عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 29/12/2008, 19h54
الصورة الرمزية عبد الحميد سليمان
عبد الحميد سليمان عبد الحميد سليمان غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:245929
 
تاريخ التسجيل: juin 2008
الجنسية: مصرية
الإقامة: السعودية
المشاركات: 135
افتراضي الدكتور عبد الحميد سليمان ـ المجموعه القصصيه


بسم الله الرحمن الرحيم
غروب وهروب
00حدقت عيناها في فضاء عريض وبدت لا تعبأ بقتامة جو أو صرصر ريح وقارس برد وصراخ أطفال كانت تحمل منهم بيمينها من تحمل ويتشبث بأذيال ثوبها من يتشبث, وانصرف انتباهها عما حولها حتى بدت تمثالا شاخصا غادرته روحه إلي حيث تلتمس غايتها وتتحسس موئلها وعائلها, بعد أن خلا جسر الترعة من العائدين إلي بيوتهم من الفلاحين,الساحبين مواشيهم,الممتطين دوابا ناءت بأحمالها من الرجال والأطفال أو الحطب أوالبرسيم,إلي حيث تحتضنهم بيوت زانتها زرائب وخرائب بعد انصرام نهار منهك,قاس,بطئ0

000أقفرت الموردة من مرتاديها من نسوة وأطفال مع أفول شمس ذلك اليوم,وتقاطرت النسوة عائدات إلي بيوتهن في خطي سريعة,تتعجل عشاء ضنينا إلا من عذب حديث ودفيئ عاطفة وصادق بوح وموغل بؤس وحزن وشجن ,بعد أن غسلن أوانيهن وأزلن عن أبدانهم وأطفالهن كثيفا من تراب وطين, خلفه يوم شاق وسعي دائب لا يكل ,وهن يحملن من ماء الترعة ما ترتوي به غلة ليلهن وما يدخرنه ويحتجنه لساذج طعامهن,بعد أن أنفقن سحابة نهار يوم من أيامهن البائسات المتواترات الرتيبات,من شهر أمشير الذي أبي أن يأتي إلا بما اعتاده من ريح عاصف وبرد فاتك قارس يدأب فيتغلغل وغزير سيول,لا ترعوي أو تأبه بما تخلفه في بيوت وأسقف زائفة واهية عاجزة ,وأطفال ونسوة وشيوخ عز لديهم ما يعين علي متراكم الغوائل والبؤس,وما بقي لهم من معين علي صائلة مثل ذلك اليوم وأشباهه إلا وثير من قش يفترشونه ويتدثرون به ويتحلقون حوله فتنساب حكاياهم ويزيد تدانيهم فيسري في عروقهم دفء إنساني تكلؤه حرارة جادت بها نار حطب أو خشب أو قلاويح أذرة مما توسد مكانا عليا من بيوتهم المتدثرة أسقفها بأحمالها منه0

000في مثل ذلك التلاحم الإنساني المفعم,يفعل فعله شجي الحديث واستدفاء الأطفال بأحضان أمهاتهم وتداني الأمهات من أزواجهن وأولادهن تدان يجعلهم كيانات متعانقة متدافئة متسامرة متوحدة الأجسام والمشاعر,ويغدو ذلك دروعا سابغات وحصونا منيعات يدرؤون بها غائلة برد أمشير ودأبه وقسوته ووحشيته,ولو جادت الأيام بقليل من البطاطا,تصطلي بلظى راكية الموقد ,فان تلهفا للأطفال واصطبارا مصطنعا للكبار يكاد يصرف الانتباه عن ذلك الزمهرير وأفاعيله فيرتد عنهم كسيفا خزيا متأهبا متوعدا متوثبا0

000آذن الظلام بالسدول لكنه وأفاعيل برد أمشير لم يصرفا انتباه تلك الأم ولم يثنياها عن تحديق بدا بلا نهاية واستشراف يتوسل سدفة الظلام ألا تجيء ,واصطراع لعينيها مع عتمة لم تأبه لها أو ترحمها,فطفق طغيانها يتغلغل رويدا رويدا, لكنها كانت غافلة عن عيون ترمقها من بعيد,كانت ارقهما وأحناهماعينا صبي ناهزت أعوامه الثمانية,قابع خلف شجرة قريبة لا يأبه به ولا له أحد, ,وكانت أجرأهما وأخبثهما وأوقحهما عينان ما انفكتا تمعنان في المرأة فتكادان تنضيان ثوبها عنها,وتمعنان فتجحظان,وتعودان فتبرقان وتشدهان ثم تجحظان وتتلمظان,إن جذب طفل من أطفالها ممن تعلق بملابسها ورجليها ثوبها, متوسلا متضجرا من غلظة برد وانتظار بدا بلا نهاية, فالتصق جراء ذلك جسم تلك الأم الشابة بارعة الحسن سمهرية القوام بثوبها وأبان بعضا من امتشاق قامتها واعتدال قدها وحيويتها ,أو كشف قدما لها زانها خلخال من فضة علا قبقابا غليظا خشنا,قد من خشب التوت0

000أما الصبي فكان ينظر إليها فيذوب ألما لها وإشفاقا عليها ويتمني لو انقشع الظلام المتسارع المتكاثف عن زوجها عيسي وعن مهرته التي كانت تجر عربته الكارو وتحيا معه مثلما يحيي معها,فتقاسمه حياته واهتمامه وحنانه مع زوجته وأولاده ,ولا تدخر في خدمته وسعا,وكأنها تبادله عطاء بعطاء وحبا بحب, وحنانا بحنان وإشفاقا بإشفاق واصطبارا باصطبار0

00 ود الصبي الذي كانت عيناه تتحسسان عينا الأم الشابة وتستكنهان مشاعرها وقلقها وتخوفها غيبة عائلها ودرعها وأمانها ودافئها دون أن يدري الصبي سببا لاهتمامه وترقبه اليومي كي يري بريق عيني تلك الأم الشابة,الحاني المشفق المتوجس المروع ,المتوسل عودة عائلها منفقا يوما من أيامه الشاقة التي تتري,فتوسعه بؤسا إلي بؤسه وشحا وضنا إلي شحيح رزقه,ولا تدخر في كيدها قيظا ولا زمهريرا,ولا في صولتها تقلبا وتبدلا 0
000أتراهما توقد مشاعر,وإشفاق قد فعلا بنفس الصبي تلك الأفاعيل ونحيا به ذلك المنحي؟ أم سالف عرفان وحب لم تتكتمه تلك الأم الغريبة لأمه الراحلة,منذ أن أقبلت مع زوجها وعيالها إلي القرية من حيث لا يعرف احد,فأشفقت عليهم أمه ورأفت بهم وأفضت إلي زوجها بحالهم,فوسعتهم حجرة من طوب لبن في رحبة البيت حيث يقع الفرن الذي تعتاده أسرة الصبي وجيرانها وغدا بذلك ملاذا دافئا لأسمار الأمهات واجترار العجائز وأحلام الفتيات وتلصص الأطفال الملتمسين بعضا مما يكتوي بناره 0

000أتراه قد تنبه لتلك العينين المتلمظمتين فانزوي يرقب الأمر وقد اعتورته المخاوف علي تلك الأم وتربصت به الظنون؟ أم شجاه تحسسها عودة زوجها وحبيبها وعائلها فحرك أوتار قلبه واهتاج به مستكن شجنه ومتوسد لوعته ويتمه,وذكره بأبيه المنشغل المكلوم وبأمه الراحلة ودفيئ حضنها وعميق قلقها والتياعها وتشوفها عودة زوجها,ثم ارتياحها وذهاب روعها وخوفها واطمئنان نفسها واشراقة وجهها ورقيق ابتسامتها حين يلوح مقبلا جزلانا مرهقا ويجلس الي طعامه فيتوسد الصبي حجره, تكلؤه رحمة وحنو لايحدان,ويتنافس الوالدان في اختصاصه بأطايب طعامهما وروعة حنوهما؟

000ومافتئ صاحب العين الأخرى يرقب من مكان قصي فتجحظ عيناه ببريق الرغبة وتتلمظ أنيابه وتكاد تتحرك خطاه ويداه اللتان تودان لو انتزعتا هذه الأم وانفردتا بها وروتا غلته ونزقه وجموحه وأنهت ملاحقة ومتابعة لا تيأس ولا تمل ولا تريم, وتسفر بلا خجل عن نزقها وضعة غايتها وخسة مرامها,إن أمنت غفلة الرقيب ولومة اللائم0

000كان فوزي رجلا نزقا عتيا وضيعا لا يردعه أصل أو محتد ,و يخشاه الناس ويتحسبون لشراسته واستقوائه بمن يعمل في خدمتهم من أهل الإدارة والسيطرة ورجال الشرط والضبط,وكان يسرف في التودد لهم ويتحين أوامرهم وتلبية مطالبهم ورغباتهم حاسرا من كرامة مهدرة و نخوة غائضة ومروءة قاصية نائية, وكان يتلذذ بخدمتهم ويستعذب شتائمهم واستعلائهم حيث كان يمدهم بالشاي والقهوة ,ويرتب سهراتهم الخاصة ويغذوها بما يثري الجوزة والمعسل من الحشيش الأصلي والأفيون المعتق فيطلق ذلك سحائب الدخان الأزرق التي تحلق برؤوسهم وخيالاتهم إلي السماء,فتذوب آلامهم وكوامن ذلتهم وقهرهم وكبتهم لمشاعرهم إزاء جبروت رؤسائهم وكبرائهم واستعلائهم وإذلالهم الذي يوسع به كبيرهم صغيرهم ولا ينفكون يتناقلونه, وتمد لهم تلك السحابات الزرقاء حبال الوهم وتحلق بهم إلي عوالم غير مدركة و جنان زائفة,ولم يدخر فوزي وسعا ولا حيلة أو وسيلة لقود أو إخضاع أو استدراج أو قهر من راقت لسادته من نساء ليدفئوا بهن لياليهم ويشبعون نزواتهم ونزقهم وغرائزهم ,فصار بذلك مأمونا لديهم وحذاء طيعا لينا,تستمرئه أقدامهم وأمكنه ذلك من نفوذ واستقواء وغواية تأهبت لها وترقبتها نفسه وغرائزه وتحينته, فصار يروع من يروع ويتهدد من يتهدد,وذاع أمره وشخص خطره فتملقته العائلات الكبيرة وخشيته الصغيرة وانصاع له الغرباء ممن لفظتهم بلادهم وأنكرتهم قراهم فبادلوها جحودا بجحود ونكرانا بنكران فتركوها لتتقاذفهم القري والعزب فعاشوا حيث أمكن لهم شحيح الرزق,ولم يرتو ظمأ فوزي ولم تشبع رغبته ولم يردع كيده وازع أو ضمير أو حسيب ,وصار الناس يتهيبون صولته ويسترضونه ويخطبون وده وصارت العفيفات الشريفات تتجنبن طريقه وتتقين وقاحة عينيه0

00علي استحياء تناهي إلي أذن الصبي صوت عربة عيسي ضئيلا خافتا هزيلا يشق طريقه ويستبق فلول النور المتآكل أمام حجافل الظلام المتدافعة ,وأدرك صدق ما سمعه حينما أشرق وجه الأم الشابة وانفرجت أساريرها واطمأنت عيناها,فقفلت عائدة إلي حجرتها, وشرع الصبي بعينيه فأبصر فوزي مغادرا حانقا متوعدا حسيرا0

000ألف الصبي ذلك المشهد الذي يمتزج فيه الخوف بالإشفاق والأمل وبتغلغل فيه الوفاء والحب , بتهيؤ الشر وتوثب النزق,ووعي الخطر المحدق بهذه الأسرة المسكينة الغريبة ,ونمت مخاوفه وتوجسه متخيلا ما قد يرعوها من خطر فوزي وشراسته وآثم رغباته وغوايته واستطالته وسطوته,إلي أن أبصر الخفراء ورجال الشرط يقتحمون تلك الحجرة البائسة علي أهلها صبيحة يوم, فيأخذون بتلابيب عيسي وعربته ومهرته,دون أن يكترثوا لآيات الفزع والروع التي شخصت في قسمات وجوه ,وصرخات أم ,وروع وبكاء أطفال,وتألم وعجز جيران,وتوجس وتحسب عقلاء0

000تناهي الصراخ والألم والبكاء والعويل إلي سمع ونفس الصبي فصحت لديه مخاوفه وراعه ما يروعهم واسترجعت ذاكرته الغضة مشهد فوزي بالأمس القريب وقد اعترض طريق الأم الشابة أثناء قفولها من بعض الحقول والغيطان المتاخمة للقرية حاملة بعض ما جادت به الجسور وشواطئ الترعة من نبات السلق والحميض والسريس والدنيبة لتطعم به أولادها وزوجها وطيورها فأعرضت عنه وغره ضعفها ووحدتها ووحشة الطريق فامتدت يده إليها,ففزعت منه وأنذرته, وحين تهيأ لكرة أخري خلعت قبقابها الخشبي وقرعت به وجهه مزمجرة هادرة فانصرف مرعوبا صامتا متوعدا متوجسا متلفتا مخافة أن تفتضح هزيمته فتضيع صولته وهيبته 0
000انزوي الصبي حسيرا كسيفا وود لو امتلك قوة يردع بها هذا العتي الباغي,أو مالا يزود به هذه الأم وصغارها ,أو تنفذا يهرع به لإنقاذ عيسي من كيد يحاك له,لا تعرف عواقبه ومغبته ,ووعي الصبي أن إقصاء عيسي وسيلة دبرتها رغبات فوزي المتأججة ونفسه الوضيعة وهزيمته المنكرة, فانكفأ مهولا فزعا إلي أن هجعت عيناه الحائرتان الدامعتان إلي نوم عميق ثقيل,حتي بددته أصوات نسوة يودعن الأم الشابة ويتضرعن إلي الله أن ينتقم ممن ظلمها وكاد لزوجها وتربص بهم, وقد تشبث بها أطفالها وأثقل رأسها ما تحمل من متاع, فودعتهم باكية حزينة0000 اندفع إليها الصبي دامعا متجهما فزعا سائلا:إلي أين يا خالة؟ فربتت علي رأسه ومسحت دموع له لم ترقأ ,قائلة متعجلة مضطربة متلفتة : إلي حيث لا ندري ولا يدري فوزي 0

الأستاذ الدكتور/عبد الحميد سليمان
00 كفر سليمان البحري ليلة12من يناير الشاتية القارسة, لعام بقي من قرن منصرم0
رد مع اقتباس