إستوقفتني قصيدتك ..
لا لتماسك بِنيتها أو رصانة ألفاظها ، أو روح الحِكمة التي تذكرنا
بعصور الشِعر المزدهرة ، فكل هذا ربما لي معه عودة ..
و لكن يا أخي ، هذا البحر الذي كتبتَ عليه ، هو من البحور المُرَكـَّبة الصعبة ، و الذي لا يكتب على تفعيلاته إلا المتمكن
من كافة أدواته اللغوية !!
لن أتحدث عن هذا البحر الذي أعشق إيقاعه ، و لكني أودُّ لو أعرف منك يا عزيزي .. هل كتبتَ تلك القصيدة ، و أنت مدركٌ لتفعيلات ذلك البحر ، أم أنك تكتب بعفوية الموهوبين ، فتخرج القصيدة موزونة ً تماما ً ؟!
الأخ الكريم الأستاذ كمال ، طابت أوقاتك ! كان السؤال الافتراضي الأول : هل هذه الأبيات لمن بعث بها إلى المنتدى أو هي لغيره ممن ينظم شعرا متأثرا بالتراكيب الموروثة في الشعر القديم ؟ الكلمة الأخيرة ( القافية ) في البيت الرابع : الطِّيب تكسر البيت تماما كأنما جاءت من غلط كتابيّ لا يرجع إلى السهو ؛ فهي قد ضُبِطت بالشكل فلا اعتذار بوقوع سهو ! الكلمة التي تصحِّح البيت معنًى ووزنًا هي : الطَّبيب ، وأما التأثر بالتراكيب السابقة فيتمثل في : تذكُر العهد ثم تغفو؛ مما تغنيه أم كلثوم ، ويكأنَّ من التعبيرات القرآنية التي لم تتكرر في شعر مشهور ! ومن التعبيرات الموروثة : شَفَّكَ الوَجْدُ ، بَرَاكَ النَّوَى ( وهنا خطأ نحوي ؛ فالنوى مؤنثة ) ،ومما لا أجد لفهمه مَساغا : إن تأوَّتْ ( ؟ ) ، أتتْ بكل مَعِيب ( ؟ ) .
هذا نقد أساسي يقوم على اللغة واستعمالها وهي عماد الشعر .
إسمح لي أستاذي الكريم ، ما كان لي أن أسأل هذا السؤال أولاً ..
( فالإفتراض ) يا أستاذي لا محل له ..
لأن الكاتب يقدَّم تلك الكلمات في ( تجارب أدبية للأعضاء )، و لم يذكر أو يُلمح أنها لغيره ، و بالتالي ، فمن البداهة أنه قدمها باعتبارها له ، و لا معنى لسؤاله : أهِىَ لك ؟!
فإذا اتضح يا سيدي أنها ليست له ، فهذا شأن آخر !
لقد كتبتُ ما كتبت ، مدفوعاً بنفس هاجـِسِك ، و واقعاً على نفس ملاحظاتك ، حتى أنني لم أذكر اسم البحر العروضي ، لهدفٍ
في نفس يعقوب !
و لمن يتابع مداخلتنا تلك :
القصيدة على بحر ( الخفيف ) ، و تفعيلاته هي :
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن...فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
( و قد يطرأ عليها ما يطرأ من زحاف أو علة أو خبن إلخ )
و نتذكر معاً قصيدة جورج جرداق ( هذه ليلتي ) ، فهي من بحر
الخفيف ، و منها :
سَهَرُ الشوق في العيون الجميلة
حُلـُمٌ آثرَ الهوى أن يطيله
و حديثٌ في الحب ، إن لم نـَقـُلهُ
أوشكَ الصمتُ حولنا أن يقوله
و تلك أمثلة أخرى :
إن للصمتِ في المآتم معنى ...تتعزى به النفوس الحزينة
( إيليا أبو ماضي)
و هذا نموذج أستقيه من العقاد ، تنتهي به التفعيلة ب ( فاعلن ) ،
و هو ما يُطلق عليه ( الخبن ) في العَروض و الضرب :
كان للحب زينةً ً فغدا ....أثراً فوق لحده طرحا
الذبول الذبول أرفق بي....من رواءٍ يزيدني ترَحا
و هذا مثال من مجزوء الخفيف لشوقي :
قم كأمس اغنم الهوى ... و اشرب الراحَ بالغنم
و تخير على المنى .....و تمتع من النعم
و كما ذكرتَ يا أستاذنا الفاضل ، ما يصحح المعنى و الوزن ، قد
يلاحظه المُدركُ للإيقاع ، و هو ما دفعني لمداخلتي تلك ..
أشكر لك أخي الاستاذ كمال حسن ظنكم بي , فالقصيدة لي ألفاظا ومعنى
ترتبها تهذبها عيوني ,, وأطبع في قوافيها كياني
وألتمس العذر للدكتور " أبو هاني " لأننا في زمن قلت فيه الأمانة وكثرت فيه السرقات , فلا بأس عليك .
أستاذ كمال / أما قولكم
اقتباس:
و لكني أودُّ لو أعرف منك يا عزيزي .. هل كتبتَ تلك القصيدة ، و أنت مدركٌ لتفعيلات ذلك البحر ، أم أنك تكتب بعفوية الموهوبين ، فتخرج القصيدة موزونة ً تماما ً ؟!
حقيقة لا أعرف من التفاعيل إلا ما أخذته على مقاعد الدراسة , ولم أعط حظا من العلم أكثر من ذلك , ولكني أزعم أنني أمتلك أذنا موسيقية أميز بها الأوزان , وعندما أكتب القصيدة , أو قل تكتبني القصيدة , أستحضر في ذهني لحنا أرتب الألفاظ عليه فأغنيه وأنشده وأستبعد النشاز منه , فتخرج هكذا
أستاذي الفاضل أبو هاني
أما قولكم
اقتباس:
الكلمة الأخيرة ( القافية ) في البيت الرابع : الطِّيب تكسر البيت تماما كأنما جاءت من غلط كتابيّ لا يرجع إلى السهو ؛ فهي قد ضُبِطت بالشكل فلا اعتذار بوقوع سهو ! الكلمة التي تصحِّح البيت معنًى ووزنًا هي : الطَّبيب
وبراكن / نوالنأ / يططيبي
ب ب ــ ــ / ب ــ ب ــ / ــ ــ ــ
فالتفعيلة الأخيرة هي مفعولن , وهي من تفاعيل الخفيف , ومثلها قول شوقي
خدعوها بقولهم حسناء ,, والغواني يغرهن الثناء
أتراها تناست اسمي لما ,, كثرت في غرامها الأسماء
فالتفعيلة الأخيرة من البيت الثاني جاءت على وزن مفعولن , فأين الكسر يرحمك الله ؟؟
على العموم أنتم أدرى مني في هذا
أما المعنى فهو يقول : أن البعد أمرضك وأضعفك لفراق الطِّيْب , أي الطيبين , وهي مثل قول الشاعر :
غنيت مكة أهلها الطِّيْبَا ......... أي الطيبين , فيستقيم المعنى ــ والله أعلم ــ
أما قولكم
اقتباس:
بَرَاكَ النَّوَى ( وهنا خطأ نحوي ؛ فالنوى مؤنثة )
لم أكن أعرف أنها مؤنثة , فنحن نقول : فرق بينهما النوى , أي البعد
وكنت أستحضر قول الشاعر ـ نسيت اسمه ـ قوله
فألقت عصاها واستقر النوى بها ....
أيضا أنتم أدرى بهذا
أما قولكم
اقتباس:
تذكُر العهد ثم تغفو؛ مما تغنيه أم كلثوم
نعم هي كما ذكرتم
أما قولكم
اقتباس:
ويكأنَّ من التعبيرات القرآنية التي لم تتكرر في شعر مشهور !
لا أعرف إن كان استخدام هذه اللفظة يعيب القصيدة أو هو مستحسن فيها
أرجو منكم التوضيح , ولكم جزيل الشكر والامتنان
أما قولكم
اقتباس:
،ومما لا أجد لفهمه مَساغا : إن تأوَّتْ ( ؟ ) ، أتتْ بكل مَعِيب ( ؟ ) .
التأوي هو التجمع للشر
فالبيت يقول
فاترك الدار إن رأيـــت هوانا *** إن تَأوَّتْ , أتَتْ بكل مَعيـــــبِ
والمعنى
إذا رأيت الدار تجمعت عليك بالشر فاتركها لأنها لا تأتي إلا بكل ناقص
والمقصود بالدار كما تعلمون هم أهل الدار لا حجارتها وطينتها , وهي عكس قول الشاعر
وما حب الديار شغلن قلبي ,, ولكن حب من سكن الديارا
اقتباس:
هذا نقد أساسي يقوم على اللغة واستعمالها وهي عماد الشعر .
وأنا أشكرك من أعماق قلبي
وأشكر أستاذي الفاضل كمال
فأنتم أدرى بشعري مني
ورحم الله من أهدى إلي عيوبي
أخي العزيز الأستاذ كمال ، متعك الله بنعمته في كل أوقاتك .
في واقع الأمر لم يكن كلامي يحمل أي شك في معرفتك ، ولكن كنت كأنما أجد صوغ العبارات بهذه الطريقة يجمع بين تفكيري وتفكيرك ، فالأبيات منذ كلماتها الأولى تتبع نهج الشعر العمودي ؛ ومَن في أيامنا يملك الأدوات اللغوية والفنية التي تمكّنه من ارتياد السبيل الشاق ؟ وكان من الواضح أن الأبيات ليست تجربة ، وانكشف الأمر بالخطإ الكتابي ثم بالعبارات والتعبيرات المتأثرة بالسابقين .
أضيف إلى ذلك كلمة التقطيب ( هنا لا تعني تجعيد الجبهة دلالة على تجهم أو تفكير ) تحمل الدلالة الشامية التي تعادل عند المصريين : الغُرَز الجراحية .
تحياتي ، وإلى لقاء مع ( تجربة ) جديدة .
بداية ً أشكر لك سعة صدرك ، و أ ُثمِنُ ردودَك على أطروحات أستاذنا أبو هاني ..
فكما قلتَ ، التفعيلة ( مفعولن ) و المكونة من ثلاثة أسباب متتالية ، قد تأتي في نهاية الشطرة في بحر الخفيف ، فلا تكسر البيت ، و الأمثلة كثيرة ..
و أحَيي فيك ذلك الخلق الرفيع حين تقول ( فأنتم أدرى بشعري مِني ) ..
و الحقُ يا أخي أنك أدرى بشِعركَ مِني أو من غيري ..
دعنا نتفق يا عزيزي على أمر ، و هو أن مثل تلك المداخلات ، نستفيد منها جميعاً بمعلومة أو إضافة جديدة ، كما لا أخفيك سراً حين أقول أن النضوب أصاب الإبداع الشِعري ، و أنه ليس من اليسير العثور على شاعرٍ موهوبٍ و جاد و مثابر ..
لقد قضيتُ أول أمسٍ ليلةً ً كاملة ً مع كل قصائدك التي عرضتها هنا
في المنتدى :
قصيدة أوهام :
الليل أرخى سِتره خلف التلال السودِ في قلبي
و هي من بحر الرَّجَز
قصيدة الهوى و الأيام :
حكمَ اللهُ تعالى و قضى ... في زمان بات ذكرى و انقضى
و هي من بحر الرَّمَل
قصيدتنا تلك :
أيها الشادي في لحونٍ النسيبِ ...طاف بين النحيب و التشبيب
و هي من بحر الخفيف
قصيدة إلى التي شغف الفؤاد بحبها :
الذكرياتُ على الخواطر عَنَّتِ ...هزأت بها و تلاعبت و تسلـَّتِ
و هي من بحر الكامل
فوجدتُ أني بصدد شاعرٍ عَذبٍ ، مُتمرس ، متمكِنٍ من أدواته ،
يجدرُ أن تسلط عليه الأضواء ، و لو في ركننا هذا ..
و لا أخفيك سعادتي حين أجد شاعراً حقيقيا ، وسط هذا الركام
من الزيف الذي يسودُ في كافة وسائل النشر أو التواصل المعرفي
و الأدبي ..
بقيَ تعليقٌ منك على القصيدة التالية لواحدٍ من الشعراء ، و أتمنى من خلال تعليقك أن يهدأ خاطري ..
تلك هي القصيدة :
هناك في ثورةِ الخريفِ وملهى موكبِ الغيومِ الخَلوبِ
أنت شيءٌ من الهوى ورِهامٌ ضاع بين الرهانِ والتشبيبِ
باركتَه المُنى وغنّى على مهده ساجعُ العندليبِ
ونسيمُ المروجِ ألقى عليه نفحةَ الخلدِ من ثنايا القلوبِ
ما أُحيلاك عند ذاكَ وأحلى صوتَك الرّخم بالمنى المشبوبِ
لوكان من مهبط الوفاء تدلّى لكنه بالرياء والرجا المصلوبِ
كم تدثرتِ بالمنى وتقلبتِ في شعاب الهوى وبين الدروبِ
وتفرقتِ في مواكب شتّي شلّهن الأسى برحم الغيوبِ
قالت أناجيكَ إنْ طواكَ رحيلٌ ويستطيلُ الأسى عليك نحيبي
سأسألُ الريح والدجى والروابي وأسألُ الشمس في ستور الغروبِ
واستخبرُ الغمامَ أنّي توّلى وهاجعاتِ الطيور عند المغيبِ
ثمّ ما أنْ طوى الرحيلُ ركابي جعلتِ الهوى قرابينه من قريبِ
أنت ... مَن أنتِ؟ أنتِ ضميرٌ حائرٌ في الدّنا بغير رقيبِ
أنتِ ليلٌ على العوالم غطّى ظلامُه النجم في ذهولٍ رهيبِ
أنتِ مجهولةٌ طوافاً ومعنى أنتِ شيءٌ على الوجودِ غريبِ
أيها الليلُ هل وراءك فجرٌ قد ضقتُ من ذلك الورى بنصيبي
فالرحيلُ الرحيلُ عن موطنِ الرجس فرحابُ هذى الديارِ غيرُ رحيبِ
كم تداعى بها المنى وتلاشى مستباحُ العُرَى وشيكُ النّضوبِ
فرّ من عهديَ الذي كنتُ أبغي حالمٌ بالفراديس جمّ الرغوبِ
فتحللتُ من ذلكَ العبيرُ فنفسي لا تطيقَ المِراء بادي الشحوبِ
عِظَمُ الحِسّ والمشاعر أسمى وفوق زيغَ الهوى وفوق العيوبِ
أن تأتي بالشعر الحديث وقد زاد رقة وجمالا , فهذا ما نصبو إليه ولكن أن تأتي بالحديث لتهدم به الرقة والجمال فهذا ما نرفضه , فلهؤلاء نقول :
سألت الدهر عن مجـــــد تلــــــيد = فجـــاوبني ببيت من لـــــبيد
( وجدتُ أبي رَبيــــــــعاً لليتامى = وللأضيافِ إذ حُـــــبَّ الفئيدُ )
فماج الدمع في عيني حــــــــزينا = ومار الشوق في قلبي العميد
ورحت أسائل الأصــــــحاب عنا = فأنبأني النبيئ على قصيـدي
( إلى كم ذا التخلف والتوانـــــي = وكم هذا التمادي في التمادي )
(وشغل النفس عن طلب المعالي = ببيع الشعر في سوق الكسادِ )
إلى كم يا أخــــــــي هذا التمادي = وهدمُ القومِ للصـــرح المشيدِ
فوا لهفي على ضاد تلـــــــــظى = يُقتِّلُها الرَّميدُ من الـــــــوريدِ
ويعبث في طهـــــــارتها ويبدي = فعال السَّوْءِ في مــــــكر عنيد
وقد كانت كما الذهب المـــوشى = على بُرُدٍ من الوَرِقِ الجــــديد
فلو زدت الجمال على الجـــمال = لفاقت في الجمال على المزيد
ألم ترها تمــــيد بها القــــــوافي = طروبات على نـــــغمٍ فــــريدِ
تقدمــــها لـــذوَّاق المــــــــعاني = يرق لحسنها قــــلب الشــــديد
عيون الشعر جنات المـــــعالي = ورَيَّا النـــفسِ للقـــلب الصديدِ
فهذا النبع للكلم البـــــــــــــــليغ = وهذا الزاد للــــعقل الرشيــــد