الموضوع: تحليل الأطلال
عرض مشاركة واحدة
  #25  
قديم 21/01/2011, 05h11
الصورة الرمزية samirazek
samirazek samirazek غير متصل  
مشرف
رقم العضوية:51
 
تاريخ التسجيل: novembre 2005
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
العمر: 78
المشاركات: 685
افتراضي أعطني حريتي أطلق يديا‏!‏

أعطني حريتي أطلق يديا‏!‏
بقلم‏:‏ أحمد عبد المعطي حجازي



يوم وقفت كوكب الشرق أم كلثوم في مسرح الأزبكية تغني لأول مرة قصيدة الأطلال من شعر إبراهيم ناجي‏,‏ ألحان رياض السنباطي‏,‏ لم تكن تعلم أنها ستنكأ الجراح التي نكأتها‏,‏ وتفجر الآهات التي فجرتها في أفئدة جمهورها الذي لم يكن خليطا عشوائيا جمعته المصادفة علي غير اتفاق‏,‏ وإنما كان نخبة أو صفوة من المصريين الذين ألف بين قلوبهم‏,‏ وثقف أسماعهم‏,‏ وأرهف أذواقهم صوت أم كلثوم طيلة أربعين عاما لم ينقطعوا خلالها عن حضور حفلاتها التي لم تنقطع هي الأخري عن إحيائها‏,‏ حتي أصبحوا كأنما هم جميعا عائلة واحدة‏,‏ أو حزب‏,‏ أو مدرسة من مدارس الفن والذوق والسلوك الرفيع‏.‏

ولقد بدأت الأغنية هادئة‏,‏ لكنه هدوء قلق‏,‏ هدوء السطح الساجي علي عمق موار‏,‏ أو الوجه المتماسك المتذرع بالصبر حتي لا يغلبه علي أمره الصدر المتأجج فتنهمر من مقلتيه الدموع‏.‏ بداية هادئة مرسلة علي أوتار التشيلو والباصي‏,‏ تنبثق منها ارتجالات القانون والعود المرتجفة المتوترة‏,‏ ومن ثم تبدأ كوكب الشرق يا فؤادي لا تسل أين الهوي‏,‏ وهو مطلع معدل من المطلع الأصلي يا فؤادي رحم الله الهوي‏.‏ كان صرحا من خيال فهوي‏.‏ استني واشرب علي أطلاله‏.‏ وارو عني طالما الدمع روي‏.‏ ولاتزال أم كلثوم في هذا المطلع وفي المقطع الذي يليه تغني غناء مرسلا كأنه الترتيل الديني‏,‏ حتي تصل إلي مقام التذكر والحنين يوم التقت بحبيبها أول مرة‏,‏ فتنتقل من الارسال الي الايقاع‏,‏ محافظة مع ذلك علي النبرة الجياشة الهادئة‏,‏ إلي أن تصل إلي الشطرة الأولي في المقطع الذي ستنكأ فيه الجراح‏:‏
أعطني حريتي أطلق يديا‏!‏
فيضج المسرح‏,‏ لا أقول بتصفيق مدو أو هتاف صاخب‏,‏ وإنما بانفجار عارم جياش متوجع اتحد فيه الجميع فصار كأنه رجع الصدي للصرخة التي أطلقتها كوكب الشرق‏.‏ انها روح مصر التي وجدت في العبارة ترجمة عبقرية لآلام لم تفصح عنها من قبل‏,‏ وتجسيدا نبيلا لكبريائها الجريح‏.‏

أعطني حريتي أطلق يديا ......................... إنني أعطيت ما استبقيت شيئا
آه من قيدك أدمي معصمي ........................ لم أبقيه‏,‏ وما أبقي عليا
ما احتفاظي بعهود لم تصنها ...................... وإلام الأسر‏,‏ والدنيا لديا

هكذا تحول الكلام واكتسب لدي جمهور أم كلثوم معني لم يخطر للشاعر‏,‏ وهذا هو ما يسميه النقاد المعاصرون موت المؤلف أي نهاية سلطته التي كانت مطلقة فأصبح يشاركه فيها القاريء فيتلقي من النص ما يشاء‏.‏ بل ان النص نفسه يتطور ويتحول عبر الألسنة والأسماع‏,‏ وعبر الأوقات والملابسات فيكتسب بهذه السيرورة دلالات لم تكن له من قبل‏
__________________
مع تحيات سمير عبد الرازق
رد مع اقتباس