لقد تحاشيت كثيراً من دون كراهية ولا امتعاض، الخوض في غمار الأغنية الليبية الشعبية، تلك الأغنية التي كانت سائدة في المشهد الغنائي الليبي، ما قبل الستين السنة الفائتة، لتعليلين أثنين وكفى، أولهما، أنني لست من المعاصرين لها، ولافتقادي القدرة على الاستماع إليها لانتفاء توافر تسجيلاتها بصورة نقية وجيدة في الأسواق، فقد خشيت أن ينصبَّ جام تركيزي على عنصر واحد من عناصر الأغنية المعروفة، فالأغنية الشعبية الليبية، تنسب إلى الغناء العربي الصحيح، لجهة المقامات الموسيقية العربية من دون أقل مراء، فهي أشرف وأنقى نسباً من الأغنية الخليجية، المُقامة على السلم الخماسي الأصل والنسب، مع أنّ (ليبيا) بحكم موقعها الجغرافي في شمال غرب قارة أفريقيا السوداء، هي أكثر أفريقية من دول الخليج العربي كافة، المنتمية إلى القارة الأسيوية الصفراء، فغني عن الإفصاح، أن ّبلادنا عروبية الثقافة والأدب.
وإذا جئت لتفكّ عناصر الأغنية الشعبية، ستجدها كأية أغنية حديثة، تتجزأ إلى الكلمة واللحن والأداء، غير أنّ هذه الأغنية بفضل مجهودات روّادها الأولين، صارت مؤلفة من ستة عشر وزناً بلغة الشعر، أو بالأحرى، إلى ستة عشر لحناً بلغة الموسيقا، حيث إنّ الشعراء حينما نسجوا كلماتهم، وضعوا في أذهانهم، لزوم أن تأتي أغانيهم على أحد هذه الأوزان، أو الألحان، كي يستطيع المطرب تأدية الأداء الصوتي، فهم بذلك تجاهلوا دور الملحن، أو دعونا أن نقول بصراحة، إنّ من جاء فما بعد، هو من انتحى هذا المنحى، فأعتقد جازماً، بأنّ من وضعوا هذه الأوزان الشعرية أو الألحان، هم في الأصل ملحنون، تناستهم الذاكرة بالتقادم، وصارت معرفتهم، مثل حصولك على خريطة لكنز في قاع محيط ، كما أنّ الأصوات التي عرفتها هذه الأغنية التقليدية تتشابه من حيث خصائصها الفنية ولجهة العُرب الصوتية والطبقات والنبرات والبحة الصوتية ، التي كان مطربونا في السابق، يصرون أيما إصرار، على إظهارها عمداً، حتى في غير مواضعها المفترضة، لأنها كانت ميزة حسنة ومعياراً مهماً لاكتشاف الصوت الجميل من الرديء، لما تتركه من وقع على المسامع، ومن هؤلاء، الفنان الشعبي "عبد الجليل عبد القادر" عافاه الله، ومن هو على شاكلته، ممّن لم يغنوا داخل حجرات الإذاعة، وإنما اكتفوا بغنائهم في لقاءاتهم المباشرة مع المستمع في الأفراح والليالي الملاح، وقد امتدّ تأثير هذه العادة أو الظاهرة الصوتية ، حتى إلى الفنانين الإذاعيين إلى فترة طويلة، حتى أصبحت من لزوم ما لا يلزم في فنّ الغناء، فقد عُرف عن الفنان الراحل "محمد صدقي" و"علي الشعالية" و"سالم زايد" ومن الجيل اللاحق، الفنان "سالم بن زابيه" هذه البحة المليحة في أصواتهم، لأنهم أدّوا الأغنية الشعبية في إطار متطور ، لجهة تأثيث فرقة الإذاعة الموسيقية بعديد الآلات، ومن وراءها العازفين المتمكنين من العزف عليها، ولا يفوتنا كذلك في هذه السانحة، ذكر الفنان الراحل "شادي الجبل" الذي أفنى عمره الفني في سبيل تلميع الموروث الشعبي في آذان المتلقين، بصوته القادر على أداء الجملة الشعبية المحلية، ومن الجيل الجديد، يعجبني الفنان الشاب "فوزي المزداوي" بصوته الجميل والمعبر، وهذا لا يعني، أن يتقوقع عند هذا القالب الغنائي، فيحرم الجمهور من خامة صوتية نفيسة ، أرى أنه سيكون له شأن أفضل، لو تحوّل إلى أداء الأغنية الحديثة، فهو يحرص على أداء الأغنية الشعبية ، بالكيفية نفسها التي أدى بها ، الفنانون المعروفون في المنطقة الشرقية، ممّن جئت على ذكر بعضهم في صدر مقالتي هذه ، حتى من خلال اللهجة والتغني بمفردات تحسب على المنطقة الشرقية، ولا تسمعها في كلامه اليومي، ككلمة ( كنك ) التي تقابلها هناك، كلمة (خيرك) وهذا يبرهن على فضلهم في تقديم الأغنية بالطريقة المثلى، التي لا أظنُّ مجرد الظنِّ ، بأنه بالإمكان تقديمها في شكل أبدع ممّا كان، فقد واتت الفرصة لهذا الأمر، بوجود ثلة من الموسيقيين المصريين المهرة في فرقة الإذاعة الموسيقية، كالموسيقار"عطية شرارة" و"أحمد الحفناوي" اللذين أسهما إسهاماً قوياً، في إعدادها وتقديمها على نحو مدروس، وبناءً على ما تتـّـجمل به، الجملة اللحنية الشعبية من زخارف فنية.
فالمختلف والذي يدور حوله النقاش فيما يخصُّ الأغنية الشعبية ، هو الكلام المُغنى، ليس إلا، وإذا ما حاولت أن أقارن بين أغنيتين شعبيتين، سأجدني عندئذٍ، أقف مقارناً بين الشاعرين فقط، ما يعني أنني سأنزلق إلى منحدر لا أبتغيه، فدراسة الشعر الشعبي لها أهلها، ولكوني أيضاً من أنصار اللحن في الأغنية، ينصبُّ تركيزي في الأساس على اللحن، فإذا صحّ، أتطرق إلى الكلمة ، التي يكفيني منها لكي تـُغنى ، أن تكون ذات مدلول ومعنى، وقصيّة عن الإسفاف والابتذال، فأي كلام أراه يجوز للغناء، مادام تتوفر فيه هذه الأبعاد، وليس من الضرورة أن يُحمّل بالاستعارات والكنايات والتشبيهات والرمزية والإيحاءات ، بدليل أنّ أغنية الأطفال - التي يصفها أكبر الشعراء الذين يركزون على هذه المحاسن البديعية - بأنها أغنية صعبة ، يكون كلامها مباشر ومُرسَل في الغالب الأعم.
كما أنه يعجبني في كلمات الأغنيات بشكل أكثر، التأليف الغنائي، الذي يتطلب مؤلفاً للمعاني لا شاعراً فقط، له دراية و صلة بالجملة الموسيقية ومطالع الأغنيات ووقفاتها وتفعيلاتها، ومن هؤلاء الذين عرفتهم الأغنية الليبية الحديثة، الشعراء "فرج المذبل" و"أحمد الحريري" و"يوسف بن صريتي" و"عبد السلام زقلام" رحمه الله، وأطال في أعمار الآخرين، فالبلاغة الشديدة في الشعر بأقسامها التي تدّرس، أجدها تـُذهب بفنّ الغناء، كما لا أراها، تنفع في الشعر الغنائي ، الذي يحاول بعض من الشعراء الشعبيين إقحامه في الغناء، ما جعل الأغنية الليبية تتـّخشب وتنتكس، ويصيبها شيءٌ من النكوص الرجعي في الآونة الأخيرة، عموماً لا أريد أن أطيل في هذا الجانب، وأختم كلامي في هذه الفقرة، بضرورة التركيز على كتابة الشعر الغنائي في شكله الصحيح، بكلماته التي تفيض بشحنات من الإحساس في شكل درامي يعتمد على حدوثة من خيال الشاعر.
فلجمود الألحان الشعبية واختلاف كلماتها فقط من بين عناصرها، كما بيّنت لكم منذ قليل، والتناقض الذي يعصف بأركانها أحياناً - المتمثل مثلاَ في سماعك لتصفيق (الكورال) أو حلقة المستمعين، وأوقاتاً ، المطرب ذاته، على أنغام حزينة، أو علو زغاريد النسوة بينما المطرب يغني على جرح الفراق - انصرفت إلى البحث في الأغنية الحديثة، التي عقبت مرحلة التطوير الغنائي، التي شهدتها البلاد، منذ أن أطلق الملحن الجميل "يوسف العالم" رائعته (طيرين في عش الوفاء) وما لحقها من أغان ٍ أخريات، فوجدت فيها مجالاً أرحب من الإبداع والخصوصية والاختصاص، وكلها أمور منعدمة في الأغنية الشعبية المؤطرة في شكل ثابت ورتيب؛ فالألحان الشعبية هي مثل القوالب (الفورمات) الصناعية التي توضع فيها المادة الخام، لأجل ان تظهر لنا بأشكال ثابتة، نستطيع أن نغير في ألوانها ، من دون المساس بجوهرها ، الغريب في الأمر، أنّ مسألة القوالب، عُرفت في الصناعة بعد الانقلاب الصناعي الذي حدث في (أوربا) وتحديداً في (بريطانيا) أي إثر تطوّر الصناعات بانشاء القلاع الصناعية الكبرى، ودخول العالم في عهد الصناعات الثقيلة ، فقبل ذلك، كانت جودة الصناعات اليدوية ،تقاس بمهارة الشخص المُصنِّع ، كما في الصناعات التقليدية كالخزف مثلاً، وهذا بعكس ما حدث في فنّ الغناء، فالقديم الموسيقي كان هو ما يتشكـّل في قوالب ثابتة، أما ما جاء بعد ذلك، فهو الجديد، الذي من إبداع المعاصرين من الفنانين.
وهذا ما تداركته الأغنية العربية في الأقطار العربية الأخرى، ما عدا دول الخليج العربي، حيث عكف القائمون عليها، على الاهتمام بالمنجز الغنائي الجديد أكثر من التقليدي، وهذا لا يعني أن نتبرأ من إرثنا الفني نهائياً، فأنا أدرك وأحفظ الجملة التي نقولها: "اللي ما له قديم ما له جديد" فالحمد لله إذن، أنّ لنا القديم ليكون لنا الجديد، إذا بحثنا عنه ، لكنّي أرى فيما أرى من أراء ، قد يختلف معي البعض بشأنها، أن نجعل منه معلماً لنا، ونأسس عليه من حيث التزامه بالأصالة و الهويّة العربية المسلمة، كما يتعيّن علينا ، أن نجعل منه مختبراً للأصوات الجديدة، التي تودُّ أن تلج إلى عالم الأغنية من بابه الصحيح، فإذا تجاوزته بالأداء بنجاح ، فلا بأس أن تتقدم إلى الغناء الحديث ، فهذا هو الباب نفسه الذي طرقه الأولون ودخلوا من خلاله ، فليس من المعقول، أن يقدم لنا فنان معروف بعد وقت طويل من بدايته وشهرته شيئاً مما ينسب إلى الأغنية الشعبية، التي أراها غير مجهولة حتى للمستمع العربي الذي قدمناها له على حساب أغنيتنا الحديثة، فلولا أن قام بعض الملحنين بتطوير وتحديث الأغنية الليبية لما سمعنا أغنيات جميلة، مثل (حب كبير) للفنان "مصطفى حمزة" وأغنية "بلد الطيوب" للفنان "محمود أكريم" رحمه الله ولا أغنيات أخرى، بل لولا هذا التحديث لما استمعنا إلى قصيدة غنائية ليبية أبداً، ولا عرفنا فنَّ الملاحم الغنائية في يوم، إذا تركنا الحبل على الغارب للأغنية الشعبية، وصددنا موجة التطوير الموسيقي في الستين السنة الماضية، أ ليس كذلك؟.