عرض مشاركة واحدة
  #25  
قديم 06/11/2008, 09h06
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: mars 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,297
افتراضي


(5)
عودة لحكايات السفر

@ إقترب الليل وأرخى سدوله لما توارت الشمس فى مغربها .. فى نفس اللحظة التى وصلت فيها القافلة أبواب مدينة عسقلان حيث تقع بالقرب من بيت المقــدس .. وعلى مشارفها حط المسافرون رحالهم ونصبوا خيامهم .. طلبا للراحة والتزود بالماء والطعام ..
وأمام إحدى الخيام بعد أن صلى الجميع صلاة العشاء .. جلس عبيد الله الأزدى مطرقا وراح فى تفكير عميق .. وإلى جواره جلست أم حبيبه تضع وليدها فى حجرها .. وهى تحاول فى رفق أن تطعمه شيئا من الخبز المبلل بالثريد الدافئ .. وأمامهم وضعوا بعض الجمرات المتأججة يلتمسون بها شيئا من الدفئ .. بينما القمر يغمر أرجاء المكان بشعاعات نوره الفضية .. فيزيده سحرا وجمالا وبهاء وروعه .. وبينما هم على تلك الحال إذ التفتت أم حبيبة إلى أبيها قائلة ........
ــ كم سنمكث هنا .. فى عسقلان يا أبى ؟!.
ــ أعتقد أننا سنواصل رحلتنا بعد الغد .. ريثما ينتهى الشيخ أبو سعيد ومن معه من أمورهم التجارية فى سوق المدينه .. كما أخبرنا قبلا ..
ثم استطرد مبتسما ....
ــ إيه .. تتعجلين الوصول إلى الديار ؟!.
تنهدت قائلة .....
ــ يعلم الله يا أبت .. كم أنا فى شوق للقاء الأهل والأحباب .. أعوام مضت على كأنها دهر .. مذ فارقتهم إلى غزه !.
ــ حقا ما تقولين يا ابنتى .. ما أقسى الفراق .. وما أمرَ النوى .. خصوصا عليكن بنات حواء .. لا تحتملنه طويلا !.
سكتت ولم تعقب بعد أن شرد خيالها بعيدا .. وهى تتذكر الديار ومن فيها من أهل وأتراب .. وبعد أن مرت لحظات من الصمت .. لم يكن يسمع خلاله غير أصوات متداخلة آتية من الخيام المجاورة .. إختلط فيها الكلام بالضحك بالغناء .. إلتفت الشيخ قائلا لابنته وهو يومئ برأسه ناحية صغيرها .. الذى سكن صراخه .. وبدأ يخلد إلى النوم والراحه .....
ــ أخيرا هدأ أبو عبد الله من الصراخ .. له يومان لم يذق للنوم طعما ولا يجد للراحة من آلامه سبيلا .. هو نائم الآن .. أليس كذلك ؟!.
ــ بلى يا أبت .. أفاده كثيرا ذلك الدواء الذى جاءه به الشيخ أبو سعيد شيخ القافله .. بعد أن عرف علته وسبب صراخه ..
ــ أجل .. هؤلاء التجار يحتاطون لمثل هذه الأمور الطارئة .. فيحتفظون معهم بمثل هذه الأعشاب والأمزجة والأخلاط النافعه .. التى يحتاجها المسافرون فى رحلاتهم .. إذا أصاب أحدهم مكروه .. والحمد لله أن وجدنا دواء ولدنا فى حوزته ..
لم تعقب أم حبيبه .. واكتفت بهز رأسها قبل أن تلتفت ناحية أبيها قائلة ...
ــ أبت ؟!.
ــ إيه يا ابنتى ؟!.
ــ هل حدثت فتن أخرى .. بعد فتنة الراونديه ؟!.
ــ وأى فتن !. إنها فتن كقطع الليل .. إيه منذ متى توقفت الفتن والحروب والدسائس !. إن نيرانها لم تنطفئ ولم تخمد جذوتها بعد منذ الفتنة الكبرى .. التى راح ضحيتها ثالث الراشدين عثمان بن عفان .. ومن بعده على بن أبى طالب بعد أن قتله أحد الخوارج المارقين .. بعدها تفرق المسلمون إلى شيعة وخوارج .. ومنهما خرجت وستخرج فرق كثيره .. لا هم لهم إلا التقاتل والتناحر من أجل الوثوب على كرسى الخلافه ..
ــ كيف ذلك يا أبت ؟!.
ــ وقعت أحداث رهيبة فى العراق وفى أرض الحجاز .. راح ضحيتها رجال عظام من آل بيت النبوه وسالت فيها دماء زكية طاهره !.
ــ كما حدث فى موقعة كربلاء منذ حوالى مائة عام .. لسيد الشهداء الحسين بن على ومن معه من أل البيت ..
ــ تماما يا ابنتى تماما ..
ــ وما الذى حدث فى العراق والحجاز ؟!.
ــ بعد أن نجح العباسيون فى ثورتهم منذ حوالى عشرين عاما .. بايع الناس لأبى العباس الملقب بالسفاح .. إلا أبناء عمومته بنو طالب العلويين بزعامة محمد .. المعروف بالنفس الزكيه وكذلك أخوه إبراهيم ..
قاطعته متسائلة ......
ــ أليسا من أحفاد على بن أبى طالب ؟!.
ــ بلى يا ابنتى .. إنهما أبناء عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب .. المهم .. ظل السفاح يتودد إليهم مخافة أن يصطدم بهم لصلة القربى من ناحية .. ولشرفهم ونسبهم من ناحية أخرى .. إلا أنهم ظلوا متشبثين بحقهم فى الخلافة واستمروا فى بث دعوتهم سرا .. إلى أن تولى أبو جعفر المنصور الخليفة العباسى الثانى .. والمعروف عنه شدة الحذر والدهاء ..
ــ شدة الحذر والدهاء ؟!.
ــ أجل .. كان ولا يزال حتى اليوم شديد الحذر عظيم الدهاء .. لا ينتظر وقوع الأمر بل يحتال له قبل وقوعه .. إن له عبارة شهيرة تقول : ليس العاقل الذى يحتال للأمر الذى وقع فيه ليخرج منه , لكن العاقل من يحتال للأمر الذى غشيه حتى لا يقع فيه ..
ــ وماذا فعل يا أبى ؟!.
ــ بدأ يراقب تحركات أبناء عمه فى حذر شديد .. ويتحين الفرصة تلو الأخرى آملا أن يظفر بهم فى قبضة يده .. بالحيلة والدهاء إلى أن كان يوم ……


@ فى حديقة القصر الفسيحة الرحبة وتحت ظلال أشجارها الوارفة حول مائدة ممتدة عامرة .. تعلوها أنواع مختلف ألوانها من الطعام والشراب والفاكهه .. جلس الخليفة المنصور فى صدارة المكان وعن يمينه ولده محمد المهدى ولى العهد الذى تولى إمارة خراسان .. وعلى يساره جلس كبير الحجاب الربيع بن يونس .. وكاتب الديوان أبو أيوب الموريانى وبصحبته شاب إسمه جعفر .. فى حوالى الخامسة والعشرين من عمره يعمل مساعدا له فى ديوان الكتابة والرسائل .. فى الجهة المقابلة جلس قادة الجيوش يتقدمهم القائد الكبير أبو الخصيب .. وإلى جواره خالد بن برمك والى الخراج .. وآخرون من رجال البلاط العباسى ..
كان المنصور قد أعد هذه المائدة العامره لمناسبة انتصار جيوشه وفتوحاتهم المتلاحقة فى طبرستان والديلم وقرماسين .. وبينما الجالسون مستغرقون فى تناول طعامهم .. أخذ المنصور يتفقد من حوله كعادته وهو يجول ببصره فيهم حتى وقعت عيناه أخيرا على ذلك الشاب جعفر الذى يجلس بجوار كاتب الديــوان .. لم يكد يتجاوزه بعينيه حتى أعاد النظر إليه مرة أخرى مدققا ومتفرسا فى ملامحه .. فى الوقت الذى بدأت علامات من الشك تظهر على وجهه وهو يلوك على مهل لقمة الطعام فى فمه كأنها لا تعرف طريقها إلى جوفه .. ولسان حاله يردد قائلا .....
ــ أمر عجيب حقا !. أمعقول هذا !. لعله يكون هو .. لا ..لا .. غير معقول ..
ألقى بهواجسه وظنونه جانبا ثم عاد يستأنف طعامه مرة أخرى .. دون أن يشعر به أحد من الجالسين إلا ذلك الداهيه الربيع بن يونس .. الذى كان يرقبه كعادته من طرف خفى .. محاولا قراءة أفكاره ومعرفة ما يدور داخل رأسه .. حتى يكون مهيأ للرد فى أى وقت بالإجابة المناسبة التى تروق لمولاه ..
وبينما القوم مستغرقون فى تناول طعامهم وكل واحد منهم غارق فى الأصناف المكدسة على المائده أمامه .. فاجأهم المنصور وهو ينظر ناحية القائد أبا الخصيب قائلا له مداعبا .. وعلى شفتيه ابتسامة ذات مغزى ....
ــ كيف حالك أيها القائد .. لعلك الآن أحسن حالا بعد الذى جرى لك فى طبرستان فى الأيام الماضيه !.
ضج الحاضرون جميعا بالضحك وعلت أصواتهم .. إلا ولى العهد لم يشاركهم ضحكاتهم .. بدا عليه أنه خالى الذهن عن هذه الحادثة لا يعلم عنها شيئا .. لم يفهم مغزى سؤال أبيه لقائده ولماذا ضج الحاضرون بالضحك .. وأخيرا نظر إلى أبيه متسائلا .. وقد علت الدهشة وجهه مما يجرى حوله ...
ــ ما الذى حدث فى طبرستان يا أبت .. وما الذى جعل القوم يضحكون هكذا ؟!. إنى مذ توليت إمارة خراسان إنقطعت عنى الأنباء .. ويبدو أنه قد فاتنى الكثير منها !.
إلتفت المنصور إلى أبى الخصيب قائلا له ...
ــ ما قولك أيها القائد .. ولى العهد يود أن يسمع حكاية حصن طبرستان .. وما جرى لك فيه ..
أجاب مرتبكا وهو يجاهد فى إخفاء ابتسامة خجلى ......
ــ مولاى !. هذه الواقعة سردتها أكثر من مرة حتى مللت..
رد المنصور وهو لا يزال ضاحكا .....
ــ وستعيد سردها الآن .. ألم تسمع لقول ولى العهد ..
ــ أمرى إلى الله .. سأعيد سردها .. من أجل عيون ولى العهد ..
سكت برهة وهو يتنحنح قليلا .. ثم أردف قائلا موجها كلامه لولى العهد ...
ــ إسمع يا سيدى .. بعد أن نقض الأصبهبذ حاكم طبرستان العهود والمواثيق التى قطعها على نفسه .. ألا يتعرض لأحد من المسلمين وقتل عددا كبيرا منهم غدرا وظلما .. قمنا بحصار حصنها كما أمر مولاى أمير المؤمنين ..
قاطعه ولى العهد وهو يلوح بيده ....
ــ كل هذا أعلمه .. ما هى الحكاية التى جرت فى الحصن .. وأضحكت الحاضرين جميعا هكذا ؟!.
ــ لا تعجل يا ولى العهد .. سأخبرك بالحكاية كلها وستضحك أنت أيضا مثلهم .. لما طال حصارنا وأعيتنا السبل فى اقتحامه وفتح أبوابه .. قلت لرجالى إن هذا الحصن المنيع لن نستطيع اقتحامه إلا إن أعملنا الحيله .. قالوا أية حيلة تلك التى ستفتح حصنا منيعا كهذا .. قلت لهم مزقوا ملابسى وأزيلوا شعر رأسى ولحيتى .. واضربونى ضربا مبرحا من ذلك الذى يترك علامات زرقاء وحمراء على الجسد .. ثم دعونى أدخل طبرستان ولسوف أفتح لكم باب الحصن بإذن الله ..
ــ هل فعلوا ذلك ؟!.
ــ أجل يا مولاى.. إستنكروا فى بادئ الأمر أن يهينوا قائدهم .. لكنهم امتثلوا فى النهاية وضربونى ومزقوا ملابسى .. حتى صرت فى حالة مزرية وصورة منكره ..
ــ هيه .. وكيف تم لك فتح الحصن إذن .. وأنت على هذه الحالة المزرية المنكره ؟!.
ــ كيف ستكون حيلة إذن !. سأخبرك بكل شئ .. كما تم خطوة خطوه . بعد أن فعل بى أصحابى ما فعلوا وهم فى دهشة من أمرى .. ذلك لأنى لم أعرفهم خطتى .. دخلت إلى طبرستان متسللا حتى وصلت إلى أبواب القصر الذى يقيم فيه حاكمهم الأصبهبذ .. فلما رآنى رجاله …..
قاطعه متلهفا ....
ــ ماذا فعلوا ؟!.
ــ أمسكوا بى وأخذوا يلاحقونى بأسئلتهم ..
ــ عن أى شئ ؟!.
ــ سألونى عن حالى .. ومن أكون ومن أين قدمت ..
ــ هل أجبتهم ؟!.
ــ لا .. لم أجبهم !.
ــ لم .. لم تجبهم على أسئلتهم ؟!.
ــ كنت أريد مقابلة حاكمهم “ الأصبهبذ “ نفسه ..
ــ هل سمحوا لك بلقائه ؟!.
ــ أجل .. لم يسع رجاله إزاء صمتى .. إلا أن يدخلونى عليه أخيرا ..
ــ هيه .. وما الذى دار فى هذا اللقاء ؟!.
ــ لما أدخلونى عليه ورآنى على هذه الصورة المزرية سألنى عن حالى ومن أكون .. قلت له وأنا أصطنع الخوف والبكاء .. إن المسلمين قد ضربونى وأهانونى وفعلوا بى ما ترى ..
ــ بالطبع سألك عن سبب ذلك ؟!.
ــ أجل سألنى .. فادعيت أنى أدين بملتهم وقلت له إن قومى قد اطلعوا على حالى وأدركوا أن هواى معكم لأننى أعتنق ملتكم وأعتقد فى آلهتكم ..
ــ هل صدق مزاعمك ؟!.
ــ لقد أتقنت تمثيل الدور تماما .. حتى أنه أخذ يهدئ من روعى وفرح بى وأكرمنى .. وأوصى رجاله بى خيرا .. فلما وثقت وأيقنت أنه قد أمن جانبى أخذت أظهر له النصح وأتفانى فى خدمته وأقوم على مصالحه .. حتى أصبحت من المقربين لديه ومن خاصة رجاله الذين لهم حق الاقتراب من أبواب الحصن وفتحها وغلقها فى أى وقت .. وهى مهمة لا توكل إلا للمقربين بالمناوبه ..
ــ هيــه .. ثم ماذا ؟!.
ــ ظللت على هذه الحال بضعة أيام .. إلى أن كانت ليلة من الليالى كتبت مكتوبا إلى رجالى الذين كانوا لا يزالون مرابطين خلف الحصن .. أعلمتهم فيه أننى قد ظفرت بالحيله وسأفتح لهم باب الحصن فى ليلة كذا بعد منتصف الليل .. وطلبت إليهم أن يكونوا على مقربة منه ..
ــ وكيف أرسلت المكتوب إليهم ؟!.
ــ علقته فى سهم وأرسلته ناحيتهم .. ولما انتصف الليل فتحت باب الحصن بعد أن تأكدت من أن أحدا لا يرانى .. وأن رجال الأصبهبذ فى غفلة من أمرى .. وعندئذ دخل رجالنا وقتلوا كل من كان بالحصن .. وتم لنا أخيرا الاستيلاء عليه ..
ــ وحاكمهم “ الأصبهبذ “ .. ماذا جرى له ؟!.
ــ ذلك الظالم خائن العهود نال جزاءه العادل الذى يستحقه على غدره وقتل شر قتله .. تلكم يا سيدى حكاية الحصن ..
فى نفس اللحظة وبينما الجميع يتضاحكون من حكاية الحصن .. ويطلقون نكاتهم وتعليقاتهم الساخرة .. تقدم أحد الحراس من المنصور وأسر فى أذنه كلمات .. هز المنصور رأسه موافقا وبعد برهة عاد الحارس وبصحبته شيخ وقور تبدو عليه أمارات الشرف والرفعه .. ما كاد المنصور يلمحه داخلا من بعيد .. حتى رفع صوته بالتحية قائلا له فى ود مصطنع يخفى وراءه كراهية دفينة ..........
ــ أهلا ومرحبا بابن عمومتنا وسندنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب .. تفضل هنا إلى جوارى يا ابن العم العزيز ..
شكره الشيخ وهو يخفى ابتسامة ساخرة وراء شفتين كليلتين .. كان يعلم أن هذا ودا مصطنعا يخفى وراءه حقدا دفينا .. ما إن جلس حتى أقبل المنصور عليه تاركا الطعام .. وهو يبدى له الكثير من الود والترحيب وبعد مقدمات كثيرة قال له فى غير اكتراث وكأنه يسأل سؤالا عابرا ....
ــ أين ولديك يا أبا عبد الله ؟!.
ــ أظنك تسأل عن محمد وإبراهيم ؟!.
ــ تماما تماما .. أين هما الآن يا ترى وإلى أى بلدة رحلا ؟!. أراهما قد استوحشا منى .. ليتهما يأمنا لى فأنا لا أحمل لهما فى نفسى أى ضغينة أو عداء أبدا .. فهما أبناء عمومتى ونحن جميعا فى نهاية الأمر أبناء جد واحد .. أليس كذلك يا أبا الحسن ؟!.
رد الشيخ قائلا وفى عينيه نظرة ساخرة بعدما فهم السر من وراء هذه الحفاوة المصطنعة .. وتأكدت لديه هواجسه ومخاوفه ساعة أرسل إليه ...
ــ بلى يا أمير المؤمنين .. جدنا هاشم بن عبد مناف ..
سكت برهة وأردف .....
ــ لكن !. ألهذا أرسلت فى طلبى ؟!.
ــ لا . لا بالطبع .. لكنه سؤال عابر يا ابن العم .. أردت أن أؤكد لك من خلاله أنى لا أحب أن يحمل لى أحد من أهلنا أى عداء أو ضغينه ..
ــ هل تصدقنى يا أمير المؤمنين إذا قلت لك .. أنه ليس لى بهما ولا بموضعهما فى البلاد علم .. لقد خرجا من يدى إلى حيث لا أعلم إلى بلاد الله الواسعه ..
رد المنصور متظاهرا أنه يصدقه ....
ــ أجل . أجل أعلم أنهما خرجا إلى بلاد الله الواسعه .. وأعلم أنك صادق فى قولك لكنك تستطيع أن تعرف مكانهما .. هذا أمر ليس بالعسير عليك يا ابن العم .. وعلى أية حال وحتى أثبت لك حسن نيتى فإنى على استعداد إن أردت الآن .. أن أكتب إليهما كتابا بالأمان .. وسأشهد عليه كل الأمراء والقاده .. ما قولك ؟!.
أجابه الشيخ متهكما وقد عزم على مواجهته بعد هذه المراوغات ....
ــ كتابا بالأمان !. عن أى كتاب تتحدث وأى أمان هذا الذى تدعيه !. أتظن أنى نسيت ما فعلته مع ابن هبيره أو ما فعلته مع ساعدك الأيمن ورجلك الأول أبى مسلم الخرسانى .. لعلك لست فى حاجة إلى أن أذكرك بما فعلته بعد ذلك مع عمك عبد الله بن على .. أنسيت أنك قتلته بعد أن استدرجته وأعطيته الأمان هو الأخر .. كل واحد من هؤلاء غدرت به .. بعد أن أعطيته الأمان قبل أن يأتى إليك .. لتجهز على حياته !.
وقبل أن يسترسل الشيخ فى رمى سهامه التى أصابت الحاضرين بالوجوم .. قاطعه المنصور والشرر يتطاير من عينيه وقد تملكه غضب عارم ....
ــ مه أيها الشيخ الخرف .. يبدو أن طول صبرى عليك قد أنساك نفسك . إنك لا تعرف شيئا .. أنا لم أقتل إلا الخونة والمارقين الطامعين .. لقد نالوا جميعا ما يستحقونه جزاء ما قدمت أيديهم ردعا لهم وعبرة لأمثالهم .. هيا أخبرنى بمكان ولديك قبل أن أجهز على حياتك أنت الآخر ؟!. لقد صبرت عليك كثيرا ويكاد صبرى أن ينفذ .. تكلم ؟!.
ــ وإن أبيت .. ماذا أنت فاعل يا ابن العم ؟!. إعلم أنى لا أهابك .. حتى لو أمرت بقتلى الآن .. ووالله الذى أرسل محمدا بالحق .. لو كانا تحت قدمى هاتين .. ما دللتك عليهما ولا رفعت عنهما قدماى.. حتى لو وضعت سيفك هذا على عنقى !.
ــ هل جننت أيها الرجل .. كيف سولت لك نفسك أن تخاطبنى بهذه الوقاحة وذلك التحدى ؟!.
ــ لن أرد على سبابك وتطاولك على شيخ هرم مثلى .. لكنى سأقول لك كلمة أخيرة وبعدها افعل ما تشاء .. إنى علمت ساعة أرسلت إلى سوء نيتك .. وأعلم أنك خائف منهما وأنك تتربص بهما .. أنسيت يوم بايعت ولدى محمد مع أهل الحجاز على خلع مروان بن محمد !. أنسيت أنك أنت الذى أهدرت البيعة وتنصلت من عهدك ؟!.
إستشاط المنصور غضبا وهب واقفا .. وقد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه وهو يصرخ فيه .....
ــ رغمت أنفك أيها الأحمق .. خذوا هذا المخرف إلى السجن .. ضعوه فى مكان لا يسمع فيه آذانا أو يعرف فيه الليل من النهار .. لا تجعلوا أحدا يصل إليه أو يكلمه .. أما أنا .. فسأعرف كيف أصل إلى مكان ولديك .. وسيكونا فى قبضتى هاتين .. رضيت أم أبيت !.
لم يشأ الربيع الداهية أن يضيع هذه الفرصة التى سنحت له ليبث سمومه من مخزون الكراهية الدفينة فى قلبه للبيت العلوى كله .. مال برأسه على المنصور وهو يقول هامسا ....
ــ أرى يا مولاى إذا إذنت لى .. أن تجمع كل أبناء الحسن وعشيرته وتضعهم فى الحبس معه .. إن هذا سوف يستثير ولديه ويعجل بظهورهما من مخبئهما وعندئذ !…..
قالها وهو يبتسم ابتسامة ماكرة صفراء ذات مغزى .. هز المنصور رأسه موافقا وانتظر إلى أن اقتاد الحراس الشيخ إلى محبسه ثم انتحى بالربيع جانبا وقال له ....
ــ أرسل بعضا من عيوننا إلى يثرب ومكه والعراق وخراسان ليتحسسوا أخبار هذين الهاربين .. أريد منكم أن تضعوا أيديكم عليهما فى أسرع وقت ودون تأخير .. أسمعت يا أبا الفضل .. فى أسرع وقت !.
ــ أمر مولاى .. إن هى إلا أيام قليله .. ويكونا تحت قدميك…………

@ إستمر عبيد الله الأزدى يحكى لابنته ..............

ــ فى تلك اللحظة كان أحد الحراس يتسلل خارجا من أبواب القصر دون أن يراه أحد .. متخذا طريقه لا يلوى على شئ إلى حيث يختبئ محمد وأخوه إبراهيم عن عيون المنصور .. بعد أن التقطت أذناه هذا الحوار من مكانه الذى كان قابعا فيه .. كان هذا الرجل من عيون الثوار الهاربين والمندسين فى بلاط المنصور وحاشيته .. ينقل إليهم أولا بأول أخبار القصر وما يدور فيه من فتن ودسائس ...............
وفى مكان يقع وسط صحراء الجزيرة العربيه يبعد بضعة أميال عن المدينة المنوره .. وفى شعب من شعاب جبال رضوى جهينه الذى يقع شمال شرقى المدينه .. إتخذ الثائران محمد وإبراهيم أبناء عبد الله بن الحسن مع باقى إخوتهما وأهلهما ونفر من رجالهما مخبأهم .. داخل كهف آمن من كهوف هذا الجبل بعيدا عن عيون المنصور وأعوانه وجواسيسه .. وفى داخل الكهف جلسوا جميعا يتحلقون رجلا بدينا .. تغلب عليه السمره مهيب الطلعة سمح الوجه فى منتصف العقد الخامس من عمره .. له سطوة ومهابة تفرض نفسها للوهلة الأولى على كل من يخاطبه أو تقع عليه عينه ..
إنه محمد بن عبد الله بن الحسن حفيد الامام على كرم الله وجهه وهو الملقب بالنفس الزكيه .. وإلى جواره جلس أخوه إبراهيم .. كان رغم نحافته بعض الشئ فتيا قويا يتميز ببشرة بيضاء مشربة بسمرة خفيفه يناهز الأربعين من عمره ..
إلى جوارهما جلس أخواهما "يحي" شابا فتيا مفتول العضلات فى العشرين من عمره .. وأصغر الثوار "إدريس" وهو صبى تخطى العاشرة من عمره بقليل .. ومن حولهم جلس جمع من الأهل والأنصار يناقشون أمرهم ويتدبرون أحوالهم .. إبتدر أحد الجالسين قائلا فى حدة وضيق ..........
ــ إلى متى نظل هكذا ونحن على هذه الحال لا يستقر لنا مكان ولا تلاقينا أرض .. ونحن هاربون مطاردون من بلد إلى بلد ومن كهف لآخر كأننا شرذمة من القتلة المجرمين أو من الخارجين على شرع الله ؟!.
رد عليه آخر .....
ــ أجل لابد أن نضع نهاية لهذا الأمر .. إننا لا نكاد نذهب إلى مكان حتى نسارع بالرحيل إلى غيره .. ما كل هذا الذل والهوان !. أدعاة باطل نحن أم دعاة حق ؟!.
أجابه ثالث .....
ــ بل نحن أصحاب حق ودعوتنا دعوة صدق .. وآن لنا أن نسترد أخيرا حقنا الشرعى الذى اغتصبه منا بنوا العباس ..
كان ذلك الحوار الصاخب يدور بين الجالسين .. بينما زعيمهم محمد "النفس الزكيه" يستمع إليهم مطرقا رأسه صامتا وهو ينكت الأرض بعود من الحطب فى يمناه .. وعيونهم ناظرة إليه فى انتظار ما يعقب به على كلامهم .. بعد برهة من الزمن كأنها دهر .. رفع رأسه قائلا فى نبرات هادئة واثقة مطمئنه ......
ــ لقد جئنا إلى المدينة أيها الرجال واخترنا هذا المكان الآمن بعد كل ما عانيناه ونحن مطاردون فى بلاد الله الواسعه .. لنتدبر أمرنا فى روية وأناة بعيــدا عن عيون وجواسيس المنصور .. ذلك الداهيه الذى اتخذ الهاشمية مقرا له .. وتعلمون جميعا أنه يعتقد اعتقادا جازما ومن قبله أخيه السفاح أنهم الورثة الشرعيون للخلافه .. إستنادا لزعمهم القائل أن جدهم العباس هو الوريث الشرعى لرسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. وحجتهم فى ذلك أنه لم يبق إلا هو على قيد الحياه من أعمام النبى [صلى الله عليه وسلم ] بعد وفاته ..
قال إبراهيم معقبا .......
ــ هناك أمرا آخر لم تشر إليه يا أبا على ..
ــ ماذا تريد أن تقول يا إبراهيم ؟!.
ــ أنسيت يا أخى أنه هو الذى يردد دائما أن الفضل يرجع إليه فى الانتقام من قتلة أجدادنا وآلنا بنوا على بن أبى طالب .. وأنه هو الذى أفلح فى القضاء على آخر حكام بنى أميه متجاهلا ومتناسيا عن عمد أن هذا كله كان بفضل نصرتنا وتأييدنا ودعمنا !.
ــ كيف أنسى ذلك والمنصور نفسه ومن قبله أخيه السفاح قد نقضا العهد الذى اتفق عليه بنوا هاشم فى الأبواء ..
ــ أجل عقد البيعة لك عند نجاح الثوره !.
رد أحد الجالسين معقبا ......
ــ لم تكن إلا خدعة وحيله ليحصلوا على تأييدنا ونصرتنا لثورتهم .. وأن تظل جبهة بنى هاشم صلبة متماسكة لا انقسام فيها .. ريثما يحققون مأربهم وهو الوثوب على كرسى الخلافه ..
قال آخر ......
ــ أجل لقد جعلوا منا جسرا يعبرون عليه إلى كرسى الخلافه .. سحقا لهم !. لابد أن نسترد حقنا المسلوب وننتقم منهم حتى لو كانت أرواحنا هى الثمن .. لن نضن بها أبدا فى سبيل تحقيق هذا الهدف !.
قال محمد “ النفس الزكيه “ ............
ــ أيها الرجال تعرفون أننا وإن كنا قليلون عددا وعتادا منهم وربما يتمكنون منا .. غير أن أتباعنا فى شتى البلاد كثيرون وكلنا جميعا مستعدون لبذل أرواحنا والتضحية بأنفسنا ولن تتوقف مسيرتنا أبدا .. سيكمل أبناؤنا وأحفادنا مسيرة عمنا الحسين التى حمل لواءها من بعده زيد وولده يحي ..
فى تلك الأثناء دخل أحد الحراس المكلفين بمراقبة الجبل .. توجه إلى كبير القوم قائلا وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه اللاهثه ......
ــ سيدى .. أرى أحد الفرسان قادما وحده من بعيد ..
ــ من يكون ؟!.
ــ لم أتبين ملامحه بعد .. لكنى رأيته يرفع الراية الخضراء المتفق عليها !.
ــ لابد أنه أحد رجالنا جاء يحمل أنباء لنا .. تأكد من هويته أيها الحارس ثم أدخله فى الحال ..
سأل إبراهيم وقد بان عليه القلق ........
ــ ما الذى حدث يا ترى لابد أن أمرا خطيرا وقع بالعراق !.
رد محمد قائلا .....
ــ بعد قليل نعرف كل شئ ..
بعد برهة دخل الحارس مرة ثانية وهو يقول .....
ــ القادم يا سيدى هو إبن صفوان رجلنا فى قصر الهاشميه ..
رد محمد فى لهجة آمره .......
ــ ماذا تنتظر أيها الحارس .. أدخله فى الحال ..
إبتدره محمد قائلا .....
ــ تعال يا ابن صفوان واجلس هنا إلى جوارى‏ .. لقد قطعت رحلة طويلة شاقه .. وأعتقد أنك فى حاجة للراحة والطعام !.
ــ معذرة يا سيدى فإنى كنت أسابق الزمن وأنا فى الطريق إليكم .. فالوقت يمر سريعا والأحداث تتلاحق .. وما جئت من أجله إلى هنا لا يحتمل الانتظار !.
سأل إبراهيم الذى كان أكثرهم قلقا ولهفه ..........
ــ خيرا يا ابن صفوان .. ماذا وراءك ؟!.
ــ سيدى .. لابد من مغادرة هذا المكان فى الحال قبل أن يحاط بكم ..
ــ ماذا تعنى .. أفصح ؟!.
ــ لقد أرسل المنصور إلى والدكم عبد الله بن الحسن وأخذ يتودد إليه فى لــؤم ودهاء ليأتى له بكما .. وحاول مستعينا بالحيلة ومعسول القول أن يستدرجه لمعرفة المكان الذى تختبئون فيه ..
ــ هيه .. ثم ماذا ؟!.
ــ باءت كل محاولاته بالفشل !.
قال محمد معقبا وقد ظهر عليه الضيق والهم .....
ــ لعله أظهر وجهه الأخر الذى يخفيه وراء قناع من الزيف والباطل .. بعد أن جرب الحيلة والخديعه .. تلك وسيلته دائما .. ما أخبثه .. ما ألعنه !.
ــ تماما يا سيدى . هذا هو ما حدث منه فلم يكد والدكم يصرخ فى وجهه قائلا له إنه لن يأتى بكما ولو كنتما تحت قدميه حتى غلى الدم فى عروقه وهاج وماج .. ثم أمر به إلى السجن ومعه باقى الأهل والأنصار !.
رد محمد .....
ــ إنه ما فعل ذلك إلا ليستفزنا .. وليعجل بخروجنا مــن مخبئنا هذا !.
رد ابن صفوان قائلا ......
ــ تماما يا سيدى وسمعت المنصور أيضا وهو يأمر الربيع بن يونس أن يرسل كتابا بعزل أمير المدينه محمد بن خالد القسرى .. وأن يختار بدلا منه صعلوكا من الصعاليك حتى يكون طوع أمره ورهن إشارته فى كل ما يأمره به ..
ــ هل تعرفت على اسمه ؟!.
ــ أجل يا سيدى .. إنسان وضيع لا خلاق له أعرفه .. إسمه رياح بن عثمان المرى ..
صمت قليلا وأردف قائلا ........
ــ وأنا فى طريقى إلى هنا .. علمت كذلك من بعض رجالنا فى المدينه أنه بدأ فى التحرى والبحث .. وأنه قد توصل فعلا إلى بعض الخيوط التى توصله إلى مكانكم !.
أطرق محمد قليلا .. ثم رفع رأسه موجها كلامه لمن معه ...........
ــ إسمعوا جيدا أيها الرجال والأنصار . وانتبهوا لكلامى فسأشرح لكم الآن خطة الخروج من هنا ..
بدأ يخط بعود من الحطب فى يده خطوطا متباينة أمامه على الرمال ويشرح لهم خطته ………………
----------
@ إستأنفت القافلة رحلتها من عسقلان بعد أن مكثت بها بضعة أيام .. وأخذت طريقها سابحة فى بحر الصحراء المترامى حيث تبدو من بعيد سلسلة من الجبال الشامخه .. وبعد أيام من المسير المتواصل مرت القافله بمحاذاة مدينة البتراء والتى تعرف أيضا بالرقيم .. سألت أم حبيبة أباها عنها فأجابها وهو يشير بيده .....
ــ إنها مدينة أثرية قديمة مهجورة لا يسكنها أحد ولا حياة فيها .. سوى بعض الأحجار القديمه المتناثرة هنا وهناك وبنايات أثرية من بقايا حضارة الأنباط التى اندثرت منذ زمن بعيد ..
قال ذلك ثم عاد يكمل لابنته وهو راكب دابته بقية أحداث ذلك الصراع الذى كان دائرا بين الخليفة المنصور وأبناء عمه العلويين الطالبيين ....
ــ لم يكد ذلك الصعلوك الذى ملكه المنصور زمام الأمور فى المدينه .. حتى أخذ يبطش وينتقم من كل واحد ينتمى أو يناصر العلويين .. إلى أن امتلأت بهم سجون المدينة جميعها ..
ــ كلهم يا أبت ؟!.
ــ أجل يا ابنتى .. كلهم حتى أنه كان لمحمد "النفس الزكيه" ولد إسمه على أرسله إلى مصر بعيدا عن عيون المنصور حتى لا يقع فى قبضته .. لم يسلم هو الأخر من بطشهم ولم يفلت من قبضتهم .. إقتادوه من هناك فى غلظة وأتوا به إلى الهاشمية وألقوا به فى السجن مع المقبوض عليهم .. وفى تلك السجون قتلوا بعضهم غيلة وتركوا الآخرين يموتون صبرا .. كان من بين ضحاياهم عبد الله بن الحسن والد الثوار الذى لقى حتفه داخل السجن ..
سألت فى أسى ولوعه ....
ــ وماذا كان مصير محمد النفس الزكيه وبقية إخوته ؟!.
ــ إبراهيم فإنه توجه إلى البصرة وظل مختبئا هناك فى انتظار أن تأتيه الاشارة من أخيه بالظهور فى الوقت المناسب ..
ــ ومحمد النفس الزكيه هل فعل شيئا أم ظل فى مكمنه ؟!.
ــ خرج فى نفر من أتباعه فى جنح الظلام متسللا بين الجبال وفى دروبها الوعره .. متخذا طريقه إلى يثرب بعد أن أعلم كل واحد من أهله وأتباعه بما سوف يفعله .. وبالفعل حدث ما كان يتوقعه ويحسب حسابه ..
ــ ماذا تعنى يا أبى .. هل أمسكوا به ؟!.
ــ لا ليس بعد .. لكن ذلك الصعلوك أبو رياح المرى الذى تولى إمارة المدينه استطاع معرفة مكانه الذى يختبئ فيه .. وعلى الفور أخذ معه حشدا كبير من الجند وتوجه إلى شعب رضوى جهينه باحثا عن الثوار .. إلا أنهم أفلحوا فى الافلات منهم قبل أن يصلوا إليهم بفترة وجيزه ..
ــ هيه .. وماذا بعد يا أبت ؟!.
ــ بعد مطاردات مثيرة بين الجبال والوديان .. إستطاع محمد "النفس الزكيه" أن يصل إلى المدينة وأن يدخلها مع أتباعه .. دون أن يشعر به أحدا من أعدائه ..
ــ من المؤكد أنه قام بالإختفاء فى المدينه ؟!.
ــ على العكس .. ما كاد أنصاره من أهل المدينة يعلمون بوصوله ووجوده داخلها .. حتى توافوا عليه من كل مكان وتجمعوا من حوله .. كانوا حوالى ثلاثمائه من أشد الرجال .. وعلى الفور توجه الجميع إلى سجون المدينه وأخرجوا من بقى فيها منهم على قيد الحياه .. ثم يمم الجميع بعد ذلك صوب دار الامارة وحاصروها .. وألقوا القبض على ذلك الصعلوك الذى أتى به المنصور وسط تكبير الناس وتهليلهم .. ولم يمض غير يومين إلا والمدينة كلها قد دانت له بالولاء .. وتمت له السيطرة على زمام الأمور فيها تماما وفى اليوم التالى ………………

@ تصل بنا أحداث الصراع بين أبناء العم إلى قلب المدينة المنورة .. وفيها قامت مسيرة كبيرة قادها محمد "النفس الزكيه" ومن حوله أتباعه وأنصاره صبيحة اليوم التالى على وصولهم إلى المدينه .. حمل أنصاره الألوية والرايات وتوجهوا شطر المسجد النبوى .. ومن خلفهم جموع غفيرة من أهلها فيهم الشيوخ والشباب والنساء والصبيه ..
كانوا يفدون من كل ناحية وأعدادهم تزداد شيئا فشيئا كلما مضت المسيرة فى طريقها .. وهم يرددون فى صوت واحد هادر "لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد" .. كانت هتافاتهم المدوية فى هذا الموكب المهيب تهز أرجاء المدينة وتزلزل جنباتها وتشق أصداؤها عنان الفضاء .. وقبل أن يصلوا كان المسجد قد امتلأ عن آخره بجموع كبيرة من الناس .. يتقدمهم الوجهاء والأعيان وشيوخ القبائل والعشائر ..
وسط هذه الجموع إندس أحد عيون المنصور وهو جاسوس يعمل بأجر معلوم دراهم معدوده .. شأنه شأن غيره ممن كلفهم المنصور بنفسه لمثل هذه المهام .. ينقل الأخبار الهامة إلى البلاط وعلى قدر وأهمية ما يحمله من معلومات تكون مكافأته .. كان رجلا سمجا توشى ملامحه أنه من ذلك النوع الذى يجيد التنصت والتسمع .. وتبدو على مخايله واضحة جلية علامات الوضاعة والخسه والنذاله .. جلس مرهفا سمعه لكل كلمة تقال من حوله متظاهرا أنه يشارك القوم فرحتهم وسرورهم .. وهو يسجل فى ذاكرته كل كلمة تصل إلى مسامعه من الجالسين من حوله ..
صعد محمد "النفس الزكيه" على منبر رسول الله [
صلى الله عليه وسلم ] .. واستهل الحاضرين خطابه فى تؤدة ورويه .......
ــ "بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين أما بعد : أيها الناس يا أهل يثرب يا أبناء المهاجرين والأنصار .. إنى والله ما خرجت بين أظهركم وأنتم عندى أهل قوة أو بأس .. لكنى اخترتكم لنفسى لأن أحق الناس للقيام بهذا الدين أنتم أهل المدينه أبناء المهاجرين والأنصار .. ووالله ما جئت إلى هنا إلا ولى فى كل مصر من الأمصار بيعه .. أيها الناس لقد أمرنا بعزل ذلك الصعلوك الذى جاءوا به أميرا عليكم وأن يبقى فى محبسه إلى أن نرى فيه أمرنا .. كذلك أمرنا أن يتولى إمارة المدينة عثمان بن محمد بن الزبير .. وأن يقوم على أمر الشرطه عثمان بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب وعلى بيت السلاح عبد العزيز الدراوردى ......
إستمر محمد "النفس الزكيه" يلقى بيانه والقوم كلهم منصتون إليه .. لا يرفعون أعينهم عنه وقد علت وجوههم البهجة وعمهم الفرح والسرور .. إلا ذلك الجاسوس الذى كان مندسا بينهم .. تسلل فى خفة خارج المسجد بعد أن سمعت أذناه ما سمعت دون أن يشعر به أحد من الجالسين من حوله .. ثم ركب دابته وانطلق يعدو بها لا يلوى على شئ قاصدا طريق العراق .. بدا سعيدا مبتهجا بالجائزة التى تنتظره فى مقابل ما يحمله من أنباء هامة .. لم يسبقه إليها أحد إلى بلاط المنصور ..
----------
@ خرج الناس من المسجد النبوى بعد أن انتهى الثائر من إلقاء بيانه وهم فى حيرة من أمرهم .. كانوا فى قرارة أنفسهم يتمنون مبايعته خليفة للمسلمين .. لكن أسقط فى أيديهم فقد سبق لهم إعطاء البيعة للمنصور بأيمان مغلظة لا سبيل لهم إلى نقضها أو الرجوع عنها .. وبعد مداولات إتفقوا فيما بينهم أن يختاروا نخبة من بينهم يمثلون الأعيان وشيوخ القبائل والعشائر .. يأتون لهم بالفتوى من شيخ المدينة وإمامها مالك بن أنس ..
وفى مساء اليوم نفسه توجهت تلك النخبة من شيوخ المدينة وأعيانها إلى دار الفقيه مالك بن أنس .. وعلى باب الدار خرجت إليهم جاريته السوداء التى كانت تقوم على خدمته .. سألتهم عن مطلبهم .. أجابها كبيرهم على الفور ......
ــ جئنا نلتمس لقاء الشيخ .. فى أمر هام وضرورى ..
وقبل أن تفتح الجارية فهما للرد عليه استدرك قائلا .....
ــ نعلم أن هذا اليوم ليس يوم الفتوى .. إلا أن الأمر هام أيتها الجاريه ولا يحتمل الإنتظار للغد ..
ما كان منها إلا أن عادت أدراجها داخل الدار تستأذن سيدها وهم لا يزالون وقوفا بالباب .. ذلك أن شيخ المدينة وإمامها أعد نظاما ثابتا وحدد أياما وساعات معينة يلتقى فيها بالناس ليجيب على أسئلتهم .. وأياما أخرى للدرس وتعليم الحديث .. كان لا يسمح أبدا بتغيير هذا النظام الصارم ولا يأذن لأى أحد أن يقطع عليه خلوته إلا فى الملمات .. وعلى هذا النهج عاش حتى آخر أيامه ..
طال وقوفهم خارج الدار ينتظرون إلى أن عادت الجاريه مرة أخرى وفتحت الباب لهم الى قاعة الانتظار .. وفى داخل القاعة جلسوا فى انتظار الشيخ وهم يتحدثون فيما بينهم بأصوات خافتة يتداولون أمرهم ..
وبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل فى حوالى الأربعين من عمره .. تكسو صفحة وجهه وتتراءى سمات الصالحين الأتقياء وتعلوه المهابة والوقار .. سلم الشيخ عليهم ورحب بهم وكان يعرفهم .. ثم سألهم عن حاجتهم فأجابه كبيرهم ......
ــ جئناك يا شيخ المدينة مفوضين من أهلها جميعا .. لتفتينا فى أمر هام حير القوم جميعهم .. واتفق الرأى على أنه لن يفتينا ويخرجنا من حيرتنا إلا إمامنا وشيخنا مالك بن أنس !.
ــ لابد أنه كذلك حقا .. فأنتم تعرفون أن اليوم ليس يوم الفتيا !.
ــ نعلم ذلك يا شيخنا .. إلا أن الأمر عاجل وخطير ولا يحتمل الإنتظار للغد .. ولولا ذلك ما سمحنا لأنفسنا أن نقطع عليك خلوتك !.
ــ لعلكم أتيتم من أجل محمد بن الحسن .. سمعت أنه ظهر بالمدينة البارحه ؟!.
ــ أجل أيها الشيخ .. وطلب منا أن نبايعه ..
ــ وماذا بعد ؟!.
ــ كما تعلم .. نحن فى رقابنا بيعة للخليفة أبى جعفر المنصور ..
ــ أجل أعلم .. ما الأمر إذن ؟!.
ــ نحن فى حيرة يا شيخنا الجليل .. هل نبايع لابن الحسن أم نبقى على بيعتنا للخليفة المنصور ؟!.
ــ ما رأيكم أنتم .. هل ترغبون فى البيعة له ؟!.
ــ أجل نرغب فى ذلك .. غير أن بيعتنا وأيماننا للخليفة المنصور تمنعنا وتقف حائلا أمام إرادتنا ..
ــ هل بايعتم للمنصور أيها القوم بإرادتكم ورغبتكم .. أم أنكم أعطيتم البيعة آنذاك مكرهين ؟!.
ــ الله وحده يعلم أنا حلفنا مكرهين وبايعنا مرغمين وكان ذلك ضد إرادتنــا ..
ــ وأنا أقول لكم ليس على مستكره بيعه .. قال رسول الله [
صلى الله عليه وسلم ] "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وقال " ليس على مكره يمين" . هيا قوموا فبايعوا لمحمد بن عبد الله بن الحسن .. واتركونى هنا وحدى فى خلوتى ..
قال ذلك ثم أخذ يتمتم فى سره وهو فى طريقه إلى داخل الدار .....
ــ الله وحده يعلم ما ستفعله بى هذه الفتوى ..


@ تسعة أيام مرت على هذه الأحداث المتلاحقه التى جرت على أرض المدينه المنوره منذ دخول العلويين إليها ... كان الأمر خلالها قد استتب لهم تماما .. على الجانب الآخر فى مدينة الهاشميه مقر إقامة المنصور .. وبينما الحراس يروحون ويغدون فى نوبة حراستهم ليلا تحت أضواء المشاعل أمام أبواب قصر الخلافه .. إذا بهم يلمحون شبحا قادما من بعيد وهو يتسلل حثيثا على دابته مستترا بالظلام ..
أخذت ملامحه تظهر وتتميز شيئا فشيئا كلما اقترب براحلته من أسوار القصر .. إنه الرجل الذى خرج متسللا من المسجد النبوى .. على مقربة من باب القصر أوقفه أحد الحراس طالبا إليه النزول من فوق ظهر راحلته .. أمره بغلظة ألا يتحرك من مكانه وبدأ يسأله فى جفاء وحده .......
ــ من أنت أيها الغريب .. وما الذى أتى بك إلى هنا فى تلك الساعة المتأخرة من الليل .. تكلم ؟!..
كان يبدو من هيئته وكذلك من زيه أنه كذلك .. غريب عن البلاد .. إلتفت الرجل من حوله فزعا وقد بوغت بهذه المقابلة الجافه .. التى لم يعتد على مثلها من قبل .. هاله أن يرى عددا من الحراس الأشداء يتحلقونه وهم يحدجونه بنظراتهم الناريه .. متحفزون للقضاء عليه إن تحرك من مكانه خطوة واحدة للأمام .. وأيديهم على مقابض سيوفهم ...
أخذ يدور بعينيه عليهم ويردد النظر إليهم واحدا بعد الآخر .. لمح الشر فى عيونهم فعاد ينظر إلى محدثه .. قال بصوت لاهث وقد بدا عليه الإعياء والتعب من طول السفر .......
ــ أرجوكم .. أيها الحراس .. أريد شربة ماء أولا .. فإنى قادم من سفر بعيد .. لى تسعة أيام وأنا أكابد مشقة السفر .. وقد نفد الماء منى ...
سأله أحدهم ساخرا منه وقد تصوره مخبولا .......
ــ وما الذى أتى بك إلى هنا أيها الصعلوك ؟!..
وعاجله آخر .......
ــ ولماذا تكبدت كل هذه المشقة كما تزعم ؟!..
ــ مهلا أيها الحراس .. لا تسخروا منى ...
ــ لم إن شاء الله ؟!..
ــ لأنى أحمل أنباء هامة لأمير المؤمنين ...
إرتفعت ضحكاتهم الساخره .. بينما عاجله أحدهم بقوله ......
ــ أنباء هامه !.. معك أنت .. هيــه .. وماذا تريد ؟!..
ــ لا أريد منكم شيئا .. أريد مقابلة أمير المؤمنين ...
ــ أميــــــر المؤمنين .. هكذا !.. من تظن نفسك ؟!..
ــ أجل .. وفى الحال .. ما خطبكم .. لماذا تنظرون إلى هكذا ؟!.. ألا تعرفون من أكون ؟!..
ــ من تكون !!.. صعلوك من الصعاليك .. أم تظن نفسك القائد موسى بن كعب جئتنا متخفيا ؟!..
إرتفعت ضحكات الحراس .. واستمرت تعليقاتهم الساخرة دون أن يردوا على تساؤلاته .. وهم يتغامزون على هيئتة المزرية وثيابه الرثه .. ساخرين أن يجرؤ صعلوك مثله على طلب لقاء أمير المؤمنين .. وفى ذلك الوقت المتأخر من الليل .. أخذ ينظر إليهم متعجبا من ضحكهم واستهزائهم .. لم يفهم له سببا فى بادئ الأمر .. فعاجله أحدهم قائلا وهو يناوله قربة الماء ليشرب منها .......
ــ خذ إليك قربة ماء بحالها .. إشرب وارتوى كما تشاء يا .. يا صاحب الأنباء الهامه !..
واستمرت تعليقات الحراس الساخرة .. وهو يكاد أن يلتهم قربة الماء .......
ــ أى أنباء تلك التى يحملها صعلوك مثلك ؟!.. ثم أين لك بأمير المؤمنين فى هذا الوقت المتأخر من الليل .. من المؤكد أنك لا تعى ما تقول !..
وقال آخر .......
ــ هيا اشرب الماء .. وارجع على الفور من حيث أتيت .. وإلا ....
قاطعهم وهو يمسح بقايا الماء بكمه من على فمه .. موجها كلامه لهم فى استعطاف .. بعد أن شرب وارتوى .......
ــ أنتم لا تعرفون شيئا عن حقيقة الأمر .. ولا تدركون أهمية ما جئت من أجله .. لابد لى من لقائه الآن .. الأمر جد خطير !..
ــ إسمع أيها الرجل .. لا تصدع رؤوسنا بترهاتك .. عليك بالانتظار حتى صباح الغد .. أمير المؤمنين لا يلتقى بأحد فى جوف الليل .. مهما تكن الأسباب ...
رد عليه بلهجة حادة قاطعة مستنكرا قوله .......
ــ أقول لكم أنباء هامه تسخرون منى وتقولون ترهات !.. ثم كيف أنتظر إلى صباح الغد ؟!.. أى غد أيها الحراس .. إنكم بالقطع لا تدركون خطورة الأمر .. لن أتحرك من مكانى هذا .. ولا تضطرونى أن أصرخ بأعلى صوتى مناديا على أمير المؤمنين !..
رأى الحراس إصراره .. فتبادلوا نظرات ذات مغزى .. ثم أشار إليه أحدهم أن يتبعه وقد ظهر الضيق على وجهه .. حتى إذا بلغا فناء القصر صعد معه بضع درجات .. ثم سارا فى ردهة طويلة إلى أن وصلا إلى نهايتها .. إستدار إليه الحارس قائلا فى لهجة آمره .......
ــ إنتظر هنا .. فى هذا المكان حتى آتيك .. الويل لك إن تحركت من مكانك هذا خطوة واحده ...
عاد بعد قليل وهو يشير إليه أن يتبعه مرة أخرى .. حتى وصل به إلى غرفة الحارس الخاص لأمير المؤمنين .. وعلى باب الغرفة سأله الحارس وهو لا يزال يتثاءب .......
ــ من أنت أيها الرجل .. وماذا وراؤك ؟!..
ــ أنا يا سيدى الحسين بن صفر من بنى عامر .. لى تسعة أيام أكابد فيها مشقة السفر من يثرب إلى أن وصلت إلى هنا .. وأريد لقاء أمير المؤمنين الآن ...
ــ لم ؟!..
ــ الأمر هام وعاجل ...
حدجه بنظرة حادة مستنكرا .. فاستدرك الرجل قائلا .......
ــ لا تعجب يا سيدى .. أمير المؤمنين يعرفنى جيدا .. سترى بنفسك عندما تسمح لى بلقائه ...
ــ أى أنباء تلك !.. هلا أفصحت لى عنها أيها الرجل ؟!..
ــ معذرة يا سيدى .. لا أستطيع أن أفصح لك عنها قبل أن أخبر بها مولاى أمير المؤمنين .. ستعرف كل شئ عندما يلقانى ...
ــ إذن عليك بالإنتظار إلى صباح الغد .. الخليفة متعب هذه الليله ...
ــ أرجوك يا سيدى .. إن ما عندى لا يحتمل الانتظار لصباح الغد .. يكفى أن أقول لك إن البلاد فى خطر !..
أخذ ينظر إليه بازدراء وهو يضم شفتيه فى ضيق .. ثم أمره فى جفاء أن يتبعه .. حتى وصل به إلى غرفة المنصور .. لما رآه عرفه .. ابتدره قائلا .......
ــ خيرا يا عامرى .. ماذا وراءك .. وما الذى دعاك لأن توقظنى فى هذا الوقت المتأخر من الليل ؟!..
ــ أنباء مهمة يا مولاى المنصور ...
نظر إليه متسائلا فأردف على الفور .......
ــ خرج محمد بن عبد الله بن الحسن ومن معه من مخبئهم .. وهو الآن فى المدينه منذ عشرة أيام ...
هز المنصور رأسه ثم قال .......
ــ أخيرا خرج هذا المتمرد من جحره .. هيه وهل قدم معه كثيرون ؟!..
ــ حوالى مائتين وخمسين من أهله وأنصاره ...
ــ هل تحركوا فى المدينة .. أم لا يزالون قابعين فى إحدى أوكارها ؟!..
ــ إنهم يا مولاى اقتحموا السجون وأخرجوا كل من بداخلها .. وعزلوا أمير المدينه رياح بن عثمان .. وولوا مكانه واحدا آخر من رجالهم .. ها هى يا مولاى أسماء كل من ولاهم المناصب ...
قال ذلك وهو يخرج لفافة من جيبه .. تناولها المنصور وألقى بها إلى جواره دون أن يفتحها .. ثم سأله فى لهجة حازمة جافه وقد بدا عليه الوجوم والضيق .......
ــ هل رأيته بعينيك .. أم سمعت من غيرك سماعا ؟!..
ــ لا يا مولاى .. رأيته بعينى رأسى هاتين .. وإلا ما كنت أصررت على لقائك يا مولاى فى هذا الوقت المتأخر من الليل .. ليس هذا فحسب يا أمير المؤمنين !..
ــ ماذا أيضا ؟!..
ــ لقد استمعت إليه .. وهو يخطب بالناس جالسا على منبر رســول الله [
صلى الله عليه وسلم ] ...
ــ ماذا سمعت ؟!..
ــ طلب من القوم أن يبايعوه أميرا للمؤمنين ...
ــ ثم ماذا ؟!.. هل تمت له البيعه ؟!..
ــ لم يبايعوه إلا بعد أن أرسلوا جماعة منهم للقاء شيخ المدينه مالك بن أنس لأخذ رأيه ...
ــ بماذا أجابهم ؟!..
ــ أفتاهم أن يبايعوا له .. وأحلهم من بيعتهم لك ...
ــ كيف يفتيهم بذلك ولى فى أعناقهم بيعه ...
ــ هلا أعفيتنى من الإجابة يا مولاى ...
ــ تكلم يا رجل ...
ــ قالوا له أنهم بايعوا مكرهين .. فقال لهم .. ليس على مستكره يمين ولا بيعــه !..
سكت المنصور هنيهة ثم أخذ يحدث نفسه والأسى يغمره .......
ــ تفرقت الظباء على خراش ؛ فلم يدرى خراش ما يصيد .. لعن الله من أيقظ الفتنة من مهدها .. أهلكت نفسك وأهلكت من معك أيها الطامع فى الخلافه .. أما أنت يا شيخ المدينه فلسوف يكون لى معك شأن آخر .. لابد أن تلقى جزاء رعونتك وتطاولك علينا ...
قال ذلك ثم التفت إلى كبير الحراس آمرا .......
ــ تحقق من صحة هذه الأنباء .. فإن كانت كما يدعى هذا العامرى أعطه عن كل يوم مر عليه فى السفر ألف دينار .. وإلا فالويل له ………………
****
@ فى صبيحة اليوم التالى اتخذ المنصور مجلسه .. وقد بدا متجهما عابس الوجه وعن يمينه جلس ولــى العهد .. بينما وقف بين يديه وزيره وكاتب ديوانه أبو أيوب الموريانى فى انتظار ما يأمره به .. لم يمض إلا قليل حتى التفت المنصور إلى كاتبه قائلا بعد أن خرج عن صمته .......
ــ إجلس أبا أيوب واكتب هذه الرسالة .. أكتب ما نمليه عليك ...
ــ رسالة !.. لمن يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ لهذا المتهور الذى طال اختفاؤه .. ثم ظهر أخيرا بالمدينة ليثير الفتن والقلاقل وينازعنا أمرنا ...
ــ تقصد محمد بن عبد الله بن الحسن يا مولاى ؟!..
ــ أجل .. سأبعث إليه بهذه الرسالة عساه أن يرجع عن غيه ونزعات نفسه .. يعلم الله أنى لا أريد قتله إلا أن يضطرنى لذلك ويدفعنى إليه دفعا !..
كان ولى العهد الأمير محمد المهدى يرقب أباه وينصت باهتمام إليه وهو يملى على كاتبه .......
ــ بسم الله الرحمن الرحيم ....... "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض .. ذلك خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم .. إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم" صدق الله العظيم ..... ولك على عهد الله وميثاقه وذمة رسوله [
صلى الله عليه وسلم ] .. إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك وجميع ولدك وأهلك ومن اتبعكم على دمائهم وأموالهم .. وأعطيك ألف ألف درهم وكل ما سألت وأنزلك من البلاد حيث تشاء .. وأطلق سراح كل من فى السجون .. وجه إلى من أحببت من رجالك يأخذ لك من العهد والميثاق ما يرضيك .. والسلام ...
وضع ريشته جانبا وهو ينظر للمنصور متسائلا فقال له .......
ــ ضع خاتمنا عليها وادفع بها إلى أحد رجالنا المخلصين .. ليحملها إلى المدينة فى التو والحين ...
ــ خيرا فعلت يا أبى بوركت والله .. ليته يمتثل !..
قالها ولى العهد ممتنا وهو يقوم من مكانه متقدما ناحية أبيه .. وقد ظهر الارتياح عليه متصورا أنه يجنح للسلم .. ظن ذلك لقلة خبرته بأمور المناورات ومكائد القصور .. وهو بطبعه لم يكن يميل إلى العنف فى معالجة المشاكل والتصدى لها .. لغلبة الحلم والتسامح على طبيعته ...
رد المنصور قائلا .......
ــ إسمع يا ولدى سأقول لك شيئا ..
ــ نعم يا أبت ..
ــ لتعلم أن ولد على بن أبى طالب لاحظ لهم فى هذا الأمر .. كما أننا لم نغتصب منهم حقا كما يزعمون ويدعون ...
قال ذلك ثم نهض قائما وأخذ يمشى رويدا وهو يردف قائلا ......
ــ وإلا .. ما الذى جعل جدهم الحسن بن على يرتضى الصلح مع معاويه .. وتنازل عن الخلافة طواعية رغم أن القوم قد بايعوا له ؟!.. إنه ما فعل ذلك إلا لكى يطفئ نيران الفتنه ويحقن الدماء .. أليس هو القائل لأخيه الحسين بن على لما رآه متحمسا للقتال ....... "إنى هممت أن أحتجزك فى دار مغلقة حتى أفرغ من الصلح" .. ألم يفعل ذلك ؟!..
رد خالد بن برمك معقبا .......
ــ بلى يا أمير المؤمنين .. فعل ذلك حقا .. وإليه الاشارة فى قول النبى [
صلى الله عليه وسلم ] "إن ابنى هذا سيد يصلح بين فئتين متنازعتيــن" ..
لم يشأ الربيع أن يضيع هذه الفرصة أيضا دون أن يدلى بدلوه .. هو صائد ماهر يعرف متى يرمى شباكه ويلتقط صيده .. قال فى خبث ودهاء ......
ــ وأنت الذى تمد يدك الآن بالسلام يا مولاى .. مع أنك تستطيع القضاء عليه وعلى كل من معه بإشارة من سبابتك ...
ــ أجل .. صدقت يا كبير الحجاب .. لقد ظن أن لن نقدر عليه .. لكن هيهات هيهات .. إنه عنيد مكابر مثل عمه الحسين .. لا حول ولا قوة إلا بالله ...


@ بينما قافلة المسافرين تواصل رحلتها إلى الحجاز .. وعبيد الله الأزدى يقص على ابنته ما جرى من أحداث فى أرض الخلافة فى السنوات القليلة الماضيه .. كان الأهل فى مكة يترقبون بفارغ الصبر قدومه إليهم مصطحبا معه ابنته وولدها .. وقد استبد بهم القلق على طول غيابهم ...
وفى الدار التى يعيشون فيها بشعب الخيف .. جلست أم عبد العزيز زوجة عبيد الله الأزدى وحدها فى أحد أركانها .. وأمامها الرحى تطحن بها قليلا من الشعير لإعداد بعض الخبز .. كانت امرأة صابرة صامدة هادئة الطبع قليلة الكلام .. تنطق ملامح وجهها بالطيبة والسماحه .. لا تكف يدها عن العمل الدؤوب فى أمور الدار رغم كبر سنها .. وعنها ورثت ابنتها أم حبيبه هذه الخصال وتلك الطباع ...
وبينما هى على هذا الحال والعرق يتصبب منها غزيرا .. تمسح ما تراكم منه بكم جلبابها .. إذا بولدها على أصغر أبنائها والذى بلغ العشرين من عمره يفتح باب الدار قادما .. ما إن سمعت أمه وقع خطواته التى تعرفها جيدا .. حتى رفعت رأسها وهى لا تكف يدها عن حركتها الرتيبه .. سألته بطيبتها المعهودة وابتسامتها الصافيه .. وإن لم تخل لهجتها من رائحة لوم وعتاب .......
ــ أهذا أنت يا على .. أين كنت غائبا طوال اليوم يا ولدى .. لقد تأخرت على غير عادتك ؟!..
ألقى بنفسه على إحدى الوسائد طلبا للراحة .. ثم رد قائلا وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه اللاهثه .. بعد أن شرب جرعة من الماء .......
ــ إيــــــه يا أمى .. ألتقط أنفاسى أولا .. ما أشد سخونة الهواء خارج الدار .. يوم صيفى قائظ عل غير العاده .. بعد أن صليت صلاة الظهر عند الكعبه .. ذهبت إلى أخى سليم فى دكان العطارة ومكثت عنده بعض الوقت أساعده فى عمله ........
قاطعته قبل أن يسترسل .......
ــ منذ متى وأنت تذهب إلى دكان العطاره .. لكم طلبت منك مرات أن تساعده وكنت تأبى .. ما الذى جد فى الأمر يا ترى ؟!..
ــ أبدا يا أمى .. لكنه اشتكى لى غير مرة من تكدس البضاعة وعدم ترتيبها .. ولم أتركه إلا وقد انتهينا من ترتيبها وتنسيقها فى أماكنها .. وإزالة الغبار المتراكم عليها .. حتى يعرف أبى بعد عودته أنه سافر وخلف وراءه رجالا .. أليس كذلك يا أمى ؟!..
ــ هيه .. وبعد أن انتهيت من مساعدة أخيك فى الدكان .. إلى أين ذهبت ؟!..
ــ أنسيت يا أمى !.. ذهبت بعد ذلك إلى دار أخى عبد العزيز لأطمئن على صحة ولده عمر .. ألم تطلبى إلى ذلك ؟!..
ــ بلى يا ولدى .. بارك الله فيك يا على .. كيف حاله الآن .. لعله برئ من تلك الحمى اللعينه ؟!..
ــ إنه لا يزال نائما فى فراشه .. لكنه الآن أفضل ...
رفعت الأم رأسها للسماء وأخذت تتمتم ببعض الأدعية .. ثم عادت لما كانت عليه .. مرت لحظات من الصمت قبل أن يقطعه على متسائلا .......
ــ أماه ؟!..
ــ نعم يا ولدى ...
ــ ألا تلاحظين أن غيبة أبى قد طالت .. كيف ترين ذلك الغياب ؟!.. مضى عليه أكثر من شهرين منذ رحيله إلى غزه .. ليأتى بشقيقتى أم حبيبه وولدها ؟!..
ــ أنسيت يا بنى أنها رحلة شاقة وسفر طويل .. كما أنه مرتبط بقافلة التجار التى سافر معها .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا أمى أعلم ذلك تماما .. لكنى أذهب كل يوم أتلمس من السوق أخبار القوافل القادمة من الشام أو من مصر دون جدوى !..
إبتسمت قائلة .......
ــ لا تعجل يا ولدى لا تعجل .. أنتم هكذا أيها الشباب هذه الأيام لا صبر لديكم أبدا .. إن هى إلا أيام يا ولدى ويصل الجميع إن شاء الله .. أبوك وأم حبيبه وولدها محمد بن إدريس ...
ثم أردفت قائلة وهى تتنهد فى أسى .......
ــ يرحمك الله يا إدريس .. كان رجلا صالحا يا ولدى .. اللهم بارك لنا فى ولده محمد .. وأوصله ومن معه سالمين إلينا ...
...........
@ أخيرا وصلت قافلة المسافرين إلى مشارف ميناء أيله "ميناء إيلات أو العقبه" .. وعلى مرمى البصر ظهرت للمسافرين مياه الخليج بألوانها الزرقاء الصافيه .. وعلى صفحتها الهادئة الرائقه إنعكست أشعة الشمس الذهبية فزادتها بهاء وجمالا وروعه .. إستمر الشيخ يواصل قصة الثوار وابنته تنصت له فى شوق وشغف .. كانت متلهفة لمعرفة نهاية هذا الصراع .......
ــ وحمل البريد رسالة العهد والأمان إلى المدينه .. قام رسول الخليفة المنصور بتسليمها بنفسه لمحمد النفس الزكيه ...
قاطعته فى لهفة .......
ــ لعله استجاب لما جاء فيها يا أبت ؟!..
ــ هيهات .. إنها قضية آبائه وأجداده .. لم يكد يقرأ رسالة الأمان حتى تملكه الغضب .. وقام من فوره بكتابة رسالة عاجله يرد بها على المنصور ...
ــ كيف كانت رسالته ؟!..
ــ رسالة غاضبة .. تعبر عن مرارة أليمة وإصرار على مواصلة النضال .. كل كلمة فيها سهم قاتل ...
ــ وكيف كانت إجابة المنصور يا ترى ؟!..
ــ سأخبرك بكل شئ .. إسمعى يا ابنتى بقية الحكايه ………………

@ أمسك المنصور رسالة الثوار وبدأ يتلو ما فيها والربيع واقف إلى جواره ينصت باهتمام وترقب "بسم الله الرحمن الرحيم ....... إن فرعون علا فى الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين .. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم فى الأرض" .. وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذى عرضت على .. فإن الحق حقنا .. وإنما ادعيتم هذا الأمر بنصرتنا وتأييدنا .. وأن أبانا عليا كان الإمام .. فكيف ترثون ولايته وولده أحياء .. وليس لأحد مثل نسبنا أو شرفنا .. نحن لسنا من أبناء اللعناء أو الطرداء أو الطلقاء .. واعلم أننى أولى بالأمر والعهد منك .. أما عن الأمان المزعوم .. فأى أمان وعهد هذا الذى تعطينيه.. أمان ابن هبيره .. أم أمان الخرسانى .. أم أمان عمك ؟!..
إستطاع الثائر ببراعة منطقه وقوة حجته .. أن يسدد سهامه القاتلة التى انطلقت من سطور رسالته إلى سويداء قلب المنصور .. ما كاد يصل فى قراءته إلى هذا الحد منها .. حتى قبض عليها بغيظ وحنق قبل أن يكمل ما فيها .. كورها فى قبضته وهو يهب واقفا عاقدا ما بين حاجبيه .. وهو الذى قليلا ما يغضب أو يثور .. بل يرى دائما رابط الجأش .. لكنه يواجه رسالة فيها همزات ولمزات وتعريض بالأنساب والأصهار .. وبعد أن مرت لحظات من الصمت والترقب .. إنبرى الربيع بن يونس قائلا فى نبرات كساها ثياب الغضب الثائر ....... معذرة يا مولاى .. لقد تعدى هذا المارق حدوده .. لم يعد لدينا مقدرة للصبر عليه أو إمهاله أكثر من هذا .. لابد من تأديبه وإنزال أشد العقاب به ...
قاطعه المنصور قائلا .. وقد بدا كالأسد الجريح وهو يخرج حروف الكلمات من بين أسنانه بطيئة كأنما يحادث نفسه .......
ــ لم يبق فى قوس الإحسان منزع .. إخترت الحرب إذن أيها الدعى .. لا بأس .. سألقنك درسا لن تنساه ما حييت .. إن كتبت لك النجاة من بين يدى ..
ثم نظر إلى الربيع متمما .......
ــ أرسل الليلة رسالة لابن أخى القائد عيسى بن موسى .. أطلب إليه أن يجهز أربعة آلاف جندى بالسلاح والخيل والميره .. يتقدمهم المشاة الرماة وحملــة الرماح وفرسان السيافة والنباله .. وأن يتوجه بهم من فوره إلى المدينه .. أما أنت .. فعليك أن تعد العدة من الآن لإغلاق كافة الطرق المؤدية إلى المدينه .. وأهمها طريق الشام .. تأكد من ذلك بنفسك يا كبير الحجاب .. كى لا يصل إليهم أى مدد من طعام أو شراب ...
ثم أردف قائلا يتمتم فى سره دون أن يسمعه أحد .......
ــ إنها لفرصة مواتية أصيب بها هدفين برمية واحده .. أتخلص من هذا العلوى المارق .. وابن أخى عيسى بن موسى الذى ينازع هو الآخر فى ولاية العهد .. أجل .. بذلك يكون الطريق ممهدا تماما لولدى محمد المهدى .. ثم لولديه موسى وهارون من بعده ...
كان الربيع الداهيه يحاول بنظراته الثاقبه .. أن يخترق الحجب إلى أغوار عقل المنصور .. وهو يرسلها من طرف خفى .. إرتسمت على شفتيه إبتسامة غامضة وهو يقول لنفسه .......
ــوالله لقد فهمت مرادك وما ترمى إليه .. أيها الثعلب الداهيه ...

@ مضت الأيام تترى على هذه الأحداث العصيبة .. ورحى الحرب دائرة على أشدها بالمدينة بين الثوار وجند الخليفة المنصور .. وبينما هو فى حجرته الخاصة يجلس متكئا فى استرخاء طلبا لراحة بدنه من عناء أعباء الحكم وإلى جواره زوجته "أروى" تتجاذب معه أطراف حديث ودود .. فى لحظات صفاء وهما يحتسيان شرابا دافئا أمامهما فاجأها المنصور متسائلا .......
ــ أروى .. أتدرين أكثر ما أتمناه حقا ؟!..
ردت متسائلة وعلى شفتيها ابتسامة ساحره .......
ــ حقق الله أمانيك يا أمير المؤمنين .. ما الذى تتمناه يا أبا عبد الله ؟!..
ــ أتمنى أن يكون على بابى أربعة رجال .. لا يكون عليه أعف منهم ...
ــ تقول أربعة رجال .. أربعة فحسب يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ أجل .. إنهم يا أروى أركان الملك .. ولا يصلح الملك إلا بهم ...
ــ صدقت يا أبا عبد الله .. إن السرير لا يصلح إلا بأربع قوائم .. إن نقصت واحدة تداعى ...
ثم أردفت متسائلة .......
ــ من تعنى بهؤلاء الأربعة يا ترى ؟!..
ــ أحدهم قاض .. لا تأخذه فى الحق لومة لائم !..
ــ والثانى ؟!..
ــ الثانى صاحب الشرطه .. ينصف الضعيف من القوى .. أما الثالث .. فصاحب خراج يستقصى فى عمله ولا يظلم الرعيه !..
ــ لم يبق إلا الرابع ؟!..
سألته أروى .. رد عليها وهو يعض على سبابته متأوها متحسرا .......
ــ آه من هذا الرابع !.. إنه صاحب البريد .. يكتب إلى بالخبر الصحيح عن هؤلاء جميعا ...
ضحكت أروى ضحكة عالية .. وهى ترتد برأسها إلى الوراء فى دلال .. ثم قالت معقبة .......
ــ ما أبلغ حكمتك وجلاء بصيرتك يا أمير المؤمنين .. والله لم تنس أحدا .. لا حرمك الله من هؤلاء الأعوان الأربعة أبدا ...
صمتت قليلا وقالت .......
ــ كلامك هذا يذكرنى بذلك اليوم .. الذى كانت فيه خصومة بينى وبينك حول كتاب الصداق .. وطلبت إلى أن أختار بنفسى القاضى الذى يحكم بيننا .. أتذكر ذلك اليوم يا أبا عبد الله ؟!..
أجابها ضاحكا .......
ــ هل هذه أيام تنسى .. لقد اشترطت على فى كتابك ألا أتزوج عليك ...
صمت قليلا وأردف .......
ــ لم تختارى من بين جميع القضاه إلا قاضى مصر .. غوث بن سليمان .. كما أنك أصررت أيضا .. أن توكلى عنك فى مجلس القضاء واحدا من خدمك .. لم أنسى يومها أن هذا القاضى طلب منى فى حزم أن أنزل عن مجلسى .. وأجلس على الأرض .. إلى جوار خادمك سواء بسواء .. أيقنت ساعتها أنه سيحكم لصالحك ...
بادلته الضحك وهى تقول فى أنوثة ودلال .......
ــ مع هذا لم تغضب منه .. بل أمرت له بجائزة .. أليس كذلك ؟!..
ــ ليس هذا فحسب .. بل طلبت إليه بالحاح أن يتولى قضاء الكوفه .. لكنه اعتذر وأصر على أن يظل قاضيا على مصر .. كان قاضيا عظيما حقا .. ليت كل القضاة عندنا مثله ...
صمت برهة كان يحتسى خلالها رشفة من الشراب .. ثم قال .......
ــ سأقص عليك حكاية حدثت لى ذات يوم مع إحدى نسائى .. ما دمنا فى ذكر القضاة وأحوالهم ...
ــ تكلم يا أبا عبد الله .. كلى آذان صاغيه ...
ــ حدث يوما .. أن اختلفت مع الكرديه ...
ــ أم ولدك جعفر الأصغر ؟!..
ــ أجل .. هى بعينها .. وكعادتى سألتها من ترضين حكما بيننا ؟!.. ردت قائلة ....... لا أرضى بغير حكم فقيه الكوفه ...
ــ تقصد أبو حنيفه النعمان بن ثابت ...
ــ نعم إنه هو .. يا له من فقيه .. إسمعى ما جرى وما كان من أمره معنا ……
كان الشيخ أبو حنيفه جالسا فى صدر المجلس .. أمامه الخليفة المنصور بينما جلست زوجته الكردية من وراء ستار .. بدأ الشيخ مجلس القضاء موجها كلامه للزوجه .......
ــ ما هى خصومتك يا سيدتى ؟!..
ــ أمير المؤمنين لا يعدل بينى وبين زوجاته ...
ــ ما قولك يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ لى سؤال أود أن أسأله ...
ــ سل ما بدا لك ...
ــ كم يحل للرجل من النساء ؟!..
ــ يحل له من النساء أربعا ...
ــ وكم يحل له من الإماء ؟!..
ــ ما شاء له منهن .. ليس لذلك من عدد !..
نظر المنصور لزوجته قائلا .......
ــ أسمعت يا هذه .. كلام الشيخ ؟!..
ــ بلى قد سمعت .. ولا قول عندى بعد قوله !..
رد أبو حنيفة معقبا .......
ــ مهلا يا أمير المؤمنين .. لقد أحل الله ذلك لأهل العدل .. فمن لم يعدل .. أو خاف ألا يعدل .. فينبغى له ألا يجاوز الواحده .. قال تعالى "ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" .. ينبغى علينا أن نتأدب بآداب الله .. ونتعظ بمواعظه ……
@ وصل المنصور إلى هذا الحد .. فالتفتت إليه أروى متسائلة فى فضول .......
ــ ماذا فعلت يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ أمسكت على لسانى ولم أعقب .. ولما طال صمتى .. قام الشيخ وخرج عائدا إلى داره .. أتدرين ما الذى حدث بعد ذلك ؟!..
هزت رأسها بالنفى فرد قائلا .......
ــأرسلت الكردية إليه هدية كبيرة !..
ــ هدية كبيره ؟!..
ــ نعم أرسلت إليه خمسين ألف درهم وجارية ودابه .. إلا أنه أبى متعففا وردها إليها قائلا .......
ــإنما ناضلت عن دينى !..
ردت بإعجاب قائلة .......
ــياله من شيخ ورع تقى .. إنه يستحق أن يكون قاضى القضاه !..
إبتسم قائلا .......
ــ يعجبنى فيك ذكاؤك أيتها الحسناء .. كأنك تقرأين ما يدور برأسى ...
ــ ماذا تعنى ؟!..
ــ لقد عزمت على ذلك فعلا ...
ــ متى تفعل يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ بعد أن أفرغ من مشاكلى مع بنى على .. وأنتهى من بناء بغداد والرصــافه ...
ثم أردف قائلا .......
.. لكن هيهات .. ليته يقبل ...
ــ كيف يا أمير المؤمنين !.. هل يأبى منصبا جليلا كهذا ؟!..
ــ ما الذى يمنعه .. إنها ليست أول مرة يرفض القضاء .. لكنى على كل حال سأبذل قصارى جهدى لإقناعه .. ولن أمكنه من تكرار ما فعل قبل عشرين عاما مع الأمويين ...
ما كاد ينتهى حتى سمعا طرقا خفيفا على باب الغرفة .. قال .......
ــ من بالباب ؟!..
ــ أنا يا مولاى .. الربيع بن يونس هل تأذن لى بالدخول ؟!..
ــ أدخل يا أبا الفضل .. ماذا عندك ؟!..
دخل وسلم .. ثم أقبل على المنصور بوجه متهلل .. سأله عما وراءه فقال .......
ــ مالى لا أسر يا مولاى وقد جاء البريد بالبشرى .. تم القضاء على الفتنة بالمدينه .. ودانت لكم بالولاء مرة ثانية !..
ــ وزعيمهم محمد "النفس الزكيه" ؟!..
ــ قتل وكل من كان معه .. بعد أن قاتلوا باستماتة ويأس .. غير أن أخويه يحي وإدريس لاذا بالفرار .. ولم يستطع رجالنا أن يتعرفوا على مكانهما !..
رد قائلا وقد ظهر على وجهه الحزن والهم .. رغم الأنباء الساره .......
ــ لا عليك منهما .. إنهما فتيان صغيران لا يملكان من الأمر شيئا .. ولا يحسب لمثلهما حساب .. وماذا عن أخيه إبراهيم ؟!..
ــ جاءت الأنباء تفيد بظهوره فى البصره .. وأنه يعد جيشا كبيرا يتوجه به إلى الكوفه !..
زادت همومه وهو يهز رأسه قائلا .......
ــ إنه حتما قادم إلى هنا .. إلى الهاشميه ...
ــ ما الذى يخيفنا منه يا أمير المؤمنين .. فليأت إن شاء ومتى شاء .. ليلقى مصير أخيه وأنصاره ويلحق بهم ؟!..
رد فى لهجة يائسة .......
ــ ليس الأمر هكذا يا أبا الفضل .. أنسيت إن رجالى مشتتون فى البلاد .. يحاربون فى الحجاز وأفريقيه والأهواز والرى ...
قال ذلك ثم سكت قليلا .. رفع رأسه قائلا للربيع فى حزم .......
ــ أرسل للقائد حميد بن قحطبه .. يجهز ثلاثة آلاف جندى بالعتاد على أن يكون جيشه فى المقدمه .. وعندما يصل القائد عيسى بن موسى .. أطلب إليه أن يتوجه على رأس خمسة عشر ألف جندى ويبقى فى المؤخره .. ثم يستعمل الحيلة بعد ذلك ...
ــ أية حيلة يا مولاى ؟!..
ــ يوقد نارا عظيمة عندما يصير على مقربة من خصومه .. كى يظنوا أن رجالنا كثيرون .. فيقع فى قلوبهم الرعب !..
فى تلك الأثناء دخل أحد الجلاوزه "الحجاب" قائلا .......
ــ مولاى أمير المؤمنين .. المنجم نوبخت بالباب .. طالبا الإذن بالمثول أمامكم .. يبدو من هيئته وكلامه أنه فى عجلة من أمره !..
ــ ماذا تنتظر أيها الأحمق .. لا تتركوه ينتظر أكثر من هذا .. أدخلوه فى الحال لعلنا نجد لديه ما يزيل عنا الكئآبة .. أو تنشرح به صدورنا !..
ــ أمر مولاى ...
ابتدر المنجم قائلا لدى دخوله .. وهو يبالغ فى الإنحناء والتعظيم ......
ــ مولاى أمير المؤمنين .. أطال الله عمرك وأعلى فى العالمين ذكرك ...
ــ ماذا وراؤك أيها المنجم ؟!..
ــ الخير كله يا مولاى .. جئتك بالبشرى ...
ــ أية بشرى يا رجل .. تكلم ؟!..
ــ أبشر يا مولاى بالنصر المبين والفوز العظيم ...
ــ عن أى انتصار تتحدث أيها المنجم ؟!..
ــ سوف ينتصر جيشك بإذن الله على إبراهيم الطالبى . كما انتصر من قبل على أخيه .. سترى رأسه بعينيك عما قريب .. هنا .. وفى هذا المكان !..
ــ كيف يكون لى ذلك كيف أيها المنجم ؟!.. وقد علم إبراهيم وعورة جانبى وقلة رجالى .. إنه لم يجترئ على المسير من البصره إلى هنا .. إلا بعد اجتماع أهلها على الخلاف والمعصية كدأبهم !..
إبتسم المنجم الداهيه إبتسامة ذات مغزى .. وهو يقول فى ثقة وتؤده .....
ــ أنا واثق من نبوءتى يا أمير المؤمنين .. وأؤكد لك أنها صادقه .. إن هى إلا أيامامعدودات.. وتأتيك رأس إبراهيم إلى هنا !..
أخذ المنصور يهز رأسه فى يأس مرددا .......
ــ لا .. لا .. مستحيل هذا الذى تدعيه .. لا أكاد أصدق !..
ــ أمير المؤمنين .. هل كذبت نبوءآتى لك من قبل ؟!..
ــ أبدا .. وهذا من أعجب الأمور .. لذلك جعلتك مقربا منى بعد أن بشرتنى بالخلافة وأنا فى سجن الأمويين !..
ــ وهذه المرة أيضا يا مولاى .. لن تكذب نبوءتى .. إننى أحادث النجوم وتحادثنى بما لديها .. إن بحوزتى علوم الهرامسه والحسابات والجداول .. وعلى أية حال .. أنا مستعد لأن تضعنى فى السجن حتى تتحقق بنفسك من صدق ما أقول .. أيكفى هذا منى يا مولاى ؟!..
ــ وإن لم تصدق نبوءتك .. ماذا أفعل بك ؟!..
ــ أقتلنى على الفور !..
ــ والله لأفعلن .. أما إذا أصدقتك النجوم .. فسأقطع لك ألفى "جريب" على ساحل نهر جوبر .. تكون ملكا خالصا لك ...

يتبع إن شاء الله ........................
__________________
إذا ما الطائر الصداح قد هدهده اللحن
ورفت نسمة الفجر على أشجانه تحنو
هناك السحر والأحلام والألحان والفن
نجيب سرور
رد مع اقتباس