عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 07/08/2008, 01h07
charafantah8 charafantah8 غير متصل  
ضيف سماعي
رقم العضوية:152743
 
تاريخ التسجيل: janvier 2008
الجنسية: جزائرية
الإقامة: الجزائر
المشاركات: 7
افتراضي الغيوان ... قراءة في تجربة فنية من الهامش ( بحث لنيل الاجازة)

ناس الغيوان

قراءة في تجربة فنية من الهامش


بحث لنيل الاجازة...الجزء الاول



بحث لنيل الإجازة في الأدب العربي

تحث عنوان

ناس الغيوان

قراءة في تجربة فنية من الهامش

إعداد الباحث

محمد سليماني

تيسينت84053 طاطا

المغرب

+21270705912

+21228216293

Slimani_93@hotmail.com

مقدمة :

لعل أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ وهو يتفحص ثنايا هذا البحث هو لماذا البحث في هذا المجال دون غيره ؟

تنسج الإجابة عن هذا التساؤل المشروع بطرح نفس السؤال بطريقة عكسية هو لما لا البحث في موضوع تجربة ناس الغيوان الغنائية، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار إلزامية البحوث في ختام السنوات الجامعية .

وللخوض أكثر في عمق هذا التساؤل يقودنا الحديث إلى ملاحظة تزكي هذا الطرح وهي نذرة الأبحاث وقلة الدراسات التي تناولت التجربة الغيوانية .

وإذا جازفنا بالقول بوجود بعض هذه الدراسات فإنها أحيانا تتناول جانبا واحدا عن ناس الغيوان وحينا آخر في تداخل مع قضايا أخرى بعيدة عن المقام الغيواني موضوع بحثنا .

إذن، فهذه النذرة والقلة ساهمت إلى حد ما في اختيار هذا الموضوع والبحث فيه غير أن الحافز الأول قبل كل شيء هو صدور ديوان "كلام الغيوان" الذي يعتبر بمثابة الشعلة التي أنارت كثيرا مما خفي. إضافة إلى هذا. تلك المقدمة التي دبج بها الأستاذ حسن نجمي هذا الديوان حيث يقول "إن هذا الديوان -بلا شك- سيفسح المجال للدراسات والأبحاث التي لم تكن دائما موفقة في الإمساك بقوة وتميز الأغنية الغيوانية، وإن كانت القراءات الجادة قد تعدرت في الماضي، فلربما كان ذلك بسبب من تعذر الوصول إلى النصوص الشعرية كاملة غير منقوصة وغير مشوهة، لذلك يمكن لهذا المثن الغنائي أن يساعد على إنجاز دراسات وقراءات تعيد الاعتبار من جديد لإحدى أبرز التجارب الغنائية والموسيقية في المغرب وخارجه"[1]

إن هذا الديوان ساهم في إماطة اللبس عن كثير من الكلمات في المثن الغيواني من جهة ومن جهة أخرى من شأنه أن يساعد الأجيال القادمة على إمكانية التمثل الجيد للتجربة الغيوانية وإعادة التماهي مع عناصرها الشعرية والموسيقية والادائية، وبهذا يكون هذا الديوان قد نقل الموروث الغيواني من النص الشفاهي إلى النص الكتابي قصد الوصول بسهولة ودقة إلى عمق ودلالة الكلمات العتيقة المتأثرة بالأصالة والتراث الشعبي في أعمق جذوره .
ويأتي هذا البحث المتواضع كنقطة من بحر قصد استجماع ما أمكن استجماعه بخصوص ناس الغيوان. وإذا كان الناس ألفوا في المقدمة الإشارة إلى عناصر البحث ومحتوياته. فإن بحثنا هذا مقسم إلى قسمين أو فصلين خصص الأول منه لإلقاء نظرة على التجربة الغيوانية من الخارج وهدفها الإحاطة بمحيط ناس الغيوان، فهي تعتبر مهمة للإحاطة بمفهوم الاسم والفضاء الذي تبلورت فيه فكرة ناس الغيوان دون إغفال اللحظة التاريخية لأنها تعتبر أمرا في غاية الأهمية لاعتبارات منطقية، زد على ذلك معرفة أفراد ناس الغيوان كذا الأشخاص الدين مروا من المجموعة والدين أتوا إليها فيما بعد وتركوا بصمات لم تكن لتنسى أو أن يطويها الزمان، ونختم الفصل الأول بعلاقة ناس الغيوان بأبي الفنون وكيف أمدهم بقوة هامة للوقوف على الخشبة .
أما الفصل الثاني فقد توقف على الغيوان من الداخل إن صح التعبير فهو إقتصر على أغاني ناس الغيوان من خلال جدورها الثراثية لنصل إلى عنصر مهم ألا وهو محاولة تصنيف هذه الأغاني بين تلك التي تستنهض الهمم القومية والوطنية ودات الهموم الإنسانية التي تنشد السلام والأمان والعدل والأمل … وتنبذ الحقد والكراهية وتلك التي حفلت بمشاهد تصويرية عن القهر والظلم خلال سنوات الجمر والرصاص …
وخثمنا هذا الفصل بأغاني هي اهذاءات إلى روح الراحلين بوجميع وباطما. وعموما هذه فقط محاولة لنفض الغبار وإبراز بعضا من معظم ما خفي من تاريخ ناس الغيوان ويبقى المستقبل مشرعا أبوابه لمواصلة البحث واستمرار الجهد للإحاطة بخفايا التجربة الغيوانية ..

1 - ناس الغيوان و التيارات الغنائية بالمغرب خلال الستينيات.
تقاسم المشهد الغنائي المغربي المعاصر خلال مرحلة نهاية الستينيات وبداية السبعينيات تيارات غنائية ثلاث :

أ - تيار شكل امتدادا وتمثلا للأغنية المشرقية وخاصة المصرية، التي غزت الساحة الوطنية، حيث اعتمد هذا التيار على استلهام روح الغناء المشرقي وتوظيف الخصوصية المغربية، واعتماد القصيدة والنهل من المواضيع الكلاسيكية، وقد مثل هذا التيار المرحوم أحمد البيضاوي …

ب - تيار استند على الإرث الغنائي الشعبي المغربي من خلال تناول مواضيع شعبية وبلغة دارجة مقتسبة من لغة الناس البسطاء. هذا التيار يتجسد في تجارب "الحسين السلاوي" و"بوشعيب البيضاوي" …

ج - تيار حاول مسك العصا من الوسط من خلال اعتماد لغة وسطى بين الفصحى والدارجة مع العمل على التنويع في المضامين لكن دون الاغراق في الشعبية، هذا الثيار يمثله رواد الأغنية المغربية مثل، "فويتح"،"المعطي بنقاسم"و"إبراهيم العلمي" …

ورغم إنجازات هذه الثيارات نوعيا وكميا فإن ذلك لم يقلص من هيمنة واكتساح الأغنية المشرقية ومن ثم كانت الحاجة إلى أغنية مغربية تنطلق من الإرث الغنائي الشعبي. ومن والآم وآمال الجماهير الشعبية القابعة في أسفل الدرك، وفي نفس الوقت استلهام انغام وإيقاعات التراث المغربي بكل أطيافه مع الاستفادة من منجزات الموسيقى العالمية.
… توالت السنوات إلى أن ظهرت "ناس الغيوان" وكانت بحق في مستوى هذه التطلعات والآمال… واستطاعت في فترة وجيزة أن تؤسس لنفسها جماهيرية أسطورية تعدت حدود الوطن إلى مختلف أرجاء العالم العربي، بل أنها تعتبر اليوم إحدى أهم الظواهر الغنائية في العالم المعاصر، وتوازيا مع المرحلة التاريخية التي انطلقوا من صلبها تركبت بنية المجموعة على شكل جماعي يلتزم كل فرد فيها بأداء دوره الفعال بحيث تصير الأغنية في بنائها الكامل مزيجا من بنيات متداخلة ومتشابكة ينسجها الغيوانيون أنفسهم من خلال أصواتهم المتبادلة في أبعادها النطقية والمنسجمة ضمن حدود الإيقاعات، وإدخال نمط المجموعة على المشهد الغنائي المغربي يعد في حينه ثورة حقيقية وتمردا واضحا على النظام الكلاسيكي المعتمد في المغرب الواحد .
تتخذ الأغنية الغيوانية طابعا شعبيا في شكلها العام من أجل خلق تواصل روحي مع الشعب واتخاذ هذا الطابع الشعبي يستلزم معرفة عميقة بطرق الإبداع والإبداعات الجماهيرية، لذا استمد "ناس الغيوان" أداة التواصل من اللغة اليومية المتداولة التي شكلوا بها صورا منتزعة من واقع الجماهير … وعلى مستوى الموسيقى الشعبية هناك اهتمام غيواني بالمنابع اللحنية القريبة من روح الشعب وإلى ذوقه من خلال الجمل المستمدة من التراث واعتماد آلات غنائية شعبية أصيلة كانت مغمورة وحقيرة .

2 - الاسم : ناس الغيوان .
المجموعة كانت موجودة قبل أن تسمى "ناس الغيوان" فهي ضمنيا ولدت في مسرح "الطيب الصديقي" لكن بدون اسم خلال هذه المرحلة، بعد أن خرجوا من المسرح تمت تسميتهم "الدراويش الجدد" مع الفنان علي القادري صهر الطيب الصديقي الذي كان يشتغل معه في إدارة المسرح البلدي آنذاك ومعه أيضا قدمت المجموعة أول حفل وكان ذلك بمطعم "نيوتليس" "NAUTILUS" بعين الدياب بالدار البيضاء ودائما تحت اسم "الدراويش الجدد" "DERWICHE NEW" فيما المرحلة الثالثة وهي المرحلة التي سيشتد فيها عود المجموعة مع الطيب الجامعي الذي أطلق على المجموعة "ناس الغيوان" حيث قال عمر السيد في أحد البرامج التلفزيونية أن "ناس العيوان تعني ناس المحبة ناس الخير ناس السلام"، وفي الموروث الشعبي الغيوان تعني الترجمة المطابقة لأهل التجوال التي تفسر بشكل إيجابي بتوابع المغامرة والتسكع والغناء والاحتفال … إذن ببساطة هذا التعريف الشعبي هو الأقرب إلى القصد من التسمية حيث "الغيوان" أو "الغيواني" ترادف الفنان المبدع الجوال بين الليالي الساهرة همه الوحيد إشباع رغباته الفنية وإبراز مؤهلاته الإبداعي

3 - الغيوان والمسرح :
لا يختلف اثنان في أن أفراد ناس الغيوان جاءوا من رحم المسرح، ففيه رست اولى خطواتهم في عالم الفن والإبداع، فقبل أن يلتف هؤلاء حول مجموعة الطيب الصديقي المسرحية فقد كانت لهم أعمال مسرحية سابقة - ربما أنها لم تكن ناضجة على المستوى المطلوب - فبوجميع أسس رفقة بعض أصدقائه مجموعة مسرحية تضم إلى جانب بوجميع واليحياوي ومطراز وعمر السيد، أناس آخرون. وكانت هذه الفرقة تسمى "رواد الخشبة" حيث أسندت رآستها إلى ادريس أوعلا. الفرقة قدمت آنذاك عروضا مسرحية منها "الحاجة كنزة" "باحمان"، أما من ناحية الكتابة فقد كان بوجميع يكتب للفرقة جل المسرحيات، وكلما احتاجوا للموسيقى في إحدى المسرحيات فقد كان العازف علال يعلى هو من يتكلف بالعزف.
أما العربي باطما فقبل أن يلتقي مع بوجميع وعمر السيد في مسرح الطيب الصديقي فقد كان ينشط هو الآخر ضمن فرقة "الهلال الذهبي" وهناك من يسميها فرقة "الإنارة الذهبية" جسد معها دور من مسرحية تسمى "ليلة عاشوراء"[2]، كما كان هو الآخر يكتب مسرحيات لهذه الفرقة التي قضى معها ثلاث سنوات من أهم المسرحيات "سيدنا الشيخ" التي حازت على جائزة آنذاك و"الخياط" "الخراز" "نفيسة" …

ولما سمع الطيب الصديقي الذي كان يهتم آنذاك بمسرح البساط بأن هناك بعض الشباب بالحي المحمدي يسيرون على نهج مسرح البساط (مسرح البساط مسرح يمزج بين الغناء والتمثيل) أبدى رغبته الأكيدة في ضم هؤلاء إلى فرقته، وللإشارة فالعازف علال كان قد التحق بفرقة الصديقي قبل ذلك، هذا الأخير الذي وظف إمكانيات الصورة والرمز والحركة والتراث بشكل جعله رائدا على المستوى العربي عامة وأتاح الفرصة لعدة مواهب لتبين عن كفاءتها داخل مجال مسرحي واسع يستعمل الفرجة الكاملة، بل أثر بشكل وبآخر في توجه بعض ممثليه نحو الغناء الشعبي وكان من نتائج ذلك التقاء بوجميع وعمر السيد والعربي باطما وكانت مسرحية "الحراز" أهم عمل مسرحي لهولاء مع الصديقي، وكل من استطاع استعادة شريط المسرحية المسجلة للتلفزيون المغربي سنة 1968 سيلاحظ بوادر الظاهرة عند هؤلاء الفتية الذين كانوا يتناوبون على

غناء القصيدة حربة واقساما والدين كانوا يضيفون في المسرحية مرددات شعبية ظاهرها ساخر وباطنها نقد اجتماعي قوي المفعول[3].

وهنا بدا التجاوب واضحا بين بوجميع وباطما وعمر السيد من خلال المقطوعات التي يؤدونها أثناء المسرحيات ولما أقام الصديقي ما يسمى بالمقهى المسرحي "CAFÉ THEATRE" أصبح هؤلاء يغنون فيها أغاني من إبداعاتهم وإبداعات أناس آخرين، حيث يحضر الناس بكل مكوناتهم عاديون، فنانون، مسرحيون … لمشاهدتهم .

فإلى جانب مسرحية "الحراز" شارك هؤلاء في مسرحيات مثل "سيدي عبد الرحمان المجدوب" "سيدي ياسين فالطريق" ثم أعمال أخرى .



4 - الفضاء والتاريخ :

إن من يريد الكتابة أو الحديث عن مجموعة ناس الغيوان لابد له من أن يطلع على الفضاء واللحظة التاريخية التي أنجبت هذه المجموعة، ولكي تكون لهذه الكتابة أو لهذا الحديث واقعية محترمة لابد من قراءة تستدعي بدورها أهمية دراسة وتحديد السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي والتاريخي الذي ولدت فيه هذه المجموعة الغنائية ونظن -حسب ذ. حسن نجمي- ان التعرف على قيمة الدور البادخ لناس الغيوان لا يتحقق بدون تقديم اللحظة التاريخية المعقدة التي ظهرت فيها التجربة والانتباه إلى الفضاء الشعبي الذي تشكلت فيه العناصر التكوينية الحاسمة لهذه الحركة الفنية (الغنائية والموسيقية)"[4].

ناس الغيوان يؤرخ لظهورها زمانيا منذ نهاية الستينيات حين خرج كل من بوجميع، باطما وعمر السيد من فرقة الطيب الصديقي المسرحية بسبب مقال نشره الصديقي في إحدى الجرائد الفرنسية. " … خصوصا وأن المقال كان قدفا في حق كرامتنا فلقد قال المدير للصحفي أنا أعد الممثلين الذين في فرقتي كفئران للتجارب … أجرب فيهم مسرحي"[5]. هذا الكلام لم يرق هؤلاء الشباب فكانت النقطة التي أفاضت الكأس لتقوم الثورة، "لم تكن ثورة عنف وخصام بل كانت ثورة فن..حتى أني أقول كان اتحاد ممثلين ضد سنين عنف وخصام وسب… رحم الله بوجمعة فهو الذي أفتى علينا ذلك .. قال لنا :إن الخشبة هي ميداننا، ففيها سيكون اتحادنا وثورتنا وانتقامنا منه … ولنظهر بأننا لسنا فئران تجارب …"[6] هكذا خرج هؤلاء ليبحثوا عن زملاء لهم لإكمال الفرقة، وكان الحي المحمدي الفضاء الذي آوى المجموعة، هذا الحي المعروف بأزقته الضيقة وصخبه وبساطة أهله هو الذي أنجب من صلبه فرقة غنائية زعزعت أركان الأغنية المغربية وأثمرت أعمالا تعد اليوم بحق ذخائر فنية ناذرة. ولكي نقدم قراءة موفقة لابد من تسليط الضوء على الحي المحمدي كمكان ثم اللحظة التاريخية التي عرف بها آنذاك.
عموما شكل هذا الحي ملاذا آمنا لمجموعة من الأسر المغربية التي أنهكها بطش الاستعمار ومواليه، حيث نزحوا من مناطق مختلفة من المغرب، فالتقى الكل بالحي المحمدي وأحياء هامشية أخرى بالدار البيضاء. هذا الحي كان مقسما إلى دروب وتجمعات سكنية بسيطة واكواخ كدرب مولاي الشريف، بلوك السكك الحديدية، لاراد، لافارج، كريان الجديد، كريان سنطرال … هذه الأحياء قطن بها هؤلاء العمال، حيث جعلوا من الحي المحمدي ما يشبه "ساحة جامع الفناء" حيث كانوا عندما يحل المساء ويعودوا من تعب العمل نهارا يخرجون في مجموعات غنائية في مختلف الأحياء : فمثلا درب مولاي الشريف به قبائل صحراوية وخصوصا قبيلة دوبلال المعروفة برقصة الكدرة. حي السككيين يعرف رقصة أحواش، لافارج رقصة كناوة …

من المعروف أن الأحياء التي يسكنها عمال بسطاء تشكل غالبا الشرارة الأولى لكل الانتفاضات ضدا على القهر والاستغلال، ولأن الحي المحمدي واحدا من هذه الأحياء فطبيعي أن يكون واحدا من معاقل المقاومة ضد الاستعمار، إضافة إلى كونه مكان خصب لتفتق بوادر تكوين أحزاب سياسية ونقابات عمالية هذا كله سيؤدي إلى قيام ثورات عمالية يقودها أناس بسطاء وهذا ما تبلور في الأغنية الغيوانية وظل صداه ملازما لها، والحي المحمدي ليس إلا صورة مصغرة لما شهده المغرب كله حيث عرفت مرحلة ما بعد الاستقلال انقلابات على سدة الحكم وسيطرة أدناب الإستعمار على مقاليد السلطة مهمشين بذلك رجالات المقاومة وجيش التحرير بعدما كان الجميع يتشدق بأن الكعكة سيتم اقتسامها بالتساوي لكن العكس هو الذي حدث، إذ تميزت هذه الفترة بتصاعد وثيرة الاعتقالات التعسفية والتصفيات الجسدية التي طالت كل من ينادي بالتغيير لتلوح في الأفق بوادر تبدد كثير من الآمال والأوهام التي رافقت مرحلة ما بعد الاستقلال وهو ما صعد من حدة الصراعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية … هذا على المستوى الداخلي. أما على المستوى الخارجي فيمكن تفريع هذه النقطة إلى جانبين : أولهما على المستوى العالمي حيث شكلت فترة نهاية الستينيات وبداية السبعينيات أوج التساؤل الكبير حول طبيعة ومسار ومآل تركيبة المجتمعات الرأسمالية المصنعة، فقد تكتفت عوامل تاريخية كبرى (نهاية الاستعمار العسكري إجمالا وأفول إمبراطوريات استعمارية، بروز أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية …) لتتمخض عن طفو هائل لمشاعر وأحاسيس القلق والبؤس والتمرد، لقد أحست أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية أن آمالها أخذت تخيب وطموحاتها أخذت تتبدد … وان التقدم الصناعي والتكنولوجي … قد ثم حقا على حساب إنسانية الإنسان نفسه وهو ما عكسته ظواهر نظريات فلسفية وفكرية : كالاستلاب والتشيؤ والفردانية …كما اجتاحت أوربا وأمريكا موجات "الهيبين" بمختلف مظاهرها …

ثانيهما على الصعيد القومي فقد كانت هذه الفترة مرحلة الانهزام والفجيعة بامتياز! فقد زلزلت هزيمة 1967 العقول والعواطف في أمر نكسة واندحار عرفه العرب في تاريخهم الحديث زد على ذلك المجزرة الشنيعة صبرا وشاتيلا ثم انتفاضة أطفال الحج)ارة سنة 1988 . كما عرفت المرحلة تصاعد موجات النداء بالقومية العربية والوحدة العربية"[7].

وإجمالا هذه مجمل الأحداث والظروف البارزة التي تمخضت عنها تجارب موسيقية شكلت في عمقها تعبيرا عن واقع المجتمعات ورصدا لتحولاتها وفي هذا الإطار برزت مجموعة ناس الغيوان كواحدة من المجموعات الغنائية بل أولى المجموعات الغنائية الرائدة حيث استطاعت هذه التجربة وفي أعوام قليلة لكن بأغاني انجازات استثنائية أن توجد لنفسها قاعدة جماهرية عريضة تعدت حدود الوطن

5 - أفراد مجموعة ناس الغيوان :

التقت مصائر شبان من الحي المحمدي بالدار البيضاء بداية الستينيات بحكم الظروف المتشابهة في أغلب حالاتها وهي أنهم أبناء مهاجرين نزحوا من أنحاء مختلفة من المغرب واستقروا بالحي المحمدي، والذي شكل في تلك الفترة معقلا للعمال والمهاجرين والنازحين من القرى ومن مدن أخرى إما بسبب التهجير خلال الاستعمار أو بسبب البحث عن ما يسد رمق العيش، يقول عمر السيد "… قليل هم الدين يعرفون أنه قبل أن يكون أفراد ناس الغيوان أصدقاء ومنتمون إلى نفس الفضاء الاجتماعي والثقافي فقد كان آباءهم أصدقاء بحكم الانتماء إلى نفس الحي الذي كان يجمعهم وبحكم الظروف التي جعلتهم ينزحون من بلدانهم ويستقرون بالحي المحمدي، فأباؤنا كلهم من المهاجرين نزحوا إلى الدار البيضاء من مناطق مختلفة واستقروا بكريان سانطرال، والد بوجميع نزح من نواحي طاطا من جنوب المغرب، والد علال قدم من أولاد برحيل وكان ينتمي إلى فرقة هوارة المعروفة بإيقاعها الجميل، أما والد العربي باطما فقد جاء من منطقة مشرع بن عبو "دوار الشكة" أولاد البوزيري (نواحي سطات) والدي أنا -حسب عمر السيد- قدم من قبيلة إيدوسكا ناحية أيت باها بسوس"[8].

الملاحظ أن عمر السيد اقتصر هنا على بعض الأفراد دون غيرهم ولا يمكننا نحن هنا إغفالهم أو تناسيهم ببساطة لأنهم قدموا خدمات للظاهرة الغيوانية عموما وناس الغيوان على وجه الخصوص وهم مولاي عبد العزيز الطاهري الذي ينحدر من مدينة مراكش ومحمود السعدي ابن حي سوسيكا بالحي المحمدي، وعبد الرحمان قيروش الملقب ب "باكو" من مدينة الصويرة، غير أن هؤلاء منهم من عمر طويلا مع المجموعة ومنهم من غادرها مبكرا ليؤسس مجموعات غنائية على غرار ناس الغيوان كجيل جبلالة التي يعد كل من مولاي عبد العزيز الطاهري ومحمود السعدي من مؤسسيها الأوائل. ثم هناك رضوان ريفق الذي رافق المجموعة لبعض الوقت .

إن هذا الاختلاف في الأصول وهذه الجغرافيا المتباينة ساعدت إلى حد ما مجموعة ناس الغيوان على بلورة أغنية تتداخل فيها أصوات وإيقاعات مختلفة منها الإيقاع السوسي الأمازيغي، الإيقاع الكناوي، الصحراوي، العروبي، العيطة … هي إيقاعات تحملك مباشرة وتحيلك على

أصول أصحابها، وهو ما أعطى لأغنية ناس الغيوان تنوعا شعبيا وجمالية خاصة. الفضل فيه يرجع إلى التراث.

وللوقوف أكثر على التجربة الغيوانية لابد من الوقوف عند أفراد مجموعة ناس الغيوان لمعرفة كيف كونوا ناس الغيوان .

1- 5 - بوجميع :

إسمه احكور بوجمعة ولد بالبيضاء سنة 1944، شارك في فرقة هواة المسرح (رواد الخشبة) سنة 1963 وفي سنة 1968 إحترف التمثيل مع فرقة المسرح البلدي حيث شارك في عدة مسرحيات أهمها "الحراز" مع الطيب الصديقي إلى جانب كل من العربي باطما وعمر السيد وآخرين …

بوجميع أبرز مؤسسي مجموعة ناس الغيوان درس الابتدائي بمدرسة الاتحاد التي شيدها أهالي المحمدي في ذلك الإبان، بعد ذلك انتقل إلى ثانوية الأزهر وهي الثانوية الوحيدة التي كانت معربة في تلك الفترة وكان يدرس بها أساتذة مشرقيين ومن هؤلاء أخذ بوجميع الولع بالقضية الفلسطينية وتأثر بها أيما تأثر. بوجميع ينحدر من أسرة فقيرة كانت تقطن بالقرب من مكان يسمى آنذاك "الشانطي ديال الشابو" وهو مكان أشبه بساحة جامع الفنا، ففيه تلتقي مجموعة من الفرق الموسيقية كل يوم أحد. ومن هذه الفرق : فرقة أحواش، الكدرة، هوارة، عيساوة، أقلال … فيخرج الناس لمشاهدتها وكان بوجميع دائم الحضور إلى هذا المكان الذي يضم أيضا أصحاب "الحلاقي".

ومهما كتبنا أو تكلمنا عن بوجميع فإن أبلغ شهادة في حقه هي شهادة رفاق مسيرته الفنية وأصدقائه في الحياة اليومية .

أ - العربي باطما … لا أحد ينكر أن بوجميع كان فنانا وكذا صوته الرنان، ولو طال الزمان وعاش بوجميع لكان من الفنانين المرموقين … صورته المستعادة بالنسبة لي تأسف على فقدان صديق وثانيا لفقدان الساحة الفنية ببلادنا لإنسان كبوجميع .

ب - الحسين بنياز -باز-: يقول … علاقتي ببوجميع بدأت سنة 1969 في فرقة المسرح البلدي كان "حشومي" لا يتكلم كثيرا ولا يتشاجر، إنسان صبور متفتح مع الكل.

ج - عمر السيد : … إن مرحلة بوجميع تتميز بالصدق، كان أثناء وجوده فوق الخشبة إنسانا آخر يقول أشياء جديدة تحس به أنه يعبر عن صراعات داخلية وهذا ما يدل على عبقرية هذا الرجل وعمق شعبيته الأصلية .

د - مولاي عبد العزيز الطاهري : … بوجميع كان معروفا بجانبه الإبداعي. والمقاطع التي كان يتولى أذاءها فوق الخشبة والتي كان يجري حولها اتفاق من حيث المبدأ كانت تثبت أنه الشخص المؤهل بالفعل لذلك … بوجميع أحبه الجمهور كثيرا وأنا كواحد من الفرقة آنذاك كنت أشعر بقوة خارقة معي فوق الخشبة، وكان يطربني صوته[9].
… هذه عموما شهادات رفاق بوجميع وأصدقائه، شهادات تجمع وتلتقي كلها عند عبقرية هذا الفنان، وانضباطه الفني، لكن الموت لم يمهله طويلا إذ رحل عن المجموعة وهو في عز العطاء بعيد سنوات قليلة من تأسيس المجموعة وكان ذلك يوم 26 أكتوبر 1974 ولازالت وفاته تطرح أكثر من سؤال خصوصا وأن عائلته التي عاينت الوفاة تقول أنه مات مسموما، متأثرا بشيء أكله أو شربه وهو الأمر الذي شكل مادة لوسائل الإعلام الوطنية لطرح سؤال الوفاة حيث تكلمت بعضها عن الوفاة متسائلة عن أسبابها والشبهات التي تحوم حولها. وفي نفس الإطار دائما تطرقت القناة الثانية 2M في حلقة عن المرحوم بثت يوم 18/03/ 2005 عن هذه الوفاة أخذة رأي العائلة ورأي رفاقه وأصدقائه وكل من له علاقة ببوجميع، وبين رأي عائلته ورأي صديقه ورفيقه عمر السيد. هذا الأخير الذي يقول أن بوجميع كان يعاني من قرحة المعدة حيث بوجميع كان لا ينضبط لوصفات الأطباء ونصائحهم وهو ما زاد حالته سوءا وتدهورا .

وبين هذا وذاك تبقى الوفاة نهاية النهايات وخاتمة الخاتمات وسببها يضل لغزا محيرا - على الأقل للعائلة - يرجى حله إلى أجل مسمى أو غير مسمى …

2-5العربي باطما :

ولد بالبيضاء سنة 1947، وفي سنة 1964 عانق الكتابة حيث كتب ومثل وغنى في فرقة الهواة البيضاوية للمسرح وفي سنة 1969 عمل كممثل محترف بالمسرح البلدي، العربي شاعر زجال يمتاز بملكة شعرية رائعة من ميزاته أيضا ذلك الصوت الشاوي الشجي المتميز وذلك الشعر الرقيق والحضور الأخاد سواء على مستوى الأغنية أو التأليف المسرحي أو كممثل أدى أدوارا ستبقى راسخة في ذاكرة السينما المغربية

ازداد دور العربي باطما داخل مجموعة ناس الغيوان بعد وفاة بوجميع، إذ أصبح عراب المجموعة بدون منازع فهو الذي كان يكتب جل الأغاني لها. العربي كان كثيرا ما يركن إلى نفسه بعيدا عن

الناس ويرحل عميقا في دواخله يحب الوحدة ويعشقها وقد يحدث أحيانا أن يجلس في بيته مدة طويلة لا يغادره، وبتعدد مواهبه بين الموسيقى والمسرح والتمثيل والرياضة والسينما والكتابة حضي باطما بإعجاب وتقدير كبيرين من طرف الجمهور المغربي والعربي عامة كتب باطما سيرته الذاتية وهوعلى فراش الموت في سباق مع الزمن ينتظر أجله المحتوم فكان "الرحيل" الكتاب الأول ثم تلاه "الألم" ليشكلا سيرة عن العذاب والمتعة والموت …

يعترف باطما بكثير من المرارة أن الفن عذبه وأخذ منه كل حياته، وهي حقيقة لا تحتاج إلى تأكيد يقول "… لقد عذبني الفن طيلة حياتي، وكم من مرة تمنيت لو كنت عطارا أو خضارا أو جزارا فعلى الأقل ستكون حدة المشاكل أهون من مشاكل الفن …"

ويواصل أيضا "… لو كنت أعلم الغيب، لبقيت حارسا للدراجات، أو اشتغلت في السكك الحديدية مكان أبي … إنني أقول لنفسي الآن، أما كان الأجدر بي أن أبقى في باديتي الحبيبة لأموت هناك بعيدا عن الأضواء والشهرة ومحاصرة أعين الناس من كل جانب"[10].

فباطما رغم أنه مارس الكتابة والشعر وكتب سناريوهات مسرحيات وأفلام مثل: مسلسل "جنب البير" مسرحية "هاجوج وماجوج"،"36"،"العقل والسبورة" … فإنه لم يدعي يوما أنه كاتب[11].

ولم يسبق له أن انخرط في اتحاد للكتاب أو الشعراء أو ما شابه ذلك، إلا أن المرض لم يمهله كثيرا، إذ توفي يوم 7 فبراير سنة 1997 بسبب المرض الخبيث أو المسمى بالسرطان وهو مرض تأثر به العربي كثيرا وهو ما تجلى في بعض أغاني المجموعة التي أنتجتها في تلك الفترة ك "الهموم حرفتي" و"مكواني" …

هي أغاني عديدة تعبر عن نفسية العربي باطما المتدهورة بفعل المرض إلى درجة أصبح العربي لما يصبح يعتقد أن المساء سيكون حدا لحياته ولما يمسي يعتقد أن الصباح لن يدركه. مرت الآن ثمان سنوات على رحيل العربي، وتضل كتبه ومخطوطاته بل كل خزانته التي قالت وزارة الثقافة آنذاك أنها ستحولها إلى متحف يزوره الباحثون والمهتمون يظل هذا كله قرار ليس إلا .
-------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] : حسن نجمي، مقدمة كتاب "كلام الغيوان" ص12 / ط 4 / 2004 منشورات اتحاد كتاب المغرب .

[2] : العربي باطما، الرحيل ص 82، ط4 / 2005، منشورات دار توبقال.

[3] أحمد عيدون، أوراق عن الموسيقى المغربية، جريدة "الصحراء المغربية" تاريخ 19/06/1999 .

[4] حسن نجمي. مقدمة كتاب "كلام الغيوان" ص6 ط4 / 2004 منشورات اتحاد كتاب المغرب.

[5] : العربي باطما، الرحيل ص104 ط4 / 2005 .

[6] : نفسه ص104 /105 .

[7] : إبراهيم ايت حو، إضاءات … حول الأغنية المغربية، سلسلة شراع ع2 / 1999 .

[8] : جريدة الاتحاد الاشتراكي، دجنبر 2000 .

[9] : جريدة الاتحاد الاشتراكي، يوم 27 اكتوبر 1991 .

[10] : العربي باطما، الرحيل ص 117/118 ط4 / 2005 .

[11] : جريدة البيضاوي عدد 137، يوم 09/02/2005 .

-----------------------------------------------------------------------------------------------------


رد مع اقتباس