عَرَّفَنِي صديقي بحاله، وكنت أراه دائما وأعرفه جيدا.
نفس الابتسامة التي تلاحق شفتيه، ونفس النظرة التي لا تعي من الدنيا إلا أبجديتها الأولى، ونفس أكياس المناديل الورقية المحمولة على كفه الصغير.
هو هو في كل يوم أمام باب الجامعة مرددًا عبارته المأكولة من لَثْغَتِهِ الطفولية: " ساعديني والنبي يا أبلة ".
لعل هذه العبارة هي آخر أو أول ما تعلمه من أبيه قبل أن يكله إلى الرصيف؛ محاولا التخفيف من فقره وعجزه، فعاد الصغير محملا بحياته وحده تلمع في عينيه نظرة الموت الذي ولد على فراشه حين فقد أمه قبل أن يتحصل عليها. بالتأكيد لا يذكر شيئا عن هذا اليوم، ولا أظن أن هناك من حاول إخباره بتفاصيله أو تذكيره بها، فربما – جميعا – سبقوها إلى الله أو – جميعا – سبقوه إلى افتراش الأرصفة، وصعب على الأرصفة أن تلتقي.
كان صديقي دائما يتجنب العبور من جواره، أو يحاول أن يكتم غيظه كلما اصطدم برائحة ثيابه القذرة إذا حاول الصغير الاقتراب منه مستجديا عطفه من أجل جنيه واحد أو حتى ربع جنيه. وكان صديقي دائما يحاول أن يبرهن على وطنيته واهتمامه بمستقبل بلاده الحبيبة – رافعا حاجبا، ومحركا إصبعه الممدود من طرف خفي نحو الصغير – قائلا:
"إن مساعدة هؤلاء جريمة في حق الوطن وفي حق المستقبل."
"إذا أعطيته مليما واحدا فسوف يعتاد على ذلك."
"إياك أن تساعد هؤلاء".
وجدت الأمر مضحكا جدا؛ فحاضري الذي باع هؤلاء ينتظر من مستقبله أن يُزْهِرَ بهم، ولكن بشرط أن لا نساعدهم على ما هم فيه.
نَفَضْتُ كلام صديقي جانبا، وتحسست جيبي لأخرج ما تيسر من أموالي لأحاول أن أرتكب هذه الجريمة في حق الوطن ومستقبله، فصدمتني هذه العملة المعدنية المثقوبة التي تقبع وحيدة في جيبي معلنة أن هذا هو آخر أيام الشهر الذي سيسعدني فيه الحظ بالتعلق بأحد "الأتوبيسات" في طريقي إلى المنزل.
ولحظتها فقط دَقَّ في قلبي هذا الشعور المريح بعد أن قررت تحمل أمانة المحافظة على أمن واستقرار بلادي، وأسرعت نحو محطة الأتوبيس منتشيًا بترديد صدى السلام الوطني.