشار إليه بيمناه .. ثم أردف متمما ....
ــ وأنا أنظر تجاه القبله .. رأيت رجلا لم أره من قبل .. لا أعرفه .. لكن يبدو من ملامح وجهه أنه من أهل مكه .. له مهابه .. وعلى صفحة وجهه سمات أهل التقوى والوقار .. تقدم وصلى بالناس إماما .. حتى إذا فرغ المصلون من صلاتهم .. أقبل الشيخ على الناس يعلمهم ....
ــ هيييييه .. وماذا بعد يا فتى ؟.
ــ دنوت منه وقلت له .... هل لك أن علمنى أيها الشيخ مما علمت رشدا .. لكنه حدجنى بنظرة فاحصة ولم يجبنى .. جلست مكانى لا أفتح فمى وأنا فى عجب من أمره .. إلا أنه فاجأنى بشئ عجيب ......
إستحثه خاله فى لهفة .....
ــ ماذا فعل ؟!.
ــ مد يده فى كمه وأخرج ميزانا .. ناوله لى وقال ..... أيها الفتى القرشى .. خذ .. إليك هذا الميزان .. إنه لك .. ثم مسح بيده على رأسى واختفى .. ثم صحوت من نومى لأراك جالسا أمامى تمسح بيدك على جبهتى ..
سأله على بعد أن مرت لحظات من الصمت كان ذهنه فيها شاردا ....
ــ هل تتذكر أوصاف هذا الشيخ الذى صلى بكم إماما وناولك الميزان ؟.
ــ نعم يا خال .. أتذكره جيدا .. مع أنها أول مرة ألقاه .. إن هيئته لم تفارق خيالى مذ وقعت عينى عليه فى المنام .. وكأنها محفورة فى رأسى .. إنه رجل نحيل فى حوالى الخمسين من عمره .. له لحية طويله .. وتحت عينه اليمنى شامة سوداء .. وتحيط بوجهه هالة من النور ..
إنتفض على واقفا كاللديغ وهو يقول .....
ــ أواثق مما تقول ؟!. تلك أوصافه حقا ؟!.. إن هذا شأن عجيب ..
لم يكد الشافعى يجيبه مؤكدا له القول .. حتى قال له فى عجلة وهو يشده من يده ....
ــ إذن .. هيا بنا ..
ــ إذن هيا بنا ..
سأله الشافعى مستغربا ....
ــ إلى أين ؟!.
ــ قلت لك هيا بنا .. بعد قليل تعرف كل شئ ..
وانطلقا ............................
يتبع إن شاء الله ................................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
|

03/12/2008, 09h29
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
دار الخلافه
........ فى الوقت الذى كان الشافعى يكابد فى مكة أحداثا وتقلبات .. تدفعه شيئا فشيئا إلى الطريق الذى رسمته الأقدار له .. ليكون أحد الأئمة العظام وعالم قريش المنتظر .. كانت أحداثا أخرى تجرى فى دار الخلافة فى بغداد .. مرت فيها سبع سنوات على أمير المؤمنين محمد المهدى خليفة للمسلمين .. ومذ تولى الخلافة وهو يتخذ نهجا مغايرا لوالده الخليفة الراحل .. فبينما كان المنصور مهموما بتثبيت الدعائم القوية لحكمه ولولده من بعده .. غارقا فى شئون الداخل وما فيه من صراعات داخل بلاط الحكم .. يواجه فى حزم شديد كافة الحركات المناهضة لحكمه .. باحثا عن منابع الفتن والقلاقل سواء فى بلاد العرب أو العجم .. كان أكبر همه وحرصه ألا تخرج الخلافة من أسرة أجداده بنى العباس .. لكن الخليفة المهدى كان بخلاف أبيه .. يضع فى أولويات حكمه التعرف على الحضارات المختلفه والتواصل معها .. وتوطيد علاقاته مع حكامها .. وتأمين حدود الدولة الإسلاميه على اتساعها .. تميز عهده بنشاط عسكرى كبير .. بعد أن تسلم حكما مستقرا قوى الدعائم شديد الأركان .. إستطاع أن يدير معارك ناجحة خارج البلاد .. متخذا مواقف أكثر حدة وصلابه ضد الفرس وبيزنطه ..
وذات يوم .. بينما هو مستلق على فراشه .. ومن أمامه صحافا فضية ملئت بما اختلف لونه وشكله من ثمرات الفاكهه والحلوى .. إذ دخلت عليه زوجته "الخيزران" ومن ورائها جاريتها تحمل على يديه صينية مستديرة من الفضة الموشاة بالذهب .. فوقها دورق كبير للشراب وعددا من الأكواب والقوارير .. ألقت عليه نظرة عابرة وهى لا تزال لدى الباب .. رأته متكأ على جانبه الأيمن مسندا كتفه وذراعه فوق حاشيتين .. أدركت على الفور من قسمات وجهه العابسة وجمود ملامحه وهيئته .. أن ثم أمورا هامة تشغل باله وتملك عليه فكره .. توقفت مكانها قليلا قبل أن ينتبه لوجودها .. وهى لا تزال ترمقه بعينها الفاحصه تحاول أن تسبر أغواره .. أو تقرأ غوامض مكنونات سطور قلبه .. صرفت جاريتها فى صمت وهى لدى الباب وتناولت منها صينية الشراب ..
عادت خطواتها تدب فى رشاقة مرة .. وصل وقعها إلى مسامع الخليفه .. رفع رأسه قليلا ليراها تخطو نحوه بخطى وئيدة فى خفة ودلال .. حاول اختلاس ابتسامة من بين شفتيه لعلها تستر باطنه المهموم .. إلا أن شفتاه خانتاه لتأتى الإبتسامة باهة فاترة رغما عنه .. بدت كأنها مرآة ظهرت عليها صورة قلبه بكل ملامح الحزن والهم .. رأت الخيزران بما حباها الله من ذكاء وفطنه تلك الصورة القاتمه .. إبتدرته بابتسامة كلها أنوثة ودلال قائلة ....
ــ جئتك بشراب الورد يا أمير المؤمنين .. علمت من إحدى جواريك أنك أمرت به ..
حاول أن يصلح جلسته قائلا وهو يتنحنح قليلا ....
ــ تحضرين الشراب بنفسك يا أم موسى .. أين الجوارى .. أين الخدم .. ليس أكثر منهم فى قصرنا العامر ..
ردت بصوتها العذب .. والإبتسامة الرقيقة لم تغادر شفتيها ....
ــ عامر بك يا أمير المؤمنين .. أنسيت أنى كنت ضمن جواريك قبل أن تتزوجنى يا أبا موسى ..
سكتت برهة واستأنفت قائلة ....
ــ لكن .. مالى أراك على غير عاداتك .. تبدو قلقا .. مهموما ..
لم يأتها منه جوابا على سؤالها فقالت ....
ــ ليتك تقاسمنى همومك .... ثم استدركت وهى تنتقى كلماتها .....
ــ أعلم أنه لا يجوز لى أن أتدخل فى أمور البلاد وخصوصيات الحكم .. لكنى أسأل إن كان ما يشغلك شأنا يخصك أنت ؟..
أجابها وهو يتناول كوب الشراب من يدها .....
ــ لم يعد هناك ما أخفيه عنك يا أم موسى .. لكنه أمر شغلنى منذ زمن .. وصرت أشعر أن أيامى فى هذه الدنيا باتت قليله ..
أشار لها بيده يسكتها لما همت بمقاطعته .....
ــ أرجوك يا أم موسى .. لا تقولى شيئا .. منذ أيام كان عندى ذلك الرجل الداهيه قارئ النجوم .. نوبخت .. كنت أرسلت فى طلبه .. طلبت منه أن يقرأ طالعى .. واستحلفته بالله أن يصدقنى القول وألا يخفى عنى شيئا .. أخذ يعد الجداول ومكث ساعات يحسب حسابات طويله وأخيرا قال لى .... ما بقى لك من عمر فى هذه الدنيا بات قليلا .. لم يتبق لك إلا أياما معدودات .. سألته عما تبقى لى منها .. فأبى أن يخبرنى .. ولما ألححت عليه قال لى .........
ــ ماذا قال لك يا أمير المؤمنين ؟..
ــ أكد لى أنى أموت بالسم .. إيه .. ليتنى ما أرسلت فى طلبه .. ليتنى ما سألته ..
قاطعته وقد بدا عليها الإنزعاج والدهش .....
ــ ماذا دهاك يا أبا موسى .. هذا رجل دعى مخرف مأفون.. أى حديث هذا !. كذب المنجمون يا أمير المؤمنين .. أيزعم هذا المعتوه أنه يعلم الغيب . إن الآجال من أمور الغيب التى لا يعلمها إلا الله وحده ..
ــ ماذا دهاك أنت يا خيزران .. كل ذلك أعلمه .. لكن هذا اللعين حاذق فى صنعته بارع فى تلك العلوم .. إن له مواقف كثيرة مع أبى .. لم تكذب له فيها نبوءة أبدا .. ما علينا .. كلامه هذا حرك عندى ما كان يشغلنى .. وزادنى حيرة على حيره .. وهما على هم ..
ــ ماذا تعنى يا أبا موسى .. أثرت مخاوفى ؟!.
ــ إييييييه .. ماذا أقول لك .. إنها مشكلة المشاكل ..
سألت ونظرة إلحاح وقلق تقفز من عينيها .....
ــ بالله عليك .. أخبرنى ..
ــ أعنى ولاية العهد ..
ــ ولاية العهد !. ماذا جد فيها .. ألم تأخذ البيعة منذ سنوات لولدنا موسى وليا للعهد ؟!. ومن بعده لأخيه الأصغر هارون ؟!.
ــ بلى .. وتلك هى القضية التى أقضت مضجعى .. واستولت على خاطرى وفكرى زمنا .. لا أدرى كيف أعالجها الآن بعد أن قررناه فيما مضى .. إستجابة لوصية والدى الخليفة الراحل أبى جعفر المنصور .. أيامها كانا فى سن الصبا .. لم تتفتح مواهبهما بعد .. ولم تظهر قدرات كل منهما .. لكن الآن .. بعد أن اشتد عودهما وأصبحا شابين فتيين .. بان الفرق واضحا بينهما .. عقلا .. وقوة .. وصلابه .. وكما تعلمين أن ما يهمنا فى المقام الأول .. أن تظل الخلافة بأيدينا .. بنو العباس .. ولا يخفى عليك ما يفعله بنو عمنا الطالبيون .. وكيق ينازعونا فى هذا الأمر .. ويتربصون فرصة مواتية ينقضون فيها ويستولون على دار الخلافه ..
ــ فهمت .. تريد إذن أن تعيد أخذ البيعة لهارون وليا للعهد .. وتقدمه على أخيه موسى ..
ــ تماما .. تماما ذلك ما أبغيه ..
ــ لكن يا أمير ال.....
قاطعها بإشارة من يده وقال .....
ــ إسمعى يا أم موسى .. سأبين لك الأمر .. إن هارون ولدى تربى على يدى يحي بن خالد البرمكى .. ولزمه زمنا تعلم منه الكثير من فنون الحرب والسياسة .. حتى أنه صار لا يناديه إلا بيا .... أبت .. ولن أنس له أنه أثبت بعد المعارك التى قادها والبطولات التى حققها .. أنه هو الأجدر والأحق بولاية العهد .. لقد قاد جيوشنا إلى بلاد الروم وهو دون السابعة عشر من عمره .. وفتح أعتى الحصون فى سمالو وطرسوس .. وفى الشهر الماضى رجع بعد أن أحرز انتصارات رائعه على جيوش الإمبراطوره إيرينى .. بعد اجترائهم وتطاولهم علينا .. تمكن فى أن يتوغل ببسالة داخل أراضيها .. حتى وصل إلى البسفور .. هذه الإنتصارات المتوالية يا أم موسى .. كان لها أكبر الأثر فى تثبيت دعائم دولتنا .. ودعم حدودنا ورجوع هيبتنا من جديد لدى الفرنجه ..
ــ هل تصدقنى إذا قلت لك .. إن هذا الأمر جال بخاطرى أنا الأخرى منذ زمن .. كم وددت لو فاتحتك فى شأنه .. غير أنى تهيبت منك .. وخشيت أن تتصور أنى أنحاز لولدى الأصغر ..
ــ وضعت يدك على لب المسأله .. تلك هى القضية التى شغلت بالى وأهمتنى .. كيف السبيل إلى وسيلة لا تحدث فتنة .. أو تنتهى إلى شقاق وخصومة بين الأخوين .. ما أكثر أعداء المتربصين بنا شرقا وغربا .. فتنة كهذه يمكن أن تجعلهما فريسة سهلة ولقمة سائغة لأعدائنا ..
ــ وعلى أى شئ نويت يا أمير المؤمنين ؟..
ــ ولدى موسى الآن فى جرجان .. وليس أمامى إلا أن أبعث رسالة إليه مع حاجبنا الفضل بن الربيع .. أشرح له فيها ما نويت عليه .. وآمره أن يحضر على الفور إلينا لأخلعه من ولاية العهد أمام القوم .. وأولى مكانه أخاه هارون ..
ــ أوتظنه يفعل ؟!..
ــ ليته لا يخيب فيه ظنى .. أتمنى أن ينصاع لأمرنا .. حتى لا يضطرنى إلى إرغامه على القبول به ..
ــ وإن أبى .. ماذا أنت فاعل ؟..
ــ سأسافر بنفسى إلى جرجان .. ولن أرجع إلا وهو معى .. أو .. أو يقضى الله أمرا كان مفعولا .......
فى دروب مكة وشعابها الضيقه .. كان على الأزدى يرافقه إبن شقيقته الشافعى .. يسيران فى همة بخطى متسارعه .. بينما الأخير يضرب كفا بكف وهو لا يدرى إلى أين ينتهى بهما المسير .. حاول أن يستعلم من خاله عن وجهتهما .. أو يخرجه عن صمته دون جدوى .. لم يظفر منه بكلمة تشفى غليله .. غير قوله له لما زاد إلحاحه عليه .....
ــ إصبر يا فتى .. بعد قليل سترى بنفسك .. وستعرف كل شئ ..
سلم أمره لله .. وكف لسانه عن السؤال .. إلى أن وجد خاله يتوقف عن سيره فى نهاية طريق ضيق .. نظر إليه ثم نظر أمامه فلم ير غير بناية وحيدة متهالكة من الطوب اللبن .. قبل أن يمد يده ليطرق الباب .. إستوقفه الشافعى معترضا طريقه .. يرجوه متوسلا ..........
ــ أستحلفك بالله للمرة الأخيرة يا خال قبل أن تطرق الباب .. أن تخبرنى لماذا أتيت بى إلى هنا .. ومن صاحب هذه الدار التى وقفت بنا أمامها .. إنها أول مرة تقع عينى عليها ؟!..
إبتسم قائلا ....
ــ لم العجله .. لحظات قليله وسترى بنفسك .. لكن على أية حال سأخبرك بإسم صاحب الدار .. كى تهدأ نقسك ويطمئن قلبك .. هذه دار العابد الزاهد الفضيل بن عياض .. ألم تسمع به ؟.
ــ بلى .. سمعت به .. وأعلم أنه من أهل الزهد والصلاح .. لكنى لم أره من قبل ..
إبتسم خاله إبتسامة ذات مغزى قائلا ....
ــ أواثق أنك لم تره من قبل .. بل أظنك رأيته ..
تعجب من سؤاله منكرا عليه قوله .....
ــ قلت لك أنى لم أره من قبل أبدا .. كل ما أرجوه أن تعرفنى عن سبب مجيئنا إليه ..
ــ لا تعجل يا ابن إدريس .. لا تعجل .. عندما تراه ستفهم كل شئ ..
مط الفتى شفتيه وهو ينتحى جانبا وإن لم تفارقه الدهشة والعجب من مسلك خاله .. متمتما فى سره .... أقول له لم أره قبلا .. يؤكد لى فى ثقة . بل رأيته .. كيف .. كيف ذلك ؟!.. لم يخرجه من شروده وظنونه .. إلا صوت صرير الباب وهو ينفتح على جارية سوداء عابسة الوجه جامدة القسمات تطل برأسها من ورائه .. قال لها على من فوره بعد أن ألقى إليها بالسلام ....
ــ هلا سمحت لنا بالدخول .. نريد الشيخ لأمر هام ..
كانت الجارية على معرفة به من قبل .. فكم من مرات أتى للشيخ برفقة والده عبد الله الأزدى .. أشارت لهما بالدخول دون رد أو تعقيب .. لم تمض غير لحظات حتى خرج عليهما الشيخ من خلوته يتوكأ على عصاه .. وما كادت عين الفتى الشافعى تقع عليه .. حتى خرجت منه شهقة كادت تزهق منها روحه .. حاول أن يكتمها مستجمعا شتات نفسه مرددا بصوت خافت ..... يا إلهى .. لا أكاد أصدق ما تراه عيناى .. أحقيقة ما أرى .. غير معقول .. أيمكن أن يكون هو ؟!. أجل .. والله إنه هو .. هو بشحمه ولحمه وثوبه .. حتى الشامة التى رأيتها على خده !...
فى تلك الأثناء كان خاله "على" يرقبه باسما .. لقد صدق حدسه .. هو إذن الشيخ الذى رآه فى منامه .. كان "على" يعلم الكثير عن كرامات الفضيل بن عياض وعلو منزلته .. كم حدثه أبيه الأزدى فى ذلك الشأن .. وروى له بعضا منها ..
بعد أن سلما .. أشار لهما الشيخ بالجلوس .. وبعد لحظات صمت نظر إلى الشافعى وقال له وهو يهز رأسه باسما .....
ــ أهلا بك يا ابن إدريس .. أخيرا أتيت .. تود معرفة تأويل رؤياك .. أليس كذلك ؟!.
هز رأسه فاقدا قدرة النطق بكلمة واحدة بعدما عقدت الدهشة لسانه .. وازداد عجبه وهو لا يزال مصوبا بصره تجاه الشيخ كالمأخوذ .. لا يملك أن يحول وجهه عنه أو تطرف له عين ..
ــ إسمع أيها الفتى القرشى .. قبل أن أجيبك .. أود أن تعى ما سأقوله لك .. إجعل هذه الكلمات نصب عينيك .. أنت تحمل فى صدرك كتاب الله .. وحامل القرآن هو من حملة راية الإسلام .. لا ينبغى له أن يلهو مع اللاهين أو يسهو .. ولا يجوز له اللغو مع أهل اللغو والمراء .. ينبغى لحامل القرآن ألا يكون له إلى الخلق حاجة أبدا .. ولا إلى الخلفاء فمن دونهم .. بل إن حوائج الخلق ينبغى أن تكون إليه .. أفهمت .. يا فتى ؟..
ــ أجل .. فهمت ووعيت .. يا سيدى الشيخ ..
سكت الشيخ ناظرا إلى موضع قدميه .. ولما طال صمته إستحثه الشافعى متسائلا .....
ــ وماذا عن المنام ؟..
ــ سأخبرك .. إن ما شهدته اليوم وأنت نائم بين الحجر والمقام .. بشرى من الله لك .. سوف تبلغ أعلى الدرجات يوما أيها الفتى .. سوف تكون لك الإمامة فى العلم وأنت على السبيل والسنه ..
ــ والميزان ؟!.
ــ علمك حقيقة الشئ كما هو فى نفسه ..
ــ بم تنصحنى يا سيدى ؟..
ــ إشرع يا ولدى من الغد فى تلقى دروس الفقه والحديث .. إلزم حلقة أبا محمد سفيان بن عيينة الهلالى .. أعرف أنه من العلماء العاملين .. واغتنم الوقت فإنه رأس مال العبد .. إياك أن تضيع منك لحظة من عمرك فيما لا ينبغى .. العمر يا ولدى قصير مهما طال .. والزاد قليل مهما كثر .. الدنيا غمها لا يفنى .. وفرحها لا يدوم .. وفكرها لا ينقضى ..
ثم قام ومد يده مسح بها فى حنان على رأس الشافعى وهو يتمتم فى سره كلمات كأنه يدعو له .. قبل أن يستدير صاعدا فى صمت إلى حيث مكانه فى خلوته .....
@ خرج الشافعى من دار الشيخ إنسانا آخر .. كأنما كان سقيما طال به السقم حتى إذا آيس من الشفاء , صحا فجأة من نومة ليجد العافية ردت لبدنه وروحه مرة واحده .. لم يهدأ يوما واحدا بعد هذا اللقاء الروحى الرفيع .. لم يذق للراحة طعما فى نهاره .. ولا للفراش لذة فى ليله .. وهو يرتاد منهوما حلق العلم فى ساحة البيت العتيق .. يجنى من كل رحيق زهرها .. متنقلا بينها كالنحلة العاملة الدؤوب .. يسأل , يحاور , ينصت , وكله نهم وشغف للمعرفة وتحصيل ما فاته من العلوم , ووعاء علمه فى طلب المزيد على الدوام لا يمتلئ أبدا ..
فتارة تلقاه فى درس إمام الحرم ومفتيه الأول الفقيه العابد صوام الدهر مسلم بن خالد الزنجى , وتارة أخرى فى حلقة شيخ المحدثين سفيان بن عيينه , كان يتخذ حلقته عند المقام , والفتى ملازم حلقته كما أوصاه الفضيل , يصغى إليه وهو يقول لمن حوله من طالبى العلم ................
ــ حدثنى إبن أبى نجيح عن مجاهد فى قوله تعالى : "ورفعنا لك ذكرك" .. أى لا أذكر يا محمد إلا ذكرت معى كما فى الشهادتين , أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ..
وفى أمثال هذه الدروس , بعد أن ينتهى الشيخ من رواية الحديث وتوثيق أسانيده , يتابع الشافعى ما يدور من أسئلة ونقاش , بين الحضور وبين الشيخ .......................
ــ شيخنا , هل يجوز السلام على المصلى , وإذا سلم , هل يرد عليه السلام ؟.
ومن نبع السنة النبوية الصافى والشيخ حديث عهد بها يجيب .....
ــ عن عاصم بن أبى النجود عن أبى وائل عن عبد الله قال : كنا نسلم على رسول الله "ص" وهو فى الصلاه قبل أن نأتى أرض الحبشه , فكان يرد علينا , فلما رجعنا منها أتيته لأسلم عليه فوجدته يصلى فسلمت عليه فلم يرد , جلست , حتى إذا قضي صلاته أتيته فقال "صلى الله عليه وسلم " : " إن الله يحدث من أمره ما يشاء , وإن مما أحدث الله عز وجل ألا تتكلموا فى الصلاه" ......
وينصت له وهو يلقى على أسماع تلاميذه حكمه ومأثوراته .............
ــ إعلموا أيها الناس أنه ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من معرفتهم لا إله إلا الله , وأنها فى الآخرة بمنزلة الماء فى الدنيا , قال تعالى " "وجعلنا من الماء كل شئ حى أفلا يؤمنون" , فكما أنه لا حياة لشئ فى الدنيا إلا بالماء , كذلك لا إله إلا الله بمنزلة الماء فى الدنيا , من لم تكن معه لا إله إلا الله فى الدنيا فهو ميت , ومن كانت معه فهو حى .....
ويستمع لمن يسأله ......
ــ يا أبا محمد أخبرنى عن قول أحدهم : لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر , وقول الآخر : اللهم رضيت لنفسى ما رضيت لى . ما تقول فيهما ؟..
ــ القول الأول أحب إلى ..
عقب السائل مستغربا إجابة الشيخ ....
ــ كيف .. وقد رضى الأخير لنفسه , ما رضيه الله له ؟!..
ــ لا تعجب .. إنى قرأت القرآن فوجدت صفة نبى الله سليمان عليه السلام مع العافية التى كان فيها : "نعم العبد إنه أواب" .. ووجدت صفة أيوب عليه السلام مع البلاء الذى كان فيه : "نعم العبد إنه أواب" .. فاستوت الصفتان حال العافيه وحال البلاء , ولما وجدت الشكر قام مقام الصبر واعتدلا , كانت العافية مع الشكر أحب إلى من من البلاء مع الصبر ..
كم من مرة استمع له الشافعى وهو ينصح تلاميذه ......
ــ أيها الأبناء , إذا كان نهارى نهار سفيه وليلى ليل جاهل , فما أصنع بالعلم الذى كتبت !. ومن رأى أنه خير من غيره فقد استكبر .. كونوا أيها الأبناء كما قال عيسى عليه السلام : "أوعية الكتاب وينابيع العلم" .. واسألوا الله رزق يوم بيوم , واعلموا أن أول العلم الإستماع ثم الإنصات ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر ..
كل هذا الفيض من العلوم والنصائح والمعارف , والشافعى متربع فى الحلقة لا ينبس ببنت شفه , منتبها منصتا لكل كلمة فيها , لا يفارقها إلا إذا شق عنان الفضاء صوت مؤذن الحرم مناديا للصلاه ..
إستقر الشافعى فى ساحة البيت الحرام لا يكاد يبرح مكانه فيها إلا فى المساء عائدا إلى داره .. عرف بين الناس بذلك فكانوا فكانوا يشيرون عليه قائلين ... ما أعجب حال هذا الفتى , أقرانه فى اللهو واللعب , وهو كما ترون لا يفارق حلق العلم والدرس , لا يكاد يغادر إحداها إلا ليلحق بغيرها .. وانتشرت سيرته بين الناس حتى أن أحدهم لقبه "عاشق المعرفه" , وعرف بين الناس بذلك اللقب , واستمروا ينادون به عليه .. كان هذا اللقب يسبق إسمه إذا ناداه أحد , أو إذا مر بقوم فى طريقه , أو حتى فى السوق وهو يشترى حاجياته ..
لكن واجهته مشكلة تدوين وحفظ هذا الكم الهائل من الأحاديث والمسائل والفتاوى التى يتلقاها بسمعه , من أين له بالدنانير والدراهم التى يشترى بها القراطيس التى يكتب عليها , وهو لا يزال يعانى من ضيق ذات اليد وقلة المال .. لكنه رغم ذلك لم يعدم الحيله , كان يجمع وهو فى طريقه إلى داره بشعب الخيف , ما يعثر عليه من سعف النخيل وينتقى منها ما يصلح للكتابة عليها .. وعندما يصل إلى داره يظل عاكفا عليها طرفا من الليل , على ضوء المصباح الخافت , يدون فى صبر وأناة ودأب ما اختزنه فى ذاكرته مما سمعه فى يومه من أحاديث وفتاوى ..
وذات ليلة وهو راجع إلى الدار , فتحت أمه الباب لتجده ممسكا فى يمناه بعض اللفافات , وفى الأخرى أشياء بدت لغرابتها مثيرة للدهشه .. لم تتمكن من التعرف عليها للوهلة الأولى .. وهى تتفحصها بعينيها متعجبة ونظرة استنكار فى عينيها .. لم تجد مناصا من سؤاله وهى لا تزال على حالها من الدهشة والتعجب .....
ــ ما هذه الأشياء الغريبة التى أراها معك يا ولدى ؟!..
إبتسم قائلا وهو يضعها بحرص جانبا ....
ــ كما ترين يا أماه .. قطعا من الخزف والجلود وبعضا من عظام أكتاف الإبل العريضه ..
عاودت سؤالها وقد ازدادت دهشتها ....
ــ أمرك عجيب .. خزف وجلود وعظام أكتاف الإبل ؟!. ماذا تصنع بها ؟!.
أجابها مداعبا وقد اتسعت ابتسامته ....
ــ وما تظنين أنى فاعل بها يا أم الشافعى ؟..
هزت كتفيها بامتعاض فأجابها ....
ــ أدون عليها ما أسمعه من أحاديث وفتاوى ..
ــ تدون عليها ؟!. على هذه الأشياء !. وهل أمثالها يصلح للكتابة عليها .. كيف ؟!.
ــ أجل يا أمى .. لا تعجبى .. كنت أكتب على سعف النخيل كما تعلمين .. غير أنى لا أجد أحيانا ما يناسبنى منها .. ظللت أبحث عن أشياء أخرى تصلح للكتابة عليها .. فلم أجد إلا عظام أكتاف الإبل العريضة .. وتلك القطع من الخزف والجلود .. تلك هى المسأله ..
ــ وأى مكان يسع هذه الأشياء لتحفظها فيه ؟!.
ــ سأضعها هناك .. فى تلك الجرار الفارغه ..
إسمع يا ولدى .. ما رأيك فيمن يدلك على وسيلة أيسر وأنفع .. ولن تكلفك شيئا ؟..
ــ دلينى عليه يا أمى .. من هذا الذى يعرف تلك الوسيله ..
ــ أنا يا ولدى ..
ــ أنت يا أماه ؟!.
ــ أجل .. ما عليك إلا أن تذهب إلى أحد دواويين الكتابة .. أو القضاء أو الحسبه .. وتطلب من الكتبة بها أن يعطوك بعضا من الظهور .. لن يبخلوا عليك ببعض منها ..
ــ تقصدين يا أماه تلك الأوراق المكتوب عليها من جهة واحده , لأستفيد من الجهة الأخرى , الخاليه من الكتابه .. الله الله , وسيلة لا بأس بها حقا .. ما أروعك يا أمى .. رأى سديد حقا , ولا أدرى لم تخطر لى هذه الفكرة من قبل .. لكن يا أماه سيطلبون ثمن تلك الأوراق .. وأنا كما تعلمين !!..
ــ لا عليك يا ولدى من هذا .. إذهب أنت إليهم .. سيعطونها لك هبة دون مقابل ..
ــ نعم الرأى يا أمى .. على كل حال أفرغ من الكتابة على هذه الأشياء , ثم أستوهب الظهور .......
@ مرت أياما صار خلالها للشافعى منزلة من شيوخ الحرم , مقربا منهم معروفا لهم جميعا , لما يرونه منه من إقبال ونهم على الدرس وتحصيل العلوم , ومقدرة فذة على استيعاب علومهم وفهمها .. وذات مره بينما هو جالس بجوار شيخه سفيان بن عيينه وهو متصدر حلقته بجوار المقام بفناء زمزم يقول ........
ــ عن الزهرى عن على بن الحسين أن صفية بنت حيى أم المؤمنين قالت له أن النبى "صلى الله عليه وسلم " كان معتكفا بالمسجد , قالت فأتيته فتحدثت عنده , فلما أمسيت انصرفت , فقام رسول الله "صلى الله عليه وسلم " يمشى معى , فمر به رجلان من الأنصار فسلما ثم انصرفا , فناداهما وقال : "إنها صفيه بنت حيى" فقالا يا رسول الله ما نظن بك إلا خيرا , فقال رسول الله "ص" : "إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم" ........ كيف تفهمون فقه هذا الحديث ؟. أيكم يخبرنى أيها الأبناء ..... قالها وهو يجول بعينيه عليهم ..... رفع أحدهم يده قائلا .....
ــ أراد رسول الله "صلى الله عليه وسلم " رد اتهام الرجلان له .. وأن ينفى ما وقع فى قلبيهما من سوء ظن به ..
أشاح الشيخ بوجهه عنه محركا رأسه يمنة ويسره , دلالة على عدم رضاه عن جوابه , ثم عاد ينظر لمن حوله وعاود سؤاله للمرة الثانيه .... لم يجبه أحد .. إتفت إلى الشافعى قائلا .....
ــ وأنت يا أبا عبد الله .. ألا تجيب ؟.
رد فى أناة الواثق ....
ــ بلى يا سيدى .. لدى جوابا ..
ــ تكلم إذن .. لم لا تجيب ؟!. تكلم ..
ــ إن كان القوم اتهموا النبى "صلى الله عليه وسلم " , أو حاك فى صدورهم منه شئ , لأصبحوا كفارا باتهامهم , لأن رسول الله "صلى الله عليه وسلم " لا يتهم أبدا , إنه أمين الله فى أرضه , فهم بادئ ذى بدء لم يتهموه ..
عاد الشيخ يسأله ...........
ــ فلأى سبب إذن قال لهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم " ذلك ؟..
ــ كان هذا من رسول الله "صلى الله عليه وسلم " على الأدب والتعليم لأمته ..
ــ كيف ؟..
ــ أى إذا كنتم هكذا فافعلوا كذلك , أو إذا مر أحد على رجل منكم يكلم امرأة هى منه بنسب , فليقل له إنها فلانه وهى منى بنسب كذا , حتى لا يظن بكم ظن السوء , ولا تكونوا عونا للشيطان عليه ..
إبتسم الشيخ وظهرت البشاشة على وجهه ناظرا بإعجاب إلى الشافعى .. ثم قال لمن حوله ......
ــ أسمعتم .. هكذا يكون الفهم فى أمور الدين .. جزاك الله خيرا يا شافعى .. ما نسمع منك إلا كل ما نحبه ..... سكت برهة وأردف .....
ــ أيها الناس .. إعلموا أنه لم يعط أحد فى الدنيا شيئا أفضل من النبوه .. ولم يعط بعد النبوة أفضل من العلم والفقه .. ولم يعط فى الآخرة أفضل من الرحمه ........
@ حدث أخيرا ما كان أمير المؤمنين يتوقعه ويحسب حسابه .. أبى واستكبر ولده موسى الهادى أن يخلع نفسه من ولاية العهد طواعية .. رفض العودة مع الفضل بن الربيع إلى بغداد .. قرر الخليفة المهدى أن يخرج بنفسه إلى جرجان .. مستصحبا معه يحي بن خالد البرمكى .. ليأتى بولده رغم أنفه إلى قصر الخلد .. ليخلعه من ولاية العهد قسرا .. أمام الأمراء والقادة وكبار رجال البلاط ..
وأثناء رحلته التى دبرتها له الأقدار , بالقرب من بلدة اسمها ماسباذان , أدركه التعب من طول الرحلة واعتلال صحته .. أمر رجاله أن يحطوا رحالهم وينصبوا خيامهم بضعة أيام قبل أن يستأنفوا رحلتهم .. وبينما رجاله قائمون على حراسته خارج خيمته التى قرر أن يستريح بداخلها , إذ فزعوا على صوت استغاثة من داخل الخيمه .. هبوا مرة واحدة مهرولين داخل الخيمة ليجدوا الخليفة يصرخ من شدة الألم طالبا الغوث .. كان أول من أدركه يحي بن خالد البرمكى الذى ارتمى جزعا على فراشه .....
ــ مالك يا مولاى .. أى مكروه أصابك ؟..
أشار ناحية قدمه وهو يتلوى من الألم .....
ــ ثعبان لعين .. لدغنى هنا .. فى قدمى .. وفر من هذه الناحيه .. صدقت نبوءة المنجم نوبخت .. تماما كما أخبرنى .. سأموت بالسم .. أجل إنها النهايه ..
قاطعه يحى وقد خنق البكاء صوته .....
ــ على رسلك يا أمير المؤمنين .. فداؤك نفسى .. إنك بخير ..
ــ لا , لا.. إنها النهاية حتما .. أعدوا القافله .. سنعود إلى بغداد .. وأنت يا يحى أكمل الرحلة إلى جرجان , وأتمم ما قمنا من أجله .. أعلم ولدى موسى أنى قد خلعته من ولاية العهد , والخلافة من بعدى لولدى هارون الرشيد .. أفهمت ؟..
قال وصوته لا يزال باكيا تخنقه العبرات .....
ــ دعنا من هذا الآن يا مولاى .. ننزع السم من قدمك أولا .. وبعدها نفعل كل ما أمرت به ..
وقبل أن يتم كلامه ارتمى على قدمه محاولا امتصاص الدم , والخليفة يقول فى صوت واهن أخذ يخفت شيئا فشيئا , بينما العرق يتساقط غزيرا من جبهته ووجهه .........
ــ يا برمكى لا فائده , قلت لك لا فائده , إنى أشعر بالسم يسرى فى دمى .. قضى الأمر , هيا دعونى وحدنى , ولا تسمحوا لأى أحد يدخل على حتى آذن له ..
ولما صار وحده , وخلت الخيمة إلا منه , حاول أن يغمض عينيه , إلا أنه لم تمض لحظات حتى انتبه مذعورا , على صورة شبح انسان يقف أمامه , وهو لا يدرى من أى مكان دخل عليه خيمته .. إنه نفس الشبح الذى ظهر من قبل للخليفة المنصور .. وهو الذى أتى الشافعى فى منامه .. العابد الزاهد الفضيل بن عياض .. نظر إلى المهدى نظرة ثاقبة ثم قال .....
ــ كأنى بهذا البيت قد باد أهله .. وقد درست أعلامه ومنازله ..
لم يشعر بنفسه إلا وهو يجيبه مرتجلا , بينما جسده يرتعد فرقا وخوفا ....
ــ كذاك أمور الناس يبلى جديدها .. وكل فتى يوما ستبلى فعائله ..
جاوبه الشيخ .....
ــ تزود من الدنيا فإنك ميت .. وأنك مسئول فما أنت قائله ..
رد المهدى .....
ــ أقول بأن الله حق شهدته .. وذلك قول ليس تحصى فضائله ..
حوار دار بينهما , إختفى بعده الشبح فجأة كما جاء , ولم تمض غير أيام قلائل إلا والخليفة المهدى فى ذمة مولاه , وتولى الخلافة من بعده ولده موسى الهادى قبل أن يخلعه أبوه من ولاية العهد , غير أن خلافته لم تدم أكثر من خمسة عشر شهرا , بعد أن وافته المنية وهو فى ريعان الشباب , وانعقدت الخلافة من بعده لأخيه هارون الرشيد أميرا للمؤمنين ..........
@ ظل الشافعى على هذا المنوال مثابرا , منقطعا لدروس العلم والفقه والحديث , يتعلم , يسأل , يدون ما يسمعه فى همة لا تعرف مللا أو كلل , نسى تماما أياما كان فيها ينشد الشعر ويحكى سير الشعوب وأيام العرب , على رواد مجلسه من أهل مكة وزوار الحرم , حتى أن بعضهم من رواد مجلسه القديم لما غلبهم الشوق إلى حكاياته , حاولوا استمالته مرة ثانيه لكن خاب سعيهم وذهبت جميع محاولاتهم أدراج الرياح .. كلما بحثوا عنه لا يجدوه إلا مرابطا فى حلق العلم لا يغادر إحداها إلا ليذهب لأخرى , وأخيرا يئسوا من بلوغ مرادهم , فتركوه مع شيوخه ينعم بما يلقاه عندهم .. ومع الأيام تكونت عنده ملكة ومقدرة على فهم النصوص ومراميها واستنباط الأحكام منها للفتوى , لكنه لم يفعل برغم أن شيخه سفيان بن عيينه حاول أن يدفعه للفتيا , قال له ذات مره .............
ــ شكى لى بعض الناس أنهم جاؤك لتفتيهم , فأبيت , لم يا ولدى ؟!.
ــ يا سيدى , ما يكون لمثلى فى تلك السن المبكرة أن يفتى فى أمور الدين ..
ــ لكنى أرى أنك أهل للفتيا , آن لك أن تفتى يا ولدى ..
ــ عفوا سيدى الشيخ , لا يحل لأحد أن يفتى فى دين الله , إلا من كان عارفا بكتاب الله , بناسخه ومنسوخه , ومحكمه ومتشابهه , وتأويله , وتنزيله , ومكيه ومدنيه , وما أريد به , ويكون بعد ذلك بصيرا بأحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم " , والناسخ والمنسوخ منها , ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن , ويكون بصيرا باللغة , بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن , ويستعمل هذا مع الإنصاف , ويكون مشرفا على اختلاف أهل الأمصار , وبعد هذا تكون له قريحة .. فإذا كان له هذا فله أن يفتى فى الحلال والحرام , وإلا سكت عن الفتيا .. وأنا يا سيدى ما حصلت بعد , ذلك كله ..
ــ أجل أجل .. صدقت يا بنى .. صدقت ..
ومع هذا البيان من الشافعى لشيخه , كان إذا سأل أحدهم شيخ مكه سفيان بن عيينه فى مسألة , يشير إلى الشافعى ويقول ..... عليكم بهذا الفتى المطلبى فاسألوه .. .. إنه أفضل فتيان أهل زمانه .. إنه فتى لم تعرف له صبوه ...
واستمر الشافعى يلح فى طلب المزيد من المعرفه , تأبى نفسه إلا أن تجلس فى صفوف التلاميذ وطلاب العلم , رغم إجازة الشيوخ له أن يفتى ويعلم .. قال مرة لواحد من أصحابه كان يحثه ويلح عليه أن يترأس حلقة من حلق العلم ..... إن على أن أتفقه أولا .. ولو ترأست حلقة .. فلا سبيل لى إلى التفقه ..
كان على يقين من أنه إن ترأس حلقة علم قبل أن يستوفيه , فلن تتاح له معرفة ما لم يعرف , لم يحاول قط الجلوس فى مقعد الأستاذ المعلم مفضلا الإبحار فى خضم محيط العلوم والغوص فى أعماقه البعيدة المتراميه , وهذا ما دفعه يوما لسؤال شيخه سفيان بن عيينه ..........
ــ عندى شئ يدفعنى دفعا للتزود من علوم أهل المدينه .. دار الهجره ..
ــ عظيم يا ولدى .. عليك إذن بإمامهم وشيخهم .. مالك بن أنس الأصبحى .. قبل سنوات سافرت إليه , وسمعت منه الكثير ..
ــ إذن لا أضيع وقتا .. أسافر إليه .. وأختلف إلى حلقته ومجلس علمه ..
إبتسم الشيخ قائلا .....
ــ على رسلك يا شافعى .. لا تعجل ..
ــ لم يا سيدى ؟!.
ــ قبل أن تشد الرحال إليه .. يلزم أن تقرأ كتابه أولا ..
ــ تعنى كتابه الموطأ ؟.
ــ أجل .. إنه صفوة علم مالك .. وجماع الحديث الصحيح ..
ــ وأين لى به ؟.
ــ لا تبال بهذا الأمر .. سأدلك على صديق لى يعيره لك بضعة أيام .. عليك خلالها أن تعى كل ما حواه .. وبعد أن تفرغ منه .. لك ما شئت .. تشد الرحال إلى المدينه وتحظى بالجلوس إلى إمامها ..
سكت برهة وأردف ....
ــ ألم تسمع حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم " : "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم , فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينه" ..
ــ بلى .. سمعت هذا الحديث .. لكن آااااااااه .. تعنى ...
ــ أجل كانت إشارة نبوية من رسول الله "صلى الله عليه وسلم " قبل مائة وسبعين سنه , إلى إمامها مالك بن أنس .. إن أهل المدينة يا ولدى لم يجمعوا على أحد بعد الشيخين أبى بكر وعمر , إلا على إمامهم وشيخهم مالك ..........
@ فى اليوم التالى انطلق الشافعى إلى الحجون , قاصدا دار صديق شيخه سفيان , مستعيرا منه موطأ مالك على وعد أن يرده له بعد أيام يكون قد فرغ فيها من قراءته .. رجع إلى داره والسعادة تغمره , حاملا كتابا بين دفتيه حوالى ألف حديث للنبى "صلى الله عليه وسلم " .. ظل عاكفا على صفحاته يحفظ ما فيها فى نهم مواصلا الليل بالنهار , وفى نهاية اليوم التاسع كان قد أتى على آخر صفحات كتاب , دونه الإمام مالك فى أربعين سنة كامله .. بينما الأم ترقبه بإعجاب به ممزوج بإشفاق عليه لما يكابده من جد وسهر , على ضوء مصباح خافت , تحيطه بحنانها وعطفها , جالسة إلى جواره تعينه وترعاه , تشجعه بابتسامتها الدافئه التى لا تفارقها وهى تنظر إليه ..
وبعد أن أتى على آخر كلمة فى الكتاب وقد وعى كل ما حواه , إلتفت إلى أمه قائلا وهو يطويه .....
ــ الحمد لله , الآن يا أمى انتهيت من قراءة موطأ مالك ..
ــ تنتهى من سفر ضخم كهذا فى تسعة أيام , عجيب والله يا ولدى !..
ــ أجل يا أماه , بل وحفظت فى رأسى كل ما جمعه الإمام من أحاديث رسول الله "ص" ..
صمت برهة وأردف .....
ــ لذلك عزمت على أمر , هل تعينينى عليه ؟!.
ــ تكلم يا ولدى , خيرا إن شاء الله ..
ــ عزمت على مواصلة رحلة العلم ..
ــ مواصلة رحلة العلم ؟!. إلى أين يا قرة عينى ؟.
ــ المدينه .. بى شوق يدفعنى للتعرف على علوم أهلها .. سنرحل إليها سويا إن شاء الله , إن وافقتنى على ذلك ..
إلتفت إليه خاله على , وكان يتابع حوارهما وهو مستلق على ظهره ناظرا إلى سقف الدار , قال مستنكرا .....
ــ لا أفهم إلحاحك فى الرحيل إلى المدينه , أى فائدة تعود عليك وقد نهلت من علوم أكابر شيوخ مكه وعلمائها .. لم التعب والنصب , وفيم الغربة والفراق يا أبا عبد الله ؟!. الناس هنا لا حديث لهم إلا عنك .. أمرك عجيب والله !..
تلقى الشافعى كلامه المحتد بابتسامة , تاركا العنان لبصره منطلقا ولخياله سابحا فى الفضاء الممتد من أمامه عبر نافذة مفتوحة على مصراعيها وهو يقول كأنما يحادث نفسه ......
ما فى المقام لذى عقل وذى أرب من راحة فدع الأوطان واغترب وانصب فإن لذيذ العيش فى النصب إنى رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب الأسد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب والشمس لو وقفت فى الفلك دائمة لملها الناس من عجم ومن عرب والتبر كالترب ملقى فى أماكنه والعود فى أرضه نوع من الحطب كانت للشافعى موهبة خصبة نادره فى نظم الشعر , وملكة قادرة حاضره دربها العلم وصقلها دوام تحصيله .. غير أن نفسه أبت أن تنخرط فى سلك الشعراء , ولم ترد له أن يمضى فيه إلى آخر الدرب , وهى تلتمس السمو إلى ما هو أعظم وأرقى , الفقه وعلوم الدين والحديث , كان يعى تماما معنى قول الله تعالى ووصفه لأحوال الشعراء : "والشعراء يتبعهم الغاوون , ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون , وأنهم يقولون ما لا يفعلون" .. ذات مرة حاول واحد من أصحابه أن يشجعه على احتراف الشعر , لما أعجبه سلاسة نظمه وسرعة بديهته , فقال له ....
ولولا الشعر بالعظماء يزرى .. لكنت اليوم أشعر من لبيد بعد أن انتهى من سرد أبياته , نظرت إليه أم حبيبه باسمة وهى تقول ...
ــ حفظك الله يا ابن إدريس .. ما أجمل الشعر منك نظما وإلقاء .. دائما تتحفنا بالحكم ومأثور القول .. قاطعها "على" وهو على حاله من الدهشة من كلام ابن شقيقته ......
ــ أختاه , ألم تري ولدك بعينى رأسك وقد أتى على كتاب مالك شيخ المدينه .. ووعى كل ما حواه !. ألم يقل ذلك بلسانه الآن !.. ما الداعى إذن للسفر ومفارقة البلاد والأهل ؟!.
إنبرى الشافعى قائلا ......
ــ كل هذا صحيح , لكن يا خالى العزيز , إمام كبير وشيخ جليل مثل مالك بن أنس , لا يجوز أبدا أن يفوتنى لقاءه , والتزود من بحر علومه شفاها , آه , ليتنى أدركت فقيه الكوفه , إمام أهل الرأى , أبى حنيفه , والله لو كان فى آخر بلاد الدنيا لرحلت إليه ..
مرت لحظات من الصمت قطعها الشافعى بقوله .....
ــ أتعجب يا خال من كلامى !. سأحكى لك حكاية سمعتها من شيخى سفيان بن عيينه ..
إنتبه خاله معتدلا فى جلسته قائلا .....
ــ ماذا قال شيخك ؟.
ــ حكى لنا ذات يوم ...........
ــ سمع جابر الأنصارى وهو بالمدينه , أن عقبة الجهنى لديه حديث فى القصاص .. خرج على الفور إلى السوق واشترى بعيرا شد عليه رحله , ومضى إليه حيث يقيم فى رحلة استمرت شهرا كاملا , وأخيرا لقى عقبه , سأله عن سبب قدومه إليه فقال له ... جئت لأسمع منك حديثا لم يسبق أن تحدث به أحد غيرك , تحدثت به عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم " فى القصاص , ورغبت فى سماعه منك مشافهة قبل أن يموت أحدنا .............
واستأنف الشافعى .........
ــ فهذا رجل قطع تلك الرحلة الشاقة من أجل حديث واحد يعلمه , لكنه أراد أن يستوثق من صحته من راويه .. وأنت يا خال تعجب من سفرى إلى شيخ عنده مائة ألف حديث .. والله لو قضيت عمرى كله أسافر فى طلب العلم , فلن أتوانى عن ذلك أبدا , حتى لو رحلت إلى آخر بلاد الأرض .....
سأضرب فى طول البلاد وعرضها .. أنال مرادى أو أموت غريبا ..
فإن تلفت نفسى فلله درها .. وإن سلمت كان الرجوع قريبا ..
رد خاله ضاحكا وقد انفرجت أساريره .....
ــ من ذا الذى يقدر على أن يجاريك فى حججك , فضلا عن قوافيك يا ابن إدريس .. ليس عندى ما أقوله لك بعدما سمعته منك , إلا أن أدعو الله لك أن يبلغك مرادك .. كنت أعلم منذ البداية أن الغلبة ستكون من نصيبك ..
تضاحك الجميع , بينما أخذت أم حبيبه تربت بيدها على ظهره فى حنان , قائلة ....
ــ أنت وما عزمت عليه .. على بركة الله يا ولدى .. سنرحل إلى المدينة سويا إن شاء الله , بعد أن تعد عدتك للسفر ..
صمتت هنيهة ثم نظرت للفضاء الممتد من أمامها قائلة ........
ــ إيه يا ولدى .. تلك هى المرة الثانية التى أسافر فيها للمدينه .. لم أشاهد أرضها منذ وفاة إدريس ..
ــ متى كانت المرة الأولى يا أماه ؟..
ــ منذ زمن طويل .. بعد أن تزوجت بعام واحد , شددنا الرحال إليها لزيارة الروضة النبوية الشريفه .. ونزلنا أيامها عند عمك يعقوب ...........
يتبع إن شاء الله ................................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 16/05/2011 الساعة 16h28
|

25/11/2008, 10h31
|
 |
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
|
|
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
|
|
|
@ مكث الشافعى زمنا عقيب رجوعه من الباديه .. معايشا لأحوال أهلها ولوعا بما كان يلقاه سمعه منهم ليل نهار .. مرددا ما يحفظه من أشعارهم وحكاياتهم وآدابهم .. وأخبار العرب وبطولاتهم .. وما وعاه واكتسبه فيما مضى من أعوام مع أهلها .. وبين قبائلهم وعشائرهم من طباع وعادات ..
حاول غير مرة أن يتردد على حلق العلم والدرس فى ساحة الحرم ليكمل مسيرة العلم التى بدأها فى نفس المكان .. فى كتاب الشيخ إسماعيل .. إرضاء لأمه .. وتحقيقا لحلمها ورغبتها وأمنية عمرها .. التى كانت تلقيها الى مسامعه وتذكره بها بين الحين والحين .. أن ترى ولدها يوما من الأيام .. ليس واحدا من علماء مكة المعروفين فحسب .. بل كبيرهم .. الذى يقصده الناس كافة .. وتشرئب اليه أعناقهم .. وهم يشيرون عليه قائلين :: هذا هو عالم قريش الذى ملأ الأرض علما ...
ساقته قدماه الى حلقة شيخ المحدثين سفيان بن عيينه .. أكثر حلق العلم شهرة وأكبرها .. لبث بين يديه أياما لم يجن خلالها إلا الملل مما يسمع .. تحول الى حلقة مسلم بن خالد الزنجى .. ظنا منه أنه سيجد فيها لونا آخر من العلم والحديث .. أبدا لم يعثر على بغيته .. كانت كسابقتها .. راح الى غيرها وغيرها .. وفى كل مرة كان يضيق صدره .. ولا يجد فى نفسه صدى لما يلقى الى مسامعه .. ولا فى وجدانه قبولا ..
حاول أن يرهف حواسه ويجمع قواه الى ما يقوله فقهاء الحرم من علوم الحديث والفتوى .. لكن هيهات .. لم يصادف كلامهم ولا مضمون حديثهم هوى فى نفسه أو ميلا إليه .. لم يجد همة أو رغبة تدفعه أو تشجعه على استمرار الدرس .. أو متابعة تحصيل هذه الألوان من العلوم ..
كان قلبا وقالبا يشعر بفتور لا يدرى له سببا , إزاء مجالسة علماء وفقهاء الحرم وارتياد حلقهم والتزود منهم والأخذ عنهم .. لكنها حداثة عهده بالباديه وتأثره بما سمعه وتلقاه وشاهده عند الهذيليين .. متخما بأشعارهم غارقا فى آدابهم وفنونهم ولوعا مفتونا بها ..
حاول أن يبوح لأمه بما يعتمل فى نفسه .. إلا أن لسانه لم يقو على الشكوى .. وجد فى نفسه حرجا شديدا فى بثها حقيقة مشاعره .. عالما بمدى حرصها على مواصلته رحلة العلم .. تذكر خاله "على" أصغر أخواله سنا وأقربهم إلى قلبه .. ليعرض عليه الأمر ويحدثه بما يعتمل فى نفسه من صراع .. بين هوى نفسه وأمنية أمه التى تلح عليه فى خاطره دوما .. أيرضى أمه ويجلس مرغما فى حلق الدرس التى لم يجن منها شيئا .. متظاهرا أمامها بالقناعة والرضا .. أم يكون صادقا مع نفسه ويمضى فيما يرضيه ويحقق ما تميل إليه نوازع نفسه .. غير أنه لم يجد أى جرأة على البوح بمكنون فؤاده حتى لأقرب أخواله إلى قلبه وأحبهم إليه ..
لم يعد أمامه بعد أن أعيته الحيل وعدم الوسيلة فى خلع ثوب الشعر والأدب عن نفسه .. وتحرير شغاف قلبه من أسر هذا الأطار المحكم الذى أحاط به وملك عليه نفسه واستهواه .. لم يعد أمامه إلا أن يجالس الناس .. يحدثهم بما وعاه من أخبار العرب وآدابهم .. وسير البطولات والمغازى .. أو ينشدهم ما حفظه من أشعار الحماسة والفضائل والحكم .. إستمر على تلك الحال زمنا لم ينقطع فيه يوما عن مجالسة القوم منتظرا ما يقضى به الله فيه ..
وكما توقع الفتى وحسب حسابه .. أثار هذا النهج منه امتعاض أمه وقلقها لما علمت به .. وهى التى لم تكن ترضى لولدها بديلا عن علوم القرآن ودروس الفقه والحديث .. لم تيأس أبدا رغم كل هذا من تحقيق أمنيتها .. فى أن يجالس وحيدها شيوخ الحرم .. يتضلع من علومهم .. يحلق معهم فى تلك الآفاق السامقة مع علوم القرآن والسنة والحديث .. إنها تعده منذ نعومة أظفاره لحمل أمانة العلم وإعداده ليكون عالم قريش .. الذى يملأ الدنيا علما .. تصديقا لوصية أبيه لها وهو على فراش الموت .. ومحققا صدق رؤياها التى أتحفها الله بها وهى فى أرض غزه .. بينما هو لم يزل جنينا فى أحشائها ..
وذات يوم عند عودته للدار راجعا من حلقته تلك .. فوجئ بها وهى تلقاه بوجه عابس متجهم على غير عادتها معه .. كانت تتحرى دوما ألا تقع عينه عليها وهى غاضبة أو حزينه .. وألا يرى منها دوما إلا مشاعر ومظاهر الرضا والبهجة والسرور .. لم يحدث أبدا أن دخل عليها يوما إلا وتلقاه بوجه باسم مشرق .. حتى لو كانت تتحلقها من كل الجهات هموم الدنيا ومشكلاتها ..
كانت ترد على أسئلته باقتضاب وهى تشيح بوجهها عنه .. حاول أن يلاطفها .. يمازحها .. عله يسبر أغوارها .. يعرف سر تغير مشاعرها تجاهه .. إنها أمه البارة الطيبه .. وهبت له سنى عمرها .. صباها .. عصارة حياتها .. فتح عينيه عليها طفلا .. تضمه دوما إلى صدرها .. تحيطه بحنانها وعطفها .. لم تفارقه لحظة واحدة منذ مولده .. إلى أن صار غلاما فتيا فى الخامسة عشر من عمره ..
ترددت .. لم تفاتحه بما يختلج فى نفسها .. أو تخبره باستنكارها من عزوفه عن حلق العلم ومجالسة العلماء .. عن امتعاضها من جلوسه على رأس حلقة .. يحكى للناس الأساطير والسير والأشعار .. كانت ترى كل ذلك ضرب من ضروب الهزل ومضيعة للوقت والجهد .. كل مرة تحاول فيها مفاتحته لمسئله لترده عن ذلك .. تجد شيئا خفيا يمنعها .. يمسك عليها لسانها رغما عنها .. أخيرا خرجت عن صمتها وتحفظها بعد أن طف الصاع وفاض الكيل .. لم تطق صبرا وهى تراه يلح عليها لمعرفة ما بها .. أجابته متسائلة فى حدة وجفاء لم يعهده منها .....
ــ تريد أن تعرف ما بى حقا ؟!. قل لى أنت .. أخبرنى .. ما هذا الذى يتداوله الناس من حديث عنك هذه الأيام .. يا ابن إدريس ؟!.
كانت تسأله متظاهرة بانشغالها فى إعداد الطعام .. متحاشية النظر تجاهه .. كى لا تقع العين على العين أو تلتقى نظراتهما .. حتى وهى غاضبة منه .. لا تحب له أن يتأذى برؤية ملامح الغضب والحزن على وجهها ..
حاول بذكائه أن يمتص فورة غضبها بعد أن أدرك بلماحيته قصدها .. وهو الفتى النابه اللبيب ابن آبائه .. رد عليها مبتسما متظاهرا هو الآخر بعدم معرفته سبب تساؤلها .. بينما تختلس عينيه النظر إليها حياء .....
ــ خيرا يا أم الشافعى .. ماذا سمعت عن ولدك ؟..
ردت والنظرة اللوامة الغاضبة لم تفارق عينيها .. ولا نبرات صوتها العاتبه .....
ــ لا أدرى .. ما الذى أقول لك يا ابن إدريس .. إيه .. لم يكن هذا أملى فيك ولا رجائى منك ..
ــ أماه .. ماذا بلغك عن ولدك ؟..
ــ يقولون .. أنك تتصدر كل يوم .. حلقة .. كبيرة .. فى الحرم .. يجتمع الناس فيها من حولك .. ألم تفعل ذلك ؟.
ــ أى بأس فى ذلك يا أماه ؟!.
ــ أجب على سؤالى .. ألا تفعل ؟.
ــ بلى يا أمى .. أجلس فى الحرم والناس مجتمعون من حولى يستمعون ..
ــ يستمعون ؟!. أى شئ يسمعونه منك .. أو يتعلمونه منك ؟..
ــ أعلمهم حكم العرب .. وأحدثهم عن سير البطولات والمغازى .. ونوادر الشعوب .. وأنشد عليهم أفضل ما قالته العرب .. من أشعار الحماسة والفضائل .. و ..
ــ كفى .. كفى .. أنت من يقول ذلك .. أنت !. ولد إدريس .. حفيد المطلب بن عبد مناف الهاشمى .. لا أكاد أصدق ما أسمعه منك .. لا أكاد أصدق .. هل تعلمت القرآن وحفظته تلاوة وأحكاما فى صباك .. ثم رحلت إلى البادية ومثت فيها عدد سنين .. من أجل إضاعة عمرك فى هذا العبث ولغو الكلام ..
ــ أماه .. ما حيلتى يا أم .. وقد رجعت من البادية بتلك البضاعه .. التى أعرض منها على القوم كل ليلة .. ما ينفعهم ويفيدهم .. و ..
قاطعته فى الحال محتدة غاضبة وقد علا صوتها .....
ــ بضاعة مزجاه .. لا قيمة لها .. ولا وزن ..
إستأنفت قائلة وقد انطفأت قليلا جذوة غضبها .. ناظرة إليه مشفقة .. وفى صوتها نبرة لين وحنان ....
ــ يا ولدى .. يا نور عينى ومهجة قلبى .. لما ذهبنا بك إلى الباديه .. لم يكن ذلك إلا بقصد تقويم لسانك .. ولتتعلم اللغة العربية الصحيحة من منابعها وجذورها الأصيله .. كانت البادية وسيلة إلى هدف أسمى .. لا غاية كما ظننت .. مثلك يا ولدى لم يخلق لهذا العبث .. إن ما تعكف عليه عبث وهزل لا يليقان بمثلك يا ولدى .. أليس كذلك .. تكلم ..
أطرق الفتى برهة لا يجد ما يرد به .. وقد تندى جبينه خجلا .. وأخيرا نطق بما لم يكن يريد ذكره .....
ــ أمى .. صدقينى .. سأقول لك الحقيقة التى لم أكن أحب البوح بها .. بعد عودتى من الباديه .. حاولت مرارا أن أستقر فى إحدى حلق الدرس بالحرم .. ذهبت إلى حلقة شيخ المحدثين سفيان بن عيينه .. وذهبت إلى حلقة مفتى مكة الأكبر مسلم بن خالد الزنجى .. ثم إلى حلقة سعيد بن سالم .. وحلقة داود العطار .. وغيرهم وغيرهم .. صدقينى يا أمى .. كم جلست إلى هؤلاء الصفوة الخيار من علماء مكة وشيوخها .. لكن .. لكن .....
قاطعته متسائلة ....
ــ لكن ماذا يا ولدى .. تكلم ..
ــ كانت تنتابنى يا أماه آنذاك .. أمورا ومشاعر .. لا أدرى كيف أعبر عنها ..
واصلت سؤالها مشفقة لهفه ....
ــ ماذا يا قرة عينى .. صارحنى بدخيلة نفسك ..
ـ أجل يا أمى .. حاولت أن ألقى إليهم سمعى .. أن أعى ما يقولون .. دون فائده .. هم فى واد وأنا ... لكن .....
ــ استحثته ملهوفة ....
ــ لكن ماذا يا ولدى ..
ــ إطمئنى يا أماه .. قرى عينا .. حتما سيأتى بإذن الله .. ذلك اليوم الذى أنتهى فيه عن هذا .. وأعود لمجالسة العلماء والفقهاء .. وأنهل من علومهم ..
رفعت كفيها إلى السماء داعية متوسلة .. وعادت الأبتسامة الصافية تزين شفتيها .. ولسانها يلهج بالدعاء .. أن يعجل الله تعالى بهذا اليوم .. وأن يسبب الأسباب التى تدفع عن ولدها تلك الأهواء ..........
إلى أن كان يوم .....................
@ لم يطل انتظار الأم الصابره .. ولا الشافعى .. لهذا اليوم المنتظر المرتقب من كليهما .. كأنما كانت السماء فاتحة أبوابها جميعا لاستقبال دعوات الأم وتوسلاتها .. وكأنما الأقدار لولدها بالمرصاد .. تدفعه دفعا إلى طريقه المرسوم الذى خطه القلم الأعلى فى كتاب الأزل .. وجاءت لحظة التحول الفاصله ......
بينما هو ذات مرة يتصدر مجلسه بالقرب من ساحة الحرم .. فى مكان اعتاد الناس على الجلوس اليه فيه .. ومن حوله التف نفر غير قليل من رواد حلقته .. على اختلاف ألوانهم وأعمارهم .. مابين جالس أو واقف .. يدفعهم الشغف والغرام بالإنصات لهذا النوع من الحكايات والأساطير المشوقه ..
كانوا يرهفون السمع لكل كلمة ينطق بها .. كعادتهم كل يوم .. متحفزون لمعرفة المزيد من حكاياته المليئة بالأحاجى والمعانى والعبر.. منتبهون مترقبون لما تسفر عنه الأحداث المتلاحقه .. أبصارهم مثبتة عليه لا تتحول عنه .. وهم جميعا مأخوذون بأسلوبه البديع فى عرض فصوول رواياته وبراعته فى جمال سردها .. أخذ أحدهم يستحثه على مواصلة الحديث قائلا فى لهجة ملؤها الشغف والنهم لسماع المزيد ......
ــ حكاية عجيبة حقا مثل كل حكاياتك يا ابن شافع .. رائع .. كلنا فى شوق لمعرفة ما حدث بعد ذلك .. إلى أين توجه نبى الله سليمان بن داود .. قى رحلته بعد ذلك ؟.
قى تلك الأثناء .. بينما السائل يطرح تساؤله .. وقبل أن يجيبه الشافعى ملبيا رغبته .. كان أحدهم يتقدم من أحد الأركان ناحية الحلقه .. كان رجلا فى حوالى الأربعين من عمره أو يزيد قليلا .. يظهر من ملامحه ولباسه أنه غريب عن مكه .. وتبدو على سيماه علامات الحشمة والوقار .. بدا أنه مأخوذ بطريقة الشافعى وأسلوبه فى الإلقاء .. ونبرة صوته وفصاحته ولغته التى تنساب من ذاته المنطلقة كجدول الماء العذب الرقراق .. المتدفق فى سلاسة ونعومة بوقعها البديع على الآذان ..
إستطاع هذا الوافد الغريب بعد جهد وهو يزاحم بين الصفوف .. أن يجد مكانا يقف فيه على مقربة منه .. حتى يتمكن من سماع ما يقول .. رمقه الشافعى بركن عينه وهو يتقدم ناحيته .. إلا أنه تجاوزه وعاد لما كان عليه مستأنفا حكايته ......
ــ ثم أمر سليمان الريح أن تحمله ذات مره ليتفقد البلاد والأمصار .. مضت به من بلد الى بلد .. وهو يرقب ما تقع عينه عليه من تحته .. من مشاهد عجيبة وغرائب تأخذ باللباب .. ظل على تلك الحال فى تجواله .. إلى أن لمح نسرا كبيرا هائل الحجم .. يقف ساكنا أعلى قبة قصر عتيق .. تنطق أحجاره بقدمه .. حينئذ أمر سليمان الريح أن تقف به قبالة هذا النسر ..
قاطعه أحدهم ......
ــ يقينا أراد التحدث إليه ومحاورته .. كعادته .. أليس كذلك ؟!
أعقبه آخر ......
ــ ولم لا يفعل .. وقد علمه ربه منطق الطير ..
أجالهما الشافعى ......
ــ هذا ما حدث .. ظل يسأله ويحاوره .. سأله فيما سأل .. عن الزمن الذى مضى عليه وهو على تلك الحال .. ساكنا أعلى القصر ..
ــ هل يا ترى أجابه النسر ؟.
ــ أجل .. قال له .... لى يا نبى الله سبعمائة سنه .. أقف مكانى لا أبرحه .. هكذا كما ترانى ..
تعجب سليمان من قوله .. ثم عاد وسأله عمن بنى هذا القصر .. فأجاب النسر ..... لا علم عندى يا نبى الله .. هكذا وجدته .. لكن انظر لما هو محفور على بابه .. فإن فيه الفائدة والحكمه .. خذها وعلمها للناس ..
إنبرى أحد الجالسين مقاطعا ....
ــ ماذا وجد سيدنا سليمان الحكيم ؟!
ــ إصبر يا رجل .. لا تعجل .. لما قال له النسر ذلك .. أمر الريح أن تنزله أمام باب القصر .. فلما صار قبالته تماما .. دقق النظر فرأى أبياتا من الشعر مكتوبة عليه ..
همهم الحضور بصوت خافت قائلين .... أبياتا من الشعر ؟!. أبياتا من الشعر ؟!.
قاطعهم الشافعى بإشارة من يده قائلا .....
ــ لا تعجلوا يا إخوانى .. فيم العجب يا قوم .. كانت أبياتا من أشعار المواعظ والحكمه ..
إنبرى أحدهم قائلا فى لهفة ....
ــ ليتك تسمعنا تلك الأبيات .. فما أعذب إلقائك للقوافى ..
ــ تقول الأبيات .................
خرجنا من قرى اصطخر .. إلى القصر فقلناه
فمن يسأل عن القصر .. فمبنيا وجدناه
فلا تصحب أخا السوء .. وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى .. حكيما حين آخاه
يقاس المرء بالمرء .. إذا ما المرء ماشاه
وفى الناس من الناس .. مقاييس وأشباه
وفى العين غنى للعين .. أن تنطق أفواه
أخذ السامعون يتسابقون فى إظهار عبارات استحسان وسرور .. اختلطت ببعضها طالبة منه المزيد من حكاياته المشوقه .. وكلامه السائغ العذب الذى هو لذة للشاربين .. لم يقطع لغط القوم إلا مؤذن الحرم .. وهو يشق عنان السماء بصوته العذب مناديا الله أكبر الله أكبر .. إنفض المجلس فى لحظات وتفرق الجمع .. كل فى ناحية تاركين الشافعى وحده كدأبهم كل مره .. إلا ذلك الرجل الغريب الذى شد انتباهه أسلوب الشافعى العذب فى الحكى .. وطريقة نطقه للكلمات وجرسها على الأذن وسرده المشوف للأحداث .. ظل واقفا متسمرا مكانه .. مسددا بصره إلى الفتى الشافعى لا يحيده عنه ..
وبينما الشافعى يجمع شتات نفسه متأهبا للقيام إلى الصلاه .. إذ وقعت عيناه للمرة الثانية على ذلك الغريب عن البلاد وهو يرمقه فى إعجاب .. كان باديا من زيه وهيئته وسمته .. أنه من أهل العراق الوافدين لزيارة البيت العتيق .. تقدم نحوه وحياه قائلا .....
ــ أهلا بك وسهلا يا سيدى .. هل من خدمة أستطيع تأديتها لك ؟.
أجاب وعلى شفتيه ابتسامة ودودة صافيه .........
ــ ما اسمك أيها الفتى المكى ؟.
ــ أنا .. محمد بن إدريس الشافعى .. من ولد شافع بن السائب .. وجدى المطلب بن عبد مناف القرشى .. وأنت ؟.
هز رأسه باسما وقال ......
ــ عبد الملك بن قريب الأصمعى .. حضرت من البصرة لآداء مناسك العمرة وأعتكف بضعة أيام فى تلك الرحاب الطاهره ..
ما كاد ينطق إسمه حتى هب الشافعى واقفا فى إجلال .. وقد تملكته دهشة وعمه السرور .. ثم راح يقول والكلمات تتسابق على شفتيه .. بعد لحظات من صمت عقدت الدهشة فيها لسانه من وقع المفاجأة عليه .....
ــ من ؟. الأصمعى ؟. عالم اللغة وراويتها الأكبر .. حللت أهلا ونزلت سهلا .. ليتك تقبل معذرتى على جهلى بك .. كم سمعت عنك كثيرا يا سيدى .. وعن علمك الغير .. لكن لسوء حظى لم يسعدنى زمانى بلقائك إلا اللحظه .. كم تشوقت يا سيدى لرؤياك والجلوس بين يديك .. إنك علم كبير من أعلام اللغة العظام ..
إبتسم الشيخ قائلا دون أن يعقب على كلامه .....
ــ هيا بنا نصلى أولا فريضة العصر .. ثم يكون لنا حديث أيها الفتى القرشى الشريف ..
@ بعد أن فرغ الناس من صلاتهم قام وأخذ بيد الشافعى وأخذا يشقان طريقهما وسط الزحام .. إلى أن جلسا فى ركن وحدهما بعيدا عن الضوضاء .. بادره الأصمعى .....
ــ هذه أول مرة أستمع إليك يا ابن شافع .. بالأمس تناهى صوتك إلى مسامعى وأنا فى طريقى إلى الحرم .. سمعتك تحكى للناس السير والأخبار وفصيح شعر العرب .. أيضا سمعتك تردد من أشعار أبى ذؤيب الهذيلى قصيدته التى يقول فيها .... وعيرها الواشون أنى أحبها ..
ــ وتلك شكاة ظاهر عنك عارها .. أجل يا سيدى الشيخ .. ما أفصح شعر هؤلاء القوم وما أعذبه ..
ــ صدقت يا فتى .. واليوم سمعتك تروى من الحكايات وأيام الناس .. من علمك كل هذا يا فتى قريش .. وكيف تأتى لك أن كل هذه المعارف .. بل تعيد سردها من الحفظ .. وأنت الفتى الغض لم تبلغ عامك السادس عشر بعد .. كما علمت منك ؟..
ــ لا شئ يا سيدى .. غير أنى بعد أن حفظت ما بين دفتى المصحف .. خرجت إلى البادية فى صباى .. وأخذت عن أهلها كل أشعار الهذيليين .. وكذلك شعر الشنفرى ..
إعتدل الأصمعى مدهوشا ثم قال ......
ــ لعلك تقصد بعض أشعارهم ؟!.
ــ لا يا شيخنا .. حفظت كل أشعار الهذيليين وشعر الشنفرى كله .. لم أترك نظما لهم إلا وعيته عن ظهر قلب ..
عاود سؤاله وهو يضغط على كل حرف من حروف كلامه ....
ــ ماذا تقول ؟! إن هذا لشئ عجاب .. تحفظ كل أشعار بنى هذيل .. وشعر الشنفرى .. وأنت فى هذه السن ؟!. لا أكاد أصدق ..
ــ لقد أصدقتك القول يا سيدى .. إننى أعى هنا أكثر من عشرة آلاف بيت من الشعر بألفاظها وإعرابها ومعانيها ..
لم يتمالك نفسه فتحول عن مجلسه وأحاط كتفى الشافعى بيديه .. يربت عليهما إعجابا وحبورا .. ونظرة تقدير وسرور فى عينيه قائلا له ....
ــ إسمع يا بنى .. بعد الذى سمعته منك .. أتمنى أن تسدى لى معروفا .. إن قبلت ..
ــ على الرحب والسعه .. حبا وكرامة يا سيدى ..
ــ أمنيتى أن أقرأ عليك ديوان الهذيليين .. على أن تصحح لى ما أقرأ .. فتكون معلمى .. وأنا تلميذك ..
أطرق الشافعى رأسه خجلا وتواضعا .. ثم رد على استحياء ....
أيها الشيخ الجليل .. من أكون حتى أكون معلما لأستاذ اللغة العرية وراويها الأكبر .................
لم يدعه يكمل فقال مقاطعا وهو يربت على كتفيه للمرة الثانيه .....
ــ لا عليك يا ولدى .. دعك من هذا .. فالعلم لا يؤخذ بالسن .. سأزيدك بيانا ... أشعار البادية عامة .. وهذيل خاصة .. من أهم مفاتيح اللغة العربيه .. والجهل بها وبأمثالها قد يؤدى بالمرء إلى لحن القول وعدم فهم النصوص فهما سديدا .. لذلك لما سمعتك يا ولدى تجيد كلامهم ونطق عباراتهم .. إنتابتنى سعادة غامره وسررت أيما سرور .. فى تلك اللحظة تمنيت أن أقرأ عليك أشعارهم لتصححها لى .. ولعلى لا أفشيك سرا إذا قلت لك أنها كانت أمنيتى منذ سنوات .. إلى أن لقيتك اليوم .. إيه يا ولدى .. لعلها بركة زيارة البيت العتيق والطواف به ..
سكت الشيخ هنيهة ثم استدرك قائلا .....
ــ لكن .. تبقى مسئلة مهمه ..
ــ تفضل يا سيدى الشيخ ..
ــ خيرا إن شاء الله .. إنها نصيحتى إليك .. رأيت لزاما على أن أسديها لك يا ابن أخى ..
نظر إليه متسائلا فقال له ......
ــ إسمع يا بنى .. علمت منك لما أخبرتنى بنسبك .. أنك سليل أشراف ذوى رفعه .. ويعز على ألا يكون فى علوم الدين والفقه .. هذا النسب الشريف وكل ما أنعم الله عليك به من البلاغة والفصاحه .. ليتك تجعل فهمك هذا فى مسائل الدين وقضاياه .. إن فعلت .. وأمكنك أن تجمع مع فصاحتك وذكائك .. علوم الفقه والحديث .. أقول لك ستكون سيد أهل زمانك .. أجل يا ولدى .. تسد أهل زمانك .. ومن يدرى .. ربما تكون أنت .. عالم قريش المنتظر ...
لمح الدهشة فى عينيه فاستأنف قائلا ......
ــ لا تعجب من كلامى يا بنى .. مثلك لم يخلق لرواية الحكايات والسير وأيام الناس وأخبار البوادى .. مثلك لم يخلق لمثل هذا أبدا ..
ــ الحقيقة يا سيدى .. أننى لما عدت من الباديه .. كانت تلك وجهتى .. حاولت مرات كثيره مجالسة العلماء .. هنا .. فى ساحة الحرم .. غير أنى لم أجد همة لذلك أبدا .. كان الفشل حليفى كل مره .. لكنى أعدك أن أعيد الكره وأستجمع الهمه .. لعل الله تعالى يعيننى يوما .. على تحقيق تلك الأمنية الغاليه ..
إنتهى من كلامه فشد الأصمعى على يديه مودعا إلى لقاء فى الغد .. يبدأ معه فيه دروس الأدب والشعر .. تبعه الشافعى بعينيه إلى أن صار بعيدا عن ساحة الحرم .. ولما صار وحده قام تجاه حجر إسماعيل وجلس فى ركن وحده بعد أن استبدت به الأفكار .. واستولت عليه الهواجس .. وهو يقلب فى خاطره ما سمعه قبل قليل من الأصمعى .. أخذ يستعيد كلامه مرات ومرات بينه وبين نفسه .. ورجع صدى صوته يملأ أذنيه فى موجات متتابعة وهو يقول له ..... مثلك لم يخلق لهذا .. ربما تكون أنت عالم قريش المنتظر .....
أخذ يحدث نفسه .... ما الأمر ؟! هذه الكلمات كم سمعتها بنصها من أمى .. وهى تلح على بها .. ومن قبل كم قال لى جدى ذلك الكلام .. ظل ماكثا فى حيرته .. إلى أن رأى نفسه كأنه واقف فى مفترق طرق .. وهو حائر لا يدرى فى أيها يسير .. تزاحمت عليه الهواجس والأفكار والظنون .. حتى شعر أن الأرض تميد تحت قدميه .. وأنه يهوى إلى واد سحيق .. وضع رأسه بين يديه .. وأسند ظهره إلى حجر إسماعيل حيث كان يجلس .. وراح يغط فى نوم عميق .. لم يشعر بعده إلا ويدا حانية تمسح ما تراكم من عرق غزير على جبهته وخديه ................
يتبع إن شاء الله ................................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
|
|
أدوات الموضوع |
|
طرق مشاهدة الموضوع |
العرض المتطور
|
تعليمات المشاركة
|
You may not post new threads
You may not post replies
You may not post attachments
You may not edit your posts
كود HTML معطلة
|
|
|
جميع الأوقات بتوقيت GMT. الساعة الآن 05h19.
|
|