ذكريات العارف الجمل
خطوات على أول الطريق
الجزء الأول نشر بالعدد الثاني بمجلة سماعي ( حصري )
فتحت عيني منذ 72 عاما .. في طرابلس و في أشهر أحياء المدينة القديمة في ذلك الوقت .. كان الكتاب هو الوسيلة الرئيسية للتعليم .. ثم المدرسة الإيطالية .. عندما بلغت العاشرة .. والدي كان يعمل متعهدا لتوريد الطعام للدولة العثمانية .. و هذا هيأ لنا أن نستضيف كافة الفرق الفنية التي تزور البلاد ... كلها كانت تمر على بيتنا .. و تقدم فنونها بعد المآدب .. و أجد نفسي في كل حفلة متسللا إلي أقرب مكان يمكنني من الاستماع و الاستمتاع بما يجري من فنون .. توفي والدي و عمري 12 عاما .. كنت قد شغفت تماما بالموسيقى و الفنون ....
و هكذا أرسلت إلي مصر لأشتري أول عود في حياتي .. بدأت أتدرب عليه .. ثم لجأت إلي موسيقي معروف في وقتها بطرابلس .. في خليل التارزي ... و لهذا المدرس قصة طريفة إذ كان اليهود في ذلك الوقت هم الذين يعملون في المجالات الموسيقية و الفنية عامة .. و بالتالي فإن لهم النفوذ و الهيمنة عليها .. و كان خليل عربي موهوب .. يطمح للدراسة و التعلم في الموسيقى ، و لكن اليهود كانوا يتقاضون مبالغ عالية نسبيا كي يقبلوا تعليم العرب ، أو يبوحوا لهم بأسرار النوتة ... و لجأ خليل إلي حيلة ذكية .. إذ كان يأتي إلي يعلمني مقابل أجر أدفعه له ... ثم يستخدم نفس هـــــذا
الأجر في التزود بدروس يتلقاها عن اليهود .. المهم أن خليل تعلم و علمني ، بفلوسي كما يقولون .. هذه المبادئ التي تعلمتها و الشغف .. دفعاني إلي متابعة كافة الفرق الزائرة ، اقتربت منهم أكثر و أكثر في الحقيقة ساعدتني ذاكرة قوية جدا .. و قدرة غير عادية على الاستظهار .. ساعدتني على جمع الكثير .. فمثلا مازلت أذكر و أنا في العاشرة عندما قدمت من مصر فرقة الشيخ سلامة حجازي .. و أقيم الحفل في سينما النصر بسوق الترك حاليا و كان اسمها قديما " بوليتياما " كانت أحسن مسرح في ليبيا في ذلك الوقت ، تضارع حاليا أوبرا صوفيا .. وقف ساعتها .. عند الافتتاح .. خرج عن الستار .. كان الطربوش هو غطاء الرأس الموحد بيننا جميعا .. وقف محمد عطية أحد أفراد الفرقة ، و ألقى هذه الافتتاحية .. في صورة أبيات تحية لليبيا :
بني طرابلس السلام عليكم
من أرض مصر و بلاد الشام
جئنا إليكم نحمل الفن الذي
غرسته مصر بهمة و نظــــام
أدب يؤلف بيننـــــــا فكأنه
صلة نكون بها ذوي أرحــــــام
بني طرابلس الكرام تقبــــلوا
هذه التحية من بني الأعمـــــــــــام
ثم فتح الستار على التخت .. كان القانون و العود و التار و الدربوكة .. قدموا مقدمة .. ثم خرج فتى صغيرا في ذلك الوقت و أنشد يا مليح اللمى و حلو التثني .. و جميلا جماله قد قتني .
كان أبي يحملني معه .. و شغفي بهذه الحفلات .. طالما حملني على شراء أكثر من عشرة تذاكر لنفسي .. و ذلك حتى يعرف الجميع أن هوايتي للفن ليست أبدا لسبب مادي أو غيره .. استمر في التحصيل و محاولة التعلم إلي أن جاءت أول فرصة لي .. و كانت قصة ..
و لكن عز علي أن يجمع اليهود دائما هذه المبالغ الكبيرة .. و ان يبقوا بمفردهم في ساحة الفن ، و هكذا اتفقت أنا و خليل .. أن نذهب إلي فرح .. يعني كان ثريا بدوره و كان لابد لنا من تقديم إغراءات حتى نقف على مستوى المنافسة مع اليهود .. عرضنا على أبي بكر أن نحيي الحفلة مجانا .. دون أي مقابل و قبل صاحب الفرح .. و رتبنا على ذلك بأن أعلنا على صفحات جريدة الرقيب لصاحبها الشيخ محمود بن موسى .. أعلنا أنا و خليل .. أننا على استعداد لإحياء الحفلات مجانا .. و نجحت خطتنا في منافسة اليهود .. فأقبل الناس علينا .. و عرضوا علينا أحياء حفلاتهم .. استمرت حفلة زواج أبي بكر سبع ليال .. يفرشون الحوش .. أربع غرف يجري عرسها .. غرفة للعلماء مثل المفتي و القاضي و غيرهم من الكبار .. و غرفة للافندية ...
اثنين يجيدون القراءة و الكتابة .. و غرفة ثالثة و رابعة لحصة من علماء و اصحاب مناصب .. يجلسون فيها حتى يستمتعوا بالحفل .. دون أن تفضحهم عيون الجمهور .. أما نحن فإننا نجلس في الصالة .
و حولنا الجمهور من عامة الشعب .... و يجري تقديم الشاي و القهوة و المشروبات المحللة كلها .. و كلها على حساب العريس طبعا .. كذلك الأكل كله عند الغروب .
و يستمر حتى العشاء بعد صلاة المغرب و حتى صلاة العشاء .. كل من يصل لمكان الحفل يتناول الطعام ، و كان الأكل في معظمه عبارة عن لحم ضان .. كل ليلة يجري ذبح عشرة خراف .. و من الظريف أن ثمن الخروف لم يتجاوز في تلك الأيام ثلاثة قروش ، كحد أقصى .. موعدنا نحن الفنانين يبدأ بعد العشاء ، من التاسعة حتى الثانية عشرة ..
نجلس وسط الحوش ، و معنا آلاتنا .. نقوم بإنشاد المواويل بمفردنا أنا و الشيخ خليل .. و عندما نردد الموشحات و الأدوار القديمة .. يرددها معنا الجمهور ، و يستمر الطرب و السهر بين عزف المقطوعات الموسيقية الخالصة ، و الغناء حتى ساعة متأخرة من الليل في كثير من الأحيان .
رد: العارف الجمل
العرض الشجري