أعطني حريتي أطلق يديا!
بقلم: أحمد عبد المعطي حجازي
يوم وقفت كوكب الشرق أم كلثوم في مسرح الأزبكية تغني لأول مرة قصيدة الأطلال من شعر إبراهيم ناجي, ألحان رياض السنباطي, لم تكن تعلم أنها ستنكأ الجراح التي نكأتها, وتفجر الآهات التي فجرتها في أفئدة جمهورها الذي لم يكن خليطا عشوائيا جمعته المصادفة علي غير اتفاق, وإنما كان نخبة أو صفوة من المصريين الذين ألف بين قلوبهم, وثقف أسماعهم, وأرهف أذواقهم صوت أم كلثوم طيلة أربعين عاما لم ينقطعوا خلالها عن حضور حفلاتها التي لم تنقطع هي الأخري عن إحيائها, حتي أصبحوا كأنما هم جميعا عائلة واحدة, أو حزب, أو مدرسة من مدارس الفن والذوق والسلوك الرفيع.
ولقد بدأت الأغنية هادئة, لكنه هدوء قلق, هدوء السطح الساجي علي عمق موار, أو الوجه المتماسك المتذرع بالصبر حتي لا يغلبه علي أمره الصدر المتأجج فتنهمر من مقلتيه الدموع. بداية هادئة مرسلة علي أوتار التشيلو والباصي, تنبثق منها ارتجالات القانون والعود المرتجفة المتوترة, ومن ثم تبدأ كوكب الشرق يا فؤادي لا تسل أين الهوي, وهو مطلع معدل من المطلع الأصلي يا فؤادي رحم الله الهوي. كان صرحا من خيال فهوي. استني واشرب علي أطلاله. وارو عني طالما الدمع روي. ولاتزال أم كلثوم في هذا المطلع وفي المقطع الذي يليه تغني غناء مرسلا كأنه الترتيل الديني, حتي تصل إلي مقام التذكر والحنين يوم التقت بحبيبها أول مرة, فتنتقل من الارسال الي الايقاع, محافظة مع ذلك علي النبرة الجياشة الهادئة, إلي أن تصل إلي الشطرة الأولي في المقطع الذي ستنكأ فيه الجراح:
أعطني حريتي أطلق يديا!
فيضج المسرح, لا أقول بتصفيق مدو أو هتاف صاخب, وإنما بانفجار عارم جياش متوجع اتحد فيه الجميع فصار كأنه رجع الصدي للصرخة التي أطلقتها كوكب الشرق. انها روح مصر التي وجدت في العبارة ترجمة عبقرية لآلام لم تفصح عنها من قبل, وتجسيدا نبيلا لكبريائها الجريح.
أعطني حريتي أطلق يديا ......................... إنني أعطيت ما استبقيت شيئا
آه من قيدك أدمي معصمي ........................ لم أبقيه, وما أبقي عليا
ما احتفاظي بعهود لم تصنها ...................... وإلام الأسر, والدنيا لديا
هكذا تحول الكلام واكتسب لدي جمهور أم كلثوم معني لم يخطر للشاعر, وهذا هو ما يسميه النقاد المعاصرون موت المؤلف أي نهاية سلطته التي كانت مطلقة فأصبح يشاركه فيها القاريء فيتلقي من النص ما يشاء. بل ان النص نفسه يتطور ويتحول عبر الألسنة والأسماع, وعبر الأوقات والملابسات فيكتسب بهذه السيرورة دلالات لم تكن له من قبل