تعلم إدارة سماعي، الأعضاء أن كل الملفات والمواد المنقولة من مواقع خارجية أو مواقع تخزين للكتب أو المتواجدة بكثرة على شبكة الإنترنت ... سيتم حذفها دون إعلام لصاحب الموضوع ... نرجو الإلتزام ... وشكرا
المنافسة التاريخية واللقاء المتأخر!! "ام كلثوم وعبد الوهاب"
أم كلثوم وعبد الوهاب
المنافسة التاريخية واللقاء المتأخر !!
جريدة القبس الكويتية
نُشر في 13/9/2008
كتب جهاد فاضل:
إذا كان الوهابيون، نسبة إلى المطرب محمد عبدالوهاب، قد سعدوا بوجه عام، بلقاء القمة الذي جمع عبدالوهاب بأم كلثوم، في أواخر حياتهما، فانه كان للكلثوميين موقف آخر. فهؤلاء لم يخفوا تحفظهم، ان لم يكن امتعاضهم، من هذا اللقاء. فعلى الرغم من اعترافهم الصريح بان عبدالوهاب قمة شامخة في الفن العربي المعاصر، فإنهم لم يرحبوا بهذا الجسر الذي اقترح الرئيس جمال عبدالناصر اقامته بين القمتين. فأم كلثوم بنظرهم كان ينبغي ان تبقى على استقلاليتها وان تحتفظ بسيادتها التامة فلا تقيم أي صلة فنية مع عبدالوهاب بالنظر لتاريخ طويل من المنافسة بينهما، ونظراً أيضاً لاختلاف لون كل منهما عن الآخر. فأم كلثوم مغنية محافظة، عُرفت بلون غنائي مختلف عن اللون الغنائي لعبدالوهاب، وهي مغنية تؤثر المعاني الجادة، والألحان الكلاسيكية، في حين ان عبدالوهاب ينزع إلى التجديد في ألحانه. ثم ان ام كلثوم اذا تعاونت مع عبدالوهاب وغنت من ألحانه، فسيقول الناس إنه قد «لفّها» وباتت مجرد مطربة تدور في فلكه، مثلها مثل ليلى مراد ونور الهدى وراقية ابراهيم وسواهن من المطربات اللواتي ارتبطت اسماؤهن بعبدالوهاب وأصبحن من مغنياته، أو من مغنيات الحانه، وما هكذا حال أم كلثوم مع الملحنين الذين لحنوا لها، مثل السنباطي وزكريا أحمد والقصبجي. فهؤلاء كانوا ملحنين كلثوميين أو عاملين في مؤسسة فنية هي مؤسسة أم كلثوم. وما هكذا حال ام كلثوم مع عبدالوهاب اذا غنت من الحانه. فعندها ستصبح مجرد مغنية في مؤسسته هو، وهي مؤسسة راسخة لها هالة تاريخية اسطورية. كما ان الكثير من اشاعات هذا الملحن الكبير ستتسرب إلى الكلثومية وقد تسيء إليها. وعندها ستفقد هذه الكلثومية نكهتها، أو مذاقها الذي عرفت به، والمختلف اختلافاً تاماً عن نكهة أو مذاق الوهابية المعروف. فاي مصلحة ستجنيها ام كلثوم من قيام تعاون فني بينها وبين عبدالوهاب في حين أنها متربعة على قمتها العالية منذ سنوات بعيدة، وهي قمة يعترف الجميع، بمن فيهم عبدالوهاب برفعة شأنها وجلال اهميتها في تاريخ الفن العربي في القرن العشرين.
لكن على الرغم من وجاهة هذا المنطق لدى الكلثوميين، فان منطقاً آخر ساد في النهاية هو منطق اللقاء والوحدة التي نصح به، او امر، جمال عبدالناصر ومعه عبدالحكيم عامر، كان عبدالناصر كثيرا، ما يقيم مآدب لتكريم رؤساء اجانب يزورون مصر.
وفي هذه المآدب كان عبدالناصر يجلس ام كلثوم الى يمينه وعبدالوهاب الى شماله، وكان المشير عبدالحكيم عامر يحضر هذه المآدب ومنها مأدبة اقامها عبدالناصر على شرف هيلاسلاسي امبراطور الحبشة.
وفي هذه المأدبة، وفي مآدب اخرى مشابهة، كان عبدالناصر يقول: «يا جماعة احنا عايزين نسمح حاجة منكو انتو الاثنين»، فاذا التفت الى ام كلثوم ليسمع رأيها او جوابها، كانت تقول: يا اخويا وانا مالي قل له اي لعبدالوهاب، اما عبدالوهاب فكان يرد: «حاضر يا افندم ان شاء الله بس لما نلاقي كلام»، اي عندما يجد النص المناسب.
ولكن هذا الطلب من عبدالناصر لم يتحقق بسرعة، فاذا كان عبدالناصر قد افصح عنه في عام 1953 وما يليه، فقد استلزم تحقيقه اكثر من عشر سنوات، استلزم اعادة هذا الطلب مرارا عليهما، ففي كل مرة كان عبدالناصر يلتقي بهما يكرر الطلب ويلح عليه.
ويقول عبدالوهاب انه لم يكن لديه استعداد قبل الحاح عبدالناصر عليه للسير في هذا الموضوع، لقد تردد لاكثر من سبب، كان من رأيه انه لن يصنع شيئاً ذا شأن اذا اكتفى بالتنويع على الألحان الكلثومية المعروفة، فهو لن يكون عندها عبدالوهاب الذي يعرفه الناس.
ثم انه اذا كان نفسه، ولحن لها الالحان التي تروق له، فقد لا تروق هذه الالحان لها، فقط تطلب هي تغيير هذا اللحن، او هذا الجزء من اللحن، فما الذي سيكون عليه موقفه؟ ان تاريخ أم كلثوم مع الملحنين (ومع الشعراء ايضاً) تاريخ دكتاتوري بوجه عام، فملحنها يجب ان يكون تحت امرها، تأمر فيطيع، او ان عليه ان يطيع، ولم يجد عبدالوهاب في نفسه «الكفاءة» ليكون هذا الملحن.
الى ان كان ذات يوم جالساً يلحن قصيدة لاحمد شفيق كامل مطلعها، «شوقوني عينيك لايامي اللي راحوا»، وخلال تلك الجلسة يزوره احمد الحفناوي الكمنجاتي المشهور الذي كان احد اعضاء فرقة ام كلثوم (قبل ان يرأس هذه الفرقة) ويسأله عن اللحن الذي يعمل عليه، ومن كلمة الى اخرى يقول الحفناوي: طيب مادي تنفع لام كلثوم، فيرد عبدالوهاب: «لا تنفع ولا حاجة»..
بعد ذلك بقليل يدق التلفون في بيت عبدالوهاب، وعلى الطرف الآخر منه أم كلثوم تطلع عبدالوهاب على ما اخبرها به الحفناوي، وهو أن هناك نصا أو لحنا أو أغنية يمكن أن تغنيها: «الحفناوي بيقول انك أنت عامل حاجة كده يعني كويسة عشاني وبتاع».. قلت لها: يا سلام كل حاجة عشانك لكن يعني ما انكرش عليك لا. انا ما عملتهاشي، قاصد انا بعملها كده، يمكن هو شاف، توسم.. قالت لي: طيب ما نسمع، قلت لها طيب نسمع. قالت: تحب اجيلك في يوم كده. أنا أروح لك. ح تجيلي ليه أنا ما عنديش عود. العود بتاعي ملخبط، أنا اجيلك، انت عندك عود. قلت لها: طب تعالي فجت».
خلاف بين عملاقين
في اليوم نفسه تزور أم كلثوم عبدالوهاب في منزله وتستمع إلى ما كان عبدالوهاب قد لحنه من الأغنية وتسأل عن اسم المؤلف. يحضر المؤلف فيما بعد ليغير في بعض الكلمات «شوّقوني» على سبيل المثال أصبحت «رجّعوني» لأسباب شرحها عبدالوهاب فيما بعد.
طبعا تدخلت أم كلثوم أكثر من مرة في لحن هذا «الكوبليه» أو في لحن سواه. وتدخلت في مسألة «الغيتار» الذي ادخله عبدالوهاب. قالت أم كثلوم ان صوت العود يمكن ان يحل محله. قال عبدالوهاب: العود من فصيلة الغيتار، لكن الكمنجة ايضا من فصيلة الآلات الوترية.. انما هناك كمنجة وشلو وفيولا وكونترباص.. الصوت يتغير عندما اضرب انا على العود ضربة وأضرب على الغيتار ضربة.
لحل هذه المشكلة اقترحت أم كلثوم الاستعانة بمحمد القصبجي لاستطلاع رأيه. قال لها عبدالوهاب ان القصبجي استاذه في العود ولا مانع عنده بالطبع. كان عبدالوهاب يعرف أن القصبجي لن يضيق صدره بالغيتار، فهو ملحن معروف بنزعته التجديدية ومواكب دائم للتطور.
يحضر القصبجي ليتولى دور الحكم في الخلاف الناشب بين العملاقين حول الغيتار وامكان استبداله بالعود.. ثم يحضر عازف آخر في فرقة ام كلثوم اسمه خيري عبدالفتاح، وهو غاوي غيتار «بيضرب كمنجة لكنه يهوى الغيتار»، جيت علّمته الحتة وحفظها. وقلت لام كلثوم: أناعاوز أجيب لك عبدالفتاح خيري وتسمعيها منه. قالت لي: طيب ما فيش مانع. فجبت أنا عبدالفتاح خيري ورحنا، قعدت هي وحطّت ايدها على راسها كده وقامت قالت لي كمان مرة. قالت تاني كمان مرة. بقوا ثلاث مرات. قالت لي: طيب أنا قبلت، وقالت لي حتى بالفرنساوي: عندك كارت بلانش تعمل زي ما أنت عاوز. قلت لها: «ربنا يخليكي ويطول عمرك أهو ده اللي احنا عاوزينا»!
تردد وخوف من اللقاء
من رواية عبدالوهاب هذه نستنتج بما لا يقبل الجدل، انه لم يسع إلى هذا اللقاء، بل تردد كثيراً، ولسنوات طويلة. لقد كان يعرف ان لهذا اللقاء ثمنه، وان له ايجابياته وسلبياته. فقد ينجح وقد لا ينجح. وإذا فشل ستقول أم كلثوم، كما يقول كل الناس، ان عبدالوهاب كانت له مقاصده في ذلك، ومن أسباب تردد عبدالوهاب ما كان يعرفه مسبقاً عن نزعتها الاستبدادية في علاقتها مع ملحنيها، ومع شعرائها أيضاً. لقد أنف من ان تعامله «الست» كما لو أنه مجرد ملحن من جماعة الملحنين، تطلب منه هذا وترفض ذاك، فلا يملك الملحن سوى الانصياع لطلباتها أو لرغباتها. فعبدالوهاب ليس مجرد ملحن كهولاء الملحنين، بل هو ملحن يلحن نصا يُفترض ان يغنيه المغني، كما وصل إليه من هذا الملحن، وليس غير ذلك. أما ام كلثوم فستتدخل في اللحن، وفي الآلات الموسيقية، كما حصل، وستقترح وسترفض. وهو ما كان عبدالوهاب بغنى عنه. لقد كان يحترم أم كلثوم كثيراً ويقدّر صوتها. ومن يراجع رأيه فيها على امتداد تاريخها الفني يجد أنه يتحدث عنها باكبار شديد. ثمة عظيم يتحدث عن عظيم آخر. ولكنه أراد ان ينأى بنفسه عن خوض تجربة مثيرة قد تحمل له مفاجآت مختلفة ليست كلها سعيدة. وها نحن اليوم، وبعد مرور حوالي نصف قرن على هذا اللقاء بين القمتين، نجد أن اصداءه لم تكن كلها ايجابية. فالكثير من النقاد قالوا ان نتيجة هذا التعاون بينهما لم تكن مثالية.
ولكن لاشك ان كما كبيرا من الاخلاص الفني قد رافق هذا التعاون الذي تأخر بنظر الكثيرين، لأنه كان من المفترض ان يحصل منذ أواخر العشرينات. لكن الرياح كثيراً تجري بما لا تشتهي السفن. فلا ننسى ان مركزي قوى قد نشآ منذ تلك الفترة في الفن العربي المعاصر هما عبدالوهاب وأم كلثوم، وانه وجد على الدوام من حرض كلا منهما على «الاستقلال» و«السيادة»، وكأن في لقائهما ما يخفض من شأن أحدهما، وهو هنا أم كلثوم، وما يُعلي من شأن الآخر، وهو هنا عبدالوهاب.
لقاء فني تاريخي
كان لقاء القمتين في «إنت عمري» لقاء فنياً تاريخياً بالفعل. فنانان كبيران بسط كل منهما نفوذه على عصره لسنوات طويلة ولكن دون ان يلتقي احدهما بالآخر، عبر تلك السنوات الطويلة. فجأة حصل هذا اللقاء بعد ان سمحت ظروفه، وبعد ان اطمأن كلٌّ منهما الى صاحبه، والى انه – على الخصوص – لم يكن هناك ما يستدعي نظرية التآمر او المؤامرة. كان كل منهما في ذروة مجده الفني، ومع ذلك فقد كانت هناك حالة من التهيب سيطرت عليهما.
روى احمد عبدالوهاب، النجل الاصغر للموسيقار نص حوار دار بين والده وام كلثوم في البروة النهائية للحن، قال فيه عبدالوهاب لام كلثوم: «انا رصيدي الفني كله بين يديك. الآن، فإما ان تصعدي به الى السماء، واما ان تنزلي به الى الارض..
انتفضت ام كلثوم لسماع هذا الكلام من عبدالوهاب وبادرته بالقول مستنكرة: ماذا تقول؟ انت دخلت التاريخ بألحانك. اما انا فمغنية تردّد الالحان، يحبها الناس الآن، ولكن لا ادري الى متى بعد رحيلي..
ومغزى هذه الحكاية كبير في مجال القلق الفني العظيم، وكذلك في مجال التواضع الفني العظيم لدى الفنانين الكبيرين.