عرض مشاركة واحدة
  #30  
قديم 11/11/2008, 10h36
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي

(6)

العودة إلى أرض مكه

@ أربعون يوما مضت والقافلة لا تزال ماضية فى رحلتها .. إلى أن ظهرت أخيرا جبال مكة الشامخة بألوانها السوداء والبيضاء والحمراء .. وهى تنحدر بشدة ناحية الساحل ...
إستأنف عبيد الله الأزدى قائلا .......
ــ لم تمض غير شهور قليله على أبى حنيفه بعد هذه الواقعه .. إلا وتملكه الضعف واشتد عليه المرض وغدا طريح الفراش .. غير قادر على الحركه .. ظل على تلك الحال إلى أن لقى ربه راضيا مرضيا .. كان ذلك فى آخر ليلة من شهر رجب .. من العام قبل الماضى يا ابنتى ...
شرع ببصره إلى السماء وأردف فى نبرات تنبض بالأسى والمراره .......
ــ كان يوما مشهودا من أيام بغداد .. كنت هناك .. أقوم بشراء بعض البضائع لدكان العطارة .. وشهدت جنازته .. كان الناس يتدافعون ويأتون من كل حدب وصوب .. للصلاة على جثمانه الطاهر .. بلغ من شدة زحامهم وإصرارهم جميعا على الصلاة عليه .. أن صلوا عليه ست مرات .. جماعة بعد أخرى يتقدمهم الخليفة المنصور بنفسه والأسى يغمره .. إيــــه رحمه الله رحمة واسعه ...
كانت أم حبيبه تعطيه سمعها .. غير أنها بدت شاردة الفكر وكأنها تتذكر أمرا .. ثم فاجأت أباها متسائلة فى دهشة واستغراب .......
ــ قلت يا أبت إنه مات .. فى الليلة الأخيرة من شهر رجب .. فى العام قبل الماضى ؟!..
ــ أجل يا ابنتى أجل .. لكن فيم السؤال ؟!..
لم تجبه على سؤاله كأنها لم تسمعه .. وأخذت تحدث نفسها قائلة فى صوت هامس .......
ــ يموت عالم ويولد عالم .. تماما .. كما قال إدريس .. عندما عبر لى الرؤيــا !..
ــ لم تجيبى على سؤالى يا ابنتى .. وأسمعك تقولين كلاما .. لا أفهم منه شيئا ...
ــ آه يا أبى .. آه .. الآن .. أجل الآن .. سأقص عليك كل شئ ...
أخذت تقص عليه رؤياها التى رأتها قبل عامين .. وكيف عبرها زوجها الراحل .. ظلوا يتداولون فى أمرها .. إلى أن دخلت القافلة أرض مكه .. توجه الأب وابنته من فورهما إلى دارهم بشعب الخيف .. كان الأهل جميعا فى انتظارهم .. والتقى الأحباب بالعناق والدموع .. وانتظم الشمل مرة ثانيه ...
...............

@ حول من الزمان مضى على الأم وولدها .. كأنه يوما أو بعض يوم .. منذ وصولهما من ديار غزة إلى دار العائلة بشعب الخيف فى بطن مكه .. عاشت بين أهلها .. تبذل قصارى جهدها وتهب عصارة أيام عمرها .. لوحيدها وثمرة أحشائها .. وهى ترى فى ملامحه صورة زوجها الراحل .. وتنتشق منه عبير ذكرياتها معه .. لقد أخذ الإبن كثيرا من سمات أبيه الوادعة الحانية .. ومن ملامحه أمارات الطيبة الصافية الرائقه .. مرات كثيرة كان يحلو لها أن تنفرد بنفسها .. ترخى لجواد خيالها العنان .. فاتحة خزانة ذكريات الزمن الماضى القريب وأياما خواليا.. مستحضرة فى مخيلتها صورة زوجها إدريس .. تتذكر وتسترجع أيامها ولياليها التى عاشتها معه .. تظهر صورته الوادعة فى بؤرة حدقة عين خيالها .. فتندفع بعض الزفرات الحرى من صدرها .. وتنهمر بعض العبرات رغما عنها .. تمسحها براحة يدها فى صمت .. قبل أن تعود سيرتها الأولى وهى ترهف أسماعها لرجع صدى أحاديثه فيما مضى من سنوات .. وترى طيف خياله كأنه حاضر معها بشحمه ولحمه ...
تذكرت لحظة أن وقعت عينيها عليه أول مرة رأته فيها .. حدث ذلك عندما جاء إلى دار أبيها الأزدى .. برفقة والده العباس طالبا الزواج منها .. سمحت لنفسها فى ذلك اليوم .. أن تتسلل فى خفة لتختلس نظرة سريعة إليه من وراء ستار .. لم تكن لها سابقة معرفة به من قبل .. منذ اللحظة الأولى التى وقعت عيناها عليه .. ملك عليها فؤادها .. ووجد طريقه ممهدا إلى شغاف قلبها .. بهرتها واستولت على مشاعرها .. شعاعات الطيبة والوداعة التى كانت تنبعث من شمس ذاته الدافئة وروحه الصافية البريئه .. شعرت لحظتها أن صاحب هذا الجسد النحيل الضامر .. وهذا الوجه العربى الأصيل الذى زاده الإسمرار حسنا وبهاء .. ينطوى باطنه مع تواضع ظاهره على جوهرة نفيسة ودرة يتيمة غاليه .. وإنسانا يحمل فى داخله أصالة أجداده العظام .. وشرفهم الرفيع ومنزلتهم السامقه ...
لم تر منه طوال حياتها معه .. إلا صورة وحقيقة الإنسان الطيب السمح .. الذى لا يثور ولا يغضب إلا لماما .. عرفت معه معنى الرضى بروح النعم التى أنعم الله بها عليهما .. وليس مقدارها أو قيمتها إذا قيست فى عالم المادة الفانى .. ومع تتابع المرائى والذكريات على مخيلتها .. لم تستطع مقاومة ابتسامة طفت رغما عنها .. فوق ساحل بحر الذكريات والأحزان وهى تتذكر المرة الوحيدة التى رأته غاضبا عليها .. واحتد فيها وعنفها قبل أن يفئ سريعا إلى وداعته وسماحته .. حدث ذلك أثناء إقامتهما فى غزه .. عندما كانت فى شهر حملها الأخير .. إعتادت ألا تجعله يراها تمارس الأعمال الشاقة .. حتى لا تثير غضبه .. دخل عليها ذات مره على حين غفلة منها .. فوجدها تكابد الرحى وهى تطحن عليها حفنة من الشعير لإعداد الخبز .. متناسية أنه نبه عليها مرارا ألا تجلس إلى الرحى أبدا .. أو تكابد أى مشقة حرصا على صحتها وضعفها .. وعلى الجنين الذى تحمله فى أحشائها .. كانت تلك هى المرة الوحيدة التى ثار فيها غاضبا .. ولم يسكت عنه الغضب إلا بعد أن وعدته .. مؤكدة أنها لن تعد مرة ثانيه ...
تذكرت أيام عمرها التى عاشتها معه فى ربوع غزة .. مع أهلها وبين جيرانهم الطيبين .. تضمهما معا تلك الدار الصغيرة التى كانت رغم ضيقها .. رحبة واسعة من فيض المودة والرحمة التى ملأت كل شبر فيها .. تماما .. كما أخبر فتية الكهف عن كهفهم الضيق المعتم .. أن ربهم سينشر لهم فيه من رحمته .. ويهيئ لهم من أمرهم مرفقا .. كم كانت تحبه وتتمنى أن يبقى معها حتى آخر العمر .. يشاركها رحلة الحياة بحلوها ومرها .. ويرى بعيني رأسهتحقيق رؤياها التى عبرها لها وبشرها فيها بأعظم بشرى .. ويشاهد أمنيته الغالية وهى تتحقق يوما .. تغدو حقيقة مشرقة أمام عينيه تدب على أرض الحقيقة والواقع .. بعد أن كانت صورة شاحبة فى عالم الخيال ...
ولدها محمد .. أين هو !.. أخذت تتلفت حولها باحثة عنه .. ها هو ذا يحاول أن يخطو على قدميه الصغيريتين .. مرتكنا على حائط الدار وهو يتعثر خطواته الأولى .. يقع على أرض الدار فتندفع إليه واجفة .. تضمه فى حنان إلى صدرها .. تملأ عينيها الدامعتين منه بعد أن تطبع قبلة على جبينه .. ثم تعود إلى متابعة شريط ذكرياتها مرة أخرى ..
لن تنسى أبدا تلك المرات الكثيرة التى كان فيها إدريس .. يتسلل حثيثا من فراشه فى جوف الليل مجتهدا ألا تراه أو تشعر به .. ثم يقوم إلى الردهة الخارجية فى الدار .. يظل جالسا وحده طرفا من الليل .. على ضوء مصباح خافت وأمامه كومة كبيرة من الليف وقطع التيل .. يجدلها فى مهارة مستخدما أصابع كلتا يديه ورجليه .. ليصنع بضعة أذرع من الحبال والخيوط والأربطه .. ولا يكف يداه عنها إلا عند سماعه صوت المؤذن وهو يشق سكون الليل مناديا ....... حى على الصلاه حى على الفلاح .. الصلاة خير من النوم .. وفى اليوم التالى يتوجه بما صنعت يداه إلى السوق سعيا على رزقه .. قبل أن يذهب إلى مكان عمله ليبيعها للتجار والصيادين بثمن بخس دراهم معدودة .. حتى يتمكن من توفير القوت الضرورى لهما .. وعلى هذا المنوال استمرت حياته .. لم يكن يطعم فى ليله من النوم إلا أقله .. وكذلك فى النهار لا يجلس خاملا دون عمل أبدا ...
كانت تشعر به فى كل مرة يفعل ذلك .. رغم حرصه دائما على ألا يزعجها أثناء قيامه من فراشه .. أو فى رجوعه إليه مرة أخرى .. متظاهرة والألم يعتصرها أنها مستغرقة فى النوم .. لما تعلمه من ضعف صحته وشحوب وجهه .. حتى لا تزيد من آلامه وأشجانه ومواجيده .. فى يوم رأته وهو يعمل فى النهار بكلتا يديه وقدميه .. تماما كفعل الليل .. وقد بان عليه الإرهاق والتعب .. وغارت عيناه وازداد وجهه شحوبا وذبولا .. أخذت تعاتبه وهى مشفقة عليه وعلى جسده النحيل الذى لا يحتمل كل هذا العناء .. واشتد عتبها عليه ولومها له طالبة منه أن يرفق بنفسه .. إلا أنه رد عليها قائلا والبسمة الحانية لم تغادر شفتيه مواصلا عمله .......
ــ صدقينى يا أزديه .. لذتى وراحتى ونعيمى .. فى هذا الذى تعتقدين أنه تعب وكدح ومشقه .. أما عذابى الحقيقى وشقائى وتعاستى .. فى الفراغ والراحة والخمول ...
ذكريات كثيرة تستهلك أحداثها من عمر الزمان .. ليالى وأيام طويلة طويله .. إلا أنها ترد على باحة الخيال كلمعة بارق خاطف فى جنح الليل البهيم ...

@ فى تلك السنة ذاتها انتقل الخليفة المنصور إلى مقره الجديد .. فى قصر آخر شيده فى مدينة بغداد سماه قصر الذهب .. إعتنى بمبانيه وملحقاته اعتناء كبيرا .. حتى أنه كان يعد فى زمانه تحفة فنية رائعة من تحف فنون العمارة وزخارفها ورونقها .. كان المنصور حريصا وهو يضع تصميمات مبانيه بنفسه .. أن يأمر ببناء مسجد خاص فى واجهته الأماميه .. وفى الناحية القبلية خلف أسواره أقام بيتا كبيرا لصاحب الشرطه وآخر لصاحب الحرس .. وإلى جوارهما دور صغيرة لإقامة الحراس والخدم .. كى يكونوا على مقربة منه عند الحاجة لهم ...
وفى الناحية الشرقية من القصر .. شيد المنصور قصور الأمراء وكبار رجال الدوله وكذلك دواوين الحكم .. وجعل من حولها خندقا عميقا مليئا بالماء يحيط بها من كل ناحية .. حتى يكون آمنا من أى هجوم مفاجئ يقوم به أعداؤه المتربصون له .. وزيادة فى الحرص والأمان بنى من فوق الخندق .. مائة وثلاثا وستون برجا فى كل برج حراسه المناوبون للمراقبة عن بعد ...
وذات يوم شوهد المنصور واقفا فى شرفة هذا القصر .. عاقدا يديه خلف ظهره .. بدا مهموما يكسو وجهه شلال جارف من حزن عميق .. يختفى من تحته بركان غضب عارم ..
أخذ يروح جيئة وذهابا .. بينما عيناه تتطلعان فى ضيق ولهفة والشرر يتطاير منهما إلى ساحة القصر الفسيحة التى تنتهى إلى البوابة الرئيسية للقصر .. منتظرا على أحر من الجمر وصول حاجبه الأول ووزيره الربيع بن يونس .. صاحب الرأى والمشوره وكاتم أسراره ...
كان قد أرسل إليه مع أحد الجلاوزة رسالة عاجلة يطلب إليه الحضور فى الحال .. وأخيرا رآه قادما من بعيد يمشى على عجل فى خطوات متقاربة حتى أنه كاد يتعثر فى عباءته .. صاح به فى صوت غاضب وهو لا يزال واقفا فى مكانه من الشرفه .......
ــ ما الذى أخرك عنى يا أبا الفضل .. ألم يخبرك خادمى أنى أريدك فى التو والحين !.. هيا أسرع وتعال إلى هنا يا رجل !..
لم تمض عليه غير ثوان حتى ولج الباب الكبير فى خطوات سريعه .. ارتقى الدرج وثبا وفى لمح البصر كان قد عبر الردهة إلى الشرفه .. وصوته اللاهث يسبق خطواته .. وقد زاد خوفه تحسبا لما سيقوله له أمير المؤمنين .. فلا علم له حتى هذه اللحظة لسبب استدعائه العاجل .......
ــ خيرا يا أمير المؤمنين .. جئتك من فورى عندما أخبرنى كبير الخدم أنك تريدنى على عجل !..
ــ أى خير .. من أين يا كبير الحجاب !.. ومن حولى كل هذا الغدر وتلك الخسة والخيانه ...
ــ ما هذا الذى تقول يا أمير المؤمنين .. غدر وخسة وخيانه ؟!.. قتل الله عدوك يا مولاى ...
ــ أجل غدر وخسة وخيانه .. إسمع أيها الحاجب ...
ــ أمر مولاى ...
ــ عليك فى التو والحين تنفيذ كل ما آمرك به ...
ــ طوع أمرك ورهن إشارتك يا مولاى ...
ــ إذهب فى الحال إلى ديوان الإنشاء .. خذ معك قائد الشرطة وبعضا من الحراس ...
تملكه خوف شديد وهو يرد متسائلا .......
ــ ديوان الإنشاء !.. لم يا مولاى ؟!..
ــ كى تأتوا بأبى أيوب إلى هنا ...
ــ من ؟. أبو أيوب الموريانى !.. كاتب الديوان ؟!..
ــ ما الذى جرى لك يا كبير الحجاب ؟!.. أجل أبو أيوب كاتب الديوان .. ألم تسمع ؟!..
تساءل الربيع غير مصدق .......
ــ أقبض عليه يا مولاى ؟!..
ــ أجل .. ضعه فى السلاسل والأغلال .. وبعد أن تفرغوا منه .. اقبضوا على أهله وأولاده وألقوهم جميعا فى سجن القتلة والخونه أسفل فناء القصر .. هيا انصرف لتنفيذ ما أمرنا به فى التو والحين ..
إصفر وجه الربيع وسرت فى جسده قشعريرة .. جعلت حروف الكلمات تخرج من فمه واجفة مرتعدة متعثرة .. وقد اصطكت أسنانه وارتعشت ركبتاه حتى أنه كاد يفقد توازنه فرقا وهلعا .......
ــ أبو أيوب .. ولم يا مولاى .. ما الذى فعله هذا الأحمق ؟!..
لم يتمالك نفسه فصرخ فى وجهه قائلا .......
ــ ما خطبك اليوم أيها الحاجب !.. ماذا دهاك ؟!.. أهذا وقت السؤال يا رجل .. قم لما أمرناك به .. وإياك أن تنتظر لحظة واحده ...
لم يجد أمامه إلا أن يغلق فمه .. وقبل أن يستدير خارجا أشار إليه المنصور قائلا فى حدة وحزم .......
ــ إسمع أيها الحاجب الأكبر .. إياك أن تسمح لأحد منهم بالماء أو الطعام قبل أن يقر هذا الخائن بالأماكن التى يخبئ فيها أمواله وثرواته .. بعدها أقتله شر قتله .. إجعل كل طرف من أطرافه فى أحد الخيول الجامحه ثم أطلقها كى تمزقه إربا .. أما أهله وأولاده فاقطعوا أيديهم وأرجلهم قبل أن تقطعوا رقابهم .. وبعد أن تفرغ منهم .. عد إلى هنا مرة أخرى .. لأعرف ما انتهيت إليه ...
شعر بالدنيا تسود أمام عينيه .. وكادت أن تفر من عينيه دمعة حرى .. وهو يحاول يائسا محاولة أخيرة أن يستعطف المنصور .. لمكانة صاحبه أبى أيوب عنده وصداقته له .. إلا أنه صرخ فى وجهه كالأسد الجريح .......
ــ لا شأن لك أنت ولا لغيرك فى هذا .. ليس هذا أوان الشفاعة والرجاء بعد أن حل الغضب وقضى الأمر .. أنت لا تعلم شيئا عما فعله هذا الخائن اللعين .. وعن فداحة ما ارتكبه من جرم فى حقى ...
أردف قائلا بصوت متهدج حزين وهو يغالب البكاء .......
ــ لقد .. لقد قتل ولدى جعفر .. هذا النذل الحقير .. قتل ولدى وفلذة كبدى ...
خرج مسرعا يتكفأ فى ثيابه لا يكاد يرى أمامه .. وقد أخذ الخوف منه مأخذا عظيما .. وهو يتمتم فى نفسه .......
ــ قتل ولده ؟. أى ولد ؟. ما هذه الألغاز والأحاجى التى أستمع إليها .. ما الذى يعنيه أمير المؤمنين بكلامه هذا .. ما هى الحكاية يا ترى ؟!.. ومن يكون جعفر هذا .. أنا لا أعلم أن له ولدا بهذا الإسم .. إننى لم أعد قادرا على فهم أى شئ .. لكن لا مناص من تنفيذ أوامره فى الحال .. وإلا قطع رقبتى أنا الآخر !..

على الفور أخذ وجهته إلى أبى أيوب فى ديوانه .. برفقته قائد الشرطة وعددا من الحراس المسلحين .. لم يكد يراه وسط هذا الجمع حتى اصفر وجهه .. وكاد يسقط مغشيا عليه .. علم أن أمره قد انكشف فأسلم نفسه طواعية إلى الحراس الذين قاموا بالقبض عليه فى غلظة ومهانة .. لا يليقان بمثله من كبار رجال الدولة .. لم يجرؤ الربيع أن يتبادل معه كلمة واحدة .. رغم آصرة الصداقة التى كانت تربطهما .. كان خائفا أن يشى به أحد إلى أمير المؤمنين أو يضعف أمامه ...
إقتاده بعد ذلك إلى ساحة السجن وألقاه هناك فى زنزانة وحده .. أما باقى أهله وأولاده فأودعهم زنازين أخرى .. فعل كل هذا وهو لا يزال فى حيرة من أمره .. وأخيرا يمم شطر داره وقد خارت قواه تماما .. وأخذ منه التعب كل مأخذ .. حتى لم تعد قدماه تقوى على حمله ...
رأته زوجته أم الفضل داخلا عليها وقد تبدلت سحنته وتجهمت أساريره .. نظرت إليه نظرة فاحصة وهى تعقد ما بين حاجبيها فى دهشة .. لاحظت خلالها تغير أحواله وأدركت أن وراءه أمرا خطيرا .. سألته فى إشفاق ولهفة .......
ــ إيه يا أبا الفضل .. ماذا دهاك ؟!.. إنك تبدو متعبا .. الإرهاق ظاهر على قسمات وجهك ...
رد فى نبرة يائسة .......
ــ أجل أجل يا أم الفضل ...
ــ ليس هذا فحسب .. بل وتبدو مهموما أيضا .. ما الأمر يا ترى ؟!..
أشار إليها براحة يده أن تكف عنه لسانها وهو يرد قائلا .......
ــ دعينى ألتقط أنفاسى أولا .. و .. ليتك تأتينى الآن بأى شراب بارد ...
خرجت فى الحال تلبى أمره .. بينما ألقى جسده المنهك على الفراش .. يقلب فى رأسه ما مر به فى يومه هذا من أمور غريبة لا يجد لها تفسيرا .. أسرعت إليه بكوب الشراب .. بعد أن تناوله منها ازدرده فى جوفه على عجل .. ثم أخذ يحدثها بما كان من أمره مع الخليفة المنصور وصديقه كاتب الديوان الأكبر .. وما مر به من أحداث كلها أحاجى فى هذا اليوم العصيب .. أخذت تستمع إليه ذاهلة لا تكاد تصدق ما يقول .. بعد أن انتهى من حديثه .. سألها عن ولده الفضل الذى صار له من العمر سبع سنوات فقالت .......
ــ خرج إلى درس القرآن منذ الضحى وعاد منه منذ قليل .. لكنى ألاحظ عليه أمرا ترددت أن أفاتحك فيه .. لكثرة مشاغلك ومسؤلياتك الملقاة على عاتقك ...
سكتت فاستحثها متسائلا .......
ــ أى أمر هذا يا أم الفضل ؟!..
ــ لاحظت أنه لا يجيد الحفظ كما ينبغى لأمثاله .. يبدو أن شيخه الذى يذهب إليه فى مسجد بغداد لا يتقن تعليمه !..
ــ صدقت يا أم الفضل .. لاحظت أنا أيضا ذلك .. إنه حتى اليوم لم يحفظ إلا جزءا واحدا من القرآن .. مع أنه كاد أن يكمل نصف العام مع شيخه هذا .. على أية حال بعد أن أنتهى من مشاغلى هذه .. سأضع حلا قاطعا لهذه المسأله ...
ــ هل قررت أمرا معينا بشأنه ؟!..
ــ أجل .. قد أرسله إلى أمير مكة ليدفع به إلى شيخها الكبير ومقرئها الأول إسماعيل بن قسطنطين .. إنه خير من يعلمه ويحفظه القرآن .. ذرينى الآن يا أم الفضل آخذ قسطا من النوم .. لا يزال أمامى اليوم أشغالا كثيره لم أفرغ منها بعد ...
تركها ودخل غرفته .. ألقى جسده المتعب المكدود على سريره وسحب الغطاء عليه .. لم تمض غير لحظات حتى راح يغط فى نوم عميق .. قام بعده أكثر نشاطا وقد زال عنه بعض التعب .. صلى العشاء وارتدى ملابسه وخرج قاصدا قصر الذهب .. حيث يقع السجن أسفل مبانيه ...
@ عبر البوابة الخارجية لقصر الذهب .. سار بضع خطوات أوصلته إلى باب جانبى يفضى إلى درج أسفل القصر .. أخذ يهبطه على مهل إلى أن وصل إلى بوابة السجن الرئيسية .. يتقدمه أحد الحراس حاملا فى يمناه مشعلا ...
ظل يسير متحسسا خطواته فى فناء طويل .. على جانبيه بعض المشاعل التى ينبعث منها ضوء خافت .. أفضى به الفناء فى نهايته إلى درج ضيق .. أخذ يهبطه متأنيا ومن ورائه حامل المشعل .. حتى وصل إلى طرقة طويلة إنتهت به إلى زنزانة شبه مظلمة .. يقف على بابها اثنان من الحراس الأشداء ...
أشار إلى أحدهم بيده فانحنى فى التو ليفتح له الباب .. ما إن تخطاه وتقدم بضع خطوات .. حتى وقعت عيناه على أبى أيوب جالسا القرفصاء فى أحد أركانها .. واضعا رأسه بين كفيه فى مذلة والسلاسل والأغلال فى يديه وقدميه .. لم يتبين ملامح وجهه فى أول الأمر .. وأخيرا رفع السجين رأسه متوجسا على صوت صرير الباب ووقع الأقدام .. كان وجهه يعتصر حزنا وندما .. نظر أمامه فرأى الربيع واقفا يحدجه بنظرات حادة جامده .. وإن لم تخل من بعض الإشفاق والأسى ...
لم يتمالك مشاعره .. أخذته نوبة من البكاء والعويل .. وهو يخفى رأسه بين راحتيه .. بينما جسده يهتز اهتزازا شديدا .. كأنما مسه طائف من الشيطان .. بعد أن هدأ قليلا سأله الربيع .......
ــ ما الذى فعلته أيها البائس .. إننى لم أر أمير المؤمنين حزينا غاضبا كما رأيته صبيحة هذا اليوم الأسود ؟!..
رد قائلا وقد عاوده البكاء والنحيب .......
ــ إنها مصيبة فادحه ...
قاطعه منزعجا .......
ــ مصيبة فادحه ؟!.. أية مصيبة تلك .. تكلم يا رجل ؟!..
ــ أجل مصيبة كبرى .. لكنى لم أكن أعرف .. وأنى لى أن أعرف ذلك السر .. يالى من أحمق غافل !..
عاود سؤاله وقد زادت حيرته وأخذته الشفقة عليه .......
ــ تكلم أيها المسكين .. أخبرنى يا رجل .. أية فعلة شنعاء تلك التى فعلتها .. إننى حتى هذه اللحظة لا أفهم شيئا .. كل ما سمعته هو قول الخليفة أنك قتلت ولده جعفر .. من يكون جعفر هذا ؟!..
رد قائلا وهو يغالب البكاء .......
ــ إنها حكاية طويله .. سأقصها عليك من بدايتها ...
جلس الربيع على حاشية إلى جواره .. وأخذ ينصت إليه وهو يقول .....
ــ منذ خمسة أعوام .. بعد أن أسست ديوان الإنشاء ببغداد .. أعلنت عن حاجة الديوان إلى مساعدين وكتبه .. يكون لديهم دراية وخبرة بمثل هذه الأمور .. أيامها تقدم كثيرون .. إلا أننى اخترت من بينهم خمسه .. كان فيهم شاب من الموصل .. لاحظت فيه الذكاء وتوسمت لديه النبوغ والتفوق .. سألته عن حاله فعلمت منه أنه نال قسطا وافرا من العلوم .. قربته منى وقدمته على إخوانه .. وأصبحت أعتمد عليه كثيرا فى أعمالى .. إلى أن صار مع الأيام ساعدى الأيمن وكاتم أسرار الديوان .. كان يستحق ذلك فعلا ...
قاطعه الربيع قائلا .......
ــ لعلك تقصد ذلك الشاب الذى أراه برفقتك دائما .. أذكر أن اسمه .....
قال ذلك ثم خبط براحة يده على جبهته قائلا كمن تذكر أمرا .......
ــ آه فهمت إنه هو إذن .. هيــــــه .. أكمل أيها البائس المسكين !..
ــ أجل إنه هو تماما .. وذات يوم .. بينما كنت فى ديوان الإنشاء .. إغتنمت فرصة خلو الديوان من الكتبة والخدم .. لم يكن فيه أحد من العاملين إلا أنا وذلك الشاب .. فقلت له ………………
ــ جعفر .. هل انتهيت من نسخ الرسائل التى تبقت من بريد اليوم ؟!..
ــ لم يتبق منها إلا ثلاث رسائل .. معذرة على تأخرى فى نسخها يا سيدى .. البريد كان مزدحما هذا الصباح على غير العاده ...
ــ أعلم يا ولدى .. وماذا عن بريد الأمس .. هل فرغت منه ؟!..
ــ أجل يا سيدى .. إنتهيت من كتابته ومراجعته .. لم يبق إلا وضع الأختام عليه ...
ــ حسن .. حسن ...
ثم أردفت قائلا وأنا أتحسس كلماتى .. بعد أن مرت لحظات من الصمت .. كنت خلالها أرتب أفكارى .. وأتدبر فى روية ما سأقوله .. كان فتى لماحا ذكيا .......
ــ جعفر .. هناك مسألة . أود أن أنبهك إليها .. أنت تعلم كم أحبك .. أجل كم أحبك كإبن من أبنائى .. وتعلم أيضا أننى قدمتك على إخوانك كلهم .. وقربتك منى لنباهتك وفطنتك .. أجل .. أنت تستحق ذلك .. بل أكثر منه و ……
قاطعنى فى حياء .......
ــ شكرا لك يا سيدى على تلك الثقة الغاليه .. أنا لا أؤدى إلا ما هو واجب على مثلى عمله ...
ــ ليتك لا تقاطعنى قبل أن أنتهى من كلامى .. لقد مضى عليك معنا حوالى خمسة أعوام .. منذ أسسنا ديوان الإنشاء ببغداد .. كانت وقتا كافيا أتاح لك أن تطلع على كثير من الأسرار .. وأن تقف على أمور لا علم لأحد بها .. إلا ......
أردفت قائلا وأنا أضغط على كل حرف .......
ــ إلا .. أنت .. وأنا .. حتى أمير المؤمنين المنصور نفسه .. لا يعلم عنها شيئا .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا سيدى .. أعلم ذلك تماما .. وأحسب حسابه جيدا .. لكن .. لكن ما مناسبة هذا الحديث الآن ؟!.. هل أخطأت فى شئ .. أو بدر منى أمرا أغضبك ؟!..
ــ إنتظر .. لا تعجل على .. أنا لا أقصد شيئا مما قد يكون قد جال فى خاطرك .. بل أردت أن أذكرك بأهمية هذه الأسرار .. وضرورة كتمانها وحذرتك بالخصوص من ديوان أمير المؤمنين .. أفهمت يا ولدى ؟!..
ــ نعم يا سيدى أعلم هذا جيدا .. لكن عفوا .. إنى حتى الآن لا أدرى ما الذى ترمى إليه .. من وراء هذا ؟!..
ــ إسمع يا جعفر .. سأكون صريحا معك .. لقد لاحظت أمرا حيرنى كثيرا .. ولم أستطع فهمه .. ولا وجدت له تفسيرا عندى !..
ــ أى أمر هذا يا سيدى .. لقد أثرت مخاوفى والله ؟!..
ــ لاحظت أن أمير المؤمنين .. يختلس النظر إليك .. فى المرات التى كنت أصطحبك فيها عنده .. كان آخرها اليوم .. عندما كنت أعرض عليه البريد .. لاحظت أنه كان يرنو ببصره تجاهك كثيرا .. يبدو أنه مهتم بك لشئ لا أعلم كنهه حتى الآن .. هذا الأمر أثار شكوكى وحرك من مخاوفى !..
ــ من أى شئ يا سيدى .. ليتك تزيدنى إيضاحا ؟!..
ــ خشيت أن يكون فى نيته إستدراجك .. ومحاولة الإيقاع بك لمعرفة شئ من أسرار الديوان .. التى إئتمنتك عليها كل هذه السنين .. هذا كل ما فــى الأمر يا فتى !..
ــ فى الحقيقة يا سيدى .. إنها المرة الأولى التى أعرف فيها أمرا كهذا .. لم يقع فى خاطرى أبدا .. أن يهتم أمير المؤمنين بمثلى أو يشغل نفسه بالنظر إلى .. وما لاحظت ذلك أبدا فى أى يوم من الأيام .. فمن أكون ؟!.. ما أنا إلا واحدا من المستخدمين الكثيرين .. فى ديوان من دواوينه العديده .. لكن على أية حال .. كن مطمئنا يا سيدى من هذا الجانب .. أنا أعرف جيدا كيف أحافظ على أسرار الديوان ...
ــ عظيم .. عظيم .. هذا عهدى بك أيها الفتى الموصلى .. أتركك الآن كى تتمكن من إكمال البريد .. وفى صباح الغد نلتقى بإذن الله ……………

@ سأله الربيع .......
ــ هيه وما الذى حدث بعد ذلك ؟!..
ــ بعد أن تركته وحده .. وبينما أنا فى طريقى إلى الباب الخارجى .. وسكون الليل يعم أرجاء المكان .. إلتقطت أذناى صوت وقع أقدام من الناحية الأخرى لقاعة الكتبة والمساعدين .. كان صاحبها يحاول جاهدا ألا يشعر به أحد .. ساورتنى الشكوك والهواجس .. وتوقفت مكانى برهة أتدبر الأمر .. ثم عدت أدراجى فى خفة .. إلى أن وصلت إلى باب جانبى كان مفتوحا .. نظرت بركن عينى من خلال فرجة فيه .. فرأيت أحد الجلاوزه العاملين بديوان المنصور يدخل خلسة على جعفر .. وهو يتلفت وجلا من حوله مخافة أن يراه أحد .. كان يبدو من حركاته أنه حريص جدا على ذلك ...
قاطعه الربيع فى لهفة .......
ــ هل سمعت ما دار بينهما من حديث ؟!..
ــ أجل .. سمعته يطلب منه فى صوت هامس .. أن يذهب فى الحال للقاء أمير المؤمنين فى قصر الذهب .. وزاد من ريبتى أنى سمعته يؤكد عليه .. أن يكتم خبر هذه المقابلة ولا يخبر بها أحدا ...
ــ هيه أكمل .. ماذا فعلت أنت ؟!..
ــ تواريت مكانى وأنا أحبس أنفاسى .. حتى غادر القاعة ثم تسللت من ممر جانبى .. أعرف أنه ينتهى إلى إيوان المنصور .. ومن ركن خفى فى مكان لا يرانى فيه أحد .. وقفت أرقب ما يجرى هناك فى الإيوان ...
ــ ماذا رأيت ؟!..
ــ رأيت أمير المؤمنين وهو يدنيه منه .. ويتجاذب معه أطراف حديث كله حب ومودة .. كأنه يعرفه منذ زمن بعيد .. بدا ذلك من قسمات وجهه ...
ــ هل تمكنت من سماع شئ ؟!..
ــ حاولت جاهدا أن أسترق السمع .. لعلى أسمع شيئا أو حتى ألتقط كلمة واحدة دون جدوى .. ذهبت محاولاتى كلها أدراج الرياح ...
ــ لعلك كنت تقف بعيدا عنهما ؟!..
ــ أجل كانا بعيدان عن مجال سمعى .. كما أن حديثهما كان يدور همسا .. غير أنى رأيت شيئا أثار حفيظتى !..
ــ ماذا رأيت .. أيها البائس المسكين ؟!..
ــ رأيت أمير المؤمنين وهو يدس فى يده رسالة معها بعض الأشياء .. تبين لى فيما بعد أنها عقد من الزمرد الخالص وكيس متخم بالدنانير ...
ــ هيه .. وماذا بعد ؟..
ــ فى اليوم التالى توجهت إلى ديوان الإنشاء .. كأنى لم أر شيئا بالأمس ...
ــ وهل تلاقيتما .. أنت .. والفتى جعفر ؟!..
ــ نعم دخلت عليه .. فوجدته يجلس وحده شاردا .. حتى أنه لم يشعر بى وأنا أقف أمامه .. قلت لنفسى أتصنع له وأحتال عليه .. ربما يخبرنى من تلقاء نفسه عن تلك المقابلة وما تم فيها بينه وبين الخليفة المنصور .. بادرته على الفور .. كأنى لم أر أو أسمع شيئا بالأمس ………………
ــ كيف حالك أيها الفتى جعفر ؟!..
ــ من ؟!.. سيدى أبا أيوب ؟!..
ــ أجل أبو أيوب أيها الفتى الشارد .. مالى أراك مهموما هكذا .. وفيم كل هذا الشرود .. هل تعانى من أية متاعب فى صحتك ؟!..
ــ لا .. الحمد لله أنا بخير ...
ــ إذن .. شغلتك إحدى بنات حواء ؟!..
ــ أبدا يا سيدى والله .. لا هذه ولا تلك .. إننى بخير حال .. غير أنى لم أنم ليلة أمس إلا سويعات قليلة .. نلتها فى وقت متأخر من الليل ...
ــ ورسائل الأمس .. هل فرغت منها ؟!..
ــ أجل يا سيدى لم أبرح الديوان ليلة أمس .. إلا بعد أن انتهيت من نسخها وطيها وغلقها ...
ــ رائع .. رائع ...
ثم أردفت بغير اكتراث .. وكأنى أسأل سؤالا عابرا .......
ــ هل يا ترى خرجت من الديوان عائدا إلى دارك فى التو ؟!..
ــ ماذا تعنى يا سيدى ؟!..
ــ لا شئ .. لكن !..
ــ لكن ماذا يا سيدى ؟!..
ــ ألم تذهب إلى أى مكان آخر .. أو .. تلتق بأحد مثلا .. وأنت فى طريقك إلى الدار ؟!..
ظهر عليه الإرتباك والحيره .. وهو يرد على سؤالى بصوت مرتعش مستنكرا قولى .......
ــ أحد .. مثل من !.. لا .. لم ألتق بأحد .. ولم أذهب إلى أى مكان ...
ــ لم الغضب يا بنى .. أنا لا أقصد أحدا بعينه .. لكن تذكر جيدا يا جعفر .. فلربما تكون ناسيا .. مثلا ؟!..
ــ لا .. لم ألتق بأحد ...
ــ تقسم على ذلك ؟!………………
----------
سأله الربيع .......
ــ هل أقر بالحقيقة أم ظل على إنكاره ؟!..
ــ إرتج عليه القول .. وتلجلج لسانه .. ولم يستطع مواصلة الكذب .. إلى أن فاجأته قائلا بنبرة حادة ولهجة قاطعه ………………
ــ لأول مرة تكذب على أيها الفتى .. لا أدرى كيف طوعت لك نفسك أن تنكر عنى أمرا .. أنا الذى وثقت فيك كل هذه السنوات .. وأنزلتك منزلة يغبطك عليها الكثيرون .. ألم تذهب بالأمس إلى ديوان الخليفة المنصور ؟!.. كنت أحسب أنك ستخبرنى بذلك الأمر من تلقاء نفسك .. أم ظننت أنى غافل عما يجرى ها هنا .. إياك أن تظن ذلك ؟!.. أنسيت ما قلته لك بالأمس ؟!.. هيا أخبرنى بكل كلمة دارت بينكما .. وإياك والكذب أو المراوغه ؟!………
عاود الربيع سؤاله .......
ــ وماذا فعل الفتى ؟!..
ــ لم ينطق لسانه بكلمة واحده .. بهت وانعقد لسانه من هول المفاجئه .. وبدا عليه الإرتباك الشديد .. لم يدر بخلده أنى على علم بتلك المقابله .. غادر الغرفة مسرعا .. وتركنى وحدى أضرب كفا بكف .. بعد أن تملكنى غضب شديد وثورة عارمه ...
ــ وماذا فعلت أنت ؟!..
ــ إستدعيت واحدا من رجالى المخلصين .. أمرته أن يتعقبه فى كل مكان يذهب إليه .. لم أنس أن أؤكد عليه ألا يغيب عن عينيه لحظة واحده .. وألا يدعه يغادر بغداد بأية حال .. وإن فعل يأتنى به سالما دون أن يمسه بأذى .. وأيضا دون أن يراه أحد ...
ــ ما الذى دفعك إلى هذا ؟!..
ــ خشيت أن يكون قد أسر بشئ للخليفة المنصور .. وزاد من مخاوفى إنكاره لتلك المقابلة وما دار فيها بينهما ...
ــ كيف إذن لقى حتفه ؟!..
ــ ذلك الغبى الذى أرسلته وراءه .. مع أنى أكدت عليه مشددا إن تمكن منه أن يأتينى به سالما وألا يمسه بسوء .. غير أنه لما رجع من مهمته .. قال لى ..................
ــ ظللت أتعقبه يا سيدى فى كل مكان يذهب إليه .. حتى رأيته يغادر بغداد سالكا طريق الموصل .. سرت وراءه إلى أن وصلنا إلى مكان مهجور لا يرانا فيه أحد .. باغته من الخلف محاولا الإمساك به وتقييد حركته .. غير أنه تمكن من الإفلات من قبضتى .. ولما حاولت مجددا أن أعيد الكرة .. فوجئت به يقاومنى بشدة .. حتى أنه كاد أن ينال منى .. واشتبكنا فى صراع عنيف كاد أن يفلت فيه منى .. فلم أشعر إلا ويداى تلتفان حول عنقه .. إلى أن توقفت أنفاسه وفارق الحياه ...
إختنق أبو أيوب بالبكاء .. حتى لم يعد قادرا على مواصلة حكايته والربيع ينظر إليه فى وجوم .. إلى أن هدأ بعض الشئ ثم قال .......
ــ بعد أن فارق الحياه .. أخذ يفتش فى جيوبه حتى عثر على الرسالة التى أعطاها له المنصور .. ولما قرأت ما فيها مادت الأرض من تحت أقدامى .. ولم أعد أرى شيئا أمامى من هول ما قرأت .. أتدرى ماذا كانت تحوى ؟!..
هز الربيع رأسه يمينا وشمالا .. ناظرا إليه فى ذهول وهو يقول .......
ــ إنها رساله كتبها أمير المؤمنين لامرأة أزدية من الموصل .. فهمت من فحواها أنها أم هذا الفتى .. كان المنصور قد تزوجها سرا أيام شبابه .. فى عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك .. ثم فارقها وهى لا تزال حاملا فى جعفر .. لأنه كان مطاردا من الأمويين .. وترك لها مكتوبا تحضر به إليه عندما تسمع به أميرا للمؤمنين .. غير أنها لم تعر هذا الأمر اهتماما .. وبعد أن أنجبت ولدها أسمته جعفرا كما أوصاها .. ثم ربته فى حجرها ودفعت به إلى مجالس العلم إلى أن صار كاتبا .. لقد عمل عندنا وبقى معنا كل هذه السنوات .. وأنا لا أعلم صلته بأمير المؤمنين .. ولا هو نفسه كان يعلم بذلك ...
قال الربيع معقبا كأنه تذكر أمرا .......
ــ آه .. إنها إذن تلك المرأة التى حضرت إلى هنا منذ أيام .. والتقى بها أمير المؤمنين وحده .. ولما سألته عن شأنها سكت ولم يجبنى .. آه حكاية عجيبة حقا ...
ثم قال يحدث نفسه .......
ــ والأعجب منها .. كيف تعرف هذا الثعلب الماكر على ولده !..
قال ذلك وهو يستدير خارجا .. تاركا أبا أيوب وحده فى هذا المكان الكئيب الموحش .. يندب سوء حظه ويواجه مصيره المحتوم الذى ينتظره ………

يتبع إن شاء الله ........................
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 10h48
رد مع اقتباس