ليس بالضرورة ، أن يكون كلَّ ما نسمعه من قول ٍ مصحوب بموسيقا غناءً ، و لو نفينا عنه صفة الغناء ، فهذا لا يعني أننا انتقصنا من شأنه شيئاً ، فقد يصبح لوناً جديداً من التعبير ، نظلم من يحترفه ، حينما ندرجه ضمن مفهوم الغناء ، و لأننا بالدرجة الأولى معنيون بفنِّ الغناء العربي المتقن ، فسوف نلحظ أنّ ثمة بُعداً شاسعاً و جفوة كبيرة ، بين ما يُبثُّ الآن من غناء – كما يدّعي مقدموه – و بين أصول الغناء العربي ، فمن أبجديات الأخير البديهية ، علاوةً على الكلمة الشعرية الجادة و اللحن المموسق على المقامات العربية ، يجيء الصوت الحسن في صدارتها ، و لأننا لا نريد أنْ نتزيَّد و نتصلب عند رأي مُتشدِّد ، خشية أنْ نشقَّ على مطربي اليوم ، لقلنا الصوت الحسن المتكامل الأبعاد و الجوانب الجمالية من دون تنازل و لا نقصان ، و هو ذلك الصوت ، الذي يُجيد أداء طبوع الغناء العربي كلها ، فلا يكفي أنْ يلتزم صاحب الصوت ، الذي على درجة من الجمال ، بأداء لون معين و يكتفي به ، بل يتعيّن عليه ، أنْ ينجح في أدائها جميعاً ، فكم من مُغنٍّ صُنِّف من قِبل المتلقين في عداد ذوي الأصوات المليحة ، في حين ، أنّ صوته في سويّة لا بأس بها ، غير أنه عرف كيف يتهرب من الوقوع في منزلق يفضحه ، حال خروجه من تحت عباءة اللون الغنائي ، الذي قد اختاره لحنجرته من دون سواه ، مثل الفنان الراحل ' عبد الحليم حافظ ' و الفنانة ' وردة الجزائرية'وغيرهما .
و من الأصوات المستوفية لشروط اكتمال محاسن الصوت و سلامته للغناء العربي ، أصوات كل ٍّ من ' أم كلثوم ' و ' وديع الصافي ' و ' محمد عبد الوهاب ' حينما كان في عزِّ شبابه و في أفضل حالاته في عشرينيات القرن المنقضي ، أي قبل دخول تقنية التسجيل الصوتي إلى الأقطار العربية في ثلاثينياته ، و كذلك السيدة ' فيروز ' و ' صباح فخري ' و غيرهم من فنانين سابقين و لاحقين ، ذلك أنّ خمستهم ، أدّوا بمهارة ، صنوف الغناء العربي المتقن جميعاً - الشعبي منه و الحديث - كالطقطوقة و الموشح و القصيدة و الأناشيد و الابتهالات و الأغاني القصيرة و الطويلة أمام الجمهور مباشرة أو خلف أجهزة التسجيل المسموع و المرئي ، ليس هذا و كفى ، بل إنهم ، تطرقوا إلى شتّى المقامات الموسيقية ، فأخضعوا أصواتهم لاختبارات صعبة و تجاوزوها بنجاح تلو الآخر .
العجيب أنك قد تستمع إلى عمل ( لاحظ أنني لم أقـُل أغنية ) و عند فروغك منه مباشرةً ، لا تستذكر منه أية كلمة ، مع أنّ كلامه عربي صرف ، ذلك أنّ مؤديه لم يقدر على أنْ يشدَّك إليه ، و إنْ تمعنت في ذلك ، و سرت وراء السر ، ستجد أنّ لا الصوتَ صوتٌ و لا اللحنَ لحنٌ و لا الكلامَ كلامٌ ، ما يعني انتفاء تواجد عناصر الأغنية أصلاً و تركيبتها أيضاً ، فلا تلومنّ المؤدي ، بل لـُم نفسك ، ذلك أنك بحثت عن الغناء في غير موضعه ، و طلبته ممّن يفتقده ، فهو لم يدّع ِ بأنه مطربٌ و لا مُغنٍّ ، لكنك أنت من افترضت و ظنّنت ذلك ، فخاب ظنُّك و مسعاك .
غير أنني أضع اللوم كل اللوم ، على أصحاب هذه الأصوات - الذين غدوا يشكـّلون نسبة عالية مقارنة مع أصحاب الأصوات الجميلة ، التي لا تكاد أن تبين و سط هذه الزحمة - لكونهم لم يجدوا لذواتهم و لا لما يقدمونه من تعبير ، من تسمية جديدة ، يُعرفون بها أنفسهم للمستمع العربي ، كي يصبح في مكنته تصنيفهم ، فهم بذلك ، أساؤوا مرتين ، مرة لأنفسهم ، و الأخرى للغناء العربي بصفة عامة ، حينما أقحموا ما يقدمونه من لون في فنِّ الغناء العربي ، الذي لم يألف في يوم من الأيام هكذا أسلوب ، كالذي نسمعه حالياً من بعض الشباب ، الذي لا يرتقي البتة إلى درجة الغناء الحقيقي ، حتى إنْ حاول بعضهم تقديمه بالصورة المشهدية عينها ، التي درج عليها العباقرة الأوائل ، فهو إنْ كان غناءً ، فهو مُشوّه ، لأنك لا تستمع فيه إلى أية جملة موسيقية مفيدة - على غرار مفهوم الجملة المفيدة في اللغة العربية حين اكتمال ركنيها – و يستطيع أيُّ شخص تأديته من دون أدنى تفنُّن ، الأمر الذي ينزع عنه ثياب الفنِّ و يلبسه لبوساً ثانياً ، علينا أنْ نحدّد طبيعة و نوع و ملمس قـُماشته ، لنسميه بها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يا عم زياد والله انت راجل محترم
أم تحسبهم إن سمعوا قولك يعقلونه؟
وإن عقلوه فهل يطبقونه؟
عافانا الله وإياك مما يقدم هذه الأيام تحت مسمى أغنية
وفي الحقيقة هم لا يقدمون إلا نارا تحرق ما تبقى لدى الناس من ذائقة فطرية سليمة
كائنات حية غريبة يتراقصون ليل نهار
لا تكاد تفرق بين ذكرهم وأنثاهم
__________________
لا تُلْقُوا باللؤلُؤ إلى الخنزير, فـإنّـــه لا يصْنـــع بـه شيئـاً
ولا تُعْطُوا الحِكْمةَ مَن لا يُريدها
فإن الحكمةَ أفضلُ من اللؤلؤ, ومن لا يرِيدها أشَرُ من الخنزير