عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 23/12/2008, 20h16
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: juin 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي الدكتور عبد الحميد سليمان ـ المجموعه القصصيه

بسم الله الرحمن الرحيم

أم فوزية

... ارتج على ابن العاشرة وحار عقله وذهبت به الظنون مذاهب عددا ,وتطلع من حوله مستغربا ما يري مما لم يعهده ولم يتوقعه,حينما أدارت أم فوزية وجهها عنه ولم تعن بما اعتادته معه من اهتمام وما يتلمسه لديها من حكاياها التي ترويها بألم ولوعة تجوب بابن العاشرة عوالم من الألم الشجي الذي يستعذبه ويتعذب به ,عن حياة العز والرفاه التي عاشتها في كنف أبيها وأمها قبل أن تدير لهم الأيام ظهرها وتذيقهم بأساءها وتسرف في غلظتها وقسوتها .

... ويتغلغل وقع حديثها في نفس الفتي وتدرك ذلك من قسمات وجهه التي تشي بمعتملات نفسه ,فتغويه به وقد تيقنت من رغبته وتشوقه وتشوفه واستعذابه للأمر واستغراقه فيه وتألمه الذي كانت تشي به ملامحه, لقد كانت تبدو له كمن ينتظر ذلك الحديث ويتحسسه ولا يتصنعه,وهاهي تنصرف عنه وتنشغل ولا تأبه للفتي الذي أصابه من جراء إعراضها واشتغالها عنه ألم ودهشة قاربتا الذهول .

... استعاد ابن العاشرة ذاكرة أيام قريبة تكاد لا تزيد عن شهور من تلك المنصرمات اللواتي لا تزال شاخصة ماثلة أمام عينيه وفي ذاكرته عندما كانت تقوم بما اعتادته من عمل في تجهيز وصناعة فضلات المواشي وجعلها دوائر ثم تطرحها إلي الأرض لصقا فتسعي إليها أشعة الشمس المتلمظة, وسرعان ما تتحول تلك الأقراص عن حالتها ولزوجتها ولونها إلي جفاف يجعلها وقودا مناسبا للنيران التي كانت تشتعل بها أفران ومواقد الطهي والخبز في قري دلتا مصر وصعيدها حتي أواخر ستينات القرن المنصرم ,ثم آنس ظنه بهذه الأرملة إلي أن شاغلا جللا قد صرفها عنه أو أن جنيا ممن اغتابتهم كثيرا في شائق حديثها إليه قد تربص بها كيدا واذهب منها لبا وعقلا, فبدت ذاهلة لا تكاد تعي ما حولها أو تكترث له .

... كانت أم فوزية تقوم علي هذا العمل عصر كل يوم في تثاقل وتباطؤ ووهن لا تخطؤه عين , وتستحث بضعفها وألمها وعذب حديثها ابن العاشرة فيجود عليها طائعا مستعذبا متألما بما أمكنه من مال أو طعام أو يدخر لها بعضا مما تحبه من الحلاوة الطحينية وقد يعينها علي ما أجهدها وأثقلها من عمل سعت إليه واغتبطت له حين أوكل إليها وضمنت به لها ولابنتها به ذلك النزر اليسير من الرزق الذي كانت تختلسه اختلاسا, فلا يعرف طريقه إلي جيب أخي زوجها المتلمظ المتوثب الذي لا يقنع بما تعطيه له من أجر أعمالها اليومية في الحقول لقاء إعالة عاجزة ضنينة شحيحة, وقد جعلها ذلك تتوجس وشاية الواشين وحسد الحاسدين ممن قد علم به من قريناتها ورفيقات رحلات عملها اليومية اللازمة الشحيحة البائسة ,التي كانت حينما تأتي مواسمها ويئن أوانها لا تعبأ فيها بموغل حر أو قارس برد وتقضي ساعتها الثقيلة البطيئة في تنقية الحشائش والغلت من حقول الأرز والقمح أوفي جمع القطن وغير ذلك مما اعتادته الغيطان والحقول واضطلعت به بائسات الريف والمترملات اللواتي انقطع شحيح أرزاقهن بانقطاع ورحيل أزواجهن غواية أو موتا أو إباقا أومرضا, لقد سعت أم فوزية إلي والد ابن العاشرة وتوسلت صامتة رضاه أثناء عملها في حقله وأبدت إخلاصا لم تخطؤه عيناه فارتقي بها ذلك إلي ما طمحت إليه وأضمرته من نوال ذلك العمل عصر كل يوم وضمنت بذلك قروشا وبعضا من لبن أو بقل أو شيئا مما يجود به الزرع والضرع فاستعانت به علي حوائج أيامها القائظة القاسية, وادخرت ما كان يتبقي منه لتجهيز وحيدتها حينما تهل شمس خاطبها ويقدم عدلها فتشرع آنئذ في تجهيزها وشوارها,بعد أن أيقنت أم فوزية أن سوف يعجزها ما يحتاجه الأمر وقد غاض لديها المعين وعز النصير وأنكر وتجاهل القريب .

... كانت فوزية صبية جميلة نضرة عاشت بعد موت أبيها مع أمها في كنف عم قاس,ألجأه إلي احتضان زوجة أخيه وابنتها خوف من لاذع ألسنة أهالي القرية التي تري في من يفعل ذلك متخليا عن لحمه ورحمه وواجبه ,ومثل أولئك يواجههم من الناس لوم وسخط وازورار,وما انفكت زوجته تتهمه وتتشكك في نواياه وتتوجس زواجه من أرملة أخيه بحجة حماية زائفة وصون عرض واجب ورعاية مغرضة لأسرة الراحل الحبيب,والرجل كان أعلم وأخبر بصولة زوجته ولا يدعي لنفسه قدرة علي مجابهتها ,مثلما كان يدرك أنه أعجز عن تحمل تبعات و معقبات زواج أو انسلاخ عن أرملة أخيه وابنتها, وهو من تقوم حياته ومعيشته علي العمل لدي أهالي القرية في الحقول بأجر يومي لا يكاد يقيم الأود ,فكيف يتجهيز وشوار ابنة أخ شاركه فقره مثلما شاركه اسمه وأبويه ومسكنه في حجرتين تعاونا في إنشائهما ومثلتا لهما حلما بعيد النوال وصعب المنال إلي أن أمكنا منهما .

... كانت أم فوزية تعي الأمر ورقة الحال وقسوته,وتتوجس المآل, فنهضت إلي اللحاق سريعا بمن كانت ترثي لهن من عاملات اليومية البائسات, وأبت عليها بقية من كبرياء وذكري ثراء حازه جدها وأطاح به أبوها في حياته الغابرة القصيرة التي استغرق الحشيش والأفيون سوادها وموجوداتها, بيد أنها أوصدت أبواب أوهامها وحزمت أمرها واستسلمت لمقدورها ,فردعت تلك الأطياف والهواجس بعد أن أيقنت أن أخا زوجها لن ينهض بما لا يطيق ,وإن ظل وجوده مظنة ردع وحماية من بطشة زوج أو تحيف حماة أو شقيقات لابنتها في مقبلات أيامها ,وأفزعها مجرد تخيل أيادي إحسان لأقرباء أو غرباء تمتد إليها بقليل من عون أو مدد, وراعها شبح نظرات المن وما قد يصبح تاريخا وتصنيفا مطاردا ملازما لايرعوي عن جلد لأبناء لابنتها وأحفادها في مجتمع يتناسي أهله أمورا كثيرة وتقفر ذاكرته بما يمس مصائره وتاريخه ويشحذ همم أفراده, ويدفع غائلة أعدائهم,لكنه يستنفر الذاكرة والوقت والجهد ليلمزمن أقبلت عليه الأيام بما كان عليه الآباء والأجداد تصغيرا لشأنه وتحقيرا لحاله وتقزيما لطموحه .

... تحسست جارتها وصديقتها عديلة أمرها وحالها فحفزتها إلي العمل وصحبتها إليه وساعدتها علي بداياته ,وكانت عديلة ممن يقصدهم أثرياء القرية ويخصونهم بالعمل لديهم لأمانتهم وإخلاصهم فنجت بذلك من قسوة أيام البطالة وكثيرا ما أدركت فضلا من طعام أو لحم أضحيات جاد به من عملت لديه في مواسم حصاد أو في أعياد وأفراح أو أتراح ,ولم تتردد أو تتقاعس أم فوزية حين عرضت عليها عديلة ذلك ولم يردعها طيف كرامة ضائعة أو أطلال غني جدها واستغناء أبيها ,بعد أن أيقنت ألا سبيل لاستعادت أيامها الخوالي , وقد أمكنت من وعيها نظرات سلفها أخو زوجها وامرأته عند تناول شحيح وساذج الطعام الذي يكاد لا يفارق الفول ومشتقاته ويندر فيه اللحم والطير حتي يصبح يوم نوالهما ,ذكري عزيزة وطائفا رائعا وظلا ظليلا في هاجرة معتاد البصل والفول والمش, ,كانت تلك النظرات تشي باللوم والكره وتكاد لولا الروادع تفصح وتبين, وأيقنت أم فوزية أن ما قد يجود به عملها في الحقول قد يحميها من سهام تلك النظرات وسيفها المسلط فلبت نصح عديلة وسعت بها ومعها إلي العمل فما ليس منه بد,أصبح جاثما متلمظا لا بد منه .

,اعتاد ابن العاشرة قدوم أم فوزية عصر كل يوم مثلما اعتادتها وألفتها ساحة الجرن و بهائم الدوار ودوابه ,ولمس فيها انزواء وحزنا دفينا,فاقترب منها وتحادث إليها وأمعن في ذلك متلمسا مستكنات ألآمها فباحت له بما تحسه وما ظنه بها, فاقتربت مشاعره منها ,لقد فعل فقدانه لأمه بنفسه الأفاعيل وأورثه رقة في القلب وحنوا ورحمة علي شبيهاتها وأترابها,وتحسس أخبارها وأحوالها واستثار ما أدرك وسمع مشاعره وأحاسيسه وعطفه وتعاطفه مع أم فوزية ,وطابت له واستعذبت نفسه رؤية انشراح أساريرها وانبساط قسماتها حينما كان يمنحها ما أمكن له أن يختلسه من مصروف أو حلوي مما كان يمده به أبوه او أعمامه وما يجود به أخواله المشفقين علي ميعته ويتمه, ففاض عليها بكثير من الملاليم وبعض من التعاريف وقليل من القروش ونادر من الحلوي .

... حكت له أم فوزية واسترسلت عن تقلب الأيام وتبدل الأحوال وعما كانت ترفل به في سنوات زواجها العشر الأولي من رغد وطعام ولحم وطير وما لم يبخل به أبوها عليها من لباس وزينة ,وكيف تقلبت بهم الأيام وما كان من صرعة أبيها حزينا كاسفا مغيب الوعي بعد أن باع ما ورثه عن أبيه من قراريط وأنفق ثمنه علي جلساته وجلسائه وأحواله في عالم الكيف وسحائب الحشيش والأفيون ,ثم موت أمها حسرة وألما ومرضا تاركة وحيدتها بلا عون أو سند فتلقفتها يد المرحوم وحجرته بعد أن رضيت به علي ضعة حاله,زوجا بعد أن وعي الخطباء والشباب أمرها وفقرها فصرفوا نفوسهم وعقولهم وقلوبهم إلي من يستدفئون بمالهم وجاههم, وأوغلت أم فوزية في بثها وحزنها وشجو ما تربصت به أيامها ,إلي نفسه وتلمست شغاف قلبه وعطفه وتألمه,واستعذب الفتي الحكي مثلما استعذب الألم وغدا ينتظرها كل يوم ويجهد في مساعدتها وتقديم العون لها ليستزيد من حكياها دون أن يعلم بأمرهما احد .

... ألح ابن العاشرة عليها سائلا عن سبب تلهفها واستدعائها لهمتها الغائبة في العمل واستغنائها عن مساعدته وانشغالها عنه,وحين بدا لها ألمه ولاحت بوادر غضبه ,تنبهت وخشيت مغبات ذلك ومعقباته ,فأجابته حين انتهت من غسل يديها وتأهبت للرحيل في صوت لا يكاد يسمع وعيناها تدور مخافة رقابة رقيب أو فجأة قادم : مفيش حاجة بس البطة اللي عندنا وقعت من السطح ولحقها عم إسماعيل بالسكينة قبل موتها ونفسي الحق نصيبي أنا وابنتي منها في عشائنا اليوم .... تدفق شلال الألم وتكاثف الدمع وتدافعت وتراكضت الأسئلة في نفس وعين وعقل ابن العاشرة, وحين استفاق كانت أم فوزية قد انطلقت إلي البلدة لا تلوي علي شيئ ..

الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان
الدمام 24من ديسمبر من سنة 2008الآفلة
رد مع اقتباس