عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 13/09/2006, 20h06
adham006
Guest
رقم العضوية:
 
المشاركات: n/a
افتراضي الأندلس تغني على أنغام زرياب

هذه الموضوع إهداء للإنسان الأديب الدكتور أنس البن - د.راضي
الأندلس تغني على أنغام زرياب
كان انتقال زرياب , من بغداد (العباسية) إلى قرطبة (الأموية), نقطة تحول بالغة الأهمية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس, لأن ابتكاراته وتجديداته لم تقتصر على الغناء والموسيقى, ولكنها امتدت لتشمل حياة المجتمع الأندلسي.
زرياب هو أبو الحسن علي بن نافع, واشتهر بلقب ( زرياب ). وهو اسم (الطير الأسود) ذي الصوت الرخيم. ويقال إنه لقب بذلك (من أجل سواد لونه وفصاحة لسانه وحلاوة شمائله). أما كلمة ( زرياب ) فهي فارسية الأصل وتعني (ماء الذهب). ولد زرياب في بغداد عام 161هـ/777م. ويبدو أن والده كان من الوافدين إلى بغداد, وكان زرياب من موالي الخليفة العباسي المهدي (ت169هـ/785م). تعلم زرياب فن الغناء والموسيقى في بغداد على يد إسحاق الموصلي (ت235هـ / 850م), الذي كان صاحب مدرسة للغناء والموسيقى في العاصمة العباسية, والموسيقار المفضل لدى الخليفة هارون الرشيد (ت193هـ/ 809م). وإذا كان زرياب قد أخذ في بداية حياته الفنية بعض ألحان أستاذه ووضعها في أغان جديدة له مع شيء من التغيير والتطوير, فإنه سرعان ما انطلق مستقلاً في ألحانه وأغانيه, بحيث لم تمض سنوات قليلة حتى أتقن (صناعة) الغناء والموسيقى اتقاناً فاق فيه أستاذه, لا سيما أن الكثير من عناصر النبوغ والإبداع كانت متوافرة في شخصيته.
في بلاط الرشيد
شاءت الظروف أن يطلب الخليفة هارون الرشيد من إسحاق الموصلي أن يرشح له مغنياً بارعاً, فذكر له تلميذه زرياب , وقال إنه قد اتقن الغناء والموسيقى على يديه, ويتوقع أن يكون له شأن كبير في مقبل الأيام. فطلب الرشيد منه أن يصطحبه معه إلى مجلسه. وبالفعل حضر زرياب برفقة أستاذه إلى مجلس الخليفة. ودار حوار بين الرشيد وزرياب حول بعض المسائل الفنية, ثم سمع ألحانه وغناءه, فأعجب به إعجابا شديداً, بل دهش بما انطوت عليه شخصيته من عقل ومنطق ومواهب فنية. ويحسن بنا أن ننقل مقتطفات من هذا الحوار كما ورد في أحد المصادر الأصلية (.. فلما كلمه الرشيد (أي كلّم زرياب ) أعرب عن نفسه بأحسن منطق وأوجز خطاب, وسأله عن معرفته بالغناء فقال زرياب (نعم أُحسن منه ما يُحسنه الناس, وأكثر ما أُحسنه لا يحسنونه, مما لا يحسن إلا عندك ولا يدَّخر إلا لك, فإن أذنت غنيتك مالم تسمعه أذن قبلك). فأمر الرشيد عندئذ بجلب عود أستاذه إسحاق, ولكن زرياب رفض العزف عليه وقال (لي عود نحته بيدي وأرهفته بإحكامي, ولا أرتضي غيره, وهو بالباب, فليأذن لي أمير المؤمنين في استدعائه, فأمر الرشيد بإدخاله إليه. فلما تأمل الرشيد عود زرياب , وكان شبيهاً بعود إسحاق, فقال له الرشيد: ما منعك أن تستعمل عود أستاذك? فقال زرياب : إن كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنيته بعوده, وإن كان يرغب في غنائي فلابد لي من عودي. فقال له الرشيد: ما أراهما إلا واحدا (أي أن العودين متشابهان). وهنا شرح زرياب للخليفة الفروق بين عوده وعود أستاذه, منها مثلاً أن وزن عوده يساوي ثلث وزن عود أستاذه, وأن بعض أوتار عوده من الحرير وبعضها الآخر من مصران شبل الأسد, مما يجعل ترانيم عوده أكثر صفاء ووضوحا, فتعجب الرشيد من وصف زرياب لعوده, ثم أمره بالغناء, فاندفع يغنيه قصيدة من تأليفه, يمدح فيها الخليفة, ومنها قوله:
يا أيها المَلِكُ الميمونُ طائرُه هارونُ راح إليك الناسُ وابتكروا


وبعد أن أتمَّ زرياب النوبة (طار الرشيد طرباً). ثم سأل الرشيد إسحاق الموصلي معاتبا:ً لماذا أخفى عليه هذا المغني ولم يقدمه له حتى الآن, فبرر إسحاق له ذلك بقوله إن زرياب نفسه كان قد أخفى تلك المواهب عنه. ثم طلب الرشيد من إسحاق أن يهتم بزرياب (حتى أفرغ له فإن لي فيه نظرا).
زرياب يهجر بغداد
يبدو أن إسحاق الموصلي ندم أشد الندم على اصطحاب تلميذه زرياب إلى مجلس الرشيد, لأنه شاهد بأم عينه مدى إعجابه به, وأدرك أنه إذا سطع نجم زرياب فإن ذلك سيكون على حساب منزلته ومستقبله, لا سيما أن ما قدمه زرياب من أغان وألحان في مجلس الخليفة فاق ما كان يقدمه إسحاق نفسه. ولهذا دبَّ الحسد - الذي هو داء كل العصور - في قلب الأستاذ تجاه تلميذه, وقرر التخلص منه بأي ثمن كان. واللافت للنظر أن إسحاق كان واضحاً مع زرياب , حيث شرح له أن الحسد بين أبناء الصنعة الواحدة شر يصعب تجنبه, وطلب منه أن يختار بين أمرين : إما أن يغادر إلى أي مكان في أرض الله الواسعة, وإما أن يقيم في بغداد على كره منه, وعليه, والحالة هذه, أن يتحمل مما سيلحق به من أذى بما في ذلك الاغتيال. وبعد أن سمع زرياب هذا التهديد الواضح من إسحاق وجد أنه من الحماقة أن يبقى في مدينة يتمتع فيها أستاذه بنفوذ لا طاقة له بمواجهته, ولهذا قرر مغادرة العراق إلى المغرب, وقد أعانه إسحاق نفسه على تنفيذ قراره هذا. وبذلك أفسد الحسد الفرصة على زرياب في بغداد الرشيد. وقد أكد هذه الحقائق كلها ما أورده المقري حين قالهاج به (أي بإسحاق) داء الحسد.. فخلا بزرياب وقال له: يا علي : إن الحسد أقدم الأدواء, والدنيا فتانة والشركة في الصنعة عداوة لا حيلة في حسمها, ولقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك, وقصدت منفعتك فإذا أنا قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك, وعن قليل تسقط منزلتي وترتقي أنت فوقي, وهذا ما لا أصاحبك عليه.. فتخير في اثنتين لا بد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبراً وإما أن تقيم على كرهي.. فخذ الآن حذرك مني, فلست والله أبقي عليك ولا ادع اغتيالك باذلاً في ذلك بدني ومالي.. فخرج زرياب لوقته وعلم قدرته على ما قال, واختار الفرار, فأعانه إسحاق على ذلك, فرحل عنه ومضى يبغي مغرب الشمس, واستراح قلب إسحاق منه).
الطريق إلى الأندلس
اتجه زرياب من العراق إلى المغرب, فنزل, بداية, في مدينة القيروان, عاصمة الأغالبة, حيث غنى لأميرهم زيادة الله الأول (816 -837 م). والواقع لا نملك معلومات كثيرة عن فترة إقامته في بلاط الأغالبة. ولكن حدث أن غضب الأمير من زرياب غضباً شديداً بعد أن غنى له شعراً لعنترة العبسي اعتبره إهانة له. فأمره أن يخرج من بلاده. وقال له, كما يذكر ابن عبد ربه في كتابه (العقد الفريد) : (إن وجدتك في شيء من بلدي بعد ثلاثة أيام جزيت عنقك). وبالفعل اضطر زرياب إلى مغادرة القيروان متجهاً إلى المغرب الأقصى عام 821 م بعد أن هدد بالقتل, كما سبق له أن غادر بغداد بعد أن هدد بالقتل أيضاً. وتؤكد المصادر أن زرياب بعث كتاباً إلى الأمير الأموي في الأندلس آنذاك وهو الحكم بن هشام (796-828 م), يخبره فيه عن مكانته في صناعة الغناء والموسيقى, ويُعرب له عن رغبته في القدوم إليه وأنه اختاره بين سائر الملوك والأمراء ليكون في خدمته. ومع أننا لا نعرف متى خاطب زرياب الحكم? وهل كان ذلك خلال إقامته في القيروان? أم بعد مغادرته لها? ولكن من المؤكد أن زرياب لم يجتز مضيق جبل طارق إلى الجزيرة الخضراء - الواقعة على الجانب الأندلسي - العام (821 م) إلا بعد أن تسلم كتاباً من الأمير الحكم يتضمن الترحيب به والرغبة في لقائه. وعندما وصل زرياب وأفراد عائلته إلى الجزيرة الخضراء كان في استقباله على أرضها وفد مرسل من قبل الحكم لاستقباله والترحيب به ومرافقته إلى بلاطه في قرطبة. وكان هذا الوفد برئاسة مغني يهودي اسمه منصور, ولكن شاءت الظروف أن يصل نبأ وفاة الحكم قبل أن يغادر زرياب الجزيرة الخضراء إلى قرطبة. وهنا تردد زرياب في متابعة رحلته, إذ وجد من الحكمة أن يعود إلى المغرب لأن الأمير الذي دعاه قد وافاه الأجل. وهنا تدخل منصور لإقناع زرياب بالتوجه إلى بلاط الأمير الجديد وهو عبد الرحمن بن الحكم, الذي عرف في التاريخ باسم عبد الرحمن الثاني أو الأوسط (822-852م), كما أبلغ منصور الأمير الجديد بتردد زرياب , لهذا وصل كتاب من الأمير عبد الرحمن إلى الجزيرة الخضراء يتضمن دعوة زرياب إلى قرطبة, ويعرب له فيه عن شوقه وتطلعه إلى لقائه في بلاطه. كما كتب الأمير نفسه إلى ولاته على البلاد التي سيمر بها زرياب بأن يحسنوا استقباله ويقدموا له كل العون والمساعدة حتى وصوله إلى قرطبة. وإضافة إلى ذلك كله أمر عبد الرحمن أحد كبار رجال التشريفات في قصره بأن يكون في استقبال زرياب قبل وصوله إلى العاصمة. ودخل زرياب وأهله قرطبة في إحدى الليالي من عام 822 م, وتم إنزاله في دار من أحسن دورها وحمل إليها جميع ما يمكن أن يحتاج إليه.
ربما كان ترحيب الأميرين الأمويين بزرياب, الحكم وابنه عبد الرحمن, والإلحاح الشديد عليه للقدوم إلى الأندلس, يدل على أن شهرته الفنية كانت قد سبقته إلى تلك البلاد, كما يعكس رغبة بني أمية في قرطبة في أن يكون بينهم فنان بهذه الكفاءة لمنافسة إسحاق الموصلي فنان بني العباس في بغداد. ويكشف هذا الترحيب, من ناحية أخرى, خلو البلاط في قرطبة آنذاك من مغنين وموسيقيين على درجة عالية من الكفاءة والمقدرة, والدليل على ذلك أن المصادر تشير إلى أن أول من دخل الأندلس من المغنين هما: علون وزرقون, وكان ذلك في أيام الحكم بن هشام نفسه (796 -822 م), ولكن بمجرد وصول زرياب تخلى الأمير عبد الرحمن عنهما (لغلبة زرياب عليه وانتزاعه قصب السبق منهما). حقيقة كان هناك عدد آخر من المغنين, أمثال منصور المذكور, ولكن من الثابت أن هناك فراغاً حقيقياً في ميدان الفن الأصيل, سواء في الغناء أو الموسيقى, قبل وصول هذا العملاق الكبير إلى قرطبة.
مكانة زرياب في البلاط
بعد ثلاثة أيام من وصول زرياب إلى قرطبة أمر الأمير عبدالرحمن باستدعائه إلى البلاط ومجالسته وسماع ألحانه وأغانيه. وتؤكد المصادر أن الأمير أعجب بشخصية زرياب إعجاباً شديدا, إذ لم يكتشف فيه مغنياً بارعاً وموسيقارا ماهرا فحسب, وإنما وجد فيه (موسوعة) موسيقية كاملة, حيث كان (يحفظ عشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها), كما اكتشف فيه شاعراً موهوباً وعالماً بالنجوم والجغرافيا والأدب والتاريخ والطبيعة. ومن المؤكد أن الأمير أفاد من زرياب في كل هذه الميادين, ويقول أحد المؤرخين إن الأمير(ترك كل ما كان يسمعه من غناء.. وقدَّمه على جميع المغنين), كما (ذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء, فحرك منه بحراً زَخَرَ عليه مدُّه فأعجب الأمير به وراقه ما أورده). وبناء على ذلك كله فقد حظي زرياب في البلاط الأموي بمكانة متميزة مادياً ومعنوياً واجتماعياً, فعلى الصعيد المادي فقد خصص له الأمير عبد الرحمن بعد ثلاثة أيام من وصوله إلى قرطبة ما يلي : 1- مرتباً شهرياً قدره مائتا دينار. 2- مبلغاً شهرياً قدره عشرين ديناراً لكل ولد من أولاده الأربعة الذين جاءوا معه إلى قرطبة آنذاك وهم: عبد الرحمن وجعفر وعبد الله ويحيى(3- مبلغاً سنوياً قدره ثلاثة آلاف دينار توزع له في الأعياد. 4- ثلاثمائة مد من الحبوب, بحيث يكون ثلثها قمحاً وثلثاها شعيراً 5- عدداً من الدور والمستغلات في قرطبة وبساتينها وعدداً من الضياع, والتي تُقَوّم وارداتها السنوية بأربعين ألف دينار. وقد كتبت هذه المنح والمرتبات كلها في وثيقة رسمية ممهورة بختم الأمير عبد الرحمن.
ابتكارات زرياب وإبداعاته
إن ابتكارات زرياب وإبداعاته لا تعود - كما ادعى - إلى أن الجن كانت تلهمه الألحان والأغاني, وإنما إلى ما كان يتمتع به من قدرات فكرية ومواهب فنية وسمات أخلاقية, وما حظي به في بلاط الأمير عبد الرحمن - الذي كان شاعرا وشغوفا بالآداب والفنون - من رعاية وتكريم وتشجيع. ولم تقتصر ابتكارات زرياب على ميدان الغناء والموسيقى فحسب, وإنما امتدت إلى الحياة الاجتماعية أيضاً.
ومن ابتكارات زرياب في ميدان الغناء والموسيقى,أنه زاد (بعد وصوله إلى الأندلس) أوتار العود الأربعة وتراً خامساً (اختراعاً منه). وترتب على هذا الاختراع, كما يقول أصحاب الاختصاص, دعم كفاءة العود من حيث اللحن وتلوين العزف, وبالتالي أسهم ذلك في التخفيف عن هموم الناس وأحزانهم, ورقق طباعهم وعواطفهم, كما شكل دعوة للشعراء لابتكار أنواع جديدة من الشعر الغنائي كما اخترع زرياب (في الأندلس) مضرب العود من قوادم (ريش) النسر. معتاضاً به عن المضرب الخشبي الذي كان يستخدم سابقاً. (فأبرع في ذلك للطف قشر الريشة وخفته على الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه). وصنع زرياب عوده بنفسه (قبل أن يصل إلى قرطبة), ونستطيع أن نكتشف هذه الحقيقة بالعودة إلى الحوار الذي دار بين زرياب نفسه والخليفة هارون الرشيد, حيث نجد أن زرياب يرفض العزف على عود أستاذه إسحاق الموصلي ويقول للخليفة (لي عود نحته بيدي وأرهفته بإحكامي ولا أرتضي غيره..). وعندما سأله عن الفروق بين عوده وعود أستاذه قال زرياب إن وزن عوده يساوي ثلث وزن عود أستاذه, كما أن المادة التي صنعت منها أوتار عوده تختلف عن المواد التي تصنع منها الأوتار الأخرى, فالوتران العلويان صنعهما زرياب من الحرير, والوتران السفليان صنعهما من أمعاء شبل الأسد, وهذا ما اكسب عوده ترنيماً وصفاء أضعاف الأوتار الأخرى, وأكسب أوتاره قدرة على مقاومة تقلبات الأحوال الجوية.4- ومن أعظم مآثر زرياب وابتكاراته أنه أسس معهدا, في قرطبة عام 825م, لتعليم أصول الغناء والموسيقي والعزف وفنون الشعر. ووضع له قواعد القبول ومناهج الدراسة. وقد ساعده في تكوين هذا المعهد, كما يقول (آنخل) في كتابه (تاريخ الفكر الأندلسي): (أبناؤه وبناته وجاريته) (متعة). وكان زرياب يشرف بنفسه على امتحان صوت التلاميذ المتقدمين للدراسة في هذا المعهد. وكان زرياب إذا أراد أن يختبر صوت أحد التلاميذ فيما إذا كان موهوباً أو غير موهوب, يأمره بأن يصيح بأقوى صوته: يا حجّام, أو يصيح :آه, ويمد بها صوته, فإذا سمع صوته بهما صافياً قوياً مؤدياً لا يعتريه غُنّة ولا حبسه ولا ضيق نفس عرف أنه سوف ينجب (أي سيكون مغنياً لامعاً) ويشير بتعليمه, وإن وجده خلاف ذلك أبعده).
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن معهد زرياب هذا لم يكن حكرا على الطلاب العرب والمسلمين, وإنما كان يستقبل طلاباً من دول أوربية عديدة, مثل فرنسا وألمانيا, كانوا قد وفدوا إلى قرطبة للتعلم فيه, وقد ازدادت أعدادهم تدريجيا, ثم عادوا إلى بلادهم, وقد حملوا معهم من علوم الموسيقى العربية وفنونها وآلاتها ما يُعَدّ الأساس الذي قامت عليه النهضة الفنية في أوربا في مستهل التاريخ الحديث.ويهمنا أن نؤكد على أن هذا المعهد ظل قائماً في قرطبة حتى سقوط الخلافة الأموية في الأندلس عام 422هـ/1031م. 5- لم يقتصر دور زرياب على نقل الموسيقى والأغاني الشرقية من بغداد إلى الأندلس وما تحمله في ثناياها من عناصر فارسية ورومية فحسب, وإنما أحدث ثورة في عالم الغناء والموسيقى بتجديداته وابتكاراته, سواء في الآلات الموسيقية - كما أشرنا- أو في الغناء والتلحين.
ثانياً: من ابتكارات زرياب في ميدان الحياة الاجتماعية
لم تقتصر ثورة زرياب على عالم الموسيقى والغناء فحسب, وإنما امتدت لتشمل الحياة الاجتماعية أيضاً, وذلك بما أدخله من عادات وتقاليد وأنماط حياتية جديدة لا عهد لعرب الأندلس بها من قبل, وكان بعضها يتعلق بالأناقة الشخصية والنظافة, وبعضها الآخر كان يتعلق بالمأكل والمشرب والملبس, هذا بالإضافة إلى ما كان يتعلق منها بآداب المجالسة والمحادثة و(الآداب السلطانية). ولقد أعجب أهل الأندلس أيما إعجاب بكل ما أحدثه زرياب , بل سرعان ما أصبح نمط حياته, نموذجاً للخاصة والعامة على السواء, حيث أخذوا يقلدونه, حتى غدا من تقاليد حضارة عرب الأندلس. ولعل من أهم ما أخذه الأندلسيون عن زرياب في ميدان الحياة الاجتماعية نذكر : تعلم الأندلسيون من زرياب ارتداء ملابس خاصة بكل فصل من فصول السنة, فمثلاً تعلموا ارتداء الملابس البيضاء والقطنية الخفيفة في فصل الصيف, الذي حدده زرياب من الرابع والعشرين من شهر يونيو حتى الأول من شهر أكتوبر, وارتداء الملابس الحريرية والدراريع والملابس الزاهية في فصل الربيع, أما فصل الشتاء فهو فصل الفراء والأردية الثقيلة. وقد ترتب على ذلك كله ازدهار صناعة الملابس في الأندلس بأنواعها المختلفة وتعلم الأندلسيون من زرياب الكثير من أنواع الطعام والحلوى التي لم يكن لهم معرفة بها, فقد أدخل زرياب إلى الأندلس - كما يقول د.حسين مؤنس - كثيراً من أنواع الخضار كالهندباء والكمأة وخلصهم تدريجياً من الأطعمة القديمة وهي العصائد والثرائد. وينسب إلى زرياب - كما يقول الأستاذ أحمد أمين- أنواع من الحلوى مثل (الزلابيا) التي يبدو أنها تحريف عن ( زرياب ). كما أخذ الأندلسيون عن زرياب فن إعداد الموائد وآدابها, واستعمال الملاعق والسكاكين بدلاً من الأيدي والأصابع. هذا فضلاً عن أنهم تعلموا منه استخدام السماط, وهو غطاء من الجلد يمد عادة فوق موائد الطعام الخشبية, بدلاً من الكتان لأنه يمكن إزالة الدسم عنه بيسر وسهولة. أخذ أهل الأندلس عن زرياب استخدام الكئوس الزجاجية الرفيعة, وتخلوا بذلك عن استخدام الأدوات الذهبية والفضية والمعدنية الأخرى. وقد ترتب على ذلك ازدهار صناعة الزجاج في الأندلس. كما تعلم أهل الأندلس من زرياب , الرجال منهم والنساء, طرائق تصفيف شعورهم, فبعد أن كانوا يرسلونه مفروقاً وسط الجبين ومغطياً للصدغين والحاجبين, تعلموا من زرياب وأولاده وبناته تصفيف شعورهم وتقصيرها دون جباههم وإسدالها إلى أصداغهم, بحيث يظهروا الحاجبين والعنق والأذنين. ونقل أهل الأندلس عن زرياب استخدام مادة (المرتك) للتخلص من رائحة العرق, وذلك بعد أن كانوا يستخدمون زهر الريحان لهذا الغرض. كما تعلموا منه استخدام الملح لتنظيف ثيابهم من الدسم وتبييض لونها.
تراث زرياب
لعب أبناء زرياب وبناته وجواريه وتلاميذه دوراً مهماً في توطيد أركان مدرسته ونشر تراثه الفني وتقاليده في المجتمع الأندلسي. فقد كان له ثمانية أولاد وابنتان وهما (عُليّة وحمدونة). وكان جميع أولاده وبناته قد مارسوا صناعة الغناء والموسيقى, وإن اختلف مستوى كل منهم عن الآخر. فمثلاً كان ابنه عبد الله أفضل أبنائه صوتاً وأعلاهم مهارة, ويتلوه ابنه عبد الرحمن, كما كان ابنه قاسم أحذقهم غناءً, وكانت ابنته حمدونة متقدمة في أهل بيتها, محسنة لصناعتها, وقد تزوجت في قرطبة, الوزير هاشم بن عبد العزيز, وكانت متفوقة على أختها علية. ولكن الأخيرة عمّرت بعد أختها حمدونة, ولم يبق من أهل بيتها غيرها وغدت مرجعاً لمتعلمي الغناء. ولكن على الرغم من ذلك كله فمن المؤكد أن أحداً من أولاده لم يبلغ شأو أبيه. كما لعبت جواري زرياب دوراً مهماً في نشر تراثه وتعليم الكثيرات من نساء المجتمع الأندلسي الغناء والألحان والآداب, فمثلاً كانت لديه جارية اسمها (غزلان) وأخرى اسمها (هنيدة) وثالثة اسمها (متعة). وتشير كتب التاريخ إلى أن الجارية (متعة) هذه كانت رائعة الجمال, وقد أدبها زرياب وعلمها أحسن أغانيه حتى شبت, وقد أعجب الأمير عبد الرحمن بجمالها وأغانيها, كما أعجبت (متعة) بدورها بالأمير الأموي, وأعلنت بصراحة تامة أمام جمع من الأدباء إعجابها به عندما غنت أمامه:
يا من يغطي هواه من ذا يغطي النهارا
قد كنت أملك قلبي حتى علقت فطارا
وعندما انكشف أمرها لسيدها زرياب أهداها للأمير فحظيت عنده بمكانة كبيرة.كما تعلم الغناء على أيدي زرياب الكثيرات من جواري كبار رجال الدولة الأموية في الأندلس, مثل الجارية المشهورة باسم (مصابيح) التي كانت جارية الكاتب أبي حفص, والتي كانت غاية في الحسن والنبل وطيب الصوت. ويهمنا أن نؤكد أن أبناء زرياب وجواريه وتلاميذه نجحوا جميعاً في توطيد أركان مدرسته وتعليم الغناء والموسيقى والآداب الاجتماعية لرجال المجتمع الأندلسي ونسائه, فنشأ بعدهم جيل تابع رسالة زرياب الحضارية.
خصوم زرياب
على الرغم من أن زرياب غادر بغداد فراراً من الحاسدين وتهديداتهم له بالقتل, فإن الحظوة التي تمتع بها في البلاط الأموي في قرطبة, واحتضان الأمير عبد الرحمن الثاني له, وما تمتع به من امتيازات مادية وأدبية واجتماعية.. قد خلقت له في قرطبة الكثير من الخصوم والحاسدين, وكان جلهم من الشعراء والمغنين المغمورين, وكان على رأس هؤلاء جميعاً شاعر البلاط يحيى الغزال, الذي لم يرتح لزرياب وهجاه هجاءً مقذعاً, حتى أن بعض المؤرخين تحرج من ذكر هذا الهجاء. فشكاه زرياب إلى الأمير عبد الرحمن, الذي غضب عليه غضباً شديداً ونفاه من الأندلس إلى العراق. والواقع لولا حماية هذا الأمير لزرياب لذهب ضحية هؤلاء الخصوم.فحماية المبدعين ورعايتهم من الشروط الأساسية لازدهار أية حضارة.
ابتكار الموشحات
لقد شكلت ابتكارات زرياب وإبداعاته - الفنية منها والاجتماعية - محطة حاسمة في تاريخ الحضارة العربية في الأندلس, فهو الذي وضع أصول التراث الموسيقي والغنائي الأندلسي, وخلق للموسيقى والموسيقيين مكانة محترمة في المجتمع الأندلسي, وأقام أول معهد لتعليم الموسيقى والغناء في الغرب الإسلامي. وهو الذي ابتكر الأسس الفنية التي بنيت عليها الموشحات الأندلسية. ونقل المجتمع الأندلسي من حياة البداوة إلى حياة الحضارة, فالعادات التي أدخلها غدت مقياساً للحضارة والتقدم, والفنون التي أبدعها نشرت التفاؤل والفرح في حياة الناس. ولم يقتصر انتشار تراث زرياب على الأندلس وحدها وإنما امتد إلى المغرب العربي جنوباً والغرب الأوربي شمالاً.كما ظل هذا التراث الثمين حياً وفاعلاً تتناقله الأجيال, بشكل أو بآخر, حتى سقوط غرناطة بيد الإسبان عام 897هـ/1492 م.
أما تأثير زرياب في الغرب الأوربي فيصعب الإحاطة به في هذه العجالة, ولكن يكفي أن نشير إلى أنه كان أول من أدخل العود ذي الأوتار الخمسة إلى الأندلس, ومنها انتقل إلى بلدان الغرب الأوربي. وظل هذا العود هو الآلة الموسيقية الأساسية في الغرب حتى انتشار بعض الآلات الحديثة, مثل البيانو, في أوائل القرن الثامن عشر. ولا شك في أن الأوربيين أخذوا مع هذا العود الألحان والموسيقى الخاصة به, وابتكروا نوعا من الشعر الغنائي الذي يتناسب معه. كما يُعَد زرياب هو أول من أدخل الموسيقى الدنيوية إلى الغرب الأوربي, بعد أن كانت الموسيقى السائدة فيه, حتى ذلك الوقت, هي الموسيقى الدينية التي تخدم طقوس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. وفضلاً عن ذلك كله فإن الطلبة الأوربيين الذين تخرجوا في معهد زرياب في قرطبة وعادوا إلى بلادهم, كانوا هم الشعلة التي أضاءت للفن الأوربي طريقه في عصر النهضة. مات زرياب في قرطبة عام 238هـ/ 852م, بعد أن ترك تراثاً, أصيلا, خلاَّقا, عميقا, في الفن والحياة, ولهذا كان من حقه أن يستأثر بصفحات مشرقة في تاريخ الحضارة.
عادل زيتون
رد مع اقتباس