عرض مشاركة واحدة
  #23  
قديم 23/04/2008, 13h44
الصورة الرمزية Karim Samaali
Karim Samaali Karim Samaali غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:487
 
تاريخ التسجيل: février 2006
الجنسية: تونسية
الإقامة: كند
العمر: 54
المشاركات: 143
افتراضي «حبيبـــــة مسيكـــــة»: بين الواقع والأسطـورة (2)

* بقلم الموسيقار: د. محمد القرفي

يختلف الشاعر عبد الرحمان الكافي في موقفه من المغنية التي كان ينعتها في أزجاله بالمسكوكة (مصبّ المياه المتعفنة) عن موقف الكثيرين من معاصريه الذين بالغوا في تلميع صورتها الباهتة وجعلوا منها «شمس المسارح التونسية» فقد كان يؤكد باستمرار على صفتها كراقصة ومغنية وانبهار بعض التونسيين المكبوتين بمفاتنها فأقحموها عنوة في المسرح وجعلوا منها ممثلة وهي بعيدة عنه كل البعد. ويعود هذا التناقض بالأساس الى غياب المعايير القياسية التي ينبني عليها التقييم النقدي من جهة والى حالة الفوضى التي كانت تعيشها وسائل التعبير الثقافية والفنية في تونس حتى صار الناس لا يميّزون بين الجنس والفُرجة.
أسمع يا قاري نعيدلك ما شُفت ** وسمعت زيد كرفت
إذا تسمعني تقول ليّ انصفت ** التمثيل عندنا صار مثل الزفت
في مرقص التدجيل ما سبب سقوطه كان بنت الليل
كشفت حاله القايدة مسكوكة الراقصة المهتوكة
وقد ندد الشاعر في ملزومة «جولييت» بهذه المطربة وهزأ أداءها التمثيلي في دور ابن نابليون من مسرحية «النسر الصغير» مقارنا بينها وبين ممثلة تونسية ناشئة اسمها رشيدة لُطف اشتهرت آنذاك بلقب شيرلي تانبل التونسية:
جوليات لُطف وروميو مسكوكة كيف السلاطة بعد م الشكشوكة
بالموزيكة ولا هوش طقطوقات راست وسيكة
التمثيل ماتقدّوش من هي ركيكة ما يْحبْ كان العارفة الدكّوكة
ويختم الكافي هجاءه اللاذع بهجوم عنيف على المعجبين بها من أصحاب المال ويدعوهم الى الاستفاقة من غفلتهم:
في كابينة اللي يعين لفجور ربي يهينه
يا ولاد تونس ارجعوا يزّينا الشاعر عليكم دمعته مسفوكة
وكان الشاعر حسين الجزيري صاحب جريدة «النديم» من مؤيدي الكافي في موقفه من حبيبة مسيكة وقد ركّز على حياتها الليلية وسخر من معجبيها الذين يلازمونها مثل ظلّها (عسكر الليل) وأكّد في الوقت نفسه موقفه المتصلب من تحرير المرأة وعداءه لرفع الحجاب.
لقيت حبيبة مسيكة في حياتها ـ وبعد وفاتها أيضا ـ هالة من التمجيد والاعجاب لا تتلاءم وصوتها المتوسط القيمة. فمن خلال الاسطوانات التي سجلتها مع شركات بيضافون وأوديون يتبيّن لنا صوت من فصيلة الكنترالطو قليل الدرجات في الارتفاع محدود المسافة وغناء دائم الارتعاش تغلب عليه اللكنة اليهودية في النطق العربي والتذبذب في الأداء. وهذا دليل على أن هذه المرأة كانت تغني على السليقة ودون سابق دُربة أو تكوين بالرغم مما يشاع أنها تلقت تدريبات من موسيقيي جاليتها وكذلك من بعض الموسيقيين المسلمين. بالاضافة الى هذه الهنات الفنية تسمع في التسجيل مصاحبة آلية من تخت غير ثابت في منازل سلالمه يخلط بين أنصاف المسافات وأرباعها. والغريب في الأمر أن «نابغة الموسيقى الشرقية الاستاذ إسكندر شلفون» (هكذا كانوا يلقبونه عندنا) عند زيارته لتونس قال عنها منافقا «إنها المتفننة الوحيدة في الشمال الافريقي» والأرجح أنه استمع اليها بعينيه!
اشتهرت مسيكة بغناء الطقاطيق المصرية مثل (على سرير النوم دلعني) لمنيرة المهدية التي تؤديها بصوت مرتعش وتبدأها بموال لا علاقة له بالموّال ونطق للحروف يتأرجح بين العاميتين التونسية والمصرية. وكذلك أغنية سيد درويش الشهيرة (زوروني كل سنة مرة) وهي محرّفة لحنا وكلمة وأبياتها مقطّعة الاوصال بتوقّفات لا محل لها وفواصل (كبريهات) ذات طابع طرابلسي وتتخللها تعشيقة على المطربة: «الله الله يا ملكة الطرب، يا متحجبة يا شهيرة». وأصل مقام الاغنية العجم عشيران الشرقي الذي يتحوّل عندها الى طبع المزموم التونسي (ويماثل تقريبا مقام الجهار كاه الشرقي بدرجته الثالثة المنقوصة) الذي يؤكده خميس الترنان (المردد الوحيد في التسجيل) بقفل مميز بعيد عن روح المقام الاصلي. نفس الشيء يمكن قوله عن أغنية (طلعت يا محلى نورها) لسيد درويش التي لم يبق فيها من الأصل سوى الطالع فجاءت كلماتها مشوهة وغنائها متعثّرا ومختل الايقاع أحيانا وأداءها فيه رخو في النطق:
على بحر النيل يا صبايا من نار الجنّة
والقطرة منّه بتشفي أمراضنا منّـــا
وتعتمد حبيبة مسيكة في أدائها على الخاصية الطرابلسية التي أدخلها النازحون من ليبيا بادماج نون اضافية الى بعض الكلمات مثل: عذّبت = عنذبت، والعشق = ونلعشق، توّة = تنوّة، وعلى بدء الغناء من النصف الثاني للصدر. وهي من خصوصيات الغناء البدوي المشترك بين القبائل الطرابلسية والتونسية المتقاربة في الموقع الجغرافي وتقوّي نبرة الايقاع في الكلمات الرخوة ذات الاشباع، علاوة على ادماج آهات لاستكمال الايقاع مثل آه منايْ وآه يا دايْ. وتبدو اللكنة اليهودية في النطق واضحة من خلال بعض الكلمات مثل: خضرة = خدرة، سبب = سبب.
رد مع اقتباس