عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 23/03/2009, 20h04
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: juin 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي الدكتور عبد الحميد سليمان ـ المجموعه القصصيه

المرسى

مسرعاً إلى حديقة منزلى ، مجتهدا فى تسميدها وريها والعناية بها على ضآلة حجمها وساذج خطري وخطرها ، أرقبه من حيث لا يرانى وأستكنه دخائله ومستكناته دون جدوى . عفيف النفس مترفعا حين يكون الترفع لمثله انتحارا وخطبا جليلا ، إن حمل إليه أحد أولادى كوبا يتيما من الشاى رأى فى ذلك عبئا واهتماما لا داعى لهما ، وتشى نظراته الخجولة المستكينة إلى الأرض بصدقه ، وبدا الأمر أدهى وأمر, ساعة أن لوحت له بقليل من زاد أو طعام يومها تبدت سافرة آيات الألم المكبوت وسورة الغضب الدفين حين شغلت به وأرقت لرقة حاله وكثير عياله وكبريائه فأوعزت إليه أن بعضا من حبوب وزيوت قد تركتها له خلف باب المنزل فاندفع يسبقنى بها إلى باب شقتي وألقى بها شاكرا داعيا وانطلق لا يلوى على شيء كأنما يطارده هول عظيم .

. . .شائع لدي سواد الناس أن الأنفة وليدة المال وربيبة السطوة والدور والمكانة ولكنها فى المرسى لا سند لها ولا ظهير فالعوز والبؤس والمرض وشحة الأهل وندرة النصير تصطرع على جسد منهك وروح مترعة بالألم والوحدة ,وبعيدا عن أشلاء تلك المعركة تنأى الأنفة فلا ينازعها فى نفسه منازع ولا يغيض لها فى قلبه بئر ولا في ضميره معين، وحينما حل ميعاد أجر هزيل أدهشتنى ضآلته وسذاجته حينما سألته عما يريده لقاء تلك المهمة التى كان يختلف إليها عصر كل يوم ولا يتقاعس عنها ولا يضطرب له موعدها ، سولت لى نفسى أن أزيد ذلك الأجر لقليل خطر تلك الزيادة على جيبى واستقرار حالى ، ولفضول ملح فى نفسى يجهد لاختبار الرجل وهاجسا يتشكك فى تلك الأنفة ويود أن يبتلى صدقها ومعدنها0
إن مما لا مراء فيه أن للمال سطوته وسلطانه على نفوس تركع له ولأهله وتتبذل وتترخص دون أن يمنعها أو يردها بعض من حياء أو قليل من كبرياء أو ما قد تكنز من مال وما تحوز من سلطان ، فما البال بالمتضورين جوعا وفقرا والرازحين مرضا وألما وبؤسا لا يكترث بهم مكترث ولا يتحسب لإنسانيتهم متحسب ولا يتوجس لغضبتهم متوجس .


كأن الرجل قد قرأ ما وسوست به نفسى وما تشوف له ظني وأسعفه إلى ذلك حساسية زائدة وكبرياء أصيلة أوغلتا فى نفسه إيغالا لا يزعزعه مزعزع ولا يهوله خطب ولا يغويه إغواء ، وفى انكسار ورقة وبلا تلهف عد النقود ثم أخذ ما ارتضيناه آنفا من أجر وقبله ثلاثا ثم رفعه إلى رأسه ورد ما زاد عنه إلي جيبي دون أن يبدو على قسماته أدنى درجات التلجلج أو التردد أو المراجعة أو التصنع أ و الادعاء 0

. . (بارك الله لك فى مالك يا أستاذ وأعانك على حالك إحنا بخير والحمد لله)
00أخرسني صدقه وأفحمني مقاله واندفعت لا ألوى على شيء وأنا فى عجب من أمره ودهشة من مفارقة جمعت في نفس واحدة أرفع درجات الكبرياء والنبل والترفع والتعفف إلى أقسي صور الفقر والفاقة والعوز .

. . . يسكن المرسى فى دور أرضى من منزل قديم استأجره من صاحبه وانتظم فى سداد إيجاره بدرجة لا تنتظر تسويفا ولا تتعلل بعلة ولا تكترث بخطب وإن جل ، وأصبح اندفاعه إلى صاحب المنزل أمرا وعادة لا ينفك عنها ولا تتقاعس هى عنه ,فما إن يتحسس راتبا هزيلا بلا تلهف يتقاضاه عن حراسة مؤسسة حكومية فى المدينة ، لا يسمح لنفسه بالتريث أو مجرد التفكير فى ولوج بيته والجلوس إلى طعامه الهزيل البائس وإنما يهرع إلى صاحب المنزل كى يعطيه إيجارا أثقل كاهله وأرهق نفسه، ولا يستسيغ مبررا إن التمس الرجل فى مكانه ولم يجده وإنما يدأب فى بحثه وتطوافه وسعيه حتى يلقاه ويلقى إليه بما رزح على صدره من هم الإيجار ومخافة التعريض ومغبة اللوم .

على أن مستوى أرفع من العفة والزهد والكبرياء أدركه المرسى فى نفسى حاسما ما كان يخامرنى وتوسوس به نفسي من ظنون وتشكك فى صدق الرجل وتساؤلات عن سر ذلك وحظه من الصدق أو الادعاء ,داحضا كل ما كان يتناهى إلى سمعى من لمز وتعريض بماضى الرجل حينما ألقى به عاثر حظه فى أحابيل بعض من تجار المخدرات وهو يتلمس طريقه إلى سنوات صدر الشباب ، وعجيبة هى ذاكرة أهل قريتى الجمعية التى لا تتشبث إلا بالسقطات ولا تنفك عن الزلات ولا تشفع لديها المكرمات ,لقد كنت أفتعل المواقف وأسترق السمع لبعض أهل قريتى ومقالاتهم حول هذا البائس الذى اقتحمت شخصيته عقلى واستثارت دفين ألمى ومشاعرى فما تناهى إلى إلا ما يستنهض الظنون وتعتصم إليه التخرصات والريب .

. . لكن نفسي لم تركن إلى شيء من هذا ولم تأنس لمقالة سوء أو كثير لمز ولا لبقية من توجس وحرص كان تتباعد وتتثاقل خطواتها فى ضميرى وعقلى إلى أن حملتنى أقدامى المثقلة من طين ووحل إلى شارع جانبى مظلم فى ليلة باردة عاصفة صاخبة من ليالى شهر رمضان يصحبنى الشيخ بشر رفيق عمرى وزميلى فى جمعية طاهرة النية صافية الطوية جمعتنا إلى أصدقاء وزملاء آلو على أنفسهم أن يبذلوا الوسع فى تحسس آلام المكلومين والمقهورين واليتامى والأرامل والمرضى بما كانوا يجودون به من قليل زادهم ومالهم ، وما كان يحنو به بعض من أهل القرية والمعارف من خارجها فيختلسونه اختلاسا من قوتهم وقليل زادهم ويدفعون به إلى جماعة بيت المال كما وسمت نفسها أو أسماها الناس فيتفقدون به من أرهقتهم الحاجة وثقلت عن البوح بها أنفسهم ، وقصت بهم منازلهم مثلما قصت أحوالهم فلم يحفل بهم محتفل ولم يكترث لهم مكترث ، ونأت عنهم قلوب القادرين مثلما اعتادتهم عقولهم وعيونهم فغدوا يرونهم فى الطرقات ويرون عيالهم وحالهم فلا يتنبه لهم متنبه ولا يضطرب لحالهم فؤاد ولا يستثار شعور .

. . . طرحت اسم المرسى على زملائى فاندفعوا يتلاومون على نسيانه ويرونه بائسا لا يفطن إليه فطين ولا يعن لخاطر محسن أو كريم وقد تجلى فيه وصف القرآن الكريم لأولئك الذين يحسبهم الجاهلون أغنياء من التعفف وهم فى وحدتهم ووهدتهم لا يسألون الناس إلحافا ، وأجمع رفاقى على عوزه الذى تخفيه نفس قانعة وكرامة مستكنة ، واندفعت وصاحبى إلى الرجل لا نلوى على شيء ولا نعبأ بليل أو برد أو مطر ونخوض فى وحل الحارات المظلمة لا يروعنا ما ران على ملابسنا وأجسامنا منه ولا نلتفت إلى شيء يصرفنا عن غايتنا وإن جل .

. . . مرحبا ومهللا ومستغربا ، انتفض المرسى لاستقبال أولئك الذين قدموا إليه لسبب يجهله واقتحموا رتيب ليله وقارس وحدته ، وهمسنا فى إذنه بما تحمس له إخواننا فى ببيت المال نابذين توجسا متوقعا منه ومظنة بادية جهدنا لدفعها عن كون ذلك إحسانا منا إليه فلعله يقبل تلك الأعطية إذا علم أنها من مجهولين لا يعبأون بمعرفة من صار إليه عطاؤهم ، فيفسح ذلك فسحة لمن لا ترقأ عفته ولا يرحمه كبرياؤه ،

قبل الرجل رأسينا ودموعه تتخلل شعيرات لحيته التى جثمت عليها آيات الفقر والمرض والكبرياء إلى كر الغداة ومر العشي فأشابوها ، وربت على أكتافنا رافعا يديه العجفاوتين إلى السماء ،

( أعانكم الله وجعله فى ميزان حسناتكم، إن فى القرية من هو أمس منى حاجة وأشد عوزا فاجهدوا جهدكم إليه), واندفع إلى داخل بيته موصدا بابه وحاسما أى تردد أو تشكك أو سبيل لإقناع .

. . . تركناه ذاهلين أو كالذاهلين بعد أن قرعنا عليه بابه مرارا دونما جواب أو مظنة جواب ، وتواثبت إلى أذهاننا صور لكثيرين نعدهم من الأثرياء والأغنياء إن قارنا حالهم بحال المرسى وهم يتزلفون ويتحننون ويتقربون إلينا متسترين حينا وصادعين بشكواهم أحيانا ,لا يتورعون عن تكرار سؤالهم عن ميعاد توزيع هبات بيت المال وقد أقفرت نفوسهم ونضب حياؤهم وانطلقت ألسنتهم فما عاد يزعجهم قليل من كبرياء أو شيء من خجل ولا يثقلهم تعفف أو ادعاء به, لقد استراحت إلى ذلك نفوسهم وغلقت أبوابها واعتادت حالها واستمرأته وغدا لديهم انتزاع ما لا يستحقونه والتسربل بسربال العوز والفقر والازدراء ,بنظرات الاستنكار أمورا سهلة وثمنا بخسا يهون إلى متعة الظفر وانتزاع المراد والمرتجى ، ولو اطلعت على أحدهم حين يظفر بقليل مال أو طعام نسوقه إليه ضجرا من إلحاح وقح ، أو إشفاقا على كرامة ضائعة مهددة, ونفس شرهة شائهة ,لرأيته منبسط الأسارير جذلانا يكاد يتعثر فى خطواته المتلهفة المتسارعة وكأنه قد قنص لنفسه ما عز نواله وندر مثاله وطمى فضله ونفست قيمته ,إنها نفوس دربت على القنص ومشاعر اطمأنت إلى الاهتبال وأزرت بكل ما يتعلق به المرسى وأمثاله وتشربته نفوسهم وقلوبهم من تعـفف وكبرياء مستكن 0

00( إن تاه أصل الفتى فعله يدل عليه )

. . . أثار ذلك المثل الذى سمعنه صغيرا في مجلس أبي ووعيته كبيرا تساؤلات ملحاحة حتى هجعت إلي إن ما رأيته من المرسى وما أحسسته واطمأنت له نفسى وركن إليه عقلى وقلبى أن مثله لا ريب منحدر من أصل عريق ومحتد كريم ,فتحسست أخبار أهله فعز لديهم ما يشفى غلتى ويروى ظمأ نفسى ووجدتهم لا يختلفون عمن خالطت من بؤساء قريتى وإن بزوهم رقة في الحال وضآلة فى العديد وندرة فى النصير والسند واجتمعوا إلي عوز وبؤس لا تخطئه عين كليلة ,ورثوه من آباء وأجداد فما انفكوا عنه ولا انفك عنهم .

. . . وأبت إلى نفسى أو آبت إلى وما كدت آيبا ، وقرعتني وقرعتها على سذاجة ما ذهبت إليه وهزاله ، ماذا عنته تلك النفس وركن إليه العقل فى فهمه الساذج لكرامة الأصل وعراقة المحتد؟ , أهو الغنى الزائل أم المجد الضائع ؟، أولم يورث الكثير من الأغنياء أولادهم وأحفادهم وذراريهم مع ما خلفوه من عروض وأموال طبائع الاستغلال والاهتبال والقنص وعبادة الدرهم والدينار والتزلف والترخص لأهل الحظوة والثراء والسلطان وابتذال النفس والكرامة والشرف؟ أوليس فى سبيل المزيد مما يعين علي التسلط على الأدنياء والترفع والاستعلاء على المسحوقين والتوسد على البؤساء والاستغلال البشع لحاجاتهم وبؤسهم , يهون الصعب ويسهل الوعر ويرتخص كل غال ؟.

. . . أولم يورث الكثير من الفقراء أولادهم وأحفادهم وذرا ريهم نفوسا مستكينة وقلوبا خانعة وشخصيات شائهة فما طمحت منهم نفس للانفلات من بائس المصير وما تمردت علي ذلك الواقع الأليم المرير , وما ملكت ذكاء قلب واتقاد عقل وعزة نفس وتوق وتطلع إلى انعتاق ؟ إنما استمرأت مصيرها وألفته واطمأنت إليه وقنعت بفتات من قوت وضئيل من كرامة يجود بها سادة جمعوا إلى سلطانهم وتسلطهم وثرائهم ,نفوسا قاسية وضمائر خربة وقلوبا غلفا ومشاعر ميتة وعقولا صرفت جل جهدها لإبقاء ذلك الحال وتكريس المآل حتى بدا الأمر قدرا محتوما وقضاء مبرما ، عجب لا ينتهى وحيرة لا ترعوى تجد فى طلب معين ذلك الكبرياء والتعفف وذكاء النفس الذين اطمأنوا وتوسدوا قلب المرسى ولم يعد يفزعه قلق أو تمرد أو حقد أو تطلع وإنما أسلم الرجل للمقدور نفسه وأمره .

( اسمع يا بني فقير الدنيا غنى الآخرة )

00تعليق سمعته صغيرا من عجوز بائس لا يكاد يجد الطعام طريقه إليه وإن وجده استغلظ وشح فلا يكاد يسد رمقا ولا يروى غلة فى أيامه التى تترى حتى بدت قريبة من نهايتها وكلها ذات غلظة وقسوة ومسغبة ،

0 استوي ذلك العجوز فى جلسته وتخلى عن قرفصائه وحملقت فيّ عيناه اللتان لا تكادان تغفلان عن شباك ساذجة ، وكأنه ما ألقى بها إلى الترعة إلا لتنذر ضالة الأسماك من مغبة صيدها ولا تنال إلا ممن أسرف فى غروره وأمعن فى تقحمه واستهتاره واستهزأ بتلك الشباك فاقتحمها بلا ترو فاهتزت وتلعثمت وساعتئذ تندفع إليها يدان عيل صبرهما وعينان لم تغفلا عنها لحظة واحدة . تلك هما يدا الشيخ العجوز الذي يستحيل عند ذلك شابا مفعما, ففقد مثل تلك الفرصة نذير بضياع جهد وخيبة مسعى وإيغال جوع.

كانت حكايات العجوز لاتكاد تنتهي, وشغلي بها لايرعوي عن بؤساء يضربون فى الأرض على غير هدى فيجدون خاتما متآكلا صدئا فلا يكادون يمسكون به حتى تملأ الأفاق جلبة ودخان يخرج بعدها مارد من الجان وعفريت من عفاريت سيدنا سليمان يفسح يديه وصدره تمثلا لأمر ذلك المحظوظ ( شبيك لبيك عبدك وملك يديك ، مر تطاع واطلب تجاب ).


ينفس ذلك الشيخ عن آلامه ويتخيل ويترقب آمالا لن تأتى , وحين يصيبه اليأس من انتظار مالا يجيء وتجف آبار حكاياه للصبى المتلهف له السابح في عالمه ,يبادره مستكينا مستسلما إلى ما استقر فى روعه واطمأنت إليه نفسه من فقر الدنيا وحتميته ويبلغ به اليأس منتهاه ويموت أمله ، فى اعتدال الميزان إلا فى الآخرة مع تخوف ساذج من استمرار ذلك فى العالم الآخر .


. . . وثبت حكمة الشيخ إلى ذاكرتى بعد أن كادت تأتى عليها سنوات خلت وهموم تداعت فأرهقت وأثقلت ، وقنع إليها عقلى ووثقت نفسى وقد جادت عليها بتعليل ذلك الرضى والاستسلام للواقع المر الذين لا يكدرهما قليل حقد ولا وميض تمرد أو غيظ فى نفس وعقل المرسى ، وأردف ذلك وشد أزره ما رأيت ولمست من ظاهر صلاحه ونأيه بلسانه ومجلسه عن السوء وأهله واستيئاس رفاقه القدامى من أوبته إليهم وزاد يقينى ما تنبهت له وبه من اختلافه إلى مصلى صغير يهجع إلى ضفة النهر ولا يكاد يعتاده أحد فبت وقد آنس إلى ذلك التفسير عقلى وقلبى الذين استفاقا مما أرهقهما من رغبة دفينة وتساؤلات لحوحة فى استكناه تلك الشخصية والنفسية التى ندر فيها ائتلاف البؤس والفقر إلي التعفف والكبرياء .


على غير عادته وسحنته وحال غير حالته التى ألفتها منه ، أقبل المرسى ظهيرة يوم قائظ كأن شمسه توسدت الأرض والرؤوس فألهبتهم بأشعتها الحارقة , يلوذ الناس منها ببيوتهم أو تحت أشجار عتاق لا تدخر ظلا ولا يبخل حفيف أوراقها بخجول من أنسام رقاق شحاح تكاد تنهبها الطيور التي آوت إليها ولا يكاد ينفلت الي المستلقين على ظهورهم ,الجالسين تحت تلك الأشجار من تلك الأنسام إلا القليل .

00أبصرت هيكلا آدميا متداعيا مضطربا فى خطواته , تشى هرولته من بعيد بأن شياطين الدنيا ووحوشها قد اندفعت إليه وأن شرا مستطيرا يجد خلفه فى طلبه ، كان ذلك الهيكل هو المرسى الذى هالنى أمره فهرعت إليه فألقى بنفسه فى صدرى باكيا كسيفا وقد ملك عليه الذعر والرعب كل مملك وسد عليه كل مسلك .

الحقنى يا أستاذ ، استرنى الله يستر عرضك ، طفى النار اللى فيه، ما ليش بعد الله إلا أنت.

. . . تناديت على ولدى صارخا أن يغيثنى بقارورة ماء بارد وشيء من سكر وماء لأنقذ به مسكينا بدا أقرب إلى الموت منه إلى الحياة .

(اهدأ يا مرسى ، كل عقدة ولها عند الكريم حلال ، اصبر وما صبرك إلا بالله ، لا تيأس من رحمة الله ، ماذا دهاك ، أفصح يا مرسى )

. . . ازدرد الرجل الماء ازدرادا وبث الماء المحلى بالسكر قليلا من عافية فى جسده ولعله قد أنعش لديه بعض الأمل حين أحس بصادق مشاعرى وتعاطفى معه فاندفع يروى ما دهاه ونكب به صبيحة هذا اليوم ، حين تفقد مخزن المعدات كدأبه قبل أن ينهى نوبة حراسته فراعه اختفاء عدد من تلك المعدات اهتبلها اللصوص حين آنسوا قبيل الفجر غفلة وسنة من نوم اجتهدتا إلى المرسى بعد أن سرى فى جسمه دفء نار هزيلة جادت بها قطع من لحاء الشجر استعان بها ليدفع غائلة برد قارص تكاد تتجمد من حدته الموجودات على اختلافها .

صعق الرجل لهول الأمر وتراكضت إلى ذهنه ونفسه ذكرياته الأليمة وقت أن تلقفته صفعات وركلات رجال الشرطة حين فجأوه ورفاق السوء من تجار المخدرات ومدمنيها فى ليلة كالحة ولت عددا ورسخت فى نفسه وقلبه سوادا وكمدا وألما ، وحين شرد عقله إلى ما ينتظره وذويه من اضطراب الحال وضيعة العائل والمعين وما يتلمظ لهم من مخالب الفاقة وبطشة العوز والحاجة تداعى هيكله إلى الأرض مغشيا عليه فهرع إليه الأستاذ الشربينى مدير المؤسسة وبعض أخيارها ليستجلوا الأمر ويستبينوه .

لا تحسبن الموت موت البلى إنما الموت سؤال الرجال
كلاهمـا مـوت ولـكن ذا أفظع من ذا لذل السؤال

. . تمثلت موت الرجال الذى أجمل الشاعر أسبابه واستشعرت ما يبدوا مصيرا محتوما ينتظره وهولا يرتقبه لما بلوته من عفة الرجل وترفعه وكبرياءه ، وكان الأستاذ الشربينى قد لمس ذلك عديدا وعجب من ترفع الرجل ونأيه عن التزلف الذى اعتاد سماعه من كبار الموظفين قبل صغارهم حين لم يلتمس يوما إلى عقله ولا إلى قلبه طريقا يدلف بها إلى واحة الحوافز والبدلات والإكراميات التى ذلت لولوجها أعناق الرجال وهان المرتقى الوعر عن مسغبة واضطرار أو خسة نفس وشراهة طبع ، لقد نأى المسكين بنفسه ووجهه وانزوى عن ذلك كله وأشباهه ومظانه نأيا لا يترك مجالا لشك أو تشكك .
. . . اسمع يا مرسى أعلم قدر أمانتك وبراءتك ، ولكنى لا حيلة لى فى الأمر ، سوف أمهلك يومين لشراء ما سرق من المعدات بنفس نوعها ومواصفاتها وإن تأخرت فلا مناص أمامى من إبلاغ الشرطة والنيابة والجهات الرسمية .
. . . وقعت كلمات الأستاذ الشربينى الآسية القاسية على مسامع ذلك الحطام المتداعى فاتقدت لهولها نيران نفسه وأجهزت على كل ما اعتصمت به من كبرياء وترفع وعزة نفس ، وعز على ذاكرته المعين والصديق وضاقت عليه بما رحبت أرض توسد أركانها ,اللصوص والمنافقون وآكلوا مال اليتامى والمرتشون وسدت على أصحاب النفوس الكريمة أقطارها ، وساقته أقدامه المتداعية إلى منزلى على نحو تتفطر له القلوب 0

طفى النار اللى فيه يا أستاذ ، استرنى يسترك ربنا دنيا وآخرة ، ليس لى بعد الله إلا أنت.

. . . هدأت من روع المرسى وبدأت من فورى مصطحبا صديقى بشر رحلة ثقيلة كئيبة إلى قلوب وعقـول وهمم من نعرف من أهل القرية,ودلفنا إلى دروب القرية وحاراتها وقد صح لدينا أن الأمر جد مختلف وأن نفوسنا وأسماعنا قد تصفع بتعليقات وردود وإعراض وأن بعضا من كبريائنا واعتزازنا قد يراق دون بلوغ غايتنا .

(يا أساتذة الرجل قد حن إلى سهرات الماضى وعبق الحشيش وخدر الأفيون فباع هذه العهدة ، يا أساتذة أنتم أكبر وأوعى من أن تنطلى عليكم تلك التمثيلية .. سلام عليكم)

قذفنا الرجل بتلك الكلمات فندمت ندما شديدا وأسفت حين خاطبت نفسه الميتة وقلبه الصدأ الذى درب على الرشا والتلهف إلى العطايا والإكراميات وغدا مكتبة ودرجه فاغرين متلمظين لا يوصدان ,يترقبان كل من ألقت به ظروفه إلى ذلك المبنى الذى يقله وأمثاله ,لقد اعتاد الناس أمره مثلما اعتاده هو ولم يعد يثير حفيظة ولا يستنهض انتباه ولا انتقادا ولا يستصرخ عتبا أو لوما .

. . . مقطب الجبين مكفهر الأسارير مكبوت الغيظ بدا الحاج إسماعيل الجار للمرسى سكنا ,الأنأى شعورا ,المزدرى نظرا, حين جهدنا لبيان ما حل بالرجل واسترقاق قلبه واستثارة إنسانيته .

(يا رجاله أنا عامل اللازم مع المرسى وأولاده ولا حاجة لى بمن يستحثنى ، تفضلوا)

، لامنى رفيقى على تهورنا بطرق باب ذلك الرجل الذى طبقت شهرة ضنه وبخله دروب وفجاج قريتنا وإن آثر الرجل أن يردف ذلك كله بكذب لا مراء فيـه وادعاء ظالم زائف .
. . ها هو المعلم الغيطانى فلنهرع إليه ، استحثنى صديقى ليقطع على ترددا وإحجاما لم يستفيقا من صدمة ما سمعا من جار السوء واجتمعا إلى انطباعات سابقة ارتكنت إلى مقالات الناس التي رسمت صورة وشخصية الرجل في ظني والتي استقرت علي قسوة الغيطانى وكيفية اقتناصه ثرواته الطائلة ، وأوصد ذلك الأبواب بين قلبى وبين الغيطانى الذى جمع إلى ذلك سحنة مخيفة وانبساط سريرة غائب .

(خير إن شاء الله يا أساتذة ) ،

,عيى لسانى عن البوح أو الوصف قنوطا ويأسا من أن يتأثر الغيطاني بما نقول أو يأبه له ,فانبرى رفيقى الذى قذف بى وبنفسه إلى ما لا نحب سماعه وشرح الأمر فى كلمات مقتضبة وصوت منهك متعب ...اضطرب وجه الغيطانى الضخم واعترته رعشة بدت ناصعة صريحة جلية وتبدلت سحنته ولمعت عيناه وتلعثمت كلماته .

. (لا حول ولا قوة إلا بالله ، إنا لله وإنا لله راجعون)

, وفى ذبالة ضوء شاردة من شباك منزل مجاور رأيت دموعا تنهمر من عينى الرجل ويده تندفع إلى حافظته حيث تدافعت الأوراق المالية أم مئذنة ذات المائة جنيه وبدا الرجل وكأنه لن يتوقف عن العد ، الله واحد ، ليس له ثان ، العدد ثلاثة ، أربعة ، خمسة ... ثلاثة آلاف وخمسمائة... صرخت كفاك يا أخي هذا إلى ما توفر لدينا يكفى ويزيد ، ماذا أقول لك ، رعتك عين الله التى لا تنام وسترك وأولادك سترا لا ينكشف وفى عناق باك حار التحم جسدانا واختلطت دموعنا وأناتنا 0

أوتعى يا بشر ؟، أو تصدق ما ترى وتسمع ؟، أخرسنى الموقف واتساع البون وبعده بين ما توقعت وتوجست, وما رأيت من الرجل ورهافة حسه ورقة مشاعره ، واندفعت كلماتى وخواطرى إلى نفسى لوما وتقريعا علي تسرعي ورعونة ظني ,وضلال خبرتى بالرجال والقلوب رغم سنوات عمرى الطويلة وما وخط رأسى من شعيرات بيض .


سويعات قليلة مضت حتى ألفيتنى ورفيقى عند الأستاذ الشربينى نحمل بديلا عما سرق من معدات وأدوات هرعنا إلى شرائها من المدينة على عجل واندفعنا بها إلى المؤسسة لا نلوى على شيء ،وتهللت أسارير الأستاذ الشربينى ودع الله لنا بالستر واقترح علينا ألا نتلكأ دون الإسراع إلى المرسى لنذهب عنه روعه وندفع ألمه فحمدنا له ذلك وتحمسنا له ، وفى طريقنا إلى السيارة ، قفل الأستاذ الشربينى عائدا على مكتبه بعد أن تراكض إليه سكرتيره ليخبره أن رئيس نيابة كفر سعد على التليفون ينتظره ، ارتبنا وتكاثفت ظنوننا ومخاوفنا من دهياء جديدة أو خطر قد يفسد علينا وعلى المرسى ما ينتظره من فرج وفرحة وزوال هم وانقشاع غم .


. . . اسمعوا يا أساتذة رئيس النيابة أخبرنى أن أمامه عصبة من اللصوص, اعترفوا وأرشدوا عن غنائمهم ومنها المعدات التى كانت فى عهدة المرسى وقد أوفدت من يتسلمها من قسم الشرطة ,فلنسرع إلى المرسى نزف إليه البشرى ونسوق إليه طمأنينته الضائعة ثم نعيد المعدات إلى بائعيها والثمن إلى أهله الذين تبرعوا به ، لقد صدقنى ظنى وحدسى ويقينى من براءة المرسى .. هلم سريعا يا رجال...

تسارعت أقدامنا تقطع حارات ضيقة وتخترق أزمة ملتبسة شائكة ونختصر المسافات والزمن وتتلهف الوصول ، وبدا منزل المرسى فى واحدة من تلك الحارات وقد اختفى مدخله وراء قليل من نسوة توشحن السواد ، فاتجهنا إلى المنزل فى تلهف نتوسل الخبر ونستكنه النبأ، فجاءنا صوت خفيض واهن ، البقاء لله يا أفندية ، المرسى انتقل إلى رحمة الله0

أ0د عبد الحميد سليمان
الدمام 00في غرة رجب الفرد الحرام 1427ه
رد مع اقتباس