الأغنية الكويتية
بقلم الفنان د/ يوسف دوخى

شهدت الأنطلاقة الفنية الكويتية فى السنوات الأخيرة ، نهضة موسيقية شاملة أخذت تزخر بوضوح على يد عدد من الفنانين المحليين الملمين بالتراث والعراقة الفنية الشعبية المتطورة .
ولقد أحدث هذا التطور الكبير إرتياحاً بالغاً بين المهتمين بشئون فن الموسيقى والغناء ، خاصة وان مثل هذا التطور الذى طرأ على الأغنية الكويتية كان من الأمور العسيرة التى واجهت الأغنية فى بداية مراحلها الأولية ، إلا أن التغلب على الصعاب التى أخذت تنوء تحت وطأة ثقل تمهيد الطريق بالانفتاح نحو الأغنية الشعبية القديمة ، وذلك ما يسر على الفنانين إختصار الطريق بتقييم عناصر الأغنية وتصنيف مبدئها وظروف مناسابتها على أساس من الموضوعات الشعبية وربطها بعناصر جديدة تتمشى مع طراز فن الأغنية والنهضة الحديثة المتطورة .
كذلك أدرك الفنانون الكويتيون الأهمية البالغة لدراسة أسس الأغنية الشعبية وتذوقها كتراث ثم فهم ما يراد منها وذلك تبعاً للظروف الفنية والبيئة الاجتماعية ، وليكون هناك رابطاً كاملاً متكاملاً بين هذا التراث الكويتى العريق وما تصبو اليه النهضة الحالية من تطور منتظر .
فكانت الانطلاقة منذ مبدأ الأغنية الشعبية ، عبارة عن نذير أخذ يبشر بتقدم الأغنية الكويتية الشعبية ، على أساس من العلم والمعرفة والخبرة ، ساعدت على نشر الوان من الفنون الشعبية المختلفة ، والانطلاق بها من مجال الوحدة الفنية الانعزالية ، الى مجال الوحدة الاندماجية المنطلقة فى الوطن العربى الكبير ، مسايرة بذلك التطور ، لتلتقى بتراثها الفنى والادبى والحاجة الملحة لتلبية رغبات الفن والمجتمع فى آن واحد ، ومما ساعد على انتشار الفن الشعبى الكويتى وتقبله ، رغبة الجماهير المتذوقة لفن الموسيقى ومواصلة التشجيع للتنقيب عما يفيد هذا المنطلق وقيمته الوراثية فكانت هذه دعامة من دعائم الجهد الذى أخذ بالانتشار ، مما جعل لتضافر الجهود الفنية والجماهيرية اثراً بالغاً على تقدم الفن وتطوره فى شتى المجالات علاوة على ذلك ما تبذله الجهات المسئولة لاتاحة الفرصة للفرق الشعبية للحفاظ على تراثها وتسجيل ما لديها من مواد مختلفة ، لتكون نبراساً يهتدى به ، ولربط الماضى بالحاضر ، وبذور الحاضر بالمستقبل عن طريق الدراسات الكلاسيكية فالمذهب المنهجى للموسيقى ودراستها وتدريسها للمدى القريب والبعيد لتكون حافزاً للتقدم من خلال افضل الطرق الممكنة .
هذا اذا ما نظرنا الى ما يصنعه الفنانون أنفسهم خدمة للبعض بالمشاركة الفعلية لرفع مستوى الأغنية ، لعرفنا مدى التعاون الفعلى لخدمة الاغنية الجماعية وأثر تقدمها وانطباعاتها على المجتمع الكويتى .
وهذا ما عملت لأجله جمعية الفنانين الكويتيين بشحذ الهمم وفتح مصاريع ابوابها لكل صاحب موهبة او حفظت التراث من الفنانين ، فرق شعبية بحرية ، وفرق برية وفرق نسائية ، بجانب رعاية وزارة الشئون لكافة الفرق وتسجيل مهام أمورها والاغداق عليها بسخاء بغية ممارسة حفظ التراث واستمراره وما تقدمه وزارة الاعلام بحرصها الدائب لاتاحة الفرصة لكل ما امكن تسجيله من فنون شعبية كويتية كلاسيكية متوارثة .
ليس ادل على ذلك من تلك المكتبات المنوطة بالتراث الشعبى فى مؤسسة الفنون والمسرح والاذاعة وجمعية الفنانين ، وهى تقدم تجاوباً منها لرفع مستوى الفن الشعبى وتطوره ، هذا بجانب ما يمتلكه خاصة الفنانين من مكتبات أدبية وفنية ساعدت فى كثير من الاحوال فى تطور الاغنية الشعبية .
فمن خلال تضافر الجهود الفنية وربط حاضر الاغنية بماضيها العريق ، بدأت تخرج الاغنية الشعبية الكويتية بأروع ما يمكن ان تقدمه من أغان دينية ، وعاطفية ، وقومية محتفظة بنغماتها وتقاليدها المختلفة فى العراقة البدوية والاصالة البحرية .
وذا اردنا ان نعرف شيئاً عن الاغنية الكويتية ، فأول ما نلاحظه عدم خضوعها لأية مؤثرات أجنبية ، فى الوقت الذى لا تختلف فيه اختلافاً مبيناً عن الاغنية العربية من حيث صياغها وتعاقب صدور أنغامها الخاطفة لعدد من المقامات العربية الشرقية الأصيلة مع ارتباط طابعها الخاص بالاغنية البحرية والاغنية العربية البدوية القديمة ، وباعتمادها على الايقاعات الكويتية الخاصة - الهارمونى الايقاعى - بجانب التصفيق والذى هو أهم عنصر من العناصر الاغنية الكويتية الشعبية الصحيحة .
وفيما يتعلق بهذه الايقاعات فهى كثيرة جداً ، وهناك 94 ايقاعاً كل منها يكون الاساس لعدد من المشتقات الاخرى ، كاشتقاق الوزن الواحد الى اربعة ضروب متداخلة مع بعضها البعض تداخلاً تاماً منسقاً ، وهو نوع شائع الاستعمال فى الاغنية الكويتية للتعبير عما يعرف بتعدد الايقاع .
ايطار الوزن الواحد ، هذا فى الوقت الذى تصل فيه الضروب الى ثلاثة عشر ايقاعاً باختلاف الضربات المواكبة ، واخضاعها للتنوع والزخرفة من عازف لآخر ضمن قيمة الوزن ، وذلك بجانب التصفيق المزخرف المعروف فى تلك الاغانى والالحان الخاصة بغناء البحر التى تعد مظهراً من مظاهر الاغنية الكويتية العريقة .
فمن خلال هذه الايقاعات الشعبية المتعددة واستخدام اقوال الالحان ، وبمساندة التراكيب الفنية المتطورة ، تمكن الفنانون بالمساهمة بالدور البارز فى تنمية الاغنية باختيار موضوعات الكلمة واللحن الموسيقى فى حدود الغناء الجماعى الذى تميزت به الالحان والاغانى الكويتية المختلفة .
ومن اهم ما تميزت به الكويت من آلات مستخدمة فى الغناء الشعبى القديم ، الطبول بجميع انواعها ، مثل طبول الدمام ، وطبول التخمير ، وطبول التغريد ، وطبول الترويس ، والطبول النصفية اى مايعادل حجمها نصف طبول التخمير من حيث الحجم والجهارة ، و (الطارات) الدفوف ، واغانى البدو والبحارة عامة تستخدم جميع انواع هذه الآلات الموقعة ، بجانب بعض الادوات المنزلية مثل (الحجلة) زير الماء (والهاون) الهونه النحاس ، وهذه ايقاعات اساسية لاغنى عنها فى أغانى البحر بجانب التصفيق لنوع من الايقاع بكافة انواعه الزخرفية و (المنحاز) وعاء كبير من الخشب على هيئة شكل الهاون تستخدمه النساء كقاعدة ايقاعية ثابتة بجانب الطبول والدفوف والتصفيق فى بعض الاغانى الشعبية .
أما ما عرفته الكويت من آلات موسيقية شعبية قديمة ، منها آلة العود والصرناى ، والماصول والهبان ، والطنبورة ، والربابة ، والسمسمية ، وان كان استعمالها قاصراً على مناسبات خاصة كغيرها من الآلات الغير مستحبة فى الغناء الشعبى الكويتى القديم مثل آلة القانون والرق والكمان والناى والتى تعتبر من الآلات الحديثة التى ادخلت على الاغنية الشعبية بجانب الآلات الاخرى المتطورة ، مثل آلة الكونترباص والفينولنسيل وآلات النفخ النحاسية ، هذا مع احتفاظ بعض الاغانى بطابعها الخاص الغير قابل للتطور بجانب الرقص الكلاسيكى والذى اعتمدت عليه بعض الفرق الشعبية المتوارثة لهذا النوع من الرقص والغناء منذ بداية مراحله الاولية .
والرقص الكويتى الشعبى بمختلف أشكاله المتنوعة لا يتجزأ من حياة البداوة المتأصلة ، باعتباره عنصراً هاماً من حياة البيئة الشعبية وارتباطها برقص البداوة عن طريق الغناء الجماعى المستمد من تلك الحياة الممارسة فى الخلاء من خلال رقصات الافراح والمناسبات البدوية القديمة كرقصة العرضة البرية والفريسنى والسامرى ورقصات البدو والصلب وغير ذلك من رقصات القادرى والطنبورة ، وهى تجمع بين التمثيل والغناء بتنظيم حركة القدمين والاشارة باليدين والتمايل يمنة ويسرة وضرب القدم على الأرض بايقاع موحد وثابت الحركة وبانطباع هذه الرقصات وانعكاساتها على رقصات البحر مع اختلاف اساليبها وتنظيم حركتها بأساليب تقليدية مغايرة تتماشى مع حياة البحر وانعكاس الكرة المراد التعبير عنها بحركات تتوافق مع الغناء بأنماط كلاسيكية معقدة ، كالرقص فى غناء العرضة البحرية والمجيلسى والخمارى والفجرى والسنقنى ، وغير ذلك من رقصات كثيرة ، وما نوهنا عنه فى اختلاف دروب الايقاع وارتبط كل منها بحركات تقليدية تتفق وقياسها الزمنى المعبر عن صيحات الحروب ، وصيحات البحر واستخداما لآلات المصاحبة للتصفيق المزخرف فى الاغنية البدوية والبحرية .
وفيما يختص بالمبادئ الاساسية للكلمة فقد أدت الاغنية الشعبية دورها على أساس من المبادئ التقليدية وتنميتها علاوة على المحافظة للاساليب المتبعة فبحدود ما يتطلبه الغناء من اداء لحنى لا تتعدى فيه الصياغة الادبية والموسيقية اكثر من اداء مذهب الاغنية بمصاحبة اداء المغنى لترديد اشتقاق مذهب الغناء وتحويره للاداء الملائم فى الصياغة الفنية لغناء الشطرات التالية فى التتابع اللحنى (الكوبليه) وتكراره باسلوب يتمشى مع قواعد اللفظ العربى والبدوى والبحرى مع مراعاة ما يتطلبه اداء الاغنية من وقت لا يزيد فى الغالب اكثر من خمس دقائق محددة فى كثيرمن الاحيان وذلك وفقاً لادب الغناء فى العصر الحديث .
هذا فى الوقت الذى تقوم فيه المحاولات حالياً بصورة جدية لفتح آفاقاً جديدة لصور اخرى مشابهة للموسيقى الصامتة لتشمل بقية الايقاعات والفنون الشعبية ولتساهم فى خلق تركيب قالب موسيقى متطور يساير النهضة الحديثة فى الرقص والغناء وغير ذلك من أوجه النشاطات الغنائية المستمدة من البيئة الكويتية والفنون الشعبية المحلية العريقة.
ومن هذا وذاك يتبين بجلاء ان هناك حركة فنية واسعة الآفاق تظهر من خلالها جميع التضاريس الموسيقية قديمها وحديثها من أعمق أعماق البحار حتى سطحها لتظهر جميع أسرار وخبايا هذا الفن المتأصل فى نفسية الشعب الكويتى العريق فى ماضيه وحاضره ومستقبله .
(عن المجلة الموسيقية القاهرية - العدد الثانى فبراير 1974م )
__________________
أنِ على العَهْدَ وأنْ طال بى أمَدِ
وحَقَّ من عَلَّمَ الإنسان بِالقَلَمِ