جلست أم علي ، تستند بظهرها إلى شجرة التوت الضخمة .. نظرت حولها لحظات .. ثم استقرت عيناها على الجانب الآخر من الترعة .. بعد لحظات ، امتدت يدها إلى براد الشاي أمامها .. أمسكت به وبدأت تصب الشاي فى كوب كبير ، ثم راحت تحتسيه على مهل .
ليلتك طويلة يا أم علي .. سوف تقضينها ساهرة .. وهذا الشاي الثقيل المر مثل العلقم سوف يطرد النوم من عينيك .
لكن لا .. إنها تشعر برمال تملأ عينيها وتثقل جفونها .. تحس برأسها تسقط على صدرها ، لكنها رفعتها بسرعة .. راحت تهزها يميناً ويساراً .. كأنما تنفض عنها النوم فى قوة .. لن تذوق عيناها طعم النوم هذه الليلة .
الجاموسة ترقد فى فناء الدار تجتر طعام العشاء بصوت مسموع .. وذلك الرجل الذي يختبئ هناك على البر الآخر من الترعة ، لن يتركها .. انه يأتي بلا حس ولا ضجة .. يقبع فوق عيدان الذرة الجافة .. لص فاجر ، نزل على القرية كالقضاء والقدر .. يختفي بالنهار ويظهر مع الليل .. يدهم الدور وبيده مدفع رشاش ، يرش به الموت ويثير الرعب .
أمسكت بعصا زوجها .. راحت تحركها فى قوة .. همست قائلة وهى ترفعها إلى أعلى :
· لتمسكيها بقوة يا أم علي .. وتفتحي عينيك .
ولكن النوم .. النوم الثقيل يطبق على عينيها .. تشعر بخدر لذيذ وثقل فى الجفون .. وحنين إلى النوم لا يقاوم .
تثاءبت من أعماقها ، وهى تتمنى أن تنام ولو ساعة واحدة .. فالنوم سلطان كما يقولون .. لكن لا لا .. انتفضت فى جلستها وهى تطلق الكلمات بانفعال .. النوم مصيبة .. مصيبة كبيرة .. تفيقين منه يا أم علي فتجدين أن الجاموسة العزيزة قد اختفت من الدار .. وأن زوجك كما هو .. يرقد مريضاً تعتصره الحمى .. آاااااه .. آه لو أستطيع فقط أن أسهر حتى الصباح .. آه لو أستطيع أن أقاوم هذا النعاس المستبد ، الذي يكاد أن يغلبني على أمري .
وفى عزيمة قامت من قعدتها .. راحت تسير جيئة وذهاباً أمام الدار .. ربما يطرد المشي النوم .. لكن خطواتها تثاقلت بعد فترة ، وعجزت ساقاها عن حملها ، فتهاوت فى مكانها على الأرض .. وتهيأت لتضع ذراعها تحت رأسها كأنه وسادة .. تريد أن تنام فترة قصيرة فقط .. غمضة عين تقوم بعدها نشيطة .. بل موفورة النشاط .. ولكن لا .. لا يا أم علي .. هذا لن يكون أبداً .. وفى تصميم دفعت الأرض بكفيها لتستوي واقفة ، ثم تناولت العصا ومضت خطواتها نحو الترعة .
نزلت حتى حافة الماء .. شمرت عن جلبابها وعقدته على وسطها .. ومدت قدميها بتوجس داخل الماء .. حتى استقرت على القاع ، وغاصت فيه قليلاً .. وتتابعت خطواتها والماء يغمر جسدها كلما تقدمت .. حتى وصل الماء إلى صدرها ، ثم أخذ ينحسر عنها وهى تأخذ طريقها إلى الضفة الأخرى من الترعة .. وأفكار مخيفة تلعب برأسها .
فى النهاية .. وجدت أم علي نفسها وقد أصبحت على الناحية الأخرى .. ففكت ثوبها المعقود إلى وسطها .. ثم صعدت فوق عيدان الذرة فى خطوات متلصصة ، وحدقت بعينيها تريد أن تشـق أستار الظلام .
كان ثمة ضوء خافت ينير الأفق .. مشت خطوة .. اثنتين .. ثلاثة .. ثم توقفت .. هاهو اللص .. قاطع الطريق الشرس ، الذي أرهب البلاد والعباد ، يرقد أمامها فوق أعواد الذرة .. وإلى جانبه المدفع الرشاش .. فمه مفتوح ومن فوقه شارب مهول .
تقدمت فى حرص .. وقلبها يدق دقاً عنيفاً .. تشعر كأنها تمشى على الهواء .. حركة طائشة أو صوت بسيط ، ويصحو اللص .
مدت يدها فى خفة قدر استطاعتها وأخذت المدفع الرشاش .. ثم ارتدت إلى الخلف .. أحست برعشة ويدها تلامس حديد الرشاش .. ودت أن تصوبه نحو اللص ، وترشق جسده كله بالرصاص .. لكنها تعرف أنها لا تستطيع .. ذهبت فى هدوء إلى شاطئ الترعة .. ألقت المدفع فى قاعها .. ثم عادت إلى اللص الذي كان يرقد مطمئناً ، ولا يشعر بما يدور حوله .. وخزته بطرف العصا فقام قاعداً .. بحثت يده فى فوضى عن مدفعه الرشاش .. عندما لم يجده .. قام خائفاً وهو يتراجع إلى الخلف أمام الشبح المنتصب أمامه يمد نحوه شيئاً كماسورة المدفع .
ابتعد اللص بظهره خطوات ، ثم قفز كمن لسعته أفعى .. وأطلق ساقيه للريح .. وكانت أم علي ترقبه فى ارتياح ، حتى أصبح نقطة سوداء فى الأفق ، ثم اختفى .. وفجأة .. ودون سابق إنذار .. ودفعة واحدة .. حل التعب على أم علي .. وشعور بالأمن والأمان يملأها .. ويشيع فى نفسها رغبة حارة فى أن ترقد وتنام .
ارتفع صوت خوار الجاموسة من الضفة الأخرى .. وشقشقت العصافير والطيور ، تحيى مولد الفجر الجديد .. وانتشر الضياء يمسح الظلام .. بينما تذكرت أم علي أعباء اليوم الجديد ، فمضت عائدة إلى بيتها ......
*****