عرض مشاركة واحدة
  #56  
قديم 09/07/2021, 07h59
Muhammad Sarhan Muhammad Sarhan غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:251507
 
تاريخ التسجيل: juin 2008
الجنسية: ..
الإقامة: .
المشاركات: 135
افتراضي يا حبايبي يا غايبين : الختام الرائع للتاريخ الرائع

يا حبايبي يا غايبين : النهاية الرائعة للتاريخ الرائع.
بقلم : محمد سرحان
____________________________

(١)

إن الفنان - كل فنان - سينتظر غالبا مساءه ؛ ليعلم كم كان نهاره عظيما!

ولقد كانت (يا حبايبي يا غايبين) هي "مساء فريد الاطرش الرائع" الذي ودع به نهاره الاروع..

ذلك اللحن الخاتمة، واعظم ما جادت به قريحة ملحن على خاصرة النيل، كان من ضمن فيلم ( نغم في حياتي) الذي لن تراه عينا فريد الاطرش!

ففي صيف ١٩٧٤ بينما كانت اشعة السماء ترسم خيوطها الذهبية على صفحة النيل، كان اشعاع قلم مرسي جميل عزيز بدوره يرسم على الورق أحرف "يا حبايبي يا غايبين"
.
كانت هذه الكلمات المجدولة من الذهب هي "هبة" صيف ذلك العام، والتي تدفقت منها امدادات اللذة حتى اليوم.

فمرسي عزيز كيميائي الكلمة...
إن تحت ذلك الرأس معمل عبقري، يصنع الكلمة الرومانسية في اقصى حدودها الشاعرية .

أما فريد الاطرش - الذي يقبع المجد فوق جبهة عوده - فلقد تجاوز في هذه الاغنية حدود الكمال ، ولا عجب إذا ما علمنا أنه انهى ايامه الاخيرة في صنعها. فمن المنطقي ان ذهنه لم ينصرف إلى شيء سوى الجلال والعظمة، لقد سقى اغنيته بماء الابدية.

برأيي إن هذه الرائعة تتألق جمالا من بين كل أغاني ذلك العملاق الخالد. ولا غرو ، فقد اجتمع لها من اسباب الخلود ما لم يجتمع لغيرها من اغان :
فناهيك عن انها ختام المسك الاطرشي، كانت ايضا القمة السامقة التي تعانقت عليها ذراعا فريد ومرسي عزيز،...

زد على ذلك انها - وبكلماتها الرشيقة - ملحمة من الحنين والشوق.

ثم أخيرا تلك الفسيفساء الموسيقية من المقامات التي صاغها فريد في كوبليهات هذه التحفة. لقد جعل منها فريد طاولة مؤتمر موسيقي للمقامات العربية

ومهما يكن من امر، ستبقى هذه الاغنية الاطول خدمة في سجل الابداع الموسيقي العربي، ويبدو أن عبقرية فريد صنعت حولها ماردا ضخما يحرسها من سيف النسيان.

(٢)

[تعال أيها الرقص!]
_______________

على إيقاع المقسوم الراقص - الذي لا يترك فيك شعرة رأس على أخرى- جند فريد كامل مخيلته ليبدأ الرقص مبكرا..

قام فريد بكل الاستعدادات اللازمة لجعل هذه الاغنية تحفة.

لم تكن بداية مرتجلة، فذكاء فريد قد عصف بكلمات مرسي عزيز باكملها، وصمم أن يجعل منها شيئا أكثر خلودا.

لا يضيع فريد الوقت، ففي جملة بياتي واحدة - تكدس على ظهرها كل الجمال- يتبادلها الاكورديون مع الكمنجات في صراع فني يملأ المقدمة بالحركة والصخب.

البياتي " مضخة الطرب" هذا المقام جعله فريد "خميرة" الاغنية كاملة، إنه "الصندوق الاسود" لعبقرية هذه الاغنية

لقد قبض فريد على الجمال منذ اللحظة الاولى ، وسيوافيك العطر بشذاه، ويجرفك بعيدا عن كوكب الارض لمدة ٤٥ ثانية.

*** [ لا تتوقفي ايتها النهاية الرائعة] *****

بصراحة لفرط جمال هذه النغمة فإن المرء يضرع لعقارب الساعة أن تتوقف كي لا تنتهي ...

يبدو لي ان فريد كان صادق العزم ان يحفر هذه الجملة في الرؤوس .

جملة واحدة (من الموسيقار الواقف على اعتاب الستين وقتها) رسمت عالما يضج بالحركة والرقص..

انها الجملة الاكثر ديمومة والتي لا يمكن ان تقابل الا بالتصفيق حتى الان.

قبل نهاية المقدمة يقف البياتي متسائلا :
هل انت بخير عزيزي؟!

لم ينته الامر فثمة مزيد!

(٣)

[يا حبايبي يا غايبين... واحشني يا غاليين]

تبدأ الحنجرة الماسية بلفظ لآلئها...
وسيمنح منجم فريد ذهبه وياقوته...
فريد هذا الصوت الرائع الذي لا يبدر منه ما يمكن أن يزعج أذنيك،
إن هذا الصوت الذي أوتي بحة اغنت عن أصوات المزاهر!

ثم في سطر واحد فقط يكشف فيه الملحن فريد الاطرش فتنة مقام البياتي :
( لو اغمض.. وافتح والاقيكم جايين)

ولا بد من وقفة هنا لدراسة قبس من عبقرية فريد :

١. لو اغمض.. تأتي الكمنجات بلازمة من ( الري قرار) والقرار رنة غليظة تتناسب مع السكون والثقل الذي بدوره يوافق الغمض هنا.

٢.وافتح... رشة طويلة من ( الري جواب) والجواب أكثر حدة يوحي بالانطلاق، وهذا ما يناسب تفتح العينين.

ساترك التصفيق ليديك عزيزي القارئ!

(٤)

*** [خيال لا يتوقف] ***
_______________

قبيل نهاية اللازمة الموسيقية - وبعبقرية سخية ورائعة- سيفعل فريد شيئا لطيفا وساحرا :
فبتمهيد من سلم الحجاز ستنتجع الاذن في رياض هذا المقام الصوفي الرائع الذي سيشكل كثيرا من ملامح وجه هذا الكوبليه.
وبالمناسبة ، ففي هذا المقطع ليس هناك من نغمة خالية من الكوليسترول الطربي :

(يا حبايبي من يوم ما بعدنا.. ولا شيء في الدنيا بيسعدنا
ولا وردة بتزوق بيتنا..
ولا شمعة بتنور عيدنا )

إن مقام الحجاز يقدم فهما أعمق لتركيبة مشاعر الروح المتألمة ، إن مزاج هذه الشطرة المتألمة يتطابق مع الطقوس الحزينة لمقام الحجاز .

ثم فجأة يلمع مقام الراست في جملة موسيقية كريستالية تزحف فوق كلمات مرسي :
( يا حبايبي ايامي فداكم.. ينساني الفرح لو انساكم)

عند التفكير بالبهجة والمتعة فلا مندوحة من استخدام الراست ذلك المقام ( الادريناليني) الذي يستثير عصب الحماسة في العروق .

إن التفكير الذكي لفريد يمنح تقديرا ممتازا لما وراء اسطر مرسي جميل عزيز، فجمال النغمة تشير الى جهد فريد المبذول لخلق المتعة.
ستقوم تلك الجملة من الراست بإمالة العمائم عن الرؤوس.

(٥)

***(ذهب يتدفق) ***

في موسيقى فريد كل شيء سيكون مرموقا حتى النهاية..
إن عقله الموسيقي هو القادر فقط على اجتراح العجائب في كل لحظة دون ان يأخذ طابعا شاذا خارج سياق اللحن.

من تلك العجائب : الانتقال الى مقام من عائلة الحجاز، مقام الشهناز، ( البعض يسميه الحجاز التركي)

في جملة ديناميكية راقصة - ستفخر بها عبقرية فريد طويلا - يغلف فريد شطرة مرسي :
(ياللي حياتي عشانكم حزن وايام أصعب من لياليها)

على صعيد الكلام : إن هذا الشطرة تقدم رسالة شعورية بالأسى والشكوى .. ولما كان الشاهيناز مفعما بنكهة الوجد، فمن اقدر منه على إيصال هذه الرسالة؟!

بالمناسبة يمكن للمرء في هذه الشطرة ان يستمتع بعروض العبقرية الموسيقية الفذة بين الكمنجات والاكورديون.

ثم بعد ان تمرح مخيلة فريد على ضفاف الشاهناز يعود إلى "الكود السري" للرقص من خلال مقام الراست :
[ يا حبايبي وحشتوني تعالو.. مطرحكم لسه على حالو]

(٦)

..
عبقرية فريد هي كل ما بقي من ظواهر القرن العشرين التي لا نستطيع تفسيرها!
__________________
وفي تعب ٍ من يحسد الشمس نورها ** ويجهدُ أن يأتي لها بضريب ِ
رد مع اقتباس