عرض مشاركة واحدة
  #26  
قديم 09/11/2008, 08h39
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي

@ مضت القافلة فى طريقها تقطع دروب الصحراء .. ماضية فى مسالكها التى يعرفها المسافرون .. إلى أن وصلت إلى مكان .. بدت فيه من بعيد بعض البنايات المتناثرة الصغيره .. نظرت أم حبيبه إلى أبيها متسائلة ....... أين نحن الآن يا أبى .. وماتلك البنايات التى تبدو للعين من بعيد ؟!..
أجابها ضاحكا .......
ــآه يبدو أن طول غيابك فى بلاد الشام .. أنساك ديارنا .. لقد صرنا على مقربة من بدر .. إنها محطتنا الأخيرة .. وأظن أننا سنحط رحالنا فيها وننصب خيامنا للراحة والتزود بالماء .. كما أخبرنا الشيخ أبو سعيد ...
ــ إذن لم تبق إلا أياما قليله .. ونكون فى قلب مكه ؟!..
ــ أجل يا ابنتى .. كانت بحق رحلة شاقه ...
ــ أشق منها ما سمعته منك عن تلك الأحداث الدامية التى جرت فى بلادنا .. فى الأعوام الماضيه ...
ــ ألم أقل لك يا ابنتى ألم أقل لك ؟!..
ــ لكنك لم تخبرنى بعد .. هل صدقت نبوءة المنجم !..
أجابها فى أسى وقد بدا شارد الفكر .......
ــنعم يا ابنتى .. صح ما قاله هذا المنجم اللعين .. قتل إبراهيم وكثيرون ممن كانوا معه .. مع أن المعركة كانت لصالحهم فى أول الأمر .. واستطاع رجاله أن يهزموا جيش حميد بن قحطبه الذى كان بالمقدمه .. وكاد أن ينتصر على جيش عيسى بن موسى الذى كان بالمؤخره .. كان جيشه يتراجع أمام بأس العلويين وشدة مراسهم .. وتصميمهم على النصر أو الشهاده !..
ــ ما الذى جرى إذن وقلب موازين المعركه ؟!..
ــ لا أدرى يا ابنتى .. سبق الكتاب بما هو كائن .. وشاءت إرادة الله ذلك .. لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه !..
عادت تسأل والحزن يغمرها .......
ــوأمير المؤمنين المنصور .. ماذا فعل بعد أن علم بانتصار جيوشه ؟!..
ــ عجيب والله أمر هذا الرجل ...
ــ كيف يا أبت ؟!..
ــ رغم شدة كراهيته لأبناء عمومته .. وحرصه على ألا يمكن أيا منهم من الإقتراب من كرسى الخلافه .. إلا أنه لما علم بذلك .. وجاءوا له وهو فى مجلسه برأس الشهيد إبراهيم بن عبد الله .. أخذ يبكى قائلا وهو ينظر لرأس الشهيد .....
ــ والله لقد كنت لهذا كارها .. ولكنك ابتليت بى وابتليت بك .. يعلم الله أنى أوصيت القائد عيسى بن موسى قبل أن يخرج لقتالهم وقلت له ....... يا عيسى إنى بعثتك إلى ما بين هذين ( وأشار إلى جنبيه) .. فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك ولا تقتله ...
صمت المنصور برهة .. وأردف قائلا فى أسى .......
وألقت عصاها واستقر بها النوى ؛ كما قر عينا بالاياب المسافر ........
ولما دخلت أفواج الناس عليه مسلمين ومهنئين بالنصر .. لم يعبأ بهم إلى أن دخل عليه شيخ وقور وهو يقول له .......
ــأعظم الله أجرك فى إبن عمك يا أمير المؤمنين .. وغفر له ما فرط فى حقك !..
رد المنصور قائلا وقد اصفر لونه .......
ــإجلس يا أبا خالد .. هكذا يكون الكلام ...
----------
@ إستمر عبيد الله الأزدى قائلا.......
ــكانت هذه أول كلمة عزاء تقال له .. رغم عداوته الشديده لأبناء عمه .. كان ينتظر عزاء الناس قبل تهنئتهمبانتصار جيوشه .. مع حرصه على هذا النصر .. إلا أنه كان حزينا لمقتل إبراهيم ...
مرت لحظات من الصمت .. قطعه الأزدى قائلا ليغير مجرى الحديث .......
ــفى الوقت الذى كانت تدور فيه هذه الأحداث الدامية فى الحجاز والبصره والكوفه .. كان العمل يجرى على قدم وساق فى إقامة مدينة بغداد .. مكان قرية إسمها العتيقه ...
ــ سمعت أنها مدينة بديعة ورائعة الجمال يا أبى ...
ــ أجل يا ابنتى .. ما أروعها .. المنصور اختار بنفسه هذه القرية ليبنى مكانها مدينة بغداد ...
ــ لم ؟!..
ــ لاعتدال مناخها وتوسطها بين نهرى دجلة والفرات .. كما أمر بجلب البنائين المهره والصناع والفعله .. من مصر والشام والكوفه وبلاد الديلم .. ووضع بيده أول حجر فى بنائها .. فى وقت إختاره له المنجم نوبخت .. حيث كانت الشمس كما يقولون فى برج القوس ...
ــ لم أفهم .. ما الذى يعنيه ذلك ؟!..
ــ فى لغة النجوم كما يزعمون ..معناه طول بقائها وكثرة عمرانها .. يقال إن المنصور هو الذى قام برسم المدينة على شكل دائرة .. ووضع تصميما لطرقها وجعل لها ثلاثة أسوار .. لكل سور منها ثمانية أبواب غير متقابله .. وفى وسطها أنشأ قصر الذهب ومسجد الخلافه .. لكن كانت هناك مسألة لا تزال تؤرق المنصور .. وتملك عليه فكره وقلبه !..
ــ أى مسألة تلك يا أبى .. وقد تحققت أمنيته وأنشأ هذه الحاضرة الكبيره .. على هذا التصميم البديع ؟!..
ــ كان يشغله كثيرا أمر اختيار الرجال المناسبين لتولى المناصب الهامه .. كان يريد أن يولى القضاء والخراج وديوان الحسبة والمظالم أخلص الرجال وأتقاهم .. إلى أن كان يوم ………………

@ فى سوق الحرير بمدينة الكوفه .. التى تقع بالقرب من مقر الخلافة بالهاشميه .. وفى داخل أحد المتاجر جلس شيخ متقدم فى العمر .. على وجهه سمات أهل الورع الصالحين الأتقياء يقرأ فى مصحف أمامه .. وعلى باب الدكان وقف غلامه يتحاور مع امرأة عجوز .. تعالت أصواتهما حتى وصلت إلى أسماع الشيخ بالداخل .. أغلق المصحف ونادى على غلامه مستفسرا منه عن سبب هذه الجلبه .. رد الغلام قائلا .......
ــ لا شئ يا سيدى .. العجوز تريد ثوبا من الحرير الخالص ...
ــ لم لا تعرض عليها ما عندنا .. لتختار بنفسها ما يروق لها ؟!..
ــ عرضت عليها ثيابا كثيره .. غير أنها تدعى أنه ليس معها من الدراهم ما يكفى ثمنا لما عرضته عليها من ثياب !..
ــ عجيب أمرك يا إسماعيل !.. لم لا تعطيها ثوبا يعادل ما معها من دراهم ؟!..
ــ حاولت كثيرا يا سيدى .. وجئت لها بثياب عديدة .. دون فائده !..
إبتسم الشيخ وأشار للمرأة قائلا فى تلطف .......
ــ تعالى أيتها العجوز وأخبرينى عن حاجتك .. ماذا تريدين من بضاعتنا ؟!..
ــ يا أبا حنيفه .. كل ما أبغيه ثوب من الحرير الخالص .. خاليا من الصوف .. وأن ترفق بى فى ثمنه لسنى وضعفى ...
أمسك الشيخ بأحد الثياب وقدمه لها قائلا .......
ــ إذن دونك هذا الثوب يا أماه .. أرجو أن ينال رضاك ...
أخذت تقلب فيه بإمعان وتفحص نسيجه بيد خبيرة مجربه .. ثم قالت أخيرا وهى تلقى به جانبا .......
ــ لا بأس به .. ثوب جيد حقا من الحرير الخالص .. لكن بم يفيد هذا كله .. وأنا لا أقدر على ثمنه .. إنه من تلك الأنواع الغالية الثمن ...
عادت إلى الشيخ ابتسامته مرة ثانية .. وهو يرد إليها الثوب قائلا ......
ــ كيف لا تقدرين على ثمنه يا أماه .. ألا يوجد معك أربعة دراهم .. أيتها العجوز الطيبه ؟!..
ــ أربعة دراهم فحسب .. بل معى أكثر من ذلك إن أردت ...
ــ لا .. لا أريد أكثر من أربعة دراهم .. إنها ثمن هذا الثوب الذى نال رضاك ؟!..
صرخت العجوز كأنما لدغتها حية رقطاء .......
ــ كم قلت أربعة دراهم ؟!.. سامحك الله يا أبا حنيفه وغفر لك .. إنك تهزأ بى أتسخر من عجوز .. سامحك الله !..
ــ حاشا لله أن أهزأ بك أيتها العجوز الطيبه .. حاشا لله .. إن هذا ليس من خلق المسلم ولا من آدابه .. لقد أصدقتك القول .. وهذا هو ثمن الثوب فعلا !..
ــ كيف تقول ذلك يا شيخ الكوفه !.. تبيع ثوبا يساوى أكثر من مائة درهم بأربعة دراهم .. ثم تدعىأن هذا ثمن الثوب ؟!.. مستحيل .. إلا أن تكون صدقة منك أو إحسانا .. وأنا لا أقبل هذه ولا تلك !..
ــ على رسلك أيتها العجوز .. إننى لا أسخر منك ولا أتصدق عليك .. سأبين لك حقيقة المسأله .. حتى تتأكدين من صدق قولى .. لقد اشتريت منذ أيام ثوبين بمائتى درهم .. بعت أحدهما بالثمن كله إلا أربعة دراهم .. هى ما أطلبها منك ثمنا لهذا الثوب .. تلك هى المسأله .. أفهمت أيتها العجوز الطيبه ؟!..
ردت بامتنان وهى تبتسم حياء .......
ــ معذرة يا أبا حنيفه .. لا تؤاخذنى أيها الشيخ .. بارك الله لك فى علمك وفى مالك وفى تجارتك !..
مضت العجوز لحالها وبيدها ثوب الحرير .. فى الوقت الذى كان فيه أحد الجلاوزه العاملين فى بلاط المنصور .. يسأل عن دكان أبى حنيفه وأحدهم يشير له على مكانه .. تقدم الرجل محييا ثم قال .......
ــ أريد مقابلة الشيخ أبا حنيفة النعمان بن ثابت ؟!..
أردف قائلا بعد أن عرفه الشيخ بنفسه .......
ــ مولاى أمير المؤمنين المنصور يقرئك السلام .. ويطلب منك أن تجيئه اليوم بعد صلاة العشاء .. فى قصره بالهاشميه لأمر هام ...
هز الشيخ رأسه موافقا بعدها إستدار الرجل منصرفا .. فى الوقت الذى كان فيه أحد الشباب واقفا على مقربة منه يرقب هذا الحوار .. إلتفت إلى الشيخ قائلا فى وجل وإشفاق .......
ــ ما الذى يريده منك هذا الرجل يا أبت ؟!..
ــ مثلى مثلك .. لا علم لى يا ولدى .. ألم تكن حاضرا .. وسمعت ما قاله بنفسك ؟!..
ــ بلى سمعت ...
صمت برهة ثم سأله .......
ــوهل ستذهب حقا للقاء المنصور ؟!..
ــ ما الذى يمنعنى من ذلك يا حماد يا ولدى ...
ــ أرى يا أبت ألا تفعل .. هؤلاء القوم لا يأتى من ورائهم خير أبدا ..
ــ يا ولدى طاعة أولى الأمر فرض علينا .. ما دمنا فى طاعة الله .. على أية حال إن طال بقائى عنده .. فاعلم أنه قد أصابنى مكروه !..
أجابه حماد من فوره وقد ظهر عليه الجزع .. وفى عينيه نظرة إشفاق على أبيه .......
ــ ليتك لا تذهب يا أبت .. ليتك .. أنسيت ما فعله معك يزيد بن هبيره منذ عشرين عاما .. عندما طلب منك أن تتولى القضاء !..
ــ أبدا يا ولدى .. لم أنس ما أصابنى من إهانة وأذى آنذاك .. وهل هذه أيام تنسى .. لكنها إرادة الله ومشيئته .. يا ولدى "وما هم بضارين به من أحد إلا باذن الله" ... صدق الله العظيم ...
@ فى المساء بعد أن صلى المنصور صلاة العشاء .. إتخذ مجلسه فى الايوان .. ومن حوله نفر من رجاله .. الربيع وخالد بن برمك وبصحبته ولده يحي الذى بلغ من العمر حوالى خمسة وعشرين عاما .. وأبو أيوب كاتب الديوان وبرفقته مساعده الفتى جعفر .. أخذ المنصور يدور ببصره فيمن حوله .. وللمرة الثانية تقع عيناه على ذلك الشاب جعفر .. عادت ترتسم من جديد علامات القلق والحيرة على وجهه مرة أخرى .. بدا وكأنه يقاوم فكرة كانت تلح عليه دائما كلما رأى هذا الشاب .. ألقى بأفكاره وهواجسه جانبا .. وعادت من جديد علامات الجد التى تظهر عليه عندما يبدأ مجلسه وقال .......
ــ أبا أيوب .. إقرأ علينا ما ورد فى بريد اليوم من كتب الثغور والأطراف ...
ــ أمر أمير المؤمنين .. وردت رسالتان .. الأولى عن أحوال حضرموت ..أرسل بها أحد عيوننا هناك .. والثانية وردت من عاملنا فى أرمينيه !..
ــ ماذا عن الرسالة الأولى ؟!..
ــ جاء فيها أن أمير حضرموت يكثر من الخروج فى طلب الصيد ببزاة وكلاب أعدها لذلك .. وأنه يهمل فى شؤون البلاد !..
ــ ياله من غبى أحمق .. أرسل إليه هذه الرسالةالتى أمليها عليك .......
ــ ثكلتك أمك وعدمتك عشيرتك.. إنا لما وليناك إنما استكفيناك أمور المسلمين ولم نستكفك أمور الصيد .. عندما تصلك رسالتى سلم الأمور لمن يأتيك .. أما أنت فالحق بأهلك فى البادية كما كنت مذموما مدحورا !..
إنتهى من كلامه ثم أمر الربيع أن يسلم هذه الرسالة لعبد الوهاب التيمى الأمير الجديد على حضرموت .. ثم قال .......
ــ هات الرسالة الثانيه !..
ــ الرسالة الثانيه .. جائتنا من عاملنا على أرمينيه .. يشكو فيها من أن الجند قد شغبوا عليه ونهبوا بيت المال عنده .. يقول إنه لا يقدر عليهم وقد عدم الحيلة معهم !..
ــ أكتب إليه .......
ــ إن عقلت لم يشغبوا ولو قويت لم ينهبوا .. هكذا يكون الوالى عقل وقوه .. وأعلمه أنه هو الآخر معزول عن الولاية منذ اليوم ...
صمت قليلا ثم قال .......
ــ خالد بن برمك جاء دورك ...
ــ طوع أمرك يا مولاى ...
ــ أخبرنا عن حالة الأسواق فى بغداد .. وعن أسعار السلع ؟!..
ــ والله يا أمير المؤمنين .. لم تشهد البلاد بشكل عام وأسواق بغداد بصورة خاصة .. أسعارا أقل من أسعار هذه الأيام ...
ــ كيف ؟!..
ــ يباع الكبش مثلا فى سوق بغداد بدرهم .. والحمل يباع بأربعة دوانق .. وكل ستين رطلا من التمر بدرهم .. أما العسل والزيت ......
قاطعه المنصور .......
ــ حسن حسن .. لا أريد أى زيادة فى الأسعار .. كما تعلمون .. أحب أن تروج التجارة فى بغداد .. وأن يكثر عمارها ...
ثم التفت عن يمينه إلى خالد بن برمك قائلا له .......
ــ بهذه المناسبة لى رغبة فى نقل القصر الأبيض وكذلك إيوان كسرى من المدائن إلى بغداد .. ما رأيك يا برمكى ؟!..
تنحنح خالد بن برمك قبل أن تنطق شفتاه.. كأنما يبحث عن إجابة مناسبة .. ثم قال أخيرا فى تؤدة وأناه .......
ــ معذرة يا أمير المؤمنين .. أرى أنه من الخير ألا تفعل ...
ــ لم أيها الرجل !.. ما الذى يمنعنى أو يحول بينى وبين ذلك ؟!..
ــ عفوا يا أمير المؤمنين .. لا شئ يحول بينك وبين ما تريد .. غير أن هذا القصر وما حوله يعد علما خالدا من أعلام الاسلام .. وفيه مصلى إبن عمك على بن أبى طالب .. ليتك تبقى عليه مكانه ...
رد المنصور مازحا وهو يضحك ملئ شدقيه .......
ــ تأبى يا خالد إلا أن تميل لأهلك العجم .. على كل حال .. سنرجئ أمر هذا القصر إلى أن تنتهى مشاكلنا مع الأكراد .. ولهذا قررت أن أوليك أمر الموصل .. فالأكراد قد انتشروا فيها وزاد تشغيبهم .. ولن يصلح أمرهم غيرك .. أما ولدك يحي .. هذا ...
نظر المنصور إليه بإعزاز وحب .. قبل أن يكمل قائلا .......
ــ فإنى قد جعلته أميرا على أذربيجان .. وإنى لعلى ثقة أنه أهل لها .. إن الناس ولدوا أبناء .. إلا ولدك يحي البرمكى .. قد ولد أبا .. إنه فتى لا مثل له .. سيكون له شأن كبير يوما بإذن الله !..
فى تلك اللحظة تقدم أحد الجلاوزه قائلا .......
ــ مولاى أمير المؤمنين .. الشيخ أبو حنيفة النعمان يتوجه قادما ناحية القصر راكبا بغلته !..
ــ لا تدعوه ينتظر .. أدخلوه فى الحال .. عندما يصل إلى الباب ...
سأل الربيع بصوت خفيض متحفظا وقد مال برأسه قليلا ناحية المنصور .......
ــ مولاى .. هل أرسلت فى طلبه .. أم أنه جاءك من تلقاء نفسه ؟!..
رد المنصور ساخرا .......
ــ من تلقاء نفسه !.. منذ متى وأبو حنيفة يأتى إلى هنا برغبته ؟!..
أجابه الربيع معقبا فى خبث ودهاء .......
ــ نعم نعم صدقت يا أمير المؤمنين .. لكنه يا مولاى فيما سمعت وعلمت من رجالى .. يردد بعض الآراء الشاذه التى تخالف صحيح السنة ورأى الجمهور !..
ــ ما هذا الذى تقوله يا أبا الفضل ؟!..
وقبل أن يجيبه دخل الحارس ومن ورائه أبو حنيفه .. رحب به المنصور فى حفاوة بالغة وأقبل عليه قائلا .. وهو يبتسم ابتسامة ماكره.......
ــ كان الربيع بن يونس كبير حجابنا .. يؤكد لنا منذ قليل أن لك بعض الآراء التى تخالف فيها السنة وقول الجمهور .. ما قولك ؟!..
ــ ألهذا أرسلت فى طلبى يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ لا .. لا .. كان هذا حديثا عابرا قبل أن تلج الباب .. لكنى أرسلت إليك لأعرض عليك أمرا مهما آخر ...
لم يكن الربيع يتوقع وقد بدا عابسا مقطب الجبين .. أن يضعه المنصور فى مواجهة مع أبى حنيفه .. فاستأذن قائلا وهو يحاول أن يدارى حرجه الشديد .......
ــمولاى أمير المؤمنين .. سمعت أن الشيخ يخالف جدكم عبد الله بن عباس .. فى الإستثناء المنفصل فى الأيمان !..
رد المنصور قائلا .......
ــ أعرف إن جدنا يقول .. إذا حلف المرء ثم استثنى بعد يوم أو أكثر جاز له ذلك .. فهل لأبى حنيفة رأى آخر فى هذه المسأله ؟!..
رد الربيع من فوره .......
ــ أجل يا مولاى ..إنه يقول إن الإستثناء لا يجوز إلا متصلا باليمين فى نفس الوقت .. وأنه لا يصح بحال إذا صدر القول باتا فى المجلس ...
أجاب أبو حنيفه بنبرات هادئة واثقه وهو يشير برأسه تجاه الربيع .......
ــ يا أمير المؤمنين .. الربيع بن يونس .. يزعم أنه ليس لك فى رقاب جندك بيعه !..
إنتفض الربيع صارخا .......
ــ كذب .. أنا ما قلت ذلك أبدا .. إن هذا محض افتراء .. هذا الرجل لم يرد إلا الوقيعة بى يا مولاى .. دون سند من عنده أو دليل !..
ــ لا تعجل على .. أنا لم أكذب .. ولم أدع عليك بالباطل .. بل أنت الذى قلت به.. الآن .. يا كبير الحجاب .. ويشهد على قولك أمير المؤمنين ...
ثم التفت إلى المنصور قائلا .......
ــ إن قوله هذا عن الأيمان .. معناه أن القوم يحلفون أمامك مبايعين .. فإذا ذهبوا إلى منازلهم يستثنون .. فتبطل أيمانهم ويتحللون من بيعتهم .. أليس كذلك يا أبا الفضل .. ألا يعنى كلامك هذا ؟!..
ضحك المنصور بصوت عال .. وهو ينظر إلى الربيع قائلا .. وقد فهم مراد أبى حنيفه .......
ــ أنصحك يا أبا الفضل ألا تتعرض لأبى حنيفة مرة أخرى .. إنك لن تغلبه أبدا .. المهم .. نعود لما أرسلنا إليك من أجله .. تعلم يا أبا حنيفه أن شرذمة من جماعة الراوندية المارقة التى قضينا عليها قبل سنوات قد بقيت بالكوفه .. ولما كنت أخشى على الجند منهم ومن تشغيبهم .. لذلك فإنى أمرت ببناء مدينة بغداد لتكون مقرا للخلافه .. واخترت لها بنفسى مكانا بديعا معتدل الحراره يتوسط نهرى دجلة والفرات .. ولا يصل أحد إليها إلا على جسر .. حتى غدت عروس المدائن وسيدة البقاع ودار السلام .. وأود أن أجعل منها منارة وكعبة للعلوم والفنون والآداب .. وسوقا رائجة للتجاره .. لهذا أرسلت إليك يا أبا حنيفه ...
ــ لم أفهم بعد يا أمير المؤمنين .. ما شأنى بهذا كله ؟!..
ــ ستعلم الآن كل شئ .. لقد قررت أن أجعل على أعمال هذه المدينه أخلص الرجال عندى وأتقاهم .. لهذا فإنى أعرض عليك منصب قاضى القضاه ...
ــ قاضى القضاه ؟!..
ــ أجل .. حتى تراقب الأحكام .. ومن ناحية تنشئ مدرسة يتخرج منها القضاة الصالحون إلى جميع الولايات والأمصار .. ما قولك أيها الشيخ ؟!..
أخذ يمسح لحيته بأنامله منتظرا رد أبى حنيفة .. الذى قال متأدبا .....
ــ أرجوا إعفائى من هذا الشرف يا أمير المؤمنين ...
ــ ما السبب ؟!..
ــ إن صحتى لم تعد تقوى على مثل هذه المهام .. كما أن لديك من الرجال من هم أصلب منى عودا وأقدر على حمل هذه الأمانه .. ولا يخفى عليك يا مولاى أنى قد ضربت بالسياط لرفضى ذلك من قبل .. فى عهد الخليفة الأموى مروان بن محمد !..
قاطعه المنصور قائلا وهو يصطنع الرقة والنعومه .......
ــ أعلم ذلك تماما .. لكنه زمن مضى وولى .. وأنا أريدك أن تكون عونا وسندا لنا .. أريد أن ينتشر العدل فى البلاد .. ولن أجد خيرا منك لحمل هذه الأمانة والقيام بأعبائها .. وكما تعلم يا أبا حنيفه أننا افتقدنا منذ أيام قاضى البلاد .. محمد بن أبى ليلى رحمه الله ...
ــ أكرر اعتذارى يا أمير المؤمنين .. فالصحة قد ضعفت ولم يعد فى العمر بقية تعيننى .. ولا أستطيع تحمل أعباء القضاء وتبعاته .. إننى أشعر بدنو الأجل وقرب الرحيل ...
رد المنصور فى ضيق وحنق .. وقد بدأ يفقد بعضا من حلمه وسماحته التى كان يتظاهر بها .......
ــ مع ذلك لن أولى أحدا غيرك !..
ــ وأنا لا زلت على رأيى!..
ــ إنه أمر إذن لا خيار لك فيه .. أتعصى أمر أمير المؤمنين ؟!.. سبق أن أوضحت لك .. إنى محتاج إليك ...
ــ وأنا أرفض هذا الأمر .. كما أنى لا أحتاج إليك ...
ــ والله الذى لا إله غيره لتفعلن ...
ــ والله الذى لا إله غيره لن أفعل ...
رد الربيع مستنكرا قوله .. وقد وجدها فرصة سانحة للوقيعة والتشفى .......
ــ ألم تسمع أمير المؤمنين وهو يحلف .. كيف طوعت لك نفسك الحلف بعده يا هذا ؟!..
ــ أمير المؤمنين أقدر على الكفارة منى .. ولا شأن لك بما يدور بينى وبين أمير المؤمنين !..
رأى المنصور إصراره فقال فى نفسه .......
:: كم أنت عنيد أيها الرجل آخذك بالرفق واللين ربما تقبل .. أخذ يلين القول له مرة ثانية .......
ــ يا أبا حنيفه .. لم ترغب عما نحن فيه .. ليتك تصارحنى بما عندك .. إفتح قلبك لى يا رجل ؟!..
ــ أصلح الله أمير المؤمنين .. أنا فى الحقيقة لا أصلح للقضاء ...
لم يتمالك نفسه .. فانفجر بركان الغضب للمرة الثانية .. بعد أن سكت عنه الغضب وقال مستنكرا .......
ــ لا تصلح للقضاء !.. ومن يصلح إذن ؟!.. أى كلام هذا الذى تقوله يا رجل .. إما أنك لا تعى ما تقول .. وإما أنك تكذب على !..
ــ قد حكمت على أخيرا يا أمير المؤمنين أنى لا أصلح للقضاء .. فإن كنت كاذبا كما قلت فأنا لا أصلح .. إذ كيف أقضى بين الناس .. وإلا فقد أصدقتك القول !..
ــ إسمع أيها الشيخ .. إياك أن تظن أنك بهذا أوقعتنى فى حيلة من حيلك .. والله لن أدعك اليوم تخرج من هنا حتى تمتثل لأمرى .. ولو اضطررت إلى حبسك أو ضربك بالسياط .. كما فعلها معك ابن هبيرة من قبل !..
ــ إتق الله يا أمير المؤمنين .. ولا تودع أمانتك إلا من يخاف الله .. ووالله ما أنا مأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب ؟!.. سأقولها لك صريحة ما دمت تريد ذلك .. إنى لا أستطيع أن أكون قاضيا .. ومن حولك حاشية ترغب فيمن يكرمها من أجلك .. وأنا لا أصلح لذلك ولا أرضاه .. ثم أخيرا كيف تولى قاضيا كذابا .. كما حكمت الآن بنفسك ؟!..
أخذ المنصور يحدجه بنظرات نارية غاضبة بعد أن يئس منه .. ثم صرخ فيمــن حوله قائلا .......
ــ خذوه ودوروا به فى الأسواق عساه يرجع عن رأيه هذا .. وإلا فدونه السجن والضرب بالسياط إن اقتضى الأمر ...
إلتف الحراس حول أبى حنيفه .. واقتادوه خارج الايوان وهو يردد فى صوت خفيض .......
ــ حسبى الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ...
وبعد أن بلغ الباب مال الربيع على المنصور .. وأخذ يهدئ من روعه قائلا له .......
ــألم أقل لك يا مولاى .. إنه متمرد عاص .. أنا أدرى الناس بدخيلة قلبه .. إن السبب الحقيقى وراء رفضه القضاء .. والذى لم يقله لك يا مولاى .. هو حبه وولاؤه للبيت العلوى !..
أبى المنصور أن يعقب .. واكتفى بهز رأسه موافقا ...
@ بعد أيام لم يكن للناس حديث فى الكوفة كلها .. إلا عن أبى حنيفه وما جرى له .. وفى بغداد كانت قصته حديث الناس ومدار حواراتهم لأيام وبالذات فى الأسواق .. كان أمرا مألوفا أن تسمع هذا الحوار الهامس يدور بين الناس فى أسواق بغداد .......
ــ أعلمت بما جرى للشيخ الفقيه النعمان بن ثابت تاجر الحرير بالكوفه ؟!..
ــ ما الذى جرى له ؟!..
ــ يقولون إن المنصور استدعاه ثلاث مرات .. وعرض عليه أن يتولى قضاء بغداد .. أخذ يرجوه ويلح عليه فى كل مرة .. إلا أنه أبى وامتنع فى إصرار ...
ــ إنها ليست أول مرة يرفض فيها تولى القضاء .. هيه وماذا بعد ؟!..
ــ توعده أمير المؤمنين وأمر بإلقائه فى السجن .. وقيل أن الحراس أخذوا يطوفون به أسواق الكوفة .. لعل أحدا يثنيه عن رأيه .. وأخيرا ساقوه إلى السجن وضربوه مائة سوط ...
ــ لا حول ولا قوة إلا بالله .. يضربون شيخا فى الثمانين من عمره وفقيها مثله يحمل علوم السلف الصالح .. ألم ينبه أحدا أمير المؤمنين لفداحة هذا الفعل ؟!..
ــ يقولون أن عم المنصور ذهب إليه غاضبا .. وصاح فى وجهه قائلا .......
ــ كيف طوعت لك نفسك ضرب شيخ جليل مثله .. وهو فى هذه السن .. لقد سللت على نفسك بكل سوط ألف سيف ...
ــ وما الذى فعله المنصور يا ترى ؟!..
ــ شعر بفداحة فعله وعظم ذنبه .. فأراد أن يعوض الشيخ بمائة ألف درهم إلا أنه ردها إليه .. ولما قالوا له خذها وتصدق بها .. قال لهم .......
ــ لا أدرى إن كانت حلالا فآخذها ………………

يتبع إن شاء الله .........
...............
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور
رد مع اقتباس